ولذا قال الإمام الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَاد غَيْرِ ذِي زَرْع عِنْدَ بَيْتِكَ الُْمحَرَّمِ}: "نحن منهم، ونحن بقية تلك الذريّة"(3).
ويشير إلى الذرية أيضاً قوله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}(4) فهذه الأمة التي هي بعض من ذرية إبراهيم وإسماعيل التي بعث فيها خاتم النبيين وهم على صلة منه وقد سمّاهم النبي إبراهيم وإسماعيل قبل ولادتهم بالمسلمين.
والحاصل: إن الآيات والروايات تصرّح بأن ذريّة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) طائفة خاصّة طهّرها الله عزّ وجلّ وأذهب عنها الرجس وجعل فيها الإمامة، وطلب إبراهيم (عليه السلام) لهذه الذريّة المودّة والمحبّة وهويّ الإفئدة إليها، وهذه الذريّة هم الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، فبهم يتقرّب ويتوسل إلى الله
____________
1- إبراهيم: 35 ـ 36.
2- تفسير العياشي: ج1 ص79 ح101.
3- نفس المصدر: ج2 ص249 ح35.
4- سورة الحج 22: 78.
ومن ذلك كلّه يتضح أن من تمام الحجّ وسائر العبادات لقاء الإمام وإظهار المودّة والنصرة والتولّي له، وإلاّ فلا حجّ ولا طواف ولا صلاة مقبولة عند الله تعالى، فالتوحيد في العبادة هو الإقرار بولاية أهل البيت (عليهم السلام).
ومن هنا أيضاً يتضح المراد من قول الإمام الباقر (عليه السلام): "تمام الحجّ لقاء الإمام"(2).
وكذا قول الإمام الصادق (عليه السلام): "ابدؤوا بمكّة واختموا بنا"(3).
وقول الإمام الباقر (عليه السلام): "إنما أمروا أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم"(4).
وكذا قال عندما رأى الناس يحجّون بمكّة: "فعال كفعال الجاهلية، أما والله ما أمروا بهذا، وما أمروا إلاّ أن يقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم فيمرّوا بنا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم"(5).
____________
1- الشورى: 23.
2- الكافي / الكليني: ج4 ص549.
3- نفس المصدر: ص550.
4- نفس المصدر: ص549.
5- الكافي: ج1 ص392.
6 - الولاية من شرائط المغفرة:
قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}(1)، فلا تحصل المغفرة ولا التوبة ولا الإيمان ولا يقبل العمل الصالح إلاّ بشرط الهداية، والمراد من الهداية في هذه الآية المباركة مقام الإمامة; لأنها تعني الإيصال إلى المطلوب، وهي مرحلة بعد مقام النبوّة الذي هو إراءة الطريق فقط.
فإن مجرّد إراءة الطريق شأن النبيّ والرسول، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}(2).
وأما مقام الإمامة فنجد أن القرآن الكريم كلّما تعرّض إليه تعرض معه لذكر الهداية بياناً وتفسيراً، قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ}(3)، وقال أيضاً عزّ وجلّ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}(4)، فوصف الله عزّ وجلّ الإمامة بالهداية وصف بيان وتعريف وتفسير، هذا في إمامة الحقّ.
كذلك في إمامة الباطل والكفر، فإن فرعون الذي هو من أئمة الكفر، قال تعالى في حقّه: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}(5)، فإمامة الكفر أيضاً فيها هداية وإيصال، ولكن إلى الضلال وخلاف المقصود من الكمال الإنساني ; ولذا
____________
1- طه: 82.
2- إبراهيم: 4.
3- الأنبياء: 72 ـ 73.
4- السجدة: 24.
5- القصص: 41.
فإمامة الحقّ هي الهداية والإيصال إلى المطلوب وولاية على الناس في أعمالهم بأمر ملكوتي من الله عزّ وجلّ، كما يستفاد من قوله تعالى: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}.
وإمامة الباطل أيضاً هداية وإيصال، ولكن إلى الضلال وخلاف المقصود.
والحاصل: أن مقام الهداية الإلهية الحقّة بقول مطلق يساوق مقام الإمامة والخلافة الربّانية.
وهذا يعني أن هناك مقاماً ثالثاً غير الشهادة الأولى والشهادة الثانية لابدّ أن يعتقد به المسلم، لكي يكون مهتدياً مؤمناً، فقوله تعالى: {آمَنَ} إشارة إلى الشهادة الأولى والثانية، وقوله {وَعَمِلَ صَالِحًا} إشارة إلى الإيمان والعمل بالشريعة الذي هو مقام النبوّة، وقوله: {ثُمَّ اهْتَدَى} إشارة إلى ذلك المقام الثالث والشهادة الثالثة، وهي الولاية والإمامة.
سورة الحمد وإمامة أهل البيت (عليهم السلام):
وإذا لم يعتقد بها الشخص ولم يجعلها واسطة بينه وبين ربّه لا يتحقّق منه الإيمان ولا العمل الصالح، فولاية وإمامة أهل البيت (عليهم السلام) واسطة ووسيلة يتوسل بها العبد إلى الله عزّ وجلّ لقبول عقيدته وعبادته، وهذا ما صرّحت به سورة الحمد، التي يقرؤها المسلم في اليوم والليلة عشر مرّات على أقل تقدير.
فإن سورة الحمد تعرّضت للشهادة الأولى والشهادة الثانية والشهادة الثالثة،
____________
1- طه: 79.
وقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}(4)، إشارة إلى مقام الإمامة في الأمة، فهناك مجموعة في الأمة الاسلامية ندعو الله عزّ وجلّ في اليوم والليلة أن يهدينا صراطهم المستقيم، المنزّه عن الغضب في العمل وعن الضلال في العلم، أي صراط المعصومين علماً وعملاً، وهؤلاء الهداة الهادون إلى الصراط المستقيم وصفهم الله تعالى بثلاثة نعوت:
الأول: أنهم منعم عليهم بنعمة خاصّة دون بقية الأمة وسائر البشر، نظير ما أنعم الله على النبيين.
الثاني: أنهم لا يغضب الله عليهم قطّ، وإلاّ لما كانت لهم صلاحية الهداية لجميع الأمة.
الثالث: أنهم لا يضلّون قط، وإلاّ لم يكونوا هداة هادين لكل الأمة.
ولم يحدّثنا القرآن عن ثلّة عن هذه الأمة قد خصصوا بنعمة وحظوة وحبوة
____________
1- الحمد: 2 ـ 3.
2- الحمد: 4.
3- الحمد: 5.
4- الحمد: 6 ـ 7.
ويتحصّل من ذلك: أن سورة الحمد اشتملت على أصول الدين من التوحيد والمعاد والنبوّة والإمامة، وقارئ الحمد يطلب من الله تعالى الهداية إلى الصراط
____________
1- سورة الحشر 59: 7.
2- سورة الأنفال 8: 41.
3- سورة الأحزاب 33: 33.
4- سورة الشورى 42: 23.
5- سورة المائدة 5: 55.
6- سورة الواقعة 56: 77-79.
7- الأحزاب: 33.
ومن ذلك كلّه يتضح المراد من قول الإمام الباقر (عليه السلام) لسدير وهو مستقبل البيت: "يا سدير إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا، وهو قول الله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}(1) ثم أومأ إلى صدره إلى ولايتنا"(2).
إذن تمام الحجّ وسائر العبادات بالهداية إلى ولاية أهل البيت (عليهم السلام) والتوسّل والتوجّه بهم إلى الله عزّ وجلّ.
7 - الوفود على ولي الله من شرائط الحجّ:
قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لاِِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِر يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجّ عَمِيق}(3).
فهذه الآية المباركة تنصّ على أن الله عزّ وجلّ جعل مكان البيت مبوّءاً وسكناً لإبراهيم (عليه السلام)، وأن إبراهيم (عليه السلام) هو المتكلّم الأوّل والناطق الرسمي عن الله تعالى في الندبة إلى الحجّ، فهو يأمر الناس بحجّ بيت الله الحرام كما نصّت على ذلك روايات الفريقين.
____________
1- طه: 82.
2- أصول الكافي: ج 1 ص 393.
3- الحج: 26 ـ 27.
فالإتيان إلى الحجّ تلبية وإجابة للنداء الإلهي إنما يتمّ بالوفادة على وليّ الله، ويكون الحجّ الذي هو القصد إلى الله عزّ وجلّ بواسطة الإتيان إلى إبراهيم (عليه السلام)، الذي هو وجيه عند الله تعالى، يتوجّه إليه ويقصد لإقامة الصلاة والطواف وسائر مناسك الحجّ العبادية، فلابدّ من الوفود على إبراهيم (عليه السلام) ومحبّته وهويّ الأفئدة إليه.
وهذه الآية المباركة تتوافق في المضمون مع ما تقدّم من قوله تعالى:
{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَاد غَيْرِ ذِي زَرْع عِنْدَ بَيْتِكَ الُْمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}(1)، فإبراهيم (عليه السلام) وذرّيته أسكنهم الله عزّ وجلّ البيت الحرام وبوّأهم فيه لإقامة الصلاة وتشييد الدين وتطهير البيت للطائفين والقائمين والرّكع السجود، والإيذان في الناس بالحجّ، ولكن لا قيمة للحجّ ولا مقبولية عند الله عزّ وجلّ إلاّ بالمجيء إلى إبراهيم (عليه السلام) وذريّته من ولد إسماعيل (عليه السلام)، وهويّ القلوب والأفئدة إليهم ومحبّتهم ومودّتهم وتولّيهم وإبراز الطاعة لهم وجعلهم واسطة في القصد إلى الله تعالى.
فتبوي الله عزّ وجلّ لإبراهيم البيت، وإسكان إبراهيم ذريته فيه من أجل الوفود عليهم ومودّتهم، هو الذي جعل من البيت الحرام مكاناً ومقصداً لإقامة العبادة فيه، والأحجار بما هي أحجار لولا ذلك تكون وثناً يعبد من دون الله
____________
1- إبراهيم: 37.
ولذا ورد أن من المستحبّات عند الدخول إلى البيت الحرام إلقاء التحيّة والسلام على سيّد الأنبياء محمّد (صلى الله عليه وآله) ثم السلام على النبيّ إبراهيم (عليه السلام)(1).
فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "فإذا انتهيت إلى باب المسجد فقم وقل: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته، بسم الله وبالله ومن الله وما شاء الله، والسلام على أنبياء الله ورسله والسلام على رسول الله، والسلام على إبراهيم والحمد لله رب العالمين"(2).
فالمجيء إلى النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ثم إلى إبراهيم (عليه السلام) مجيء وإتيان وقصد إلى الله عزّ وجلّ، وكذا أهل البيت (عليهم السلام) ; لأنهم الذريّة والأمة المسلمة الذين دعا إبراهيم والنبيّ الأكرم إلى مودّتهم ومحبّتهم.
إذن الأنبياء والأوصياء هم أبواب الله التي يتّجه إلى الله تعالى بها، ولولا ذلك لا يكون الحجّ حجّاً إبراهيمياً بل حجّ الجاهلية.
8 - الأنبياء مصدر البركة:
قال تعالى حكاية عن قول عيسى (عليه السلام): {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاة وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}(3).
وهذا يعني أن عيسى (عليه السلام) جعله الله عزّ وجلّ مصدر البركة والتبرّك أين ما حلّ; ولذا كان ببركته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله تعالى، فهو
____________
1- الوسيلة / ابن حمزة: ص172.
2- المقنع / الصدوق: ص255.
3- مريم: 31.
وكذا ورد في الآيات المباركة أن الماء مصدر البركة والخيرات كما في قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّات وَحَبَّ الْحَصِيدِ}(1)، فإذا كان الله تعالى ببركة الماء المنزل من السماء ينبت الجنان ويحيي الأرض بعد موتها، فكيف بك بأنبياء الله ورسله وخلفائه الأوصياء؟!
9 - البقعة المباركة:
وهي الطائفة من الروايات التي تعرّضت لذكر البقعة المقدّسة والمباركة التي كلّم الله عزّ وجلّ فيها موسى (عليه السلام):
كقوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَ نَارًا فَقَالَ ِلأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَس أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ يَا مُوسَى * إِنِّى أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}(2).
وقوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}(3). وكذا قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الاَْيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}(4).
____________
1- ق: 9.
2- طه: 9 ـ 12.
3- النازعات: 15 ـ 16.
4- مريم: 51 ـ 52.
وقد أقسم الله عزّ وجلّ بهذه البقعة المباركة، لعظمتها بالإضافة إلى بقع ثلاث أخرى، وذلك في قوله تعالى، {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الاَْمِينِ}(2)، وهذا قسم من الله عزّ وجلّ ببلد التين وهو المدينة، وبلد الزيتون وهو بيت المقدس، وطور سينين الكوفة، والبلد الأمين وهو مكّة، كما ورد ذلك عن الإمام الكاظم (عليه السلام)، حيث قال: "واختار من البلدان أربعة فقال عزّ وجلّ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الاَْمِينِ}(3) فالتين المدينة والزيتون بيت المقدس وطور سنين الكوفة وهذا البلد الأمين مكّة"(4).
هذا من طرقنا.
وكذلك من طرق السنّة، ولكن بتفسير التين بالبيت الحرام، وتفسير الطور بأنه الجبل الذي كلّم الله عزّ وجلّ فيه موسى (عليه السلام)(5)، ولا تنافي في ذلك إذ لعلّ ذلك هو الوادي المقدّس بين جبل طور والكوفة، كما ذكر ذلك بعض المفسّرين.
____________
1- القصص: 29 ـ 30.
2- التين: 1 ـ 3.
3- التين: 1 ـ 3.
4- الخصال / الصدوق: ص225، روضة الواعظين / النيسابوري: ص405.
5- زاد المسير / ابن الجوزي: ج8 ص275.
والحاصل: إن القرآن يؤكّد أن هناك بقعة مقدّسة مباركة، فيها هبطت الملائكة بالوحي على موسى (عليه السلام)، ولابدّ أن تقدّس وتُعظّم ويُتقرّب فيها إلى الله عزّ وجلّ ويكلّم الله تعالى فيها الأنبياء.
قال القرطبي في تفسيره: (قوله تعالى: {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}(2).
المقدّس: المطهّر، والقدس: الطهارة، والأرض المقدّسة أي المطهّرة إلى أن قال: وقد جعل الله تعالى لبعض الأماكن زيادة فضل على بعض، كما قد جعل لبعض الأزمان زيادة فضل على بعض)(3).
وهذا يعني أن هناك أماكن مقدّسة فيها ينزل الوحي وتفتح أبواب السماء، وفيها يزداد الأجر ويقبل الدعاء ويتوجّه إلى الله عزّ وجلّ.
10 - وجوب تعظيم الأنوار الإلهيّة:
خلقة الأنوار الخمسة لأصحاب الكساء في سورة النور
قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاة فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَة الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَة مُبَارَكَة زَيْتُونَة لاَ
____________
1- تهذيب الأحكام: ج 6 ص 34.
2- طه: 12.
3- تفسير القرطبي: ج11 ص175.
إن هذه الآية المباركة تنصّ على وجود بيوت خاصّة أذن الله أن ترفع وتعظّم ويذكر فيها اسمه، وفي تلك البيوت يسبّح لله عزّ وجلّ وتقبل العبادة ويسمع الذكر، وتحت قبّتها يرفع الدعاء وتفتّح أبواب السماء وتحصل القربة إلى الله تعالى، فهي بيوت مباركة ومقدّسة جعلها الله تبارك وتعالى وسيلة وواسطة ومحلاًّ لقبول العبادة والذكر والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار.
ومن الجدير بالذكر أن تلك البيوت بيوتاً خاصّة وهي مهبط الوحي والقداسة والطهارة.
والشاهد على ذلك أن الجار والمجرور في قوله تعالى: {فِي بُيُوت} متعلّق بذلك النور الذي ضربه الله عزّ وجلّ مثلاً للناس، فالنور في بيوت أذن الله أن ترفع، وقد ذكرت الآية المباركة أن هذا النور نور السماوات والأرض، أي محيط بهما ومهيمن عليهما وأشرف منهما في الخلقة والرتبة الوجودية.
ثمّ إن ذلك النور مخلوق من مخلوقات الله تعالى، أُضيف إليه عزّ وجلّ في الآية إضافة الفعل إلى فاعله، وهو عبارة عن أنوار خمسة شامخة، ضرب الله تعالى لكلّ واحد منها مثلاً حسّياً لتقريب الفكرة وتنزيل الحقيقة إلى رقيقة
____________
1- النور: 35 ـ 37.