والأنوار الخمسة التي ضُربت مثلاً هي:
أولاً: المشكاة.
ثانياً: المصباح.
ثالثاً: الزجاجة.
رابعاً: الكوكب الدريّ.
خامساً: الشجرة المباركة.
ثم تقول الآية الكريمة بعد ذلك: {نُورٌ عَلَى نُور يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}.
وفي اللغة العربية يقول علماء البلاغة كل تشبيه جملة مستقلة برأسها، وتفيد معنىً ومغزىً مستقلاً، فالآية بصدد التعرض إلى خلقة النور، وأن أحد مراحل الخلقة الإلهية هي المخلوقات النورية، وهي أنوار خمسة، تعظم في الخلقة الملائكة والروح والجنّ والإنس ومطلق الموجودات الأخرى، وهي أنوار مشتقّ بعضها من بعض، ومرتبط بعضها بالبعض الآخر كما هو ظاهر الآية المباركة.
وهذه الأنوار المباركة المحيطة بالسماوات والأرض، هي الأسماء والكلمات التي لم تعلم بها الملائكة، مع أن الملائكة ملأت أركان السماوات والأرض; لأنها هي التي تدبّرها وتدير شؤونها، وهو المشار إليه في تعليم آدم الأسماء وعرض الله تعالى لها على الملائكة، فلم يعلموا بها، فأنبأهم آدم بها،
ولو كانت تلك الأسماء من عالم السماء والأرض لعلمت بها الملائكة، ومن ذلك يعلم أن الأسماء التي علّمها الله عزّ وجلّ آدم وجهلتها الملائكة، كانت مخلوقات محيطة بعالم السماوات والأرض.
وهذا نوع من أنواع التشاهد بين الآيات القرآنية، فالأنوار الخمسة المذكورة في سورة النور هي الأسماء التي خفيت عن الملائكة وعلّمها الله تعالى آدم، وهي كما سيأتي موجودات حيّة عاقلة شاعرة من عالم النور، كما عبّر عنها في سورة البقرة بضمير (هم) واسم الاشارة (هؤلاء) وهما لفظتان لا تستعملان في الذوات الجامدة، بل في الذوات الحيّة الشاعرة العاقلة.
ويتحصّل من ذلك وجود مخلوقات خمسة نورية محيطة بالسماوات والأرض، أفضل من الملائكة ولا تحيط الملائكة بها علماً، بل إن الله تعالى شرّف آدم على جميع مخلوقاته، بما فيهم المقرّبين من كبار الملائكة، كجبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل بفضل تلك الأنوار، وبفضلها أيضاً استحقّ مقام الخلافة الإلهية، وسجد له الملائكة كلّهم أجمعون.
ومن ذلك يتضح أن هذه الأنوار الخمسة هي باطن (غيب) وملكوت السماوات والأرض; لأن نور كلّ شيء بمنزلة الروح له، ومن دونه يكون ظلمانياً، والنور في المقام ليس هو النور الحسّي الذي يظهر الصفات العارضة
____________
1- سورة البقرة من الآية 33-31.
2- بصائر الدرجات: ص89، المعجم الأوسط / الطبراني: ج4 ص44.
وسيأتي أن تلك الأنوار الخمسة المباركة - وهي الأسماء التي علّمها الله تعالى آدم وتاب بفضلها عليه من خطيئته، وابتلى بها إبراهيم لنيل مقام الإمامة - هم خمسة أصحاب الكساء وأهل آية المباهلة، محمّد (صلى الله عليه وآله) وعليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، فهم أهل البيت، وهم النور الإلهي الذي حلّ في بيوت أذن الله أن ترفع، لتكون محلاًّ للذكر والتسبيح والعبادة والتوجّه إلى الله عزّ وجلّ وتشييد معالم الدين.
ولذا أخرج السيوطي في الدرّ المنثور عن ابن مردويه عن أنس ابن مالك وبريدة، قال: "قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذه الآية {فِي بُيُوت أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: بيوت الأنبياء، فقام إليه أبو بكر، فقال: يا رسول الله هذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت عليّ وفاطمة (عليهم السلام)، قال: نعم من أفاضلها"(1).
وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: {فِي بُيُوت أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} قال: "هي بيوت النبيّ (صلى الله عليه وآله) "(2).
كذلك عن جابر عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، في قوله: {فِي بُيُوت أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ
____________
1- الدرّ المنثور: ج 5 ص50.
2- الكافي: ج8 ص331 ح510.
وقد تقدّم رواية الحاكم في المستدرك أن من الكلمات التي تاب الله بها على آدم، وهي الأسماء التي شُرّف آدم بها على الملائكة كخليفة، لأن الكلمات أعظم مقاماً من آدم; إذ بها تاب الله عليه، أن من أعظم تلك الكلمات والأسماء هو خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله)، وقد ورد في المستدرك أنه لولاه لما خلق آدم ولا الجنة ولا النار(2) ويتشاهد هذان الحديثان النبويان على أن أوّل الأنوار الخمسة والأسماء التي تعلّمها آدم وتوسّل بها هو خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله).
هذا بالنسبة إلى الأنوار الخمسة المباركة.
الأئمة التسعة من ولد الحسين (عليه السلام) في آية النور:
وأما قوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُور يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} فهو إشارة إلى استمرار وديمومة قانون الإمامة والخلافة الإلهية بعد تلك الأنوار الخمسة إلى يوم القيامة، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء و (على) أي على إثر وعقب لغة في أحد المعاني المستعملة في لفظ (على) بالتضمين لمعنى الإثر.
والشاهد على ذلك ما تقدّم من أن الهداية هي الإيصال إلى المطلوب، وقد جاء ذكر الهداية تفسيراً وبياناً لمقام الإمامة والولاية، كما في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}، فالتعبير بالهداية في الآية المباركة يراد منه الإمامة وهو مقتضى معنى النور أيضاً; إذ هو الهادي إلى صراط الله تعالى.
____________
1- تفسير القمي: ج2 ص79.
2- المستدرك: ج 2 ص 671 و 672.
وعن الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: (قلت: {نُورٌ عَلَى نُور}؟ قال: "الإمام في أثر الإمام"(2).
وورد أيضاً عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} قال: "يهدي لولايتنا من أحبّ"(3).
بيان آخر للآية المباركة
هناك بيان آخر للآية الكريمة التي نحن بصدد الاستدلال بها، أدقّ وأعمق وأدلّ على المطلوب من البيان الأول، وهو:
بعد أن تبيّن أن قوله تعالى: {فِي بُيُوت} متعلّق بالنور، وأن النور في بيوت أذن الله أن ترفع، نقول:
إن الآية الثالثة التي ذكرناها في المقام، وهو قوله تعالى: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاَْبْصَارُ} هذه الجملة من المبتدأ والخبر كلّها بدل من قوله تعالى ذكره {فِي بُيُوت}، أي أنها في محلّ جرّ بدل من البيوت.
ويكون المعنى على ذلك! أن البيوت رجال لا تلهيهم تجارة، وليست هي
____________
1- توحيد الصدوق: ص158 ح4.
2- نفس المصدر: ص157 ح3.
3- مناقب ابن المغازلي: ص263 ح361.
والشواهد على ذلك من نفس الآيات المباركة كثيرة نشير إلى بعضها:
أ ـ قوله تعالى: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ} ليس فاعلاً لقوله عزّ وجلّ {يُسَبِّحُ} وذلك طبقاً لقراءة أهل البيت (عليه السلام)، حيث أن قراءتهم لكلمة (يسبَّح) بفتح الباء مبني للمجهول، وبناءً على هذا لا تكون كلمة {رِجَالٌ} فاعلاً لـ (يسبَّح) وإنما تكون مبتدءاً والجملة التي بعدها خبر، والجملة بتمامها عطف بدل على بيوت، فالبيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع، وإلى ذلك يشير قول الإمام محمّد بن عليّ الباقر (عليه السلام) إلى قتادة البصري فقيه أهل البصرة عندما سأله قائلاً:
(أصلحك الله، والله لقد جلست بين يدي الفقهاء، وقدّام ابن عباس، فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك؟
فقال أبو جعفر (عليه السلام): "ويحك أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي {بُيُوت أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ} فانت ثَمَّ، ونحن أولئك"، فقال له قتادة: صدقت والله جعلني الله فداك، والله ما هي بيوت حجارة ولا طين"(1).
وكذلك ما ورد عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، حيث قال: "إنّه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردى، وصل الله طاعة وليّ أمره بطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله) وطاعة رسوله بطاعته، فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع الله ولا رسوله، وهو الإقرار بما نزل من عند الله {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد} والتمسوا البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فإنه أخبركم
____________
1- الكافي: ج6 ص256 ح1.
ثم إن تلك القراءة بفتح الباء في (يسبَّح) قرأ بها أيضاً ابن عامر وأبو بكر وابن شاهي عن حفص(2).
إذن يتحصّل أن النور في بيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع.
أهل البيت (عليهم السلام) معصومون بأعالي درجات العصمة:
ب ـ قوله عزّ وجلّ: {لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ} فإن هذا المقطع من الآية المباركة يشير إلى أن هؤلاء الرجال معصومون بأعلى درجات العصمة، وهي عصمة السرّ التي هي فوق عصمة الجوارح، إذ لا يلهون برهة من حياتهم عن ذكر الله، فهم في ذكر دائم، وهذا يعني أن أولئك الرجال ثلّة خاصة في الأمة الإسلامية يتميّزون عن بقيّة المسلمين وأصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله)، الذين انفضّ أكثرهم من حوله وتركوه قائماً عندما سمعوا بالتجارة، كما نصّت على هذه الحادثة سورة الجمعة، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}(3).
ففي الروايات لم يبقَ مع النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) إلاّ إثني عشر أو ثمانية رجال،
____________
1- نفس المصدر: ج1 ص182 ح6.
2- لاحظ التبيان / الطوسي: ج7 ص439 وزاد المسير / ابن الجوزي: ج5 ص364.
3- الجمعة: 11.
وفي بعض الروايات لم يبقَ إلاّ علي (عليه السلام)(2).
ولا شك أنه لا يوجد ثلّة معصومة في هذه الأمة غير أهل آية التطهير، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فنالوا بذلك أعلى درجات العصمة والطهارة.
وهذا يعني أن تلك الأنوار الخمسة المباركة في بيوت وأبدان طاهرة، وهم رجال معصومون من الغفلة عن ذكر الله عزّ وجلّ، يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.
وتلك البيوت والرجال أذن الله أن يرفع ذكرهم، كما قال الله تعالى لنبيّه: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}، ولا شك أن معنى ذلك هو وجوب التعظيم والطاعة لهم والإنقياد لولايتهم والتوجّه بهم إلى الله تعالى في العبادة، كما أمر الله عزّ وجلّ الملائكة بالخضوع والسجود لآدم، وجعل الخضوع واسطة للإنقياد إلى الأوامر الإلهية.
إذن لا يقبل الله عزّ وجلّ من العباد الطاعة، إلاّ برفع تلك البيوت وتعظيم أولئك الرجال، والإتيان بالطاعات امتثالاً لأمر الله وأمر رسوله وأمر اُولي الأمر من هذه الأمة.
قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاُْمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ
____________
1- لاحظ جامع البيان / الطبري: ج28 ص132.
2- تأويل الآيات / شرف الدين: ج2 ص693.
وعن الأصبغ بن نباتة، قال: كنت جالساً عند أمير المؤمنين (عليه السلام) فجاء ابن الكوّا، فقال: ياأمير المؤمنين مَنْ البيوت في قول الله عزّ وجلّ: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَاْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}(2)؟
قال عليّ (عليه السلام): "نحن البيوت التي أمر الله بها أن تؤتى من أبوابها، نحن باب الله وبيوته التي يؤتى منه، فمن تابعنا وأقرّ بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها ومن خالفنا وفضّل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها"(3).
ج ـ قوله تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاَْبْصَارُ}.
وقد بيّن القرآن الكريم في آيات أخرى الذين يخافون من ربّهم، كما في سورة الدهر، قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيًما وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا}(4).
فقد روى الفريقان أن هذه الآيات نزلت في أهل البيت (عليهم السلام)، وقصة هذه الآيات المباركة مفصّلة تعرّضت لها كتب التفاسير(5).
____________
1- الأعراف: 157.
2- البقرة: 189.
3- تفسير فرات الكوفي: ص142.
4- الانسان: 7 ـ 11.
5- لاحظ تفسير القمي: ج2 ص398، تفسير القرطبي: ج19 ص134.
لا يتبادر إلى الذهن أن من أهل البيت فاطمة (عليها السلام)، فكيف تكون من الرجال المقصودين في الآية المباركة؟
فإن الجواب عن ذلك واضح; لأن كلمة الرجل والرجال في الآية المباركة بمعونة القرائن والشواهد التي احتفّت بها يراد منها الشخصية العظيمة، الثابتة الأقدام في المقامات الشامخة، فيراد من الرجال في الآية المباركة تلك الشخصيات التي تسنّمت بأرجل القدرة المقامات العالية والدرجات الرفيعة في مجال العصمة والتقوى، وقد جاء التعبير القرآني بالرجل عن الأعم من الذكر في آيات عديدة، كقوله تعالى لإبراهيم (عليه السلام): {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِر يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجّ عَمِيق}(1)، فالمراد في هذه الآية الكريمة الإقدام بأرجل الإيمان إلى دعوة إبراهيم (عليه السلام) للحجّ أعم من كون القادم ذكراً أو أنثى، ونظير ذلك أيضاً قوله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}(2) فوصفهم بالرجولية هنا للثبات والاستقامة والصدق.
ولا شك أن هذا كلّه مع القرينة لا مطلقاً، والقرائن الدالّة على إرادة الأعمّ من الذكر والأنثى في الآية التي هي محلّ بحثنا كثيرة جدّاً، منها ما ذكرناه سابقاً من
____________
1- الحج: 27.
2- سورة الأحزاب 33: 23.
خلقة أهل البيت (عليهم السلام) النورية:
ونختم الحديث في هذه النقطة بذكر بعض الشواهد الدالّة على أن الله تعالى خلق أهل البيت أنواراً مضافاً إلى ما تقدّم في آية النور:
الأول: قوله تعالى لرسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله): {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم}(1)، فهذه الآية المباركة صريحة في أن الله عزّ وجلّ أوحى إلى نبيّه الأكرم (صلى الله عليه وآله) نوراً وهو الروح من أمره، ولا شك أن الإيحاء الخفيّ إنما هو إلى ذات وحقيقة النبيّ الأكرم المباركة، فيتّحد ذلك النور بشخص النبيّ (صلى الله عليه وآله) ; ولذا قالت الآية المباركة أن من آثار ذلك النور {نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} ثم جعلت ذلك الأثر بعينه لخاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله)، حيث قالت: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} وهذا صريح في اتحاد الذات النبويّة الطاهرة مع ذلك النور في الحقيقة والأثر.
وإذا كانت ذات النبيّ الأكرم نوراً يهدي إلى صراط مستقيم، فكذلك أهل بيته (عليهم السلام) الذين هم نفس النبيّ (صلى الله عليه وآله) بنصّ آية المباهلة وآية التطهير، بل وبنص نفس هذه الآية المباركة في المقام، حيث ذكر فيها أن هذا الروح الأمري الذي أوحي إلى النبي (صلى الله عليه وآله) يهدي به الله ويوحيه إلى من يشاء ويجتبيه من عباده، فلم
____________
1- الشورى: 52.
الثاني: قول النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله): "كنت أنا وعلي بن أبي طالب نوراً بين يدي الله قبل أن يخلق آدم بأربعة آلاف عام، فلما خلق الله آدم قسم ذلك النور جزئين، فجزء أنا وجزء عليّ بن أبي طالب"(5).
الثالث: الروايات المتضافرة التي دلّت على أن النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان نوراً يتنقل من الأصلاب الشامخة إلى الأرحام المطهّرة، وقد أضاء منه (صلى الله عليه وآله) نوراً عند ولادته ملء الخافقين، كما نقلت ذلك آمنة بنت وهب (سلام الله عليها) أم النبيّ (صلى الله عليه وآله) حين ولادته، قالت: (إنّي رأيت حين ولدته أنه خرج مني نور أضاءت منه قصور بصرى من أرض الشام)(6).
____________
1- سورة النحل 16: 2.
2- لاحظ فضائل الصحابة / لابن حنبل: ص 78.
3- مسند أحمد: ج 4 ص 272.
4- فضائل الصحابة: ص15.
5- الخصال / الصدوق: ص 64، نظم درر السمطين / الزرندي الحنفي: ص 79، تاريخ مدينة دمشق / ابن عساكر: ج42 ص67، ميزان الاعتدال / الذهبي: ج 1 ص 507.
6- المعجم الكبير / الطبراني: ج 24 ص 215، تفسير ابن كثير: ج 4 ص 384.
11 - بناء المساجد على قبور الأولياء معالم الدين:
كما في قوله تعالى في قصّة أصحاب الكهف: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}(1).
ذكر المفسرون: أن أصحاب الكهف لما بعثوا بأحدهم إلى المدينة بورقهم لجلب الطعام عثر عليهم أهل المدينة وعلموا بأمرهم جاءوا إلى الكهف، فلما دخل الذي هو من أصحاب الكهف دعا الله تعالى مع أصحابه أن يميتهم لئلا يكونوا فتنة للناس، فأماتهم الله تعالى، وخفي على أهل المدينة مدخل الكهف، فلم يهتدوا إليه، فقال المشركون: نبني عليهم بنياناً ونحوطهم بجدار نجعلهم وراءه، وقال المسلمون: بل نحن أحقّ بهم، هم منّا، نبني عليهم مسجداً نصلّي فيه ونعبد الله فيه(2).
وقال المفسّرون أيضاً: إن قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} دلّ على أن الغلبة كانت للمؤمنين بقرينة ذكر اتخاذ المسجد(3).
ثم إن القرآن الكريم في استعراضه لهذه الواقعة أقرّ المؤمنين على رأيهم، ولم يفنّد اتخاذهم المسجد على قبور أصحاب الكهف من أجل التبرّك والعبادة،
____________
1- الكهف: 21.
2- لاحظ التبيان / الشيخ الطوسي: ج 7 ص 25، جامع البيان / الطبري: ج15 ص282.
3- مجمع البيان / الطبرسي: ج 6 ص 328، فتح القدير / الشوكاني: ج 3 ص 277.
إذن قبور الأولياء وبناء المساجد عليها والتبرّك بها وجعلها واسطة في التوجّه إلى الله عزّ وجلّ في العبادة من المبادئ القرآنية الصريحة والشعائر الإلهية، التي يوجب تخليد ذكرها تخليد الدين ومعالم التوحيد، التي شيّدوها بسيرتهم المباركة ونهجهم التوحيدي، وهذا عين الأمر الإلهي باتخاذ مقام إبراهيم مصلّى، فإن تشعير مقام إبراهيم وتخليد ذكره بذلك، يكون سبباً لخلود التوحيد وباعثاً للناس على التمسّك بهديه.
ومن ذلك أيضاً قول النبيّ (صلى الله عليه وآله): "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة"(1) فإن ذلك تشعيراً لقبره (صلى الله عليه وآله) وجعله محلاًّ للعبادة ونيل القربان والمقامات عند الله تعالى.
وذلك كلّه يعني أن مقامات الأنبياء والأولياء والحجج من الحريّ بها أن تعمّر وتشعّر محلاًّ للعبادة والتقرّب إلى الله تعالى.
____________
1- قرب الاسناد / الحميري: ص 13، من لا يحضره الفقيه / الصدوق: ج 2 ص 568، مسند أحمد: ج 3 ص 64، صحيح البخاري: ج 2 ص 57.