الصفحة 141
البركة فيه، وذلك لأن الفعل يحمل في طيّاته الطبيعة العامة والسنّة الإلهية الشاملة; ولذا قال الله عزّ وجلّ في نفس سورة يوسف: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}(1)، وقال تعالى أيضاً في السورة ذاتها: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاُِوْلِي الاَْلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى}(2).

إذن آية الاستشفاء ومشروعيته عامّة والمورد لا يخصّص الوارد.

هل الآية دليل على مشروعية الاستشفاء فقط؟

لابدّ من التنبيه هنا على أن الاستشفاع والتوسّل والاستغاثة والتبرّك والاستشفاء كلّها من باب واحد، وتندرج تحت طبيعة واحدة وإن تعدّدت عناوينها، فهي أصناف لطبيعة واحدة عامّة، وهي توسيط الواسطة لنجح المسؤول ونيل المطلوب.

فالتبرك مثلاً هو طلب البركة، أي طلب الحاجة بواسطة ما جعله الله عزّ وجلّ من الحظوة والبركة في ذوات الأنبياء والأولياء المقدّسة أو ما يتعلّق بهم وينتسب إليهم.

وكذا الاستغاثة طلب قضاء الحاجة بواسطة المستغاث به في حالة خاصة، وهكذا بقيّة العناوين الأخرى كما ستأتي الإشارة إلى بعضها عند ذكر الفرق بين التوسّل والاستشفاع والشفاعة في الفصل الرابع.

وبناء على هذا يكون الاستشفاء بقميص يوسف (عليه السلام) المذكور في الآية

____________

1- يوسف: 7.

2- يوسف: 111.


الصفحة 142
المباركة توسيط وتبرّك وتوسّل بالقميص إلى الله عزّ وجلّ.

وتكون هذه الآية الكريمة دالّة على مشروعية مطلق التوسيط بكلّ أصنافه، وليست الآية خاصة بالاستشفاء فقط، وهذا من الاستدلال على مشروعية النوع أو الجنس بمشروعية الصنف أو النوع.

هذا تمام الكلام في هذه الآية.

2 ـ قصة البقرة، الواردة في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}(1)، فإن هذه القصة تتحدّث عن إحياء شخص من بني إسرائيل، قتل ظلماً واختلفوا في قاتله فأمرهم الله تعالى للكشف عن قاتله أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها، لتعود إليه الحياة ويتكلّم بذكر قاتله، قال عزّ وجلّ: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَاتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(2)، فهنا الباري تعالى مع كون الإحياء من فعله وليس هو بالأمر الهين، بل هو من الأمور العظيمة والكمالات الأولية لا الثانوية، مع ذلك جعل الوسيلة إليه الضرب بلحم بقرة مذكّاة، فكيف بك بالأنبياء والأوصياء، ألا يستدرّ بهم رحمة الله عزّ وجلّ؟!

ويجدر الاشارة إلى أن البقرة لم تكن بقرة عادية، بل كانت محلّ العناية الإلهية، وقد ذُكرت لها أوصافاً خاصّة في الآيات المباركة، وإن كان الاستقرار عليها بعناد من بني إسرائيل.

____________

1- البقرة: 67.

2- البقرة: 72 ـ 73.


الصفحة 143
والفرق بين ما هو مذكور في هذه الآيات المباركة وبين تقديس البقر وعبادتها، هو وجود الأمر الإلهي وعدمه، وقد جعل الله عزّ وجلّ البقرة سبباً من الأسباب الإلهية وموضعاً من مواضع قدره وإبرام قضائه في القصة المذكورة.

ويشهد على ما ذكرنا قوله تعالى في ذيل الآية الكريمة: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.

ومعنى ذلك أن الله عزّ وجلّ جعل البقرة آية وواسطة لاحياء الموتى بإذنه ومشيئته.

3 ـ قصة التابوت، التي وردت في قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(1).

فالتابوت الذي فيه سكينة وبقيّة مما ترك آل موسى وآل هارون جُعل آية معجزة لمُلك طالوت وإمامته، فتلك التركة بسبب علقتها بآل موسى وآل هارون واكتسابها البركة لإضافتها إليهم تصل إلى درجة الاعجاز والآية البيّنة لاثبات مطالب حقّة، وهي إمامة طالوت وتوجب بروز ظواهر خارقة للعادة للتابوت تكوّن منه معجزة، كما ورد في روايات الفريقين.

فهذه الواسطة تجاوزت حدّ الكرامة والبركة لتصل إلى درجة الحجّية

____________

1- البقرة: 247 ـ 248.


الصفحة 144
والإعجاز; ولذا قال الله عزّ وجلّ في ذيل الآية الكريمة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وذلك لبيان أن التابوت آية وعلامة وواسطة يتوسّط ويتوسل بها لإثبات مُلك طالوت وإمامته.

4 ـ قصة السامري صاحب العجل، التي وردت في قوله تعالى في بني إسرائيل عندما ذهب موسى (عليه السلام) إلى ربّه: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ}(1) إلى أن قال الله عزّ وجلّ حكاية عن لسان موسى (عليه السلام): {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}(2)، والرسول في الآية الكريمة كما في بعض الروايات هو جبرئيل (عليه السلام)، عندما هبط وتمثّل على حصان ليستنقذ موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل من فرعون وجنوده ويرشدهم إلى الطريق، من أجل العبور من مصر إلى الطرف الآخر، فكان على حصان نوريّ تمثّلي، وكان السامري من خواصّ النبيّ موسى (عليه السلام)، فلاحظ أن حافر حصان جبرئيل (عليه السلام) عندما كان يخطو الحصان ينبت الزرع دفعة واحدة من تحته، فقبض قبضة من أثر حصان الرسول فنبذها في العجل فإذا هو له خوار.

وقد وردت هذه القصة في روايات الفريقين:

ففي تفسير القمي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (وكان السامري على مقدّمة موسى يوم أغرق الله فرعون وأصحابه، فنظر إلى جبرئيل وكان على حيوان في صور

____________

1- طه: 87 ـ 88.

2- طه: 95 ـ 96.


الصفحة 145
رمكة(1) فكانت كلّما وضعت حافرها على موضع من الأرض تحرك ذلك الموضع، فنظر إليه السامري وكان من خيار أصحاب موسى، فأخذ التراب من تحت حافر رمكة جبرئيل وكان يتحرك، فصرّه في صرّة، وكان عنده يفتخر به على بني إسرائيل، فلما جاءهم إبليس واتخذوا العجل قال للسامري هات التراب الذي معك، فجاء به السامري فألقاه إبليس في جوف العجل، فلما وقع التراب في جوفه تحرك وخار)(2).

وفي جامع البيان للطبري قال: (وقوله: فقبضت قبضة من أثر الرسول، يقول: قبضت قبضة من أثر حافر فرس جبرئيل) ثم أخرج عن ابن عباس قوله: (لما قذفت بنو إسرائيل ما كان معهم من زينة آل فرعون في النار وتكسّرت، ورأى السامري أثر فرس جبرئيل (عليه السلام) فأخذ تراباً من أثر حافره، ثم أقبل إلى النار فقذفه فيها، وقال: كن عجلاً جسداً له خوار، فكان للبلاء والفتنة) وفي حديث آخر عنه أيضاً: (فألقى القبضة على حُليّهم فصار عجلاً جسداً له خوار).

وأخرج أيضاً عن مجاهد في قول الله تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا} قال: (من تحت حافر فرس جبرئيل، نبذه السامري على حلية بني إسرائيل فانسبك عجلاً جسداً له خوار)(3).

فإذا كان أثر التراب الذي لامس حافر فرس جبرئيل (عليه السلام) له ذلك التأثير مع أن السامري استخدمه في طريق الضلالة والغواية فما بالك بمن هو أشرف من جبرئيل (عليه السلام)؟! ألا تكون المواضع التي وقف فيها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وقبره

____________

1- الرمكة: الأنثى من الخيل.

2- تفسير القمي: ج2 ص62.

3- جامع البيان: ج16 ص254 ـ 255.


الصفحة 146
والمواطن التي لامست بدنه الشريف ذات بركة وتأثير خارق لما هو المعتاد، لا سيما إذا كان في طريق الهداية والانصياع للأوامر الإلهية؟!

5 ـ عصا موسى (عليه السلام)، حيث كانت وسيلة وواسطة للعديد من المعاجز الإلهية كانقلابها أفعى، وضرب البحر بها فكان كلّ فرق كالطود العظيم، وضرب الحجر بها فانفجرت إثنتا عشرة عيناً، كلّ ذلك لكونها مضافة إلى موسى (عليه السلام)، فهي مباركة ببركة موسى (عليه السلام) وواسطة للكثير من المعاجز، فكيف بك بنفس موسى ومن هو أفضل من موسى، ألا يكون واسطة ووسيلة لقضاء الحوائج التي هي لا تصل في العظمة والخطورة إلى حدّ المعجزة؟!

6 ـ البيت الحرام حيث جعله الله عزّ وجلّ مباركاً تُطلب فيه البركة ويدعى فيه لقضاء الحوائج، وهو نوع توسيط لأجل طلب البركة، وذلك ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}(1).

____________

1- آل عمران: 96.


الصفحة 147

الفصل الثالث



شرطية التوسّل وضرورته في مقامات ثلاث:
  قبول التوبة
  قبول العبادات
  نيل المقامات الإلهيّة




الصفحة 148
الدليل الأول: معطيات الشهادة الثانية.

الدليل الثاني: التوسّل ضرورة عقلية.

الدليل الثالث: عموم وجوب طاعة الله ورسوله وأولي الأمر.

الدليل الرابع: اقتران اسم النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) بأعظم العبادات.

الدليل الخامس: ابتغاء الوسيلة ضرورة قرآنية.

الدليل السادس: شرطية الاستجارة بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) في طلب المغفرة.

الدليل السابع: التوسّل بالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) ميثاق مأخوذ على الأنبياء.

الدليل الثامن: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِم}.

الدليل التاسع: الاستكبار والصدّ عن آيات الله تعالى موجب لحبط الأعمال.

الدليل العاشر: خضوع الملائكة لوليّ الله وخليفته.


الصفحة 149

شرطية التوسّل
وضرورته في مقامات ثلاث


نريد أن نبيّن تحت هذا العنوان دور التوسّل وشرطيته في مقامات ثلاث، وهي كالتالي:

المقام الأول: إن من شرائط التوبة وقبولها التوسّل بالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام).

المقام الثاني: إن من شرائط قبول وصحة الإيمان (العقيدة) والعبادات مطلقاً التوسّل والتوجّه بالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام).

المقام الثالث: إن أي توجّه إلى الحضرة الربوبية في صدد نيل مقام من المقامات الإلهية أو حظوة عند الله تعالى لابدّ فيه من التوجّه بالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) والتوسّل بهم.

فإن فقهاء الإمامية وغيرهم أيضاً ذكروا أن ولاية أهل البيت (عليهم السلام) شرط في تلك المقامات الثلاث، بمعنى معرفتهم والإيمان بإمامتهم.

وليس هذا ما نريد إثباته هنا; إذ هو مع وضوحه خارج عن محلّ البحث.

إذن ما نريد بيانه هنا هو شرطية التوسّل بالنبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) في تلك المقامات الثلاث.


الصفحة 150
ولأجل اشتراك ما ادّعيناه في المقامات الثلاث في طبيعة الأدلّة نستعرضها ببيان واحد، يكون صالحاً لإثبات المدّعيات الثلاثة في المقامات المذكورة.

وإليك فيما يلي استعراض الأدلّة:

الدليل الأول: معطيات الشهادة الثانية

إن المعرفة والعقيدة والإيمان الذي هو من العبادات، بل أعظم الفرائض الإلهية; لأنه إذعان وإخبات وتسليم وخضوع وانقياد لله تعالى، وهذه المعرفة الإيمانية للعقل والقلب هي عبادتهما وطوعانيتهما لله نوع توجّه ولقاء لله تعالى ووفود على الحضرة الربوبية وزلفى وقرب بتوسّط الإيمان القلبي، وهذه العبادة القلبية العظيمة ممتنعة بلا واسطة، وذلك لعظمة الله عزّ وجلّ، فلا اكتناه ولا إحاظة ولا مماسّة ولا ملامسة ولا مواجهة جسمية أو عقلية أو نفسية; إذ لا يُجابه الجسم إلاّ ما يماثله في الجسمية، ولا يُجابه النفس أو العقل إلاّ ما يماثلهما، والله تعالى منزّه عن كونه جسماً أو نفساً أو عقلاً; لكونها من الممكنات المحدودة بحدود الماهية والفقر والحاجة.

إذن لابدّ من الوسيلة والواسطة في الإيمان، الذي هو أعظم العبادات وأعظم أنواع التوجّه إلى الله تعالى، والواسطة هي الإيمان بالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) والإقرار بالشهادة الثانية في مقام الإدلاء بالشهادة التوحيدية المقبولة عند الله تعالى، والموجبة للخروج من حظيرة الشرك إلى التوحيد الإسلامي الخالص; لأنه أعظم آية للحقّ سبحانه.

وإذا كان للوسيلة هذا الدور الخطير في المعرفة وأن التوجّه إليها في المعرفة

الصفحة 151
توجّهاً إلى الله تعالى، والمعرفة أعظم شأناً من سائر العبادات، فكيف لا يكون التوجّه في عبادة البدن والنفس إلى الله تعالى بالوسيلة؟! وكيف لا يسوغ التوجّه في الخطاب الكلامي بألفاظ الدعاء إلى الوسيلة، ويكون دعاؤها دعاء بها إلى الله تعالى؟!

ففي حاقّ وعمق عبادة الإيمان والتوجّه القلبي لابدّ من التوجّه بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) للوفود على الله عزّ وجلّ، فلا يتحقّق التوحيد ولا يكون المرء مؤمناً، إلاّ إذا توجّه بقلبه إلى الله تعالى بالشهادة الأولى والشهادة الثانية، ومن ينفي أي إسم أو واسطة مع الله تعالى عند التوجّه إليه فهو واقع في مغبّة الشرك والوثنية من حيث يشعر أو لا يشعر، نظير وثنية قريش، حيث كانوا لا يدينون الله تعالى بطاعة وولاية نبيّه الأكرم (صلى الله عليه وآله).

وإذا كان الإيمان والمعرفة كذلك فكيف بباقي العبادات التي هي أقلّ شأناً وخطورة؟!

والحاصل: أن المعرفة والإيمان والتوحيد الذي يتضمّن الدين بأجمعه لا يحصل إلاّ بالتوسل بآيات الله الكبرى، ومزاوجة الشهادة الثانية بالشهادة الأولى، وهذا يعني أن أي شأن من الشؤون الدينية كالتوبة أو العبادة أو نيل مقام من المقامات الإلهية لا يمكن أن يتحقّق إلاّ بالمحافظة على الشهادة الثانية، والإقرار بها وبمعطياتها وتداعياتها ومقتضياتها في كافّة أصول وفروع المعارف التوحيدية، ولا شك أن الإيمان بالشهادة الثانية توجّه قلبي بالنبيّ الأكرم لله عزّ وجلّ، إذ الإيمان كما أسلفنا طلب للقرب والزلفى ولقاء الله تعالى، وهذا القرب إنما يتحقّق بتوسيط الشهادة الثانية، وهي شهادة أن محمّداً رسول

الصفحة 152
الله ووليّه وخليفته في أرضه.

فالإسلام يدعو إلى التوجّه بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) في الإيمان والاعتقاد وهو أفضل عبادة، فضلاً عن بقيّة العبادات الأخرى، والإباء عن التوجّه في العبادة بخاتم الأنبياء إنكار للشهادة الثانية، ودعوة إلى الشرك باسم التوحيد، وهذا ما أخفق فيه السلفيون، حين جحدوا التوسّل بالنبي (صلى الله عليه وآله)، فلا تراهم يقرنون لون الشهادة الثانية ومؤداها ومعطياتها بلون الشهادة الأولى في رسم بناء التوحيد في أدبيات كتبهم، فيقتصرون على تفسير الشهادة الأولى في التوحيد، من دون أن يهتدوا إلى كيفية ركنية مؤدّى الشهادة الثانية في أركان التوحيد، وكيفية ضرورة الربط والارتباط بين مؤدّى كل من الشهادتين في رسم أصل التوحيد، ومنه يظهر أن التوسّل والتوجّه بالنبي (صلى الله عليه وآله) ضرورة وليس مجرد خيار مشروعية.

الدليل الثاني: التوسّل ضرورة عقلية

على الرغم من أن هناك من أعلام السنّة من أكّد على رجحان التوسّل ومشروعيّته، كالقاضي عياض في كتابه الشفا بتعريف حقوق المصطفى والسُبكي في شفاء السقام والسيف الصقيل والسمهودي في وفاء الوفا وتقي الدين الحصني الشافعي في كتابه دفع الشبه عن الرسول والرسالة وغيرهم.

إلاّ أن ما نرمي إليه في هذه الأبحاث أبعد من ذلك; إذ أن الرجحان والمشروعية لا يثبتان سوى التخيير وكون التوسّل أمراً مرغوباً فيه يجوز للمكلف تعاطيه وله تركه أيضاً، وما نريد التأكيد عليه هنا هو أن مبدأ التوسّل أمر ضروري يحكم العقل بلابدّيته وعدم إمكان المحيص عنه، وذلك لأن نفي

الصفحة 153
الواسطة والوسيلة بين العبد وبين ربّه في مقام التوجّه إليه تعالى لا يخرج عن أحد فروض ثلاثة كلّها باطلة:

الأول: فرض المجابهة والمواجهة المباشرة لله تعالى حين التوجّه إليه في الدعاء والعبادة، وبطلان هذا الفرض واضح، إذ يلزم منه التشبيه للذات الإلهية، وقد ثبت بطلانه في الأبحاث العقائدية; لتنافيه مع الصفات الكمالية اللاّمتناهية لواجب الوجود.

بيان الملازمة:

إن مجابهة ومواجهة البشر العاديين المباشرة للذات الإلهية المقدّسة إما أن تكون حسّية جسمانية أو نفسانية روحية أو عقلية، وهذه الأقسام الثلاثة من المجابهة المباشرة هي التشبيه الباطل بعينه، وذلك لأن الارتباط المواجهة الجسمية إنما تفرض مع ما هو جسم، لقانون التضايف بين المتجابهين، وهكذا التوجّه المواجهة الروحية والقلبية لما هو روح والمواجهة العقلية لما هو عقل أيضاً، فكلّ هذه الأقسام المفروضة للمواجهة المباشرة لله تعالى لم تخرج عن دائرة التشبيه للذات المقدّسة بكونها جسماً أو روحاً أو عقلاً، وهو الشرك بعينه، لكونه موجباً لسلب واجب الوجود عن واجبيّته وكماله المطلق اللاّمتناهي، ووصفه بصفات المخلوق المحدود بحدود الإمكان والماهية والفقدان والاحتياج والافتقار.

وحاصل هذا الفرض هو مواجهة البشر العاديين المباشرة لله تعالى، وهو فرض التشبيه الباطل بكلّ مراتبه.


الصفحة 154
الثاني: القول بالتعطيل وعدم السبيل إلى الله تعالى ومعرفته والتوجّه إليه، وهو باطل، لأن معرفة الله تعالى واجبة والتي هي نوع لقاء لله عزّ وجلّ وتوجّه إليه وزلفى.

الثالث: دعوى أن الناس بأجمعهم لهم ارتباط مباشر مع الله تعالى فوق الجسم والروح والقلب والعقل بما لا يستلزم التشبيه، وهذا باطل بالوجدان، وقد رفض القرآن الكريم أيضاً الإيحاء والوحي إلى جميع البشر واستنكر ذلك على المشركين، كما في قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِي مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً}(1).

وردّ الله عزّ وجلّ في آيات أخرى على هذه المقالة الباطلة، حيث قال: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ}(2).

ومع بطلان هذه الفروض الثلاثة تكون النتيجة ضرورة الإيمان بالوسائل والوسائط والآيات، والرجال المؤهّلين للإرتباط بالله تعالى، وهم الأنبياء والأولياء والمصطفين، الذين اصطفاهم الله عزّ وجلّ وجعلهم وسائط بينه وبين خلقه في كلّ ما يحتاج الخلق إليه وفي كلّ توجّه وطلب ودعاء وزلفى إلى الله تعالى، سواء كان على مستوى التوبة أو سائر العبادات أو نيل مقام من المقامات الإلهية، وليس ضرورة التوسيط إلاّ لعظمة الله عزّ وجلّ وعلوه عن التجسيم

____________

1- المدّثر: 52.

2- الأنعام: 124.


الصفحة 155
والتشبيه والتعطيل.

ثم إن آيات الله الكبرى وأسمائه العظمى التي جعلها واسطة في التوجّه إليه هي أيضاً لا تتوجّه إلى الله عزّ وجلّ بالمباشرة ولا تجابهه إلاّ بذواتها، فتوجّه الوسائط أيضاً إلى الله تعالى إنما يكون بذواتها التي هي آية لمعرفة الله عزّ وجلّ، ولا توجد أي مجابهة بالمباشرة لأيّ مخلوق من المخلوقات.

التوسّل في كل النشآت ولأصناف المخلوقات:

والحاصل: أن الله تعالى لعظمته وعظيم صفاته لا يجابه ولا يواجه إلاّ بالوسائل والآيات، ولا يستثنى من ذلك القانون وتلك السنّة الإلهية التكوينية أي مخلوق من المخلوقات في كلّ شأن من شؤونه المعرفية والعبادية في هذه النشأة وفي جميع النشآت، ولذا قالت الصدّيقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في مستهل خطبتها المعروفة في هذا المجال: "فاحمدوا الله الذي بعظمته ونوره ابتغى من في السماوات ومن في الأرض إليه الوسيلة، فنحن وسيلته في خلقه، ونحن آل رسوله، ونحن حجّة غيبه وورثة أنبيائه"(1).

وكذا قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة"(2).

إذن قانون ومبدأ التوسّل ضرورة يدركها العقل ويُقرّ بها، لعظمة الله تعالى، وليس التوسّل أمراً تخييرياً ولا مشروعاً فحسب.

____________

1- شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد: ج16 ص211، السقيفة وفدك / أبو بكر الجوهري البغدادي: ص101.

2- الكافي: ج1 ص129.


الصفحة 156

الدليل الثالث: عموم طاعة الله ورسوله وأولي الأمر

إن ضرورة المسلمين قائمة على أن جميع العبادات فيها ما هو فرائض قرآنية إلهية ومنها ما هو سنن نبويّة، كما في الصلاة والصيام والحجّ والزكاة والجهاد وغيرها، إذ هي فرائض إلهية في أصل وجوبها في الدين، وأما تفاصيلها وأجزائها وشرائطها وأقسامها فهي سنن نبويّة وصلتنا عن طريق أمر النبيّ (صلى الله عليه وآله) لكلّ المسلمين بتلك التفاصيل والتشريعات الخاصة، ومن أمثلة ذلك ما ورد في روايات الفريقين من أن الصلوات كان فرضها من الله تعالى ركعتين لكلّ صلاة وما زاد عليها في كلّ صلاة كان من سنّة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأمره وفرضه(1) وهكذا بقيّة التفصيلات والتشريعات القانونية النبويّة ضمن الفرائض الإلهية، وكتب الحديث مليئة بالأوامر النبويّة في مجمل الأبواب الفقهية وغيرها.

إذن فيكون الإتيان بالصلاة والزكاة والحجّ وغيرها طاعة لأمر الله وأمر رسوله (صلى الله عليه وآله)، ولا تُستعلم طاعة الله عزّ وجلّ من دون طاعة الرسول الأكرم في أوامره ونواهيه، فهو (صلى الله عليه وآله) باب طاعته تعالى; لأنه هو الدالّ والمبيّن والناطق الرسمي عن أوامر الله عزّ وجلّ ونواهيه.

وهذا ما كنّا نُعبّر عنه بتداعيات ومقتضيات الشهادة الثانية; إذ هي تستدعي الإتيان والالتزام بجملة الدين طاعة لله ورسوله.

وهذا ما تكاثرت ودلّت عليه جملة من الآيات القرآنية، كما في قوله تعالى:

____________

1- وسائل الشيعة: أبواب القراءة في الصلاة ب1 ح4، مسند أحمد: ج6 ص241 مسند عائشة، مجمع الزوائد / الهيثمي: ج2 ص154.


الصفحة 157
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}(1).

وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(2).

ثم إن الله عزّ وجلّ حذّر المسلمين من المخالفة لأوامر الرسول الأكرم، وبيّن في آيات عديدة العواقب الوخيمة التي تترتب على مخالفة النبيّ (صلى الله عليه وآله) في أوامره:

كما في قوله تعالى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(3).

وكذا قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا}(4).

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}(5).

وقوله عزّ وجلّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}(6).

إلى غير ذلك من الآيات القرآنية التي جاءت في ضمن السلك العام والسنّة الإلهية الشاملة لطاعة الرسل كافّة، كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}(7)، ومن الجدير بالإلتفات أن تتمة هذه الآية المباركة هو قوله

____________

1- آل عمران: 32.

2- آل عمران: 132.

3- النور: 63.

4- المائدة: 92.

5- الأنفال: 20.

6- محمد: 33.

7- النساء: 64.