كذلك عنه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "لما طاف آدم بالبيت وانتهى إلى الملتزم، قال له جبرئيل: يا آدم أقرّ لربّك بذنوبك في هذا المكان ـ إلى أن قال ـ فأوحى الله إليه يا آدم قد غفرت لك ذنبك، قال: يا ربّ ولولدي أو لذريتي، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا آدم من جاء من ذريتك إلى هذا المكان وأقرّ بذنوبه وتاب كما تبت ثم استغفر غفرت له"(2).
وغيرها من الروايات في هذا المجال.
وقال الشربيني في مغني المحتاج: (الدعاء يستحبّ في خمسة عشر موضعاً بمكة: في الطواف، والملتزم، وتحت الميزاب، وفي البيت، وعند زمزم، وعلى الصفا والمروة، وفي السعي، وخلف المقام، وفي عرفات، ومزدلفة، ومنى، وعند الجمرات الثلاث)(3).
وفي حواشي الشرواني، أخرج ذلك عن الحسن البصري(4).
والمضمون ذاته جاء في مواهب الجليل للحطّاب الرعيني(5).
وقال الشافعي: (وأُحبّ له إذا ودّع البيت أن يقف في الملتزم، وهو بين الركن والباب، فيقول: اللّهمّ إن البيت بيتك والعبد عبدك وابن عبدك وابن أمتك، حملتني على ما سخّرت لي من خلقك، حتى سيّرتني في بلادك وبلّغتني
____________
1- وسائل الشيعة / الحرّ العاملي: ج13 ص345.
2- وسائل الشيعة: ج13 ص347.
3- مغني المحتاج / الشربيني: ج1 ص511.
4- حواشي الشرواني: ج4 ص143.
5- مواهب الجليل: ج4 ص158.
وقال النووي أيضاً عندما ذكر الملتزم: (سمّي بذلك لأن الناس يلزمونه عند الدعاء)(3).
وقال أيضاً: (قال القاضي أبو الطيّب في تعليقه: قال الشافعي في مختصر كتاب الحجّ: إذا طاف للوداع استحبّ أن يأتي الملتزم فيلصق بطنه وصدره بحائط البيت ويبسط يديه على الجدار، فيجعل اليمنى مما يلي الباب واليسرى مما يلي الحجر الأسود، ويدعو بما أحب من أمر الدنيا والآخرة إلى أن قال وعن ابن عباس: أنه كان يلتزم ما بين الركن والباب، وكان يقول ما بين الركن والباب يُدعى الملتزم، لا يلزم ما بينهما أحد يسأل الله عزّ وجلّ شيئاً إلاّ أعطاه إيّاه)(4).
وأخرج البيهقي في سننه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه: (رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يُلزق وجهه وصدره بالملتزم)(5).
وكذا أخرج الطبراني عن ابن عباس عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: "ما بين الركن والمقام ملتزم ما يدعو به صاحب عاهة إلاّ برأ"(6).
____________
1- الأم / الشافعي: ج2 ص243.
2- المجموع / النووي: ج8 ص258.
3- المجموع / النووي: ج8 ص13.
4- المجموع / النووي: ج8 ص261.
5- السنن الكبرى: ج5 ص164.
6- المعجم الكبير / الطبراني: ج1 ص254.
أخرج الصدوق في علل الشرائع بسنده عن سعيد بن جبير قال: (قال يزيد بن قعنب كنت جالساً مع العباس بن عبد المطلب وفريق من عبد العزّى بإزاء البيت الحرام، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين (عليه السلام) وكانت حاملة به تسعة أشهر، وقد أخذها الطّلق، فقالت: ربّ إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإني مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل (عليه السلام) وإنه بنى البيت العتيق، فبحقّ الذي بنى هذا البيت وبحقّ المولود الذي في بطني لما يسّرت عليّ ولادتي، قال يزيد بن قعنب فرأينا البيت وقد انفتح عن ظهره، ودخلت فاطمة وغابت عن أبصارنا والتزق الحائط، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أن ذلك أمر من الله تعالى، ثم خرجت بعد الرابع وبيدها أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى آخر القصة ـ)(1).
وقال الحاكم النيسايوري في مستدركه: (تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه في جوف الكعبة)(2).
وقال ابن الصباغ المالكي: (ولد عليّ (عليه السلام) بمكة المشرّفة بداخل البيت الحرام
____________
1- علل الشرائع: ج1 ص135، وكذا كشف الغمة للأربلي: ج1 ص61.
2- المستدرك: ج3 ص484.
وهذه آية آخرى وشعيرة أخرى من شعائر البيت الحرام، حيث يتأسّى الطائف ويتوسل ويتبرّك بموضع له صلة بأمير المؤمنين وأمه فاطمة بنت أسد، من أجل قبول الدعاء وغفران الذنوب.
السعي بين الصفا والمروة:
قال الله عزّ وجلّ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}(2)، والصفا والمروة محلّ هبوط آدم وحوّاء ولبركة هبوطهما جُعلا من شعائر الله وآياته، وسمّيا بهذين الاسمين، لهبوط آدم وحوّاء عليهما، حيث ورد في الروايات أن آدم لما نزل على الصفا وهو صفيّ الله تعالى سُمّي الصفا، ولما نزلت حوّاء على المروة سُمّيت مروة; لأنها مرأة فاشتقّ منها مروة.
وأما في تشريع السعي بين الصفا والمروة فورد أن هاجر سعت بين الصفا والمروة لاستطلاع وجود الماء سبع مرات فشرّع كذلك.
وإليك بعض تلك الروايات:
عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: "إن آدم (عليه السلام) لما هبط إلى الأرض أُهبط على الصفا ولذلك سُمّي الصفا; لأن المصطفى هبط عليه، فقطع للجبل اسم من اسم
____________
1- الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي: ص171.
2- البقرة: 158.
كذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "إن إبراهيم (عليه السلام) لما خلّف إسماعيل بمكّة عطش الصبي، وكان فيما بين الصفا والمروة شجر، فخرجت اُمه حتى قامت على الصفا، فقالت: هل بالوادي من أنيس؟ فلم يجبها أحد، فمضت حتى انتهت إلى المروة، فقالت: هل بالوادي من أنيس؟ فلم يجبها أحد، ثم رجعت إلى الصفا، فقالت كذلك حتى صنعت ذلك سبعاً فأجرى الله ذلك سنّة"(3).
وعن ابن عباس في حديثه عن هاجر أم اسماعيل قال: (ثم جاء بها إبراهيم (عليه السلام) وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت وليس بمكّة يومئذ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقاً إلى أن قال:
فجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجاع، وجعلت تنظر إليه يتلوّى أو قال: يتلبّط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الانسان المجهود، حتى
____________
1- آل عمران: 33.
2- الكافي: ج4 ص191.
3- علل الشرائع / الصدوق: ج 2 ص 432.
إذاً بسبب الأنبياء والأصفياء والأولياء، كآدم وإسماعيل وحوّاء وهاجر جعل منسك السعي بين الصفا والمروة من مناسك الحجّ والتوحيد.
والباري تعالى عبّر عن هذه الآية بأنها من شعائر الله، وهو ذات التعبير بكونها آيات بيّنات، أي محلّ هداية للعالمين وآية وعلامة وشعيرة بيّنة من معالم التوحيد.
فالمسجد الحرام والبيت الشريف بورك به وكانت له تلك المنزلة الرفيعة; لما حلّ فيه من الوسائل والوسائط والآيات والشعائر الهادية إلى التوحيد، وهم الأنبياء والأصفياء ومقاماتهم، التي أصبحت أقرب الوسائل إلى الله عزّ وجلّ ببركتهم; لكونهم كلمات الله وأسمائه التي يتوجّه بها إليه عزّ وجلّ.
بئر زمزم:
من الأمور التي سنّها الله عزّ وجلّ بعد طواف الحجّ الشرب من ماء زمزم، الذي نبع ببركة هاجر وإسماعيل (عليه السلام)، فأصبح من أعمال الحجّ الندبية.
فهو من توابع البيت الحرام وآية من آياته; لما له من الصلة بهاجر وإسماعيل.
أخرج البخاري عن ابن عباس في معرض حديثه عن هاجر أمّ إسماعيل:
(فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه أو قال بجناحه ـ حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها
____________
1- السنن الكبرى / النسائي: ج5 ص59، فضائل الصحابة / أحمد بن حنبل: ص82.
وأما من طرقنا فقد أخرج القمي في تفسيره، أن هاجر لما سعت سبعة أشواط: (فلمّا كان في الشوط السابع وهي على المروة نظرت إلى إسماعيل وقد ظهر الماء من تحت رجله، فعادت حتى جمعت حوله رملاً، فإنه كان سائلاً فزمّته بما جعلته حوله; فلذلك سُمّيت "زمزم")(2).
أعمال الحجّ ومناسكه:
لا ريب أن من لاحظ روايات الفريقين يجدها متّفقة على أن أعمال الحجّ كلّها لها صلة وثيقة في تشريعها بأنبياء الله ورسله، فسُمّيت عرفة بهذا الإسم لاعتراف النبيّ آدم وإبراهيم (عليه السلام) بذنوبهما(3)، وما يأتي به الحجّاج في يوم عرفة تأسّياً بما جاء به الأنبياء، كآدم وإبراهيم (عليه السلام)، وكذا سمّيت المزدلفة بذلك; لأن آدم وإبراهيم ازدلفا من عرفات ليقترّبا إلى البيت الحرام ويكون ذلك قُرباً حسّياً كناية عن القرب المعنوي، ومنى أيضاً سُمّيت بهذا الاسم، إما لدعاء آدم وإبراهيم (عليهما السلام) وطلبهما لما يأملان، أو لأجل طلبهما التطهّر من الأماني الباطلة، كذلك الجمرات جعلت منسكاً لرمي آدم وإبراهيم (عليهما السلام) الشيطان في تلك
____________
1- صحيح البخاري: ج4 ص114.
2- تفسير القمي: ج1 ص62.
3- المراد من نسبة الذنب إلى النبيّ المعصوم هو ما يراه في نفسه من التقصير في طاعة الله عزّ وجلّ لعظم حقّه، فالانسان العارف بالله تعالى يجد نفسه مقصراً وإن كان في أعلى درجات الطاعة والعبادة، وذلك من باب أن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فالمقرّب مُطالب بأدب إلهي أعظم مما يطالب به الأبرار.
إذن الحجّ بكلّ أجزائه ومناسكه ومواطنه متعلّق ومتلوّن بأفعال الأنبياء والأولياء وأسمائهم، فهم أبواب بيت الله وآياته البيّنات وشعائره الباسقات، فإذا أراد الحاج والموحّد أن يسلك السبيل إلى الله عزّوجلّ لابدّ أن يسلك ما سلكه أنبياء الله ورسله ويحاذي في فعله سيرهم وسلوكهم، ويتوسل إلى الله عزّ وجلّ في تلك المواضع التي سُمّيت بأسماءالأنبياء وأفعالهم، تذكيراًبهم وإحياءاً لأمرهم وتأكيداً على أن القصد والتوجّه إلى الله عزّ وجلّ لا يُسلك إلاّ بحجج الله ورسله.
والحاصل: أن الحجّ بمجموعه آية بيّنة على أن العبد لا يمكنه أن يفد على الله تعالى إلاّ بالتوسل بذوات الأنبياء وأفعالهم وما يتصل بهم; لكونهم شعائر الله وأبوابه، التي لا سبيل للقصد إلى الله عزّ وجلّ إلاّ بها.
فائدة:
مما ذكرنا سابقاً من ضرورة التمسّك بالآيات والحجج، لحصول البركة والطهارة والهداية والوفود على الله تعالى، يظهر المعنى المراد من الروايات، التي نصّت على أن زيارة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وزيارة المعصوم والإقرار بالولاية له بعد إتمام مناسك الحجّ هي الطهارة العظمى، وأن قضاء التفث له معنى تأويلي غير المعنى التنزيلي هو لقاء الإمام المفروض الطاعة والإقرار له بالولاية، وذلك لأنه باب الله الذي منه يؤتى والآية البيّنة التي لا يقبل عمل إلاّ بالتوسل بها.
أخرج الصدوق بسنده عن عبد الله بن سنان عن ذريح المحاربي، قال: "قلت
قال عبد الله بن سنان: "فأتيت أبا عبد الله (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك قول الله عزّ وجلّ: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}؟ قال (عليه السلام): أخذ الشارب وقص الأظفار وما أشبه ذلك، قال: قلت: جعلت فداك فإن ذريحاً المحاربي حدّثني عنك أنك قلت له: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} لقاء الإمام {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} تلك المناسك؟ فقال: صدق ذريح، وصدقت، إن للقرآن ظاهراً وباطناً، ومن يحتمل ما يحتمل ذريح؟"(3).
فلابدّ من الورود على الإمام المعصوم المفروض الطاعة، للطهارة من الشرك والهداية إلى التوحيد.
4 - التوجّه إلى القبلة طاعة للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله):
قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}(4).
فإن هذه الآية المباركة صريحة في أن استقبال الكعبة المكرمة أو بيت المقدس، لم يكن الغرض منه نفس بيت المقدس أو الكعبة بما هي، بل من أجل
____________
1- الحج: 29.
2- الكافي / الكليني: ج4 ص549.
3- معاني الأخبار: ص340 ح10.
4- البقرة: 143.
إذن لابدّ من توسيط ولاية النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وطاعته في قبول العبادة، والاستكبار عليه وعدم الانصياع إلى أوامره بالاعتراض على القبلة التي يأمر بالتوجهّ إليها في العبادة اعتبرته الآية المباركة كفراً وارتداداً وانقلاباً على الأعقاب، كما فعلت ذلك قريش عندما اعترضت على النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) بجعله بيت المقدس قبلة يتوجّه إليها في العبادة، واتهمته بأنه هوّد فتيان قريش.
5 - المودّة لذريّة إبراهيم (عليه السلام) من شرائط الحجّ وغاياته:
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الاَْصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَاد غَيْرِ ذِي زَرْع عِنْدَ بَيْتِكَ الُْمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الَّثمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}(1).
هذه الآية المباركة من آيات الحجّ، التي تتعرّض لبيان ركن هامّ من أركان مناسك الحجّ أو العمرة.
بيان ذلك:
إن هذه الآيات القرآنية المباركة نصّت على أن إبراهيم (عليه السلام) جاء بذريّته وأسكنها البيت الحرام بكلّ ما أحاط بذلك الإسكان من ملابسات وعناء ومشقّة
____________
1- إبراهيم: 35 ـ 36 ـ 37.
الغاية الأولى: قول إبراهيم (عليه السلام): {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاة}، والمراد من ذلك عمارة المسجد الحرام وتشييد معالم الدين وأركان التوحيد، وذلك بإقامة الصلاة والطواف والسعي وبقيّة مناسك الحجّ وكافّة العبادات وجميع الشعائر الإلهية، والصلاة إنما ذكرت في الآية المباركة مثالاً لهذه الغاية.
وحاصل هذه الغاية هو جعل المركزية للكعبة المشرّفة في التوجّه إلى الله تعالى لإقامة الدين ومناسك العبادة.
ولكن هذه الغاية غير كافية ولا مقبولة عند الله عزّ وجلّ ما لم تتحقّق الغاية النهائية، التي أراد الله تعالى تحقّقها من ذلك الإسكان.
الغاية الثانية: قول إبراهيم (عليه السلام): {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}(1) فإن الفاء في قوله (عليه السلام) {فَاجْعَلْ} للتفريع، وذلك لبيان أن لعمارة المسجد الحرام وإقامة الصلاة والحجّ وشعائر الدين غاية أخرى لابدّ من تحقّقها، وهي أن تهوى القلوب تلك الذريّة الطاهرة، التي أسكنها عند المسجد الحرام.
إذن لابدّ أن يكون التوجّه إلى الله تعالى في العبادات والشعائر الدينية بالكعبة المشرّفة، التي جعل إبراهيم (عليه السلام) لها المركزية والمحورية، بإسكان ذريّته فيها لإقام الصلاة، وكذا بالذريّة الطاهرة عن طريق هويّ القلب ومحبّتهم ومودّتهم
____________
1- إبراهيم: 37.
فالناس إذا توجّهوا إلى بيت الله الحرام وجعلوه قبلة ومركزاً ومحوراً في مناسكهم العبادية، لابدّ أن يتوجّهوا أيضاً إلى الذريّة ويستعرضوا لهم المودّة والنصرة والطاعة والموالاة.
ومن ذلك يتضح أن هذه الآية المباركة من آيات المودّة في القربى، ولا يمكن فصل هذه الآية الكريمة عن الآيات التي ترسم ماهية الحجّ، فغاية الحجّ ومركزية مكّة لمعالم الدين محبّة تلك الذريّة وولايتهم، والمحبّة والولاية من شرائط الحجّ الغائية وكذا من شرائط استقبال الكعبة وقبول العبادات، فالولاية ركن من معالم الدين.
وإن عزل الحج عن مبدأ الولاية والمودّة في القربى يكون وثناً من الأوثان وشركاً من فعال الجاهلية.
والحاصل: إن الغاية من إسكان الذريّة المباركة في البيت المحرم جعل المحورية والمركزية إلى مكّة المكرمة والذريّة الطاهرة، فلا صلاة ولا حجّ من دون التوجّه إلى الكعبة، ولا قيمة للتوجّه إلى الكعبة ما لم يعقبة الإزدلاف إلى الذريّة والمودّة في القربى.
من هم الذريّة الذين تهواهم أفئدة الحجاج والطائفين والركّع السجود؟
بعد أن تبين من الآية المذكورة أن مودّة وولاية الذريّة التي أسكنها إبراهيم عند المسجد الحرام ركن من أركان الدين وشرط في قبول العبادات، لابدّ من التعرّف على تلك الذريّة لكي يحرز الشخص دينه وعبادته بالتوجّه إليها
وفي هذا المجال نقول:
إن هذه الذريّة من نسل إسماعيل، وهي الأمة المسلمة، التي جعلها الله عزّ وجلّ كلمة باقية في عقب إبراهيم وإسماعيل (عليه السلام) لا تشرك بالله عزّ وجلّ طرفة عين في كلّ زمان.
قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(1)، ولا شك أن هذه دعوة مستجابة من إبراهيم وإسماعيل (عليه السلام) تكشف عن وجود بعض من ذريتهما وهي الأمة المسلمة بدرجة من الإسلام والتسليم التي نالها إبراهيم وإسماعيل، وهي ذرية باقية في عقبهما لا تشرك بالله تعالى أبداً، معصومة لها الولاية والإمامة على الناس; لأنها هي الذريّة الإبراهيمية التي طلب إبراهيم (عليه السلام) لها الإمامة، كما في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(2).
وهذه الأمة المسلمة هي التي يُبعث فيها خاتم النبيين، الذي هو دعوة إبراهيم وإسماعيل، حيث قالا: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(3).
أخرج ابن المغازلي في كتابه المناقب، بإسناده إلى عبد الله بن مسعود، قال:
____________
1- البقرة: 127 ـ 128.
2- البقرة: 124.
3- سورة البقرة 2: 129.
وأخرج العياشي في تفسيره عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: "قلت له: أخبرني عن أمة محمّد عليه الصلاة والسلام مَن هم؟
قال: أمة محمّد بنو هاشم خاصّة، قلت: فما الحجّة في أمّة محمّد أنهم أهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم؟
قال: قول الله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(3)، فلما أجاب الله إبراهيم وإسماعيل وجعل من ذريّتهم أمة مسلمة وبعث فيها رسولاً منها، يعني من تلك الأمة، يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة، ردف إبراهيم (عليه السلام)
____________
1- إبراهيم: 35 ـ 36.
2- المناقب: ص 276 ح 22 3.
3- البقرة: 127 ـ 128.