والحاصل: أن ترك تعظيم وليّ الله والإعراض عن التوسّل والتوجّه به إلى الله تعالى إخفاق في عقيدة التوحيد.
12 - حبط الأعمال وقبولها:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}(2).
هذه الآية المباركة صريحة أيضاً في أن الخضوع للنبيّ الأكرم والإقبال عليه والتوجّه إليه وتوقيره وتعظيمه وحفظ الأدب في حضرته سبب وواسطة في قبول الأعمال، وموجب لتحقّق التقوى والمغفرة والقرب من الله تعالى ونيل الأجر العظيم; وذلك لأن الخضوع للنبيّ (صلى الله عليه وآله) تعظيم له بما هو آية كبرى من آيات الله عزّ وجلّ وشعيرة من شعائره ومعلماً من أعلام دينه، وقد سبق قوله تعالى:
____________
1- الحج: 32.
2- الحجرات: 2 ـ 3.
وأما الذين لا يخضعون للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ولا يحافظون على التزام الآداب في ساحة الحضرة النبويّة، برفعهم الأصوات فوق صوته، والتعامل معه كأحدهم، فقد توعّدهم الله تعالى بحبط أعمالهم ; لأن ذلك يوجب الإعراض عن الآيات الإلهية والوسائط الربانية التي نصبها لعباده والاستكبار عنها، فلا يكون لأعمالهم حينئذ وزن عند الله تعالى، بما في ذلك العقيدة، التي هي عمل من الأعمال الجوانحية.
13 - آيات القسم الإلهي بشخص النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله):
لقد وردت آيات عديدة يُقسم فيها الله تعالى بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) نذكر بعضاً منها:
1 ـ قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}(1)، والقسم بعمر النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) من قبل الله تعالى يدلّل على تعظيمه وتشريفه، خصوصاً وأن المفسّرين ذكروا أن الباري تعالى لم يقسم بعمر أحد في القرآن الكريم، سوى القسم بعمر خاتم الأنبياء وسيّد المرسلين (صلى الله عليه وآله).
2 ـ قوله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِد وَمَا وَلَدَ}(2)، قال بعض المفسّرين أن (لا) في قوله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ} أصلية نافية، والمعنى هو أن الله تعالى لا يقسم بمكّة والنبيّ حلّ وحالّ فيها وذلك تعظيماً له (صلى الله عليه وآله)، وأنه مع وجوده في مكّة هو الأحرى أن يقسم به دون غيره، ذكر ذلك أبو
____________
1- الحجر: 22.
2- البلد: 1 ـ 3.
(وقيل: لا أقسم به وأنت حلّ فيه، بل أقسم بك)(1).
وفي فتح القدير للشوكاني قال: (وقيل: المعنى لا أقسم بهذا البلد وأنت حالّ به ومقيم فيه وهو محلّك، فعلى القول بأن "لا" نافية غير زائدة يكون المعنى لا أقسم به وأنت حالّ به، فأنت أحقّ بالإقسام بك)(2).
والبعض الآخر من المفسّرين قال إن (لا) أصلية أيضاً، ولكن المعنى هو: لا أقسم بهذا البلد وأنت لا حرمة لك في هذا البلد، يستحلّون دمك وقتالك، وفي ذلك دلالة واضحة على عظمة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ; وذلك لأن القسم لأجل عظمة المقسوم به والنبيّ (صلى الله عليه وآله) له عظمة فوق ذلك، فهو (صلى الله عليه وآله) موضع قسم أيضاً; إذ لو كان ما هو دونه من موارد القسم ولا يقسم به لعظمة النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فكيف بك بذات النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، الذي هو أعظم من الكعبة؟ وعلى هذا يكون في هذه الآية مديح له (صلى الله عليه وآله) بأنه أكرم الخلق على الله تعالى.
ذكر هذا المعنى عدد وافر من المفسّرين:
منهم: علي بن إبراهيم القمّي، حيث قال في تفسيره: ({وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} كانت قريش لا يستحلّون أن يظلموا أحداً في هذا البلد، ويستحلّون ظلمك فيه)(3).
ومنهم: الطبرسي في مجمع البيان، قال: (وقيل: معناه لا أقسم بهذا البلد وأنت حلّ فيه، منتهك الحرمة، مستباح العرض، لا تحترم، فلم يبن للبلد حرمة،
____________
1- إملاء ما منّ به الرحمن / أبو البقاء العكبري: ج 2 ص 287.
2- فتح القدير / الشوكاني: ج 5 ص 443.
3- تفسير القمي: ج 2 ص 422.
ومنهم: ابن الجوزي في زاد المسير، حيث ذكر لقوله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} ثلاث معان، قال: (والثالث: أنت حلّ عند المشركين بهذا البلد يستحلّون إخراجك وقتلك ويحرّمون قتل الصيد، حكاه الثعلبي)(2).
وبعض ثالث قال إن (لا) زائدة، ولكن مع ذلك هي دالّة على أفضلية النبيّ (صلى الله عليه وآله) على الكعبة، وأن شرفها لحلول النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) فيها، والقسم بها لأجل ذلك، فإذا كان القسم بها لأجل حلول النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) فيها يكون القسم بذات النبيّ (صلى الله عليه وآله) أولى وأدلّ.
وقد ذكر هذا المعنى أيضاً كثير من المفسّرين:
منهم: الشيخ الطوسي، حيث قال بعد تصريحه بأن (لا) زائدة: (وقيل: معناه أنت حلّ بهذا البلد أي أنت فيه مقيم وهو محلّل، والمعنى بذلك التنبيه على شرف البلد بشرف من حلّ فيه من الرسول الداعي إلى تعظيم الله وإخلاص عبادته المبشِّر بالثواب والمنذر بالعقاب)(3).
ومنهم: الشوكاني في فتح القدير، قال: (وعلى القول بأنها زائدة، يكون المعنى: أقسم بهذا البلد الذي أنت مقيم به تشريفاً وتعظيماً لقدرك; لأنه قد صار
____________
1- مجمع البيان: ج 10 ص 361.
2- زاد المسير: ج 8 ص 251.
3- التبيان: ج 10 ص 350.
كذلك ذكر بعض المفسّرين أن قوله تعالى: {وَوَالِد وَمَا وَلَدَ} المقصود منه إبراهيم والولد هو النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، قال ابن الجوزي: (والثاني: أن الوالد إبراهيم وما ولد محمّد، قاله الحسن أبو عمران الجوني)(2).
وهذا قسم آخر بالنبيّ (صلى الله عليه وآله)، كما نصّ على ذلك القاضي عياض(3).
ثمّ إن هذه الآية المباركة دالّة على أن إنكار ولاية الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وكونه واسطة ووسيلة بينهم وبين الله تعالى مع تعظيم الكعبة من عمل المشركين، وأن تعظيم البيت الحرام بضمّ تعظيم النبيّ الأكرم وببركة وجوده فيه.
3 ـ قوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}(4).
4 ـ قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الَْمجِيدِ}(5).
5 ـ قوله تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}(6).
6 ـ قوله تعالى: {الرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآن مُبِين}(7).
7 ـ قوله تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَاب مُبِين}(8).
وقد ورد عن الإمام السجّاد (عليه السلام) في الصحيفة السجّادية بأن كلّ قسم في
____________
1- فتح القدير: ج 5 ص 443.
2- زاد المسير / ابن الجوزي: ج8 ص251.
3- الشفا بتعريف حقوق المصطفى: ج 1 ص 34.
4- ص: 1.
5- ق: 1.
6- يس: 1و2.
7- الحجر: 1.
8- النمل: 1.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "يس اسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) "(2).
ذكر بعض المفسّرين أن صاد وقاف وغيرهما من أسماء النبيّ (صلى الله عليه وآله).
وقال ابن الجوزي: (والثالث: أن معناها جيسج يامحمّد، قاله ابن الحنفيّة والضحّاك)(3).
كانت هذه هي بعض الموارد التي أقسم الله عزّ وجلّ بنبيّه الأكرم (صلى الله عليه وآله) تعظيماً له، وتبياناً لعلوّ مقامه ومكانته عند الله عزّ وجلّ، وأنه أكرم مخلوقاته.
والقسم بالشيء نحو توسيط له; وذلك لأن القسم نوع من الذمّة والتوثيق، وهو نحو من أنحاء الشفاعة، لأن أحد أشكال القسم هو قسم المناشدة كما في المقام، وفي المناشدة يُذكر القسم لأجل التشفّع وجعل الشفيع والوسيط، فإذا صحّ القسم بذات النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فيقسم على الله تعالى به في قضاء الحوائج في الدنيا والآخرة، إذاً القسم كما يستخدم للاستيثاق من الخبر، يستخدم أيضاً
____________
1- الصحيفة السجادية: ص 310 ـ 311.
2- تفسير القمي: ج 2 ص 211.
3- زاد المسير: ج 6 ص 261.
14 - الآيات الآمرة بالتوسل بالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وسائر الأنبياء والأوصياء:
الآيات القرآنية الواردة في هذا المجال عديدة نشير إلى بعضها:
1 ـ قوله تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}(1).
فإن هذه الآية المباركة ناصّة وصريحة في أن التوجّه إلى الله عزّ وجلّ والإقبال عليه بالاستغفار والتوبة والأوبة لابدّ أن يكون عن طريق التوجّه والمجيء إلى الباب الذي نصبه الله تعالى لذلك، وهو النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، حيث قال تعالى: {جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} أي يأتونك ويتوجّهون إلى الله بك، فالمجيء إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) مجيء إلى الله تعالى.
إذن استغفارهم لأنفسهم عند الله تعالى لا يغنيهم عن التوجّه بالنبيّ (صلى الله عليه وآله)، ومعنى ذلك أن للمجيء عند النبيّ ثم الاستغفار موضوعية في حصول المغفرة.
ولا شك أن الاستغفار وطلب المغفرة عبادة من العبادات ونوع خاص من أنواع الدعاء وحالة من الارتباط بين العبد وربّه، وللكون عند النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) والمجيء عنده دخالة في قبول تلك العبادة وتوثيق الدعاء والارتباط بين العبد
____________
1- النساء: 64.
وهذا هو معنى أن لله عزّ وجلّ مواضع ومواطن مشرّفة يُقبل الدعاء بالكون فيها والمثول تحت قبّتها، كما في الكون في عرفة وتحت الميزاب وعند الملتزم والمستجار وغيرها، وكما ورد من أن الصلاة في البيت الحرام تعدل كذا ألف ركعة، وهذا يعني أن للكون في البيت الحرام دخالة في توثيق الارتباط بين العبد وبين الله تبارك وتعالى.
والحاصل: إن الله عزّ وجلّ يخاطب المذنبين الظالمين لأنفسهم أن تكون عبادتهم في طلب المغفرة بالقصد إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) والمجيء عنده، لأن ذلك من مواطن استجابه الدعاء وتفتّح أبواب السماء وقبول التوبة وتحقّق المغفرة، وهذا نوع من أنواع التوسّل والتشفّع به (صلى الله عليه وآله) إلى الله عزّ وجلّ، فمجيئهم عند النبيّ والاستغفار في حضرته نوع من أنواع التوسّل، واستغفار النبيّ (صلى الله عليه وآله) بعد توسلهم به نوع من أنواع الشفاعة; ولذا قال عزّ وجلّ: {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ}، وبعد التوسّل والشفاعة قال تعالى: {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}.
2 ـ قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}(1).
وهذا أمر من الله عزّ وجلّ لنبيّه الأكرم (صلى الله عليه وآله) بأن يتشفّع للمؤمنين ويكون وسيلة وواسطة لهم في المغفرة.
3 ـ قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}(2).
____________
1- آل عمران: 159.
2- المنافقون: 5.
والباري تعالى يقول إن الإباء عن المجيء عند النبيّ (صلى الله عليه وآله) صدود واستكبار على الله تعالى، وهو نفس الجرم الذي وقع به إبليس عندما أبى عن السجود لوليّ الله وخليفته آدم، حيث قال تعالى: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}، كذلك الفسق وصَفَ به الله عزّ وجلّ المنافقين كما وصف به إبليس، وليس ذلك إلاّ لأنهم لوّوا رؤوسهم وأبوا زيارة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وتوسيطه والتوجّه به إلى الله تعالى في الاستغفار، وذلك سواء قبل وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) أو بعدها; لأن الرسول الأكرم حيّ بالآيات وبروايات الفريقين، تُعرض عليه الأعمال ويسمع السلام ويردّه وهو شهيد على جميع الأمم.
4 ـ قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(1).
وفي هذه الآية المباركة والآيات التي سبقتها تأكيد على أن هذه الأمة لا ترحم إلاّ بنبيّها (صلى الله عليه وآله)، وهو شفيع هذه الأمة ووسيلتها، وإن الله عزّ وجلّ أمره بذلك وأمر الأمة بالرجوع إليه لنيل الرحمة والمغفرة.
5 ـ قوله تعالى حكاية لكلام إبراهيم (عليه السلام) مع عمّه آزر: {قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}(2).
وهذه الآية المباركة صريحة فيما نحن بصدد اثباته; إذ أن النبيّ إبراهيم (عليه السلام) يعلّل شفاعته ووساطته في الاستغفار بأن الله كان به حفيّاً، فالحفاوة والحظوة
____________
1- النور: 62.
2- مريم: 47.
والتعليل المذكور في هذه الآية الكريمة عامّ، وقد أقرّ الله تعالى إبراهيم عليه، فيكون هذا التعليل دليلاً عامّاً على أن كلّ من كان له حفاوة وقرباً عند الله عزّ وجلّ يتوسل به ويتشفّع به عند الله تعالى.
وهذه هي الملّة الإبراهميية الحنيفية التي نحن عليها، {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}(1).
6 ـ قوله تعالى حكاية لقول موسى (عليه السلام): {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}(2).
فالنبيّ موسى (عليه السلام) في هذه الآية المباركة يستغفر لنفسه ويتوسّط في طلب الاستغفار لأخيه هارون (عليه السلام)، وهذا معناه أن الوسيلة والشفاعة قد تكون أيضاً من الوليّ الذي هو أقرب وأكثر حظوة عند الله تعالى للوليّ الذي هو دونه في القرب، كما ورد ذلك في شفاعة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) لبقيّة الأنبياء بل ولخصوص الأئمة الاثني عشر من أهل بيته (عليهم السلام) في الكينونة معه في مقامه.
____________
1- سورة البقرة 2: 130.
2- الأعراف: 151.
7 ـ قوله تعالى حكاية عن قول يعقوب (عليه السلام) وولده: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(1).
وهذا توسّل من أبناء يعقوب بأبيهم (عليه السلام)، ونفس فعلهم هذا هو توبة وندامة وأوبة وإنابة إلى الله عزّ وجلّ، ففي التوبة التي هي من العبادة لله تعالى توجّهوا إلى أبيهم; لحفاوته عند الله تعالى، والنبيّ يعقوب (عليه السلام) أقرّهم على فعلهم هذا، وقال لهم: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} فقوله هذا شفاعة منه (عليه السلام) لأبنائه عند الله تعالى، وقولهم وتوجّههم إليه توسّل منهم بأبيهم وتوسيط له بينهم وبين الله عزّ وجلّ; وذلك بحسب ما تقدّم ويأتي أيضاً من الرابطة الوثيقة بين التوسّل والشفاعة، وجاء في ذيل سورة يوسف قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاُِوْلِي الاَْلْبَابِ}(2) أي أن ما ذكر في الآيات عبرة لمن يقرأ القرآن ليتخذها سنّة ينتهجها.
8 ـ قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْء رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}(3).
وهذه الآية المباركة تبيّن وساطة حملة العرش في غفران الذنوب، وقد روى الفريقان أن حملة العرش يوم القيامة ثمانية، أربعة من الأولين وأربعة من
____________
1- يوسف: 97 ـ 98.
2- سورة يوسف 12: 111.
3- غافر: 7.
وسواء كان حملة العرش من الملائكة أم من الأنبياء والأوصياء، فإنهم شفعاء ووسيلة يستغفرون للذين آمنوا.
9 ـ قوله تعالى على لسان بني إسرائيل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَام وَاحِد فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الاَْرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرُ}(2).
فإن سؤال بني إسرائيل في هذه الآية المباركة لم يكن بالخطاب في الدعاء مباشرة لله تعالى، وإنما سألوا الله تعالى وتوجّهوا إليه بنبيّه، وموسى (عليه السلام) أجابهم على ما سألوا بقوله: {فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ} ولم ينكر عليهم توسيطه في قضاء الحاجة وطلب ونيل المقصود، وكذلك الله عزّ وجلّ لم ينكر عليهم ذلك في القرآن الكريم، وإنما أنكر عليهم استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.
10 ـ قوله تعالى على لسان نبيّه سليمان (عليه السلام): {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلاَُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي
____________
1- الكافي: ج4 ص585.
2- البقرة: 61.
والحاصل: إن هذا الوجه القرآني الذي ذكرناه بطوائفه المتعدّدة من الآيات، حصيلته أن هناك أمراً إلهياً للنبيّ (صلى الله عليه وآله) بأن يكون وسيلة وشفيعاً لهذه الأمة، وأمر الناس بأن يأتوه ويقصدوه ويزوروه طلباً للشفاعة وقضاءً للحوائج، وأن مجرّد الندامة والتوبة لا تكفي، بل لابدّ من التوجّه إلى الواسطة، كما فعل أولاد يعقوب، الذين كان في قصصهم عبرة لهذه الأمة، وهذه كلّها أوامر تعظّم مبدأ التوسّل وتحثّ عليه وتهدّد من يستكبر عليه، وأن مصيره يكون كمصير إبليس.
15 - آيات التوسّل بمخلوقات كريمة أضيفت إلى الأنبياء والأولياء:
هناك آيات عديدة تنصّ على مشروعية التوسّل بغير الأنبياء والرسل من المخلوقات الكريمة على الله تعالى، والتي أُضيفت إلى الأنبياء والأولياء، فهي توجب تحقيق المقصود وإنجاح بعض الحوائج، نشير إلى بعضها:
1 ـ ما هو مذكور في قصة يوسف (عليه السلام)، حيث أمر إخوته أن يُلقوا قميصه على وجه أبيه ليرتدّ بصيراً ببركة ذلك القميص، وذلك في قوله تعالى: {إِذْهَبُوا
____________
1- النمل: 38 ـ 40.
إذن إذا كان نبيّ من الأنبياء يتوسل بجاه نبيّ آخر من الأنبياء، وهو ابنه يوسف (عليه السلام)، وذلك ببركة قميصه بجعله واسطة فيض في الشفاء، فكيف بنا نحن؟
ثم إنه ليس في المورد وهو القميص خصوصية، بل ذلك شامل لكلّ ما له نسبة وإضافة إلى نبيّ من الأنبياء أو وصيّ من الأوصياء بما يوجب حصول
____________
1- يوسف: 93 ـ 96.
2- الشعراء: 80.