الصفحة 70

ضابطة العبادة:

ومن هنا قد ينبثق إشكال أشرنا إليه سابقاً وأجبنا عنه إجمالاً نحاول أن نجيب عنه بشيء من التفصيل.

وحاصل الاشكال: هو أن البحث انتهى بنا إلى أن المدار في العبادة على قصد الأمر وعدمه، فلو كان كذلك فهل يعقل أن الباري يأمر بعبادة غيره؟!

فإذا كان ذلك غير معقول فلا يكون المدار على وجود الأمر وعدمه، بل المدار على تخصيص العبادة بالله تعالى وعدم تخصيصها به.

وبعبارة أخرى: لو كان المدار على وجود الأمر وعدم الأمر لكان من المعقول أن الله تعالى يأمر بعبادة غيره، والحال أن القرآن الكريم في آيات عديدة ينهى عن الكفر والشرك وعبادة غير الله تعالى.

وحينئذ يكون المدار على ذات الفعل وذات الخضوع، فإن كان لغير الله فلا يعقل أن يؤمر به من قبل الله عزّ وجلّ، وإن كان لله عزّ وجلّ فهو العبادة التوحيدية، فالخضوع والفعل العبادي لا يقبل التوسيط، بل لابدَّ من توجيهه وتخصيصه وإضافته إلى الله عزّ وجلّ، ولا يعقل أن يتوجّه إلى غير الله عزّ وجلّ في الفعل.

فالضابطة ليس على وجود الأمر فقط، بل على اسناد الفعل أيضاً، فإذا تمحّض الفعل في الإضافة إلى الله عزّ وجلّ يكون توحيداً في العبادة، وإذا امتزج الفعل في الإضافة إلى غير الله تعالى يكون شركاً، فالمدار على إثبات الواسطة ونفيها.

والجواب: هو أن المدار على وجود الأمر لا غيره، والذي يُحقّق كون العبادة

الصفحة 71
والخضوع مضافتين إلى الله عزّ وجلّ دون غيره هو نفس وجود الأمر وامتثاله.

وذلك كما ذكرنا في الفارق بين التوجّه إلى الكعبة وهي أحجار وبين التوجّه إلى الأصنام من قبل الوثنية، وهو وجود الأمر وعدمه.

وبعبارة أخرى: مع وجود الأمر الإلهي لا يكون الخضوع والعبادة للواسطة، بل لأمر الله محضاً، ومع عدم وجود الأمر لا يكون الخضوع لله وإن نفيت الواسطة، بل يكون خضوعاً لهوى النفس واستكبارها.

فإن العبادة بتسالم علماء الإسلام ليس تحقّقها بالهيئة فقط، وإنما جوهر العبادة وروحها بالخضوع والطوعانية والسلم والاستسلام.

ومن الواضح أن الهيئات والأفعال البدنية، من السجود والركوع وألفاظ الدعاء، من درجات العبادة النازلة في القوى الإنسانية، وأما درجات ذات الانسان العالية كقوة عقله وقلبه فإن عبادته بالتسليم والانقياد والإذعان، وهي المعرفة الإيمانية، ومن ثم ورد أن "الأعمال بالنيّات" أي أن قيمة العبادة بلحاظ النيّة، والنيّة هي التوجّه القلبي المتولّد من الإيمان.

وعليه فما اشتهر من تقسيم التوحيد إلى توحيد الذات والصفات والأفعال وتوحيد العبادة لا يخلو من مسامحة، لأن التوحيد في مقام المعرفة هو توحيد عبادة أيضاً، حيث أن إذعان القلب والعقل والروح وتسليمها بتوحيد الذات والصفات والأفعال خضوع للباري تعالى، وإخبات وتسليم، فهي عبادة لله من العقل والقلب والروح، ولا يمكن أن يكون للبدن والنفس عبادة لله ولا يكون للعقل والقلب والروح عبادة لله بالإيمان والإذعان والتسليم والإخبات وعدم الجموح والتمرّد على الله تعالى، إذ أن جوهر العبادة هو التسليم والإنقياد

الصفحة 72
والطاعة والطوعانية وكون العبد طيعاً مطاوعاً.

فإذا أمر الباري تعالى بهيئة معينة في العبادة فطاعة ذلك الأمر هو العبادة التوحيدية، وإن كان لهيئة العبادة المأمور بها علاقة وإضافة إلى وسيلة وواسطة معيّنة، فقوله تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}(1).

إنما هو جعل إلهي للواسطة والوسيلة وهي الكعبة، وهذا لا يعني أن الله تعالى يأمر بعبادة الكعبة والسجود والخضوع لها، بل إنما السجود والخضوع له تبارك وتعالى، وباب التوجّه إليه عزّ وجلّ هي الكعبة، فهي وجه الله عزّ وجلّ، حيث أطلق الباري على الكعبة والمسجد الحرام بأنه وجه الله; لأنه تعالى قال: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} والوجوه إنما يقابلها وجه يكون واسطة بين العبد والمعبود، ثم بعد ذلك يُعقّب الله عزّ وجلّ بأنني عندما أقول توجّهوا إلى الكعبة واجعلوها قبلة ووجهاً لا يعني انحصار الوجه الإلهي بالكعبة، بل {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنََما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(2)، وإنما الوجه الأساس الذي جعل في التوجّه إلى الله عزّ وجلّ في الصلاة هو الكعبة الشريفة.

فإذا كانت الكعبة تستحقّ أن تكون وجهاً لله تعالى، فكيف لا يكون سيّد الرسل (صلى الله عليه وآله) وجهاً من وجوه الله عزّ وجلّ، بل أعظم الوجوه لله تعالى؟!

مع أن الكعبة المشرّفة عبارة عن أحجار.

____________

1- البقرة: 144.

2- البقرة: 115.


الصفحة 73
نعم المجسّمة يقولون إن وجه الله تعالى هو العضو الجسماني منه، وهو قول باطل بالضرورة; إذ لا وجه ولا يد ولا رجل لله عزّ وجلّ بمعنى أنه عين ذاته، نعم يده من مخلوقاته بمعنى القدرة والتصرّف، ووجهه بمعنى التوجّه إليه تعالى بآياته، التي هي علامات ودلالات مخلوقة لله تعالى لابدّ من الاستدلال بها على ذي الآية.

وحينئذ فالمدار على وجود الأمر، وهو الذي يخصّص الخضوع بكونه لله تعالى لا لغيره وإن أضيف إلى الواسطة، إذ ليست هي إضافة خضوع وعبادة، بل إضافة وسيلة وتوجّه بحسب ما هو الأمر الإلهي، والأمر هو مقام الآمرية والمولوية لله عزّ وجلّ، وإعمال سلطنة على العبد، وانقهار العبد واستسلامه لإرادة مولاه يُعدّ عبادة لمولاه لا لغيره، فمع وجود الأمر لا يعقل أن تكون العبادة لغير الله، لأن العبادة التي هي الطاعة لغير الله لا يتحقّق معناها مع وجود الأمر من الله تعالى، ومع عدم وجود الأمر لا يكون الإتيان بالفعل طاعة وعبادة لله وإن حذفت الوسائط، بل يكون شركاً وطاعة لهوى النفس وتكبّراً واستكبار على آيات الله تعالى وحججه.

والحاصل: إن المدار في العبادة ليس على هيئة الأفعال والطقوس فحسب، كما تسالم على ذلك علماء المسلمين من فقهاء ومحدثين ومتكلّمين ومفسّرين، فإن اللاّعب الرياضي قد يتخذ هيئة خاصة كالسجود والركوع وغيرهما، ولكن قصده الرياضة من شدّ عضلات الظهر أو الركبتين أو غيرها، وكذا دفع الخمس أو الزكاة بقصد الرشوة أو السمعة والرياء، فإن ذلك كلّه ليس من العبادة، وإن كانت هيئته هيئة عبادية، وليس ذلك إلاّ لكونه خارجاً عن إطار

الصفحة 74
الأوامر الإلهية.

ولذا كان امتثال الأمر الإلهي بالسجود أو الركوع إلى الكعبة والاعتكاف في المسجد والوقوف بعرفة والسعي بين الصفا والمروة والازدلاف إلى منى والطواف حول البيت الحرام ليس عبادة للكعبة أو المسجد أو عرفة أو غيرها، وإنما إضافة تلك الهيئات العبادية إليها إضافة امتثال وطاعة وتوسّل وتوجّه إلى الله تعالى انقياداً لأمره، ولا يعني ذلك صنمية أو عبادة لتلك البقاع الطاهرة; إذ مع وجود الأمر الإلهي يكون الامتثال انقهاراً واستسلاماً من العبد لربّه، ولا يمكن أن تكون عبادته عبادة لغير الله تعالى، بل قد تكون أفعال ونسك الحج والصلاة إلى الكعبة شركاً، كما كان في عهد الجاهلية قبل الإسلام، وتكون توحيداً إذا كانت بولاية ولي الله وهو الرسول كما في أفعال الحج بعد الإسلام، فالسجود والخضوع لمن أمر الله عزّ وجلّ بالخضوع له طاعة لله بالأصالة، وليس المسجود له إلاّ واسطة في العبادة، وآية في المعرفة والانقياد.

3 - الآيات البينات في المسجد الحرام:

قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}(1)، فالآية تتحدّث عن بناء البيت الحرام وأنه أوّل بيت وأشرف بيت وضع للناس لأجل عبادة الله تعالى، فهو إمام المساجد وأوّلها، ومنه تتشعّب بقيّة بيوت الله تعالى، التي وضعت للعبادة، ففي

____________

1- آل عمران: 96 ـ 97.


الصفحة 75
الآية الكريمة مزج بين حقيقتين:

الأولى: أن البيت الحرام هو أوّل بيت وضع للعبادة وللحجّ.

الثانية: ما يحويه هذا البيت المبارك من آيات بيّنات، وهي مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً.

فعندما أراد الله تعالى أن يبيّن حقيقة بيته المبارك وأنه وضع للعبادة والتوحيد والتطهير من الشرك والهداية للعالمين، ذكر سبب ذلك، وهو أنه فيه آيات بيّنات.

إذن الركن الركين في ماهية البيت الإلهي وفي كونه هداية للعالمين ومحلاًّ للعبادة والتوحيد ونفي الشرك هو كونه فيه آيات بيّنات، فالذي يُعضّم شأنه ويجعل العبادة فيه عبادة توحيدية توفّره على تلك الآيات البيّنات، والعطف في الآية المباركة عطف بيان، فالآيات المقصودة في الآية المباركة هي مقام إبراهيم (عليه السلام) أوّلاً، ومن دخله كان آمناً ثانياً، وهاتان الآيتان في البيت الحرام ذُكرا على سبيل التمثيل لا الحصر; ولذا جاء التعبير في الآية بلفظ الجمع وهو (آيات بيّنات).

فالبيت الذي وضع للناس من أجل العبادة والهدى ونفي الشرك ميزته التي جعلته كذلك هي أنه فيه آيات بيّنات، والحجّ الذي هو شرعاً القصد إلى بيت الله الحرام للوفود على الله تعالى جُعل مقروناً بالآيات، وهي مقامات الأنبياء وقبورهم ومناسكهم; ليكون دليلاً وشاهداً على أن التوجّه والسير إلى الله عزّ وجلّ لا يتمّ إلاّ بالتوجّه بأنبيائه وأصفيائه والتوسّل بهم إلى الله تعالى.

فلا ينفكّ توحيد الله وعبادته عن التمسّك بالآيات البيّنات، كما مرّ ذلك في

الصفحة 76
سورة الأعراف، وهو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُْمجْرِمِينَ}(1)، حيث ربطت بين التمسّك بالآيات وبين استجابة الدعاء والتقرّب وقبول الأعمال والنجاة من النار.

وفيما يلي نحاول استعراض بعض هذه الآيات البيّنات الموجودة في البيت الحرام، وهي:

1 ـ مقام إبراهيم (عليه السلام).

2 ـ الأمن والأمان بالنسبة إلى داخليه من الحجّاج والمعتمرين وغيرهم.

3 ـ المستجار أو الملتزم.

4 ـ حجر إسماعيل وقبره وقبر اُمه وقبر سبعين نبيّ.

5 ـ الصفا والمروة.

6 ـ الحجر الأسود.

7 ـ مشاعر الحجّ ومناسكه، كالمزدلفة ومنى والجمرات وعرفة.

مقام إبراهيم:

هذه الآية الإلهية من أبرز معالم وآيات المسجد الحرام، وقد نصّت على ذلك الآية التي هي محلّ البحث، وقد ورد في سورة البقرة أيضاً قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى

____________

1- الأعراف: 40.


الصفحة 77
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}(1)، والتعبير بـ (مقام) في كلا الآيتين للدلالة على التفخيم والتعظيم لذلك المكان وهو حجر من الأحجار كما في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ}(2) وقوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}(3)، وليس ذلك إلاّ لكونه لامس بدن إبراهيم (عليه السلام)، حيث كان يقف عليه عند بنائه للبيت الشريف.

فهذا الحجر عظّمه الله تعالى وفخّمه وسمّاه مقاماً، وأمرنا أن نتّخذه مصلّى، أي نتّخذه قبلة بالاتجاه إليه وإلى الكعبة أثناء صلاة الطواف وغيرها في شعيرة الحجّ والعمرة، التي هي القصد والتوجّه إلى الله عزّ وجلّ، فالحاج عندما يريد أن يقصد ويتوجّه إلى ربّه بعمرة أو حجّ في الطواف وفي بيت التوحيد ومعقله، لابدّ له من التوجّه بالحجج والوسائط والآيات إلى الله تعالى، وهو مقام إبراهيم والكعبة المشرّفة، وليس ذلك كلّه إلاّ لتبرّك الحجر بملامسة بدن إبراهيم (عليه السلام)، فيتوجّه به إلى الله في الصلاة، فلا يستطيع المسلم أن يتجنّب أو يستبعد آيات الله وحججه في أبرز معالم التوحيد وهو الحجّ.

وإذا كان الحجر بملامسته بدن إبراهيم (عليه السلام) هذه حاله، فكيف بك بنفس النبيّ إبراهيم؟ ألا يتوجّه به إلى الله عزّ وجلّ بالأولوية، فيقال: يا وجيهاً عند الله اشفع لنا عند الله؟!

وقد جاء في دعاء الندبة ما يقرب من هذه المضامين.

والحاصل: إن هناك رمزاً آخر بالاضافة إلى رمزية الكعبة، لابدّ من التوجّه

____________

1- البقرة: 125.

2- سورة النازعات: 40.

3- سورة الإسراء: 79.


الصفحة 78
إليه واستقباله في الصلاة، ومن لم يصلِّ صلاة الطواف إلى المقام والكعبة معاً فصلاته باطلة، وبالتالي يكون نُسكه باطلاً وقصده إلى الباري تعالى لم يتحقّق، لعدم إتيان البيوت من أبوابها.

بيان آخر للآية الكريمة:

ثبت في علم الأصول أن الحكم معلول لموضوع نفسه ولا يمكن أن يكون علّة له، ففرض الموضوع سابق ومتقدّم على فرض الحكم، والحكم في قوله تعالى، {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} هو وجوب اتخاذ المقام مصلّى، والموضوع هو مقام إبراهيم (عليه السلام)، ومتعلّق الحكم هو استقبال مقام إبراهيم (عليه السلام) في الصلاة.

وحيث أن الموضوع سابق على الحكم سبق العلّة على معلولها، فلابدّ من فرض المفروغية عن جعل سابق لتحقّق الموضوع في نفسه، وهو كون مقام إبراهيم (عليه السلام) محلّ للقربات والتعبّد والبركة والقداسة، وحينئذ وبعد الفرغ عن ذلك يأتي المحمول، وهو وجوب اتخاذه مصلّى باستقباله في الصلاة إلى جهة الكعبة.

فالحكم دالّ على أن للموضوع أسبقية في القداسة وكونه معلماً من معالم الدين، وليس المقام المذكور إلاّ صخرة لامست قدمي إبراهيم (عليه السلام) فتقدّست بذلك وأصبحت ذات حرمة يتولّد منها وجوب اتخاذه مصلّى، بأن يجعل قبلة مع الكعبة، فيستقبل في صلاة الحجّ والطواف في بيت الله الحرام، ويتقرّب بالاتجاه به إلى الله تعالى.


الصفحة 79
فالمثابة إلى بيت الله الحرام من دون اتخاذ مقام إبراهيم مصلّى يكون وثناً وشركاً كعمل المشركين ومناسكهم.

ومن ذلك يتّضح أن البيت الحرام إنما يجب أن يقصد بشرط، وهو أن تُقرن العبادة التوحيدية للحجّ بوليّ الله إبراهيم (عليه السلام)، والمقامات المقدّسة والمشاهد المشرّفة، التي حلّ فيها أو لامست بدنه المبارك، فالمسلم يقصد في حجّه إلى الله عزّ وجلّ الوصول إلى آثار الأنبياء ومقاماتهم; لكونها مواطن شعّرها الله عزّ وجلّ وجعلها أسباباً ووسائط لنيل القربى والزلفى إليه تعالى.

وإذا كانت صخرة لامست قدمي إبراهيم (عليه السلام) لها تلك القداسة والعظمة والبركة، فكيف بك بمشاهد النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، الذين هم أفضل وأعظم من إبراهيم وجميع الأنبياء (عليهم السلام)، حيث نصّ القرآن على كون علي (عليه السلام) بمنزلة نفس النبي (صلى الله عليه وآله)، وهذا مقام لم يحظَ به أحد من الأنبياء والمرسلين، وكذلك قرنهم الله تعالى بنبيّه في مواطن عديدة كما سيأتي بيانه، إختصهم بذلك دون بقية الأنبياء والمرسلين، كما نعتهم بأنهم أوتوا علم الكتاب كلّه في قوله: {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}(1) وهم أهل آية التطهير، وكذا ما في قوله تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}(2) بينما لم يثبت الله تعالى علم الكتاب كلّه لأحد من الأنبياء، ففي النبي عيسى (عليه السلام) قال تعالى على لسانه: {وَلاُِبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ}(3) وفي شأن النبي موسى (عليه السلام):

____________

1- سورة الواقعة 56: 79.

2- سورة الرعد 13: 43.

3- سورة الزخرف 43: 63.


الصفحة 80
{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الاَْلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْء مَوْعِظَةً}(1) فلم يكن من مقامهما (عليهما السلام) أن يبيّنا كلّ ما يختلف فيه بني إسرائيل ولم يكتب في ألواح موسى (عليه السلام) كلّ شيء، بل من كل شيء؟! وعلى هذا كلّه ألا تكون مشاهدهم والأماكن التي حلّوا فيها محلاًّ للبركة والقداسة وموجبة للزلفى إلى الله عزّ وجلّ؟!

إذن هذه الآية المباركة تفيد عموم التبرّك بمواضع الأنبياء والأولياء وأنه من صميم التوحيد ونبذه من صميم الوثنية والجاهلية.

وليس ذلك إلاّ لكونها من شعائر الله، فيجب تعظيمها تعظيماً لله تعالى، فهذه الآية الكريمة دالّة بالنصّ على تشعير مواطن الأنبياء والمصطفين للقربى والعبادة.

ثم إنه لا يخفى ما في التعبير بـ (المقام) في الآية المباركة من الدلالة على ما تقدّم; لأن التعبير بـ (مقام) له دلالة شرعية أديانية بكون ذلك المكان محلاًّ يتبرّك به.

وهكذا إضافة المقام إلى إبراهيم مُشعر بالعليّة، فليس ذلك الحكم حكماً لكلّ حجر، بل الحجر المنتسب إلى إبراهيم (عليه السلام).

بل قد حكى القرطبي في تفسيره عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء أن مقام إبراهيم الحج كلّه، وعن عطاء أنه عرفة ومزدلفة والجمار وقاله الشعبي، النخعي: الحرم كلّه مقام إبراهيم، وقاله مجاهد(2)، فعلى هذه الأقوال في تفسير مقام إبراهيم يتّضح جليّاً أن الحج والحرم كلّه قد مُلأ ببصمات وإضافات منتسبة

____________

1- سورة الأعراف 7: 145.

2- تفسير القرطبي: ج 2 ص 113.


الصفحة 81
إلى النبي إبراهيم (عليه السلام) وأنه لأجل ذلك استأهلت تلك الأماكن أن تكون مواطن لعبادة الله، وأن الحج جعل عبادة توحيدية عظيمة بوسيلة التوجّه بأنبياء الله في الأعمال والنسك التي يؤتى بها، حيث أضيفت إليهم (عليهم السلام)، وسيأتي مزيد من الإيضاح لذلك في بقية مقامات الحج.

ولأجل ذلك كلّه ورد الحثّ عن أهل البيت (عليهم السلام) لأصحابهم بالتواجد في الأماكن التي شهدها النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وتشرّفت بحلوله (صلى الله عليه وآله) فيها.

من ذلك ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام)، حيث قال لعبد الأعلى: "إذا مررت بوادي محسّر فاسعَ فيه، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) سعى فيه"(1).

وعن عقبة بن خالد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) إنا نأتي المساجد التي حول المدينة فبأيها أبدأ؟ فقال: "ابدأ بقبا فصلِّ فيه وأكثر، فإنه أوّل مسجد صلّى فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذه العرصة، ثم إئت مشربة أم إبراهيم فصلِّ فيها، فإنها مسكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومصلاّه"(2).

كذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال لمعاوية بن عمّار: "لا تدع إتيان المشاهد كلّها، مسجد قبا فإنه المسجد الذي أسّس على التقوى من أوّل يوم، ومشربة أمّ إبراهيم، ومسجد فضيخ، وقبور الشهداء ومسجد الأحزاب وهو مسجد الفتح"(3).

والروايات في هذا المجال كثيرة جدّاً نكتفي منها بهذا المقدار.

هذه هي الآية الأولى من الآيات البيّنات في المسجد الحرام.

____________

1- تهذيب الأحكام / الطوسي: ج 5 ص 195.

2- الكافي: ج3 ص560.

3- الكافي: ج3 ص560.


الصفحة 82

حجر إسماعيل:

لقد ورد في الروايات أن حجر إسماعيل يضمّ قبره وقبر أمه هاجر وقبر سبعين نبيّاً أو تسعة وتسعين.

ففي الكافي عن معاوية بن عمّار قال: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحجر أمن البيت هو أو فيه شيء من البيت؟ فقال: لا ولا قُلامة ظفر، ولكن إسماعيل دفن أمه فيه فكره أن توطأ، فحجّر عليه حجراً، وفيه قبور أنبياء"(1).

وقال السيوطي في الدرّ المنثور: (وتوفّي إسماعيل بعد أبيه فدفن داخل الحجر مما يلي الكعبة مع اُمه هاجر)(2).

وأخرج القرطبي في تفسيره، عن عبد الله بن ضمرة السلولي: (ما بين الركن والمقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبيّاً)(3).

وفي الطبقات لابن سعد، عن أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: (لما بلغ إسماعيل عشرين سنة توفيت أمه هاجر وهي ابنة تسعين سنة فدفنها إسماعيل في الحجر)(4).

وأخرج أيضاً عن أبي جهم بن حذيفة بن غانم قال: (أوحى الله على إبراهيم (عليه السلام) أن يبني البيت وهو يومئذ ابن مائة سنة وإسماعيل يومئذ ابن ثلاثين سنة فبناه معه، وتوفّي إسماعيل بعد أبيه فدفن داخل الحجر مما يلي الكعبة مع

____________

1- الكافي / الكليني: ج 4 ص 210.

2- الدر المنثور: ج3 ص103، وكذا فضائل مكة للحسن البصري: ص20، ومعجم البلدان للحموي: ج2 ص221.

3- تفسير القرطبي: ج2 ص130.

4- الطبقات الكبرى: ج1 ص52.


الصفحة 83
أمه هاجر)(1).

وفي كتاب فضائل مكّة للحسن البصري، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "إن حول الكعبة قبر ثلثمائة نبيّ، وما بين الركن اليماني والركن الأسود قبر سبعين نبيّاً"(2).

ثم إن من طاف حول الكعبة بإخراج حجر أسماعيل فطوافه باطل، وقد نصّ على ذلك الفقهاء من الفريقين، أما فقهاء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) فهو واضح، وقد صرّحت بذلك روايات أهل البيت (عليهم السلام)، وأما فقهاء أهل سنّة الجماعة، فقد صرّحوا بهذه الحقيقة أيضاً، ففي مواهب الجليل للرعيني، قال: (وقال ابن مسدي في منسكه: وأما قولنا ويطوف من وراء حجر إسماعيل فهو الاجماع، ثم اختلفوا، فقال أصحاب الرأي: يطوف من وراء الحجر استحباباً، وقال جمهور العلماء بالوجوب إلى أن قال ـ ثم اتفقوا على أن من طاف ببناء البيت الظاهر ولم يُدخل الحجر في طوافه أنه يعيد الطواف ما دام بمكّة، ثم اختلفوا، فقال أبو حنيفة ومن تبعه: يعيد استحباباً، وقال جمهور العلماء: يعيد وجوباً; لأنه كمن لم يطف، فإن لم يذكر حتى انصرف إلى بلاده، فقال ابن عباس: هو كمن لم يطف، وإليه ذهب مالك والشافعي وأبو ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود وغيرهم من أهل العلم، وقالوا: عليه أن يرجع من حيث كان، يطوف من وراء الحجر)(3).

وقال الشافعي: (وإكمال الطواف بالبيت من وراء الحجر ووراء شاذروان

____________

1- الطبقات الكبرى: ج1 ص52.

2- فضائل مكّة والسكن فيها: ص 30.

3- مواهب الجليل / الحطّاب الرعيني: ج4 ص101.


الصفحة 84
الكعبة، فإن طاف بالبيت وجعل طريقه من بطن الحجر أعاد)(1).

وعن ابن عباس: (من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر)(2).

وليس ذلك إلاّ لكون الحجر من تلك الآيات التي عرّف الله عزّ وجلّ بيته المبارك بها، والطواف فيه نوع من المدارية والمحورية للكعبة الشريفة، فحينما يتمحور الحاج ويدور ويطوف حول الكعبة التي تشرّفت بحجج الله وآياته، فإن ذلك معناه أن تلك الآيات هي الأبواب إلى الله عزّ وجلّ وبها يعبد ويقصد ويتوجّه إليه.

فإسماعيل وهو نبيّ من الأنبياء على ملّة أبيه إبراهيم حنيفاً مسلماً، ويعلم أن الكعبة أوّل بيت وضع للناس كافّة ولجميع الأجيال مناراً للعبادة والطهارة والتوحيد، مع ذلك قام ببناء قبر لأمّه، وهي وليّة من الأولياء، مع سبعين نبياً من الأنبياء، وجعل الطواف كما هو طواف بالكعبة طواف بقبر أمه وكذا قبره وقبر سبعين أو أكثر من الأنبياء.

والقرآن يأتي بعد ذلك ويقرّ هذه الحقيقة ويجعلها من الأمور التربوية للمسلمين، فيقول إن هذا البيت معرفته وشرفه أنه فيه آيات بيّنات، هي قبور الأنبياء والأولياء.

ففي تشريع الملّة الحنيفية أن قبور الأنبياء تقصد ويتوجّه إليها ويطاف بها، وهذا من التوحيد التام، لا سيما وأن الله عزّ وجلّ أمر إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت من الشرك والمشركين، قال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا

____________

1- الأم / الشافعي: ج2 ص193.

2- البخاري: ج4 ص238.


الصفحة 85
بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}(1) ومن تشريعات الملّة الحنيفية، التي توجب الطهارة من الشرك والتشرف بمعالم التوحيد ويكون ذلك البيت أعظم وأطهر مسجد في الأرض يُعبد فيه الله تعالى، هي الآيات البيّنات، قبر إسماعيل وهاجر وعدد كبير من الأنبياء، ويكون الطواف كما هو طواف بالكعبة طواف بالقبور والآيات، التي بها كان البيت طاهراً من الشرك ومباركاً وهدى للعالمين.

إذن الطواف الذي هو صلاة لابدّ أن يتوجّه فيه إلى القبور، ولابدّ من الدخول إلى البيت من أبوابه وإلاّ كان الطواف باطلاً، ولم يكن البيت هدى للعالمين، هذه هي الملّة الحنيفية.

المستجار أو الملتزم:

هذه هي الآية الثالثة من آيات المسجد الحرام، وهذه الآية الإلهية في نفس جدار الكعبة مما يقرب من الركن اليماني ويقابل من جهته الأخرى باب الكعبة، الذي يقرب من الحجر الأسود، وفي نصوص الفريقين يستحب التزام الكعبة وأن يستجير الداعي بالله تعالى في ذلك المكان.

أما الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) فهي كثيرة جدّاً:

فعن معاوية بن عمّار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): "إذا فرغت من طوافك وبلغت مؤخّر الكعبة وهو بحذاء المستجار دون الركن اليماني بقليل فابسط يديك وألصق بدنك وخدّك البيت، وقل: اللّهمّ البيت بيتك والعبد عبدك وهذا مكان العائذ بك من النار، ثم أقرّ لربّك بما عملت، فإنه ليس من عبد مؤمن يقرّ لربّه

____________

1- البقرة: 125.