الصفحة 55

الفصل الثاني



  الأدلّة القرآنية





الصفحة 56
1 ـ حقيقة التوسّل في أربع طوائف قرآنية

2 ـ قصة آدم مع إبليس

3 ـ الآيات البيّنات في المسجد الحرام

4 ـ التوجه إلى القبلة طاعة للنبي (صلى الله عليه وآله)

5 ـ المودة لذرية إبراهيم (عليه السلام) من شرائط الحجّ وغاياته

6 ـ الولاية من شرائط المغفرة

7 ـ الوفود على ولي الله من شرائط الحجّ

8 ـ الأنبياء مصدر البركة

9 ـ البقعة المباركة

10 ـ وجوب تعظيم الأنوار الإلهية

11 ـ بناء المساجد على قبور الأولياء

12 ـ حبط الأعمال وقبولها

13 ـ آيات القسم بشخص النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)

14 ـ الآيات الآمرة بالتوسل بالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)

15 ـ آيات التوسّل بمخلوقات كريمة أُضيفت إلى الأنبياء والأولياء (عليهم السلام)

خاتمة في:

    أ ـ الروايات الواردة في مشروعية التوسّل.

    ب ـ آراء أعلام السنّة في التوسّل.


الصفحة 57

الأدلّة القرآنية


1 - (حقيقية التوسّل في أربع طوائف قرآنية):

إنّ الآيات القرآنية المباركة الدالّة على أنّ الإنكار على المشركين مُنصبّ على الوسائط المقترحة دون الوسائط الإلهيّة على طوائف متعدّدة:

الطائفة الأولى: وهي ما كانت بلسان استنكار الأسماء المقترحة من قبل العبيد ومن سلطانهم وهوى أنفسهم.

1 - قوله تعالى: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان}(1).

وهذا الكلام يسجّله الله عزّ وجلّ في قرآنه الكريم على لسان نبيّه هود (عليه السلام)، حيث يحاجج عاداً قومه وينكر عليهم الوسائط المقترحة من عند أنفسهم والتي لم ينزل الله عزّ وجلّ بها سلطاناً.

وقد تقرّر في علم أصول الفقه أن النهي أو النفي إذا ورد على طبيعة مقيّدة بقيد، فإنما يقع ذلك النفي أو النهي على القيد لا على ذات المقيّد، كقولك: لا رجل طويل في الدار، فإنّ النفي في هذا المثال متوجّه إلى القيد وهو الطول،

____________

1- الأعراف: 71.


الصفحة 58
وليس المراد نفي أصل وجود الرجل في الدار، وبالنتيجة يكون المنفي الصنف والقيد وهو الرجل الطويل، لا ذات الطبيعة المقيّدة وهو عموم الرجل.

كذلك في المقام، فالآية في قوله تعالى: {مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان} تنفي صنفاً خاصّاً من الوسائط والوسائل، وهي الوسائط التي لم ينزّل بها الله تعالى سلطاناً، والأسماء المقترحة والمجعولة من قبل أنفسهم وآبائهم.

فمصبّ الإنكار والتقريع والتخطئة هو كون تلك الأسماء والوسائط مقترحة من غير إذن وسلطان إلهي.

ولم تنفِ الآية المباركة أصل وجود الوسائط والوسائل، وإلاّ فلو كان أصل الوساطة والتوسيط أمراً مستنكراً فلا معنى لذكر القيد، بل يكون ذكره لغواً ومخلاًّ بالغرض والمراد.

مع أن الآية ركّزت على ذكر القيد، وأكّدت على أنّ الأسماء المستنكرة هي التي {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان} لا مطلق طبيعة الأسماء والوسائط.

فليس الاشكال في أصل الاسم والوساطة، بل الاشكال في كونها مقترحة منهم ومسندة إليهم، من دون أن يُسمّها الله عزّ وجلّ أو يجعلها واسطة بينه وبين خلقه.

وفي الآية المباركة إشارة لطيفة، حيث لم يطلق فيها الاسم على ذات الباري عزّ وجلّ، بل أطلق على ذات الواسطة بينه تعالى وبين عبيده، أي واسطة في النداء ووسيلة في التوجّه، فالإسم الذي يُدعى به هو الوسيلة أو الواسطة التي يتوسّل بها إليه.

2 ـ قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ

الصفحة 59
سُلْطَان إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاَْنْفُسُ}(1).

وتقريب الاستدلال بهذه الآية الكريمة بنفس ما تقدّم في الآية السابقة، حيث أنها تجعل مركز التخطئة والاستنكار هو التصرّف الاقتراحي من العبيد في سلطان الله تعالى، وليست التخطئة لأصل مقالة الحاجة والضرورة إلى الوسائط.

الطائفة الثانية: وهي ما كانت بلسان حصول الشرك بغير الله عزّ وجلّ، بسبب الوسائط التي لم تكن بسلطان الله وحكمه وإرادته.

1 ـ قوله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ}(2).

2 ـ قوله تعالى: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا}(3).

3 ـ قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِْثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(4).

فسبب الشرك الذي وقعوا فيه هو تحكيم سلطانهم ورغبتهم وهواهم وإرادتهم على إرادة الله تعالى وسلطانه، لا أن أصل الوساطة هو المرفوض في منطق القرآن الكريم.

الطائفة الثالثة: وهي ما كانت بلسان العبادة من دون الله تعالى، وأن التوسّل

____________

1- النجم: 23.

2- آل عمران: 151.

3- الأنعام: 81.

4- الأعراف: 33.


الصفحة 60
بالوسائط والشفعاء بغير سلطان وإذن من الله عزّ وجلّ يوجب عبادة مَنْ هو دونه، وهي الوسائط المقترحة.

1 ـ قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ}(1).

2 ـ قوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}(2).

لا يقال: إذا كانت العبادة المرفوضة هي عبادة المعبود الذي لم ينزّل الله به سلطاناً، فهل هذا يعني أن العبادة لغير الله تعالى تكون جائزة فيما إذا نزّل به الله عزّ وجلّ سلطاناً؟!

لأننا نقول: العبادة لغير الله تعالى ممنوعة مطلقاً، والباري تبارك وتعالى لا يأمر بعبادة غيره، ومضمون هذه الطائفة من الآيات عين المضمون الذي تقدّم في الطوائف السابقة من الآيات، وهو أن العبادة من دون الله تعالى تتحقّق فيما إذا كانت الوسيلة بإرادة العبيد واقتراحهم، وأما إذا لم تكن كذلك فلا تكون عبادة من دون الله، بل هي عبادة لله عزّ وجلّ، كما جاء ذلك في سجود الملائكة لآدم، فهو سجود وطاعة لله تعالى، وامتثالٌ لأمره، لا أن السجود لآدم بنحو الاستقلال، لكي يكون عبادة وخضوعاً له من دون الله عزّ وجلّ.

فهذه الطائفة من الآيات تبيّن أن العبادة من دون الله تعالى إنما تتحقّق فيما إذا كان التوجّه إلى الوسائط المقترحة من قبل العبيد، من دون أن ينزّل بها الله

____________

1- الحج: 71.

2- يوسف: 40.


الصفحة 61
سلطاناً، وأما إذا كانت الوسائط منصوبة من قبل الله عزّ وجلّ وبسلطان منه والتوجّه إليها بإرادته وأمره، فحينئذ يكون التوجّه إلى الوسائط انقياداً وامتثالاً للأمر الإلهي وعبادة لله تبارك وتعالى ; لأنّه تحكيم لسلطانه وانصياع لأوامره.

فالذي يأتمر بأوامر الله تعالى بالانقياد مطلقاً بالوسائط أو بغيرها هو الموحّد التامّ في مقام العبودية والطاعة، وفي غير ذلك يكون قد تجرّأ واستكبر على الباري تعالى وكفر بربوبيّته، كما فعل إبليس عندما استكبر وكان من الكافرين.

الطائفة الرابعة: ومضمونها هو أن أخذ التشريع من غيره تعالى يُعدّ شركاً في التشريع إذا كان من دون إذن الله عزّ وجلّ.

1 ـ قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}(1).

2 ـ قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْق فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}(2).

نتيجة الطوائف الأربع:

إنّ الإنكار على الوثنية والمشركين ليس في فكرة الوسائط، بل باقتراحهم من الوسائط ما لم ينزّل الله بها سلطاناً، فشركهم بمنازعة سلطانهم لسلطان الله تعالى.

إذن فمشركو الجاهلية مع أنهم توسّلوا وتشفّعوا بالأصنام والأوثان بُغية الزلفى والتقرّب إلى الله تعالى، وهم يعلمون أن الأصنام ليست غنية بالذات،

____________

1- الشورى: 21.

2- يونس: 59.


الصفحة 62
وإنما هي وسائط وشفعاء إلى الله عزّ وجلّ، مع ذلك كلّه اعتبرهم الله تعالى من المشركين، وليس ذلك إلاّ لكون محطّ الإنكار عليهم ليس في نظرية وعقيدة الحاجة إلى الوسائط، بل لكون الوسائط والشفعاء التي تشفّعوا بها لم يأذن بها الله تعالى، ولم تكن بإرادته وسلطانه، وإنما هي من تحكيم سلطانهم على سلطان الله تعالى.

وهذه الطوائف من الآيات مفسّرة لكلّ آيات الإنكار على المشركين والوثنيين عبدة الأصنام وغيرهم، وأين هذا من المعنى الذي يتوخّاه المنكرين لأصل التوسيط والوساطة، إذ جهة الزيغ والانحراف ليس في أصل فكرة الوسائط والوسائل والاحتياج إليها، بل من جهة كونها بإرادة العبيد وتحكيمها على إرادة الربّ وسلطانه.

2 - قصة آدم مع إبليس

إنّ هذه الملحمة تعدّ من أوضح الأدلّة على ضرورة التوجّه إلى الوسائط والحجج الإلهيّة، لطلب الزلفى والقرب من الله عزّ وجلّ.

وهذه الواقعة تضفي بلونها على جميع أصول الدين، إذ هي جاءت لتعيين مصير ومعالم مسار البشرية في مبدأ وفاتحة الخليقة، وذلك واضح لمن تتبّع الآيات التي استعرضت هذه الواقعة.

ونحن هنا نتعرّض إلى ما له صلة بالمقام:

وفيما يلي نذكر بعض السور والآيات التي استعرضت القصة:

1 ـ قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا ِلآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ

الصفحة 63
وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}(1).

2 ـ قوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِين * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَار وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}(2).

3 ـ قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا ِلآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَار وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}(3).

4 ـ قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَال مِنْ حَمَأ مَسْنُون * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ ِلأَسْجُدَ لِبَشَر خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَال مِنْ حَمَأ مَسْنُون * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}(4).

5 ـ قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا ِلآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ

____________

1- البقرة: 34.

2- ص: 71 ـ 78.

3- الأعراف: 11 ـ 13.

4- الحجر: 28 ـ 35.


الصفحة 64
الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}(1).

هذه بعض الآيات التي تعرّضت للواقعة التي هي محلّ البحث.

وقد احتوت هذه القصّة على دلالات متعدّدة تنصّ على أسس المعارف الاعتقادية، وأحد تلك الجوانب المهمّة في القصّة هي أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم، وذلك ضمن عدّة تعابير تبيّن شدّة الأمر بالانقياد والخضوع لآدم (عليه السلام)، كقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}(2)، حيث احتشدت فيها الدوالّ التأكيدية كـ (هم) و (أجمع) و (كلّ) و (الملائكة) وغيرها، وكقوله تعالى: {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} فهو أمر بالوقوع للسجود مباشرة بلا فصل، ولا يخفى ما في التعبير بالوقوع من شدّة الخضوع والطوعانية وانقياد الملائكة لآدم (عليه السلام).

وعلى ضوء مقالة أصحاب الشبهات المتقدّمة الجاحدين للتوسّل يكون امتناع إبليس من السجود عين التوحيد، فحيث أن إبليس أبى جعل الواسطة يكون أكبر موحّد ; لكونه متقيّداً ومتشدّداً في العقيدة التوحيديّة وأول رائد لدعوة التوحيد ونفي العقيدة الشركيّة التي تورّط بها الملائكة بحسب زعم الجاحدين للتوسّل، ويكون إبليس على هذا صاحب تحرّر وانفتاح وشفّافية في العبادة لرفضه الواسطة.

ويكون انقياد الملائكة وخضوعهم للواسطة هو الشرك الأكبر، ويكونون بذلك مغالين في آدم، قد خلقوا منه صنماً والعياذ بالله لتقديسه وتعظيمه، بينما القرآن الكريم يقرّر الحقيقة على خلاف ذلك، حيث يعتبر الملائكة موحّدون

____________

1- الكهف: 50.

2- الحجر: 30.


الصفحة 65
مطيعون، وأصبحوا بسجودهم في غاية القرب لله تعالى ; لامتثالهم وطوعانيتهم للأوامر الإلهيّة، وفي الوقت ذاته حكم على إبليس بالكفر، حيث عبّر عنه بأنّه كافر مستكبر مدحور ملعون مطرود عن ساحة الرحمة الإلهيّة.

ولا يستقيم معنى كفر إبليس وتوحيد الملائكة في القرآن الكريم، إلاّ على الضابطة التي ذكرناها، وهي أنّ المدار في الطاعة والعبادة وتوحيد الله تعالى على وجود الأمر الإلهي، فمع مخالفة الأمر الإلهي يتحقّق الكفر والشرك، وإن كان مضمون المخالفة هو رفض الوسائط، وذلك ما صنعه إبليس فأصبح مذؤوماً مدحوراً، وأما الملائكة الذين انقادوا وخضعوا للأمر الإلهي، فهم الموحّدون المطيعون، ولو كان ذلك عن طريق الواسطة والسجود لآدم (عليه السلام)، سواء فُسّر السجود بمعنى جعل آدم قبلة لهم، أو بمعنى الاحترام والتعظيم والانقياد لآدم والخضوع له.

إذن أصبح إبليس في غاية البعد من الله عزّ وجلّ واستحقّ الطرد من رحمة الله تعالى ; لاستكباره على طاعة الأمر الإلهي; ولأنّه أراد أن يُحكّم إرادته وسلطانه على إرادة الباري تعالى وسلطانه، كما جاء ذلك في الحديث القدسي، قال إبليس: (ربّ اعفني من السجود لآدم وأنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل، فقال جلَّ جلاله: لا حاجة لي في عبادتك، إنما عبادتي من حيث أريد لا من حيث تريد)(1)، وليس ذلك إلاّ لكون عبادته التي يزعمها مع رفضه السجود لوليّ الله وواسطته ـ تكبّراً وتجبّراً على الله عزّ وجلّ وتحكيماً لسلطانه على سلطان الله تعالى، وهذا ينافي مضمون حقيقة العبادة، التي هي الخضوع

____________

1- تفسير القمي: ج1 ص42.


الصفحة 66
والطوعانية للأوامر الإلهية; إذ ليس مدار العبادة على وجود الواسطة وعدمها كما سبق.

فإبليس في حقيقة الأمر كان عابداً لهواه، والعابد أصبح هو المعبود لنفسه ; إذ لم تكن عبادته خاضعة للأوامر الإلهية.

ثم إن مقام السجود والخضوع والانقياد لآدم (عليه السلام) لم يكن من مختصّاته، بل إن ذلك مقام الخلافة الإلهيّة، فكلّ من يتحلّى بهذا المقام ويتسنّم منصب الخلافة يكون مسجوداً للملائكة والجنّ وغيرهم ممّا خلق الله عزّ وجلّ.

إذن فالخطاب والأمر بالسجود شامل لكلّ خلفاء الله تعالى، خصوصاً وأن بعض الخلفاء الإلهيّين أعلى وأشرف منزلة من آدم (عليه السلام) في مقام الخلافة.

وعلى ذلك صحّ أن يقال: أن الآيات والأمر الإلهي بالسجود شامل وعام، أي اسجدوا لمحمّد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وهارون وداود وأوصياء الأنبياء (عليهم السلام)، الذين هم خلفاء الله في الأرض بنحو أشدّ وأكثر خضوعاً ممّا كان لآدم (عليه السلام).

ومعنى ذلك أن الله عزّ وجلّ يُطوع جميع مخلوقاته ويأمرهم بالخضوع إلى خليفته ويأمرهم بالسجود له، أي يفترض عليهم ولايته وطاعته، بمعنى أن يتوجّهوا في عباداتهم إلى الله تعالى بالخليفة الذي جعله واسطة بينه وبينهم.

وهذا هو معنى جعل وليّ الله قبلة يتوجّه به إلى الله تعالى.

وقد ورد التعميم في حكم السجود والخضوع لمطلق الخليفة في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِين * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ

الصفحة 67
رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}(1)، فالبشر الذي خلقه الله تعالى من طين وشرّفه بروح منه وهو روح القدس، لابدّ من السجود والخضوع والانقياد له في التلقّي عن الله تعالى.

ملحمة إباء إبليس وسجود الملائكة
لا زالت راهنة مستمرّة في هذا العصر

وإذا عرفت هذا وتمعّنت فيه يتّضح لك أن الملائكة وسائر الموجودات المخلوقة لا زالت ساجدة خاضعة منقادة لوليّ الله وخليفته في أرضه، ولا زال إبليس وأعوانه وأتباعه وأشياعه من الجنّ والإنس يستكبرون على خليفة الله، وينكرون وساطته ويرفضون الخضوع له والتوجّه إليه والتوسّل به إلى الله تبارك وتعالى.

وهذا الذي ذكرناه كما ينطبق على النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) كذلك يصدق على الأوصياء الأصفياء والأئمّة والخلفاء من بعده من أهل بيته (عليهم السلام).

وهذا أيضاً نداء قرآني للمسلمين وكافّة البشر بالانقياد لمحمّد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) بمعنى الخضوع لهم والتوجّه بهم إلى الله عزّ وجلّ في مقام العبادة، وهذا هو النمط الثاني لفرض ولايتهم وطاعتهم (عليهم السلام)، مضافاً إلى النمط الأول وهو معرفتهم والإيمان بهم.

والحاصل: أن ما اقترحه إبليس على الله عزّ وجلّ من السجود المباشر من دون توسيط وليّ الله تعالى وهو آدم (عليه السلام) عين الشرك والكفر ; لأنّه تكبّر وتجبّر

____________

1- ص: 71 ـ 72.


الصفحة 68
وتمرّد على الله عزّ وجلّ، وهو ينافي العبادة والعبودية التي مدارها على الطوعانية والانصياع.

والملائكة في سجودهم لآدم موحّدون في العبادة ; لكونهم خاضعين منقادين لأمر الله عزّ وجلّ، وهو معنى العبادة والاستسلام لإرادة الباري عزّ وجلّ.

وكان سجودهم وخضوعهم وانقيادهم لآدم عبادة لله تعالى وطاعة له ; لكونها ناشئة عن أمره عزّ وجلّ، ولذا ورد في الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال في سجود الملائكة: "لم يكن سجودهم عبادة له، وإنما كان سجودهم طاعة لأمر الله عزّ وجلّ"(1).

وهذا هو الفارق الأساس الذي يفصل بين التوجّه لأحجار الكعبة الشريفة وبين التوجّه للأصنام، مع أن كلّ منهما حجر، فهذا شرك وذاك توحيد، ومداره وجود الأمر الإلهي وعدمه.

ثمّ إنّ السجود لآدم والسجود تجاه الكعبة والتبرّك بالحجر الأسود وغير ذلك ليس عبادة لها، بل هي عبادة لصاحب الأمر، وهو الله عزّ وجلّ، فهو الذي أمر بذلك، والعباد منقادون مطيعون لأمره تبارك وتعالى.

الإمامة ركن التوحيد:

ومن المعالم المهمّة أيضاً، والتي استعرضتها الآيات القرآنية في قصّة آدم هي الولاية والخلافة، فالتوحيد في العبادة لا يكون إلاّ بالانصياع والتذلّل لخليفة

____________

1- بحار الأنوار: ج16 ص342.


الصفحة 69
الله تعالى المنصوب من قبله عزّ وجلّ، فإبليس الذي استكبر على الخلافة والإمامة في الأرض كافر بنصّ القرآن الكريم، والملائكة الذين خضعوا وسجدوا لخليفة الله تعالى موحّدون في العبادة.

فالإمامة معلم من معالم توحيد الله تعالى في الطاعة، والمطيع والخاضع لوليّ الله ووسيلته، هو الموحّد الحقيقي، وبذلك يكون الكون بأجمعه مأموراً بالطاعة والانقياد لمقام الخلافة والإمامة في الأرض، بما فيهم كبار الملائكة المقرّبين، حيث أخذ الله عزّ وجلّ الولاية للإمام والخليفة على جميع الملائكة، فمن يأبى ذلك يندرج تحت قوله تعالى: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}.

ولا شكّ أن الإيمان بهذه العقيدة من مختصّات المذهب الإمامي، الذي آمن بأن السبب المتّصل بين الأرض والسماء لم ينقطع بعد وفاة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وأن الولاية الفعلية لله تعالى والحاكمية السياسية والقضائية والتنفيذية والتشريعية، لا زالت قائمة بعد النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فولاية الله تعالى في تدبير النظام الاجتماعي بشكل مطلق غير معطّلة.

وبذلك كلّه نخلص إلى: أنّ إنكار الواسطة المنصوبة من الله عزّ وجلّ هو ما قام به إبليس، حيث يدّعي التوحيد في العبادة، لكن باطن دعواه الشرك، فلابدّ أن يُلتفت إلى أن العبادة في جوهرها وروحها ليست بهيئة السجود أو الركوع أو تحريك اللسان أو بالقصد إلى بيت الله الحرام فيما إذا كان المكلّف يحمل في طيّات نفسه الإباء والاستكبار على ربّه، فإن هذا هو محطّ الكفر والصنمية والفرعنة.