الصفحة 158
عزّ وجلّ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}(1) والتي سيأتي الاستدلال بها على شرطية التوسّل في المقامات الثلاث المتقدّمة.

والحاصل: أن أوامر النبيّ (صلى الله عليه وآله) اقترنت بأوامر الله وفرائضه في مجمل أحكام الدين الإسلامي، وقد أكّدت الآيات القرآنية على وجوب اقتران طاعة الله تعالى بطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله)، وهذه طاعة عامّة كطاعة الله عزّ وجلّ في كلّ أبواب الدين برمّته بلا استثناء لأي جانب من جوانب الشريعة الإسلامية والدين الإسلامي، ومعنى ذلك أن نيّة القربة إلى الله تعالى وطاعته في جميع العبادات إنما تتحقّق بتوجّه العبد إلى ربّه بطاعة نبيّه، ففي كلّ عبادة إنما يتوجّه العبد إلى الله تعالى للتقرّب إليه بطاعته وطاعة رسوله.

فذلكة صناعية لأخذ التوسّل في نية القربة:

ولا شك أن حقيقة العبادات بالنيّة القربيّة، والنيّة القربيّة إنما تحصل بالسبب المؤدّي إلى القربة، والقربى غاية مسبّبة سببها الطاعة لأوامر لله تعالى، وطاعة الله عزّ وجلّ لا تتحقّق إلاّ إذا كانت مقترنة بطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله)، إذ أن النيّة التي هي روح العبادة إنما تحصل بوسيلة وواسطة طاعة النبيّ، ومن لم ينوِ القربة بهذا النحو في العبادة تكون عبادته شركاً بالله تعالى، لعدم التوجّه إلى الله عزّ وجلّ بأبوابه التي أمر بتوسيطها وطاعتها وامتثال العبادات انقياداً لأوامرها.

ومن يريد أن يفصل في صلاته وحجّه وصومه طاعة الله عن طاعة الرسول

____________

1- النساء: 64.


الصفحة 159
يكون على الوثنية الجاهلية التي يشنؤها الله عزّ وجلّ وعبّر عنها في قرآنه الكريم بالشرك والنجس، وطاعة كلّ من لم يأمر الله بطاعته وثن من الأوثان، بل حتى صلاته تصبح وثناً إذا كانت صادرة عن طاعة غير من أمر الله بطاعته، وإن كان ذلك المطاع هو الهوى وتحكيم سلطان الذات على سلطان الله عزّ وجلّ، كما في الوثنية القرشية التي ذمّها القرآن الكريم.

ومن ذلك يتّضح أن أي عبادة من العبادات أو قربة من القربات أو نيل مقام من المقامات القربية أو الفوز بحظوة عند الله تعالى لا يمكن أن تتحقّق من دون توسيط طاعة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) في تلك العبادة أو ذلك المقام.

ففي مقام التقرّب والنيّة والقصد جُعلت القبلة المعنوية طاعة النبيّ (صلى الله عليه وآله) والتدين بولايته والخضوع له، الذي هو خضوع لله عزّ وجلّ، كخضوع الملائكة لآدم لأنه باب الله تعالى.

هذا كلّه في مقتضيات الشهادة الثانية وضرورة اقترانها بالشهادة الأولى.

كذلك أكّدت الآيات القرآنية على ضرورة الشهادة الثالثة واقترانها بالشهادة الثانية تبعاً للشهادة الأولى.

والشهادة الثالثة عبارة عن طاعة أولي الأمر، الذين أمر الله بطاعتهم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الاَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلاً}(1)، حيث قرن طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله).

وقد بيّن الله تبارك وتعالى في قرآنه الكريم المراد من أولي الأمر الذين تجب

____________

1- النساء: 59.


الصفحة 160
طاعتهم، بعد أن بيّن تعالى المقصود من الأمر الذي هم أولياؤه، وأنه أمر ملكوتي من عالم كن فيكون، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(1)، وقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْح بِالْبَصَرِ}(2)، وكذا قوله عزّ وجلّ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}(3)، وقوله تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاَْمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}(4)، ثم أفصحت الآيات القرآنية عن كون الأمر عبارة عن تدبير السماوات والأرض، قال تعالى: {يُدَبِّرُ الاَْمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الاَْرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة مِمَّا تَعُدُّونَ}(5).

إذن أولو الأمر هم الذين يتنزّل عليهم الأمر في ليلة القدر وفيها يفرق كلّ أمر حكيم، قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر * تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر * سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}(6)، وقال عزّ وجلّ في وصف ليلة القدر: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْر حَكِيم * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(7)، ثم بيّن الله عزّ وجلّ أن شريعة النبيّ الأكرم من ذلك الأمر الحكيم الذي يفرق في ليلة القدر، حيث قال عزّ وجلّ مخاطباً نبيّه الأكرم (صلى الله عليه وآله): {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَة مِنَ

____________

1- يس: 82.

2- القمر: 50.

3- الشورى: 52.

4- الأعراف: 54.

5- السجدة: 5.

6- القدر: 3 ـ 5.

7- الدخان: 3 ـ 6.


الصفحة 161
الاَْمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}(1).

وقد صرّحت آيات أخرى بأن الأمر الملكوتي يتنزّل على عباد الله من دون أن تخصّص من لهم الأمر بالأنبياء والرسل، قال عزّ وجلّ: {يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ}(2).

وحاصل ما ذكرناه من الآيات: أن الأمر من عالم الملكوت والغيب، وأنه مرتبط بتدبير السماوات والأرض وغير مختصّ بالشؤون الدنيوية المادّية، وأن الشرائع وهداية الناس وإنذارهم مرتبطة به، وأنه شامل لأولياء الله الأصفياء المجتبين وليس خاصّاً بمقام النبوّة والرسالة، وذلك لارتباطه المباشر بمقام الهداية والإيصال إلى المطلوب وهو مقام الخلافة والإمامة كما تقدم; ولذا قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}(3)، والصبر واليقين للأئمة من أولي الأمر في هذه الآية المباركة إشارة إلى العصمة في مقام العلم والعمل.

ولا يوجد أولو أمر في هذه الأمة بعد رسول الله تجب طاعتهم غير أهل بيته (صلى الله عليه وآله)، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

ولا يمكن اقتصار الأمر الإلهي على السياسة والأمور الاجتماعية، بل هو أمر ملكوتي من عالم الغيب لهداية الأمة وتدبير السماوات والأرض يتنزّل في ليلة القدر على أولياء الله وأصفيائه، وهؤلاء هم أوصياء رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة من بعده الدالّون على أوامره والذين أوكل لهم البيان الشرعي والقانوني للأوامر

____________

1- الجاثية: 18.

2- النحل: 2.

3- السجدة: 24.


الصفحة 162
الإلهية والنبويّة، فكما أن الدالّ على أوامر الله ونواهيه هو النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) بأمره ونهيه، كذلك الدالّ على أوامر الرسول الأكرم ونواهيه أولو الأمر من بعده بأمرهم ونهيهم، فالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) أمر ونهى في ضمن إطار الفرائض الإلهية، وأولو الأمر أيضاً يأمرون وينهون في ضمن دائرة السنن النبويّة المباركة، بما يشبه الحالة التراتبية في التنزّل القانوني الوضعي في الأدوار والصلاحيات، فهم الدالّون على طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) كما كان هو دالاّ على طاعة ربّه.

وبعبارة أخرى: إن أصول تشريع الله تعالى وفرائضه يتبعها تشريعات النبيّ (صلى الله عليه وآله) تفصيلاً وبياناً، ويتبعها تشريع أولي الأمر على نحو التنزّل القانوني، الذي هو الفتق بعد الرتق، والتفصيل بعد الإجمال، والبسط بعد القبض للتشريعات، وهذه لغة قانونية جعلها الله تعالى جسراً لإيصال أحكامه على ما جرى عليه البشر، كالتشريع للفقه الدستوري ثم النيابي ثم الوزاري، على نحو التبعية بلا منافاة، وهذا برهان قانوني على التشريعات التي لابدّ من طاعتها، فالرتق يُفسَّر ويفتق فتقاً قانونياً تابعاً له.

ويتجلّى ذلك المعنى أكثر إذا علمنا أن معظم بيان تشريع الشرائط والموانع وتفاصيل الأجزاء هي من تشريعات أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فلا تستعلم تلك الأمور مع تركهم والإعراض عنهم وعدم الطاعة لأوامرهم.

إذن الطاعة في الدين بطاعة الله، وطاعة الله بطاعة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأولي الأمر، فالوليّ بعد الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وآله) وبعد الرسول أولي الأمر، الذين لهم حقّ استنباط الدين وبيانه وتفصيله، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الاَْمْنِ أَوِ الْخَوْفِ

الصفحة 163
أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الاَْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}(1).

والذي يتّضح مما ذكرناه أن طاعة أولي الأمر على حدّ طاعة رسول الله مقترنة بها وشاملة للدين كلّه، كما أن ولاية الله تعالى وطاعته كذلك غير مختصّة ببعض الشؤون السياسية أو الاجتماعية.

فالإتيان بجميع العبادات والطقوس الدينية طاعة لأمر الله وأمر رسوله وأولي الأمر من بعده وهم أهل بيته (عليهم السلام)، فالعبد ينقاد ويفد على الله تعالى ويتقرّب ويتوجّه إليه بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر، وهذا يعني أن الشهادة الثانية والثالثة مأخوذتان واسطتين في حاقّ عبادة الله تعالى بما فيها عبادة المعرفة، التي هي أعظم العبادات.

ومن ثمّ كان الدين عبارة عن ولاية الله وولاية الرسول وولاية أولي الأمر والطاعة لهم، قال الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}(2).

والولاية والطاعة أصالة لله وبالتبع للنبيّ وأولي الأمر بإذن وأمر من الله تعالى، كما أخضع الله عزّ وجلّ ملائكته ومن خلق من الجنّ وغيرهم لوليّ الله وخليفته آدم، بما هو النموذج والمصداق لخليفة الله في الأرض، فكلّ من يتسنّم مقام الخلافة الإلهية لابدّ من الإنقياد والخضوع والطاعة له.

____________

1- النساء: 83.

2- المائدة: 55 ـ 56.


الصفحة 164
وحيث أن التوجّه والقربة والزلفى لا تحصل إلاّ بالطاعة لله وللرسول، كذلك لا تحصل إلاّ بطاعة أولي الأمر مقترنة مع طاعة الله ورسوله، فلا يمكن قصد القربة في العبادة ولا يحصل القرب إلى الله تعالى في العبادات إلاّ بالخضوع والطاعة لوليّ الأمر والإتيان بالعبادة امتثالاً لأمره، تبعاً لأمر الله والرسول (صلى الله عليه وآله)، حيث يستعلم أمرهما بأمره.

واتّضح من ذلك البيان أيضاً أن جميع العبادات فرائض من الله تعالى وسنّة من نبيّه ومنهاج وهدي من أهل بيته (عليهم السلام) وعلى جميع المستويات الاعتقادية والعبادية.

كذلك تبيّن أن من يعبد الله من دون التوجّه بحجّة الله ووليّه، بطاعته وامتثال أمره عمله هباء; إذ لا تتحقّق منه القربة لعدم الطاعة في مقاماتها الثلاث وعدم ضمّ الشهادات الثلاث إلى بعضها البعض، فلا يُصار إلى التوجّه إلى الله تعالى إلاّ عن طريق آياته وبيّناته، وهم الوسيلة إليه في المقامات الثلاث التي ذكرناها في صدر البحث، بل في الدين كلّه.

ولو كان إقحام اسم النبيّ (صلى الله عليه وآله) وذكره والتوجّه القلبي إليه وإلى أولي الأمر موجباً للشرك لَما قرن الله تعالى طاعته بطاعتهم، فليس إنكار التوسّل والواسطة إلاّ دعوة إلى التفريق بين الله ورسوله وأولي الأمر، وفصل الشهادات الثلاث وبتر بعضها عن البعض الآخر، وهذه هي عبادة الشرك التي آمن بها إبليس، الذي أراد أن يفرّق بين طاعة الله وطاعة خليفته، بخلاف الملائكة أهل عبادة التوحيد الذين خضعوا لله ولوليّه آدم (عليه السلام).

ثم إن مورد هذه الآية وهي آية {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الاَْمْرِ

الصفحة 165
مِنْكُمْ}(1) التي حكمت بوجوب الطاعة هو الدين كلّه، فكما أن طاعة الله عزّ وجلّ في الدين كلّه، كذلك ما اقترن بها من طاعة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأولي الأمر من أهل بيته (عليهم السلام).

وما ورد من قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاَْرْضِ خَلِيفَةً} لبيان أن محلّ بدن الخليفة هو الأرض، ولكن خلافته ليست خاصّة بالأرض، ومن ثمّ أطوع له جميع الملائكة في جميع النشآت، والشاهد على ذلك أيضاً تقديم الجار والمجرور (في الأرض) على الخليفة، فالدين الذي هو معرفة الله تعالى عامّ لا يستثنى منه أحد في جميع النشآت، ومن ثمّ تكون جميع المخلوفات مكلّفة بالطاعة لأولي الأمر; ولذا أمر الله تعالى الملائكة بالسجود بما فيهم إبليس وهو من الجنّ، فخلافة وطاعة أولي الأمر وولايتهم لا تحدّ بالجنّ والإنس ولا بأمر سياسي أو اجتماعي، والكلّ يبتغي إلى الله الوسيلة ويخضع لولي الله في توجّهه إلى خالقه، والتوجّه إلى الله من دون التوجّه إليه بطاعة نبيّه ووليّه نجس وشرك ووثنيّة قرشية.

ونيّة القربة إذا لم تكن على هذا المنوال في العبادة لا تقبل ; لعدم تفتّح الأبواب بالآيات.

وبذلك كلّه يتمّ ما ذكرناه من شرطية التوسّل والتوجّه في المقامات الثلاثة المتقدّمة، استناداً إلى وجوب الطاعة في مراتبها الثلاث.

____________

1- النساء: 59.


الصفحة 166

الدليل الرابع: إقتران اسم النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته: بأعظم العبادات:

لقد رفع الله عزّ وجلّ ذكر النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وقرنه باسمه في مجمل العبادات، التي تقع في مصافّ أسس الدين وأركان الإيمان، من حيث محوريتها في المنظومة الدينية، ونشير فيما يلي إلى بعض تلك الشواهد في هذا المجال:

الشاهد الأول:

الإتيان باسم النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) في تشهّد الصلاة، حيث إن الصلاة على النبيّ وأهل بيته راجحة بإجماع المسلمين(1)، وهي شرط واجب في الصلاة عند بعض المذاهب الإسلامية، كمذهب أهل البيت (عليهم السلام)(2) وبعض فقهاء المذاهب الأخرى(3)، تمسّكاً بما روته عائشة من الوجوب، حيث روت عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "لا يقبل الله صلاة إلاّ بطهور والصلاة عليّ"(4).

وقد بيّن النبيّ الأكرم الصلاة عليه عندما سُئل عن كيفيّتها، فقال: "قولوا: اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد"(5)، كذلك يستحبّ الصلاة على النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) وآله بعد القنوت في الصلاة، جزم بذلك النووي تبعاً للغزالي في المُهذّب ونسبه إلى الجمهور(6).

ولا شك أن ذكر الصلاة على النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) نوع دعاء لهم وتحيّة وسلام، ونوع توجّه لهم بالمحيى والدعاء.

____________

1- لاحظ المجموع للنووي: ج3 ص460 وما بعد.

2- النهاية / الشيخ الطوسي: ص89.

3- فتح العزيز / الرافعي: ج3 ص504، المجموع / النووي: ج3 ص467 وغيرهم.

4- سنن الدارقطني: ج1 ص348.

5- صحيح البخاري: ج4 ص118، الوسائل: أبواب الدعاء ب 36.

6- المجموع: ج3 ص499.


الصفحة 167
وهذا يعني أن المصلّي في صلاته التي هي الركن الركين في العبادات، والموجبة للعروج والقربان من الله تعالى، إن قبلت قبل ما سواها وإن رُدّت رُدّ ما سواها على النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) يتوجّه بالدعاء وإلقاء التحيّة والسلام، لكي تقبل صلاته وتوجب مزيداً من القرب إلى الله تعالى، فالصلاة التي هي من دعائم الدين مقرونة بالوسائط والأبواب الإلهية، لكي تكون صحيحة مقبولة عند الله تعالى أو موجبة لمزيد القرب منه، وإذا كانت الصلاة كذلك فكيف بباقي العبادات الأخرى؟!

ولو كان إقحام اسم النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) في الصلاة والتوجّه إليهم بالقلب موجباً للشرك لما كان الأمر فيها على هذه الحال، فالفرق بين صلاة المشركين وصلاة الموحّدين في أن صلاة المشركين تفتقد لذكر النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) فيها، بخلاف صلاة المسلمين، حيث يقرن فيها إسم النبيّ الأكرم إلى جانب ذكر الله تعالى.

وقد قرن وجوب أو استحباب بعض العبادات الأخرى غير الصلاة باستحباب الصلاة على النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، كاستحباب الصلاة على النبيّ (صلى الله عليه وآله) إذا فرغ الحاج من التلبية في الحجّ(1)، واستحباب الصلاة على النبيّ (صلى الله عليه وآله) عند ذبح الهدي أو الأضحية(2)، وقد جعلت الصلاة على النبيّ (صلى الله عليه وآله) أحد أركان الخطبة في صلاة الجمعة(3).

____________

1- الأم / الشافعي: ج2 ص171.

2- المجموع / النووي: ج8 ص412.

3- روضة الطالبين / النووي: ج1 ص530.


الصفحة 168
كذلك من أركان صلاة الميّت الصلاة على النبيّ (صلى الله عليه وآله) وآله (عليهم السلام)(1)، ويستحبّ أيضاً الصلاة على النبيّ وآله قبل الأذان والإقامة وبعدهما، كما نصّ على ذلك عبد العزيز الهندي نقلاً عن النووي في شرح الوسيط ـ في كتابه الفقهي فتح المعين(2)، إلى غير ذلك من الموارد التي لا تحصى في الفقه، والتي قرنت فيها جملة وافرة من العبادات باسم النبيّ المبارك (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين، وليس ذلك إلاّ توجّه وتوسّل بهم (عليهم السلام) لقبول العبادة وحصول القرب من الله تعالى، ولفتح أبواب السماء لصعود العمل.

وهذا ما ورد النصّ عليه في روايات عديدة ومتضافرة من طرقنا وطرق السنّة، حيث نصّت على أن الدعاء محجوب عن السماء ما لم يصلَّ على النبيّ وآله:

منها: ما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) قال: "الدعاء محجوب عن السماء حتى يُتبع بالصلاة على محمّد وآله"(3).

ومنها: ما ورد عن أبي ذرّ عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: "لا يزال الدعاء محجوباً حتى يصلّى عليّ وعلى أهل بيتي"(4).

ومنها: ما جاء عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) قال: "قال رسول

____________

1- نفس المصدر: ص640.

2- فتح المعين: ج1 ص280.

3- لسان الميزان/ ابن حجر: ج4 ص53، شعارأصحاب الحديث / ابن اسحاق الحاكم: ص64.

4- كفاية الأثر / الخزاز القمي: ص38.


الصفحة 169
الله (صلى الله عليه وآله): صلاتكم عليّ إجابة لدعائكم وزكاة لأعمالكم"(1).

ومنها: ما ورد أيضاً عن الإمام الصادق (عليه السلام)، حيث قال: "إن رجلاً أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يارسول الله، إني جعلت ثلث صلاتي لك، فقال له خيراً، فقال له: يارسول الله إني جعلت نصف صلاتي لك، فقال له: ذاك أفضل، فقال: إني جعلت كلّ صلاتي لك، فقال: إذن يكفيك الله عزّ وجلّ ما أهمّك من أمر دنياك وآخرتك، فقال له رجل: أصلحك الله كيف يجعل صلاته له؟ فقال أبو عبدالله (عليه السلام): لا يسأل الله عزّ وجلّ إلاّ بدأ بالصلاة على محمّد وآله"(2).

ومنها: ما رواه فضالة بن عبيد، حيث قال: (سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجلاً يدعو في صلاته لم يمجّد الله تعالى ولم يصلِّ على النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "عجّل هذا"، ثم دعاه فقال له أو لغيره: "إذا صلّى أحدكم فليبدأ بتحميد ربّه عزّ وجلّ والثناء عليه، ثم يصلّي على النبيّ، ثم يدعو بعد بما شاء"(3).

وعن ابن مسعود قال: (إذا أراد أحدكم أن يسأل فليبدأ بالمدحة والثناء على الله بما هو أهله، ثم ليصلِّ على النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ثم ليسأل فإنه أجدر أن ينجح)(4)، قال الهيثمي في زوائده: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح(5).

ومنها: ما عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لا تجعلوني كقدح الراكب، فإن الراكب إذا أراد أن ينطلق علّق معالقه، وملأ قدح ماء، فإن كانت له

____________

1- الأمالي / الطوسي: ص215.

2- الكافي: ج2 ص493.

3- سنن أبي داود: ج1 ص333 ح1481.

4- المعجم الكبير / الطبراني: ج9 ص156.

5- مجمع الزوائد: ج10 ص155.


الصفحة 170
حاجة في أن يتوضّأ توضّأ، وأن يشرب شرب، وإلاّ أهراق، فاجعلوني في وسط الدعاء وفي أوّله وفي آخره"(1).

ومنها: ما أخرجه القاضي عياض عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "كلّ دعاء محجوب دون السماء، فإذا جاءت الصلاة عليّ صعد الدعاء"(2).

ومن الروايات التي من طرقنا أيضاً ما في موثقة السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: "من دعا ولم يذكر النبيّ (صلى الله عليه وآله) رفرف الدعاء على رأسه، فإذا ذكر النبيّ (صلى الله عليه وآله) رفع الدعاء"(3).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: "إذا كانت لك إلى الله حاجة فابدأ بمسألة الصلاة على النبيّ (صلى الله عليه وآله) ثم سل حاجتك، فإن الله أكرم من أن يُسأل حاجتين فيقضي إحداهما ويمنع الأخرى"(4).

كذلك عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: "إذا دعا أحدكم فليبدأ بالصلاة على النبيّ، فإن الصلاة على النبيّ مقبولة، ولم يكن الله ليقبل بعض الدعاء ويردّ بعضاً"(5).

وعن الإمام الحسن بن علي العسكري عن آبائه (عليهم السلام) عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: "إن الله سبحانه يقول: عبادي من كانت له إليكم حاجة فسألكم بمن تحبّون أجبتم

____________

1- المصنف / الصنعاني: ج2 ص216.

2- الشفا بتعريف حقوق المصطفى: ج2 ص66.

وقال ابن عطاء: للدعاء أركان وأجنحة وأسباب... وأسبابه الصلاة على محمّد (صلى الله عليه وآله).

3- وسائل الشيعة: ج7 ص93 ـ 94 ح8829.

4- نفس المصدر: ص97 ح8840.

5- نفس المصدر: ص96 ح8836.


الصفحة 171
دعاءه، ألا فاعلموا أن أحبّ عبادي إليّ وأكرمهم لديّ محمّد وعليّ حبيبي وولييّ، فمن كانت له حاجة إليّ فليتوسل إليّ بهما، فإني لا أردّ سؤال سائل يسألني بهما وبالطيبين من عترتهما، فمن سألني بهم فإني لا أردّ دعاءه، وكيف أردّ دعاء من سألني بحبيبي وصفوتي وولييّ وحجّتي وروحي ونوري وآيتي وبابي ورحمتي ووجهي ونعمتي؟ ألا وإني خلقتهم من نور عظمتي، وجعلتهم أهل كرامتي وولايتي، فمن سألني بهم عارفاً بحقّهم ومقامهم أوجبت له منّي الاجابة، وكان ذلك حقّاً عليّ"(1).

وهذه الروايات بمجموعها والأحكام التي سبقت للصلاة على النبيّ وآله في الصلاة وغيرها من العبادة كاشفة عن اقتران اسم النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين بأعظم العبادات بل معظمها، وهذا يعني أن الله عزّ وجلّ جعل تلك الأسماء المباركة واسطة لفيضه وشرطاً حقيقياً للتوسل إليه في التوبة وسائر العبادات القربية والمقامات الإلهية، وأن أبواب السماء مغلقة إلاّ عن سبيلهم (عليهم السلام) وطريقهم، الذي نصبه الله تعالى مناراً لعباده ومحجّة واضحة لخلقه.

هذا كلّه في الشاهد الأوّل وهو اقتران الصلاة على النبيّ وأهل بيته بالصلاة وغيرها من العبادات.

الشاهد الثاني:

وهو كذلك اقتران اسم النبيّ (صلى الله عليه وآله) المبارك بالصلاة، وذلك بالإتيان به في جزء التسليم من الصلاة، وهو قول المصلّي: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته، فإن التسليم الذي هو جزء من أجزاء الصلاة ولا تتمّ الصلاة إلاّ بإتمامه والفراغ منه جُعل شطر منه التسليم على النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)،

____________

1- المصدر السابق: ص102 ح8850.


الصفحة 172
فقبل إتمام الصلاة وفي حاقّها يستحبّ للمصلّي أن يسلّم على نبيّ الإسلام باتفاق فرق المسلمين.

ولا شك أن هذا التسليم بالكيفية المذكورة نوع زيارة للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وخطاب ونداء عن قرب بـ (أيها) وتوسّل واستغاثة وتوجّه إليه وبه إلى الله عزّ وجلّ; وذلك لأن الله تعالى عندما شرّع التسليم والتحيّة للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) في الصلاة، التي شُرّعت لذكره عزّ وجلّ والتقرّب منه والعروج إليه، فإن ذلك يعني أن ذكر النبيّ ذكر لله تعالىونداءه نداء للباري عزّ وجلّ، وليس ذلك إلاّ لكون النبيّ (صلى الله عليه وآله) الآية العظمى والوسيلة المحمودة بين الله وبين خلقه في الصلاة، التي هي من عظيم العبادات والقربات عند الله تعالى.

إذن طبيعة الزيارة والنداء والندبة والاستغاثة والتوجّه بالنبيّ لنيل مقامات القرب في الصلاة التي هي قربان كلّ تقي موجودة في نفس الصلاة التي هي أكبر العبادات التوحيدية ويمارسها الفرد المسلم في يومه عدّة مرّات.

والحاصل: إذا كانت الصلاة التي هي من دعائم الدين مقرونة بذكر النبيّ (صلى الله عليه وآله) لنيل مقامات القرب عند الله تعالى فكيف هو الحال بباقي العبادات والقربات الأخرى في الدين؟!

وعلى هذا كيف يقال: إن ذكر غير الله تعالى في التوجّه إليه عزّ وجلّ شرك؟!

وهل هذا إلاّ طمس لمعالم الشهادة الثانية؟!

الشاهد الثالث:

اقتران اسم النبيّ (صلى الله عليه وآله) باسم الله عزّ وجلّ في الأذان، الذي هو عبادة من العبادات، ويُعدّ بوابة للصلاة التي إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها، كذلك في الإقامة، حيث أن الفرد المسلم كما يشهد أن لا إله إلاّ الله