ولو كان اسم النبيّ (صلى الله عليه وآله) وذكره والتوجّه القلبي إليه أثناء العبادة موجباً للشرك لما أمكن تشريع الأمر على هذا الحال، ولما أمر الله عزّ وجلّ بالتوجّه إليه بنبيّه.
الشاهد الرابع:
الهجرة التي هي من العبادات العظيمة عند الله تعالى، وأكّدت عليها الآيات القرآنية في مواطن عديدة، لا يمكن أن تحصل إلاّ بالهجرة إلى الله ورسوله، فلكي تصحّ عبادة الهجرة لابدّ أن يتوجّه فيها إلى الله وإلى رسوله (صلى الله عليه وآله).
قال الله عزّ وجلّ: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}(1).
والذي يتحصّل من هذه الشواهد وغيرها أن إسم النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وكذا أهل بيته (عليهم السلام) إقترن باسم الله تعالى في أعظم العبادات كالصلاة والحجّ وغيرهما، هذا فضلاً عمّا دونها من العبادات، وهو اقتران واجب في بعض موارده كما تقدّم في الصلاة، ومعنى ذلك شرطية التوسّل والواسطة في العبادات كما ادّعيناه في بداية البحث.
وقد أحصى بعضهم في هذا المجال جملة من المواطن العبادية التي تقرن باسم النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) والصلاة عليه وعلى آلـه.
منها: في التشهّد الأول والثاني في الصلاة وآخر قنوت الصلاة وفي صلاة
____________
1- النساء: 100.
وقد ذكر أيضاً للصلاة على النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فوائد كثيرة جدّاً، منها:
1 ـ أنها سبب لغفران الذنوب.
2 ـ أنها تُصاعد الدعاء إلى عند رب العالمين.
3 ـ أنها سبب لشفاعته (صلى الله عليه وآله).
4 ـ أنها سبب كفاية العبد ما أهمّه.
5 ـ أنها سبب لقرب العبد منه يوم القيامة.
6 ـ أنها سبب لقضاء الحوائج.
7 ـ أنها سبب لتبشير العبد قبل موته بالجنّة.
8 ـ أنها سبب للنجاة من أهوال يوم القيامة.
9 ـ أنها سبب لتذكّر العبد ما نسيه.
10 ـ أنها سبب لطيب المجلس.
11 ـ أنها سبب لنفي الفقر.
12 ـ أنها سبب لنفي البخل.
14 ـ أنها تُنجي من نتن المجلس.
15 ـ أنها سبب لوفور نور العبد على الصراط.
16 ـ أنه يخرج بها العبد من الجفاء.
17 ـ أنها سبب لابقاء الله سبحانه الثناء الحسن للمصلّي عليه بين أهل السماء والأرض.
18 ـ أنها سبب للبركة في ذات المصلّي وعمله وعمره وأسباب مصالحه.
19 ـ أنها سبب لنيل رحمة الله له.
20 ـ أنها سبب لدوام محبته للرسول وزيادتها وتضاعفها.
21 ـ أنها سبب لمحبّته (صلى الله عليه وآله) للعبد.
22 ـ أنها سبب لهداية العبد وحياة قلبه.
23 ـ أنها سبب لعرض اسم المصلّي وذكره عنده، إلى غير ذلك من الفوائد والثمرات.
الدليل الخامس: ابتغاء الوسيلة ضرورة قرآنية
إن حقيقة هذا الدليل الخامس عبارة عن مزيد إيضاح وتعميق ونظرة أدقّ لما تقدم من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(1).
وفي المقدّمة لابدّ من التنبيه على أن التدبر في الآية الكريمة يفيد أن الابتغاء
____________
1- المائدة: 35.
فجعل الابتغاء والقصد والتوجّه إلى كلّ من الوسيلة والذات الإلهية المقدّسة، فكلّ منهما أُمرنا بقصده والتوجّه إليه، إلاّ أن القصد والتوجّه إلى الوسيلة ابتداءً هو الذي يؤدّي وينتهي بنا إلى قصد الله تعالى، فالغاية القصوى هو الله عزّ وجلّ، إلاّ أن الذي يقصد ابتداءً هو الوسيلة بداعي القصد إلى منتهى الغاية والأمل وهو الله تبارك وتعالى.
بل لعلّ التدبّر الأعمق والنظر الأدقّ في الآية المباركة يكشف عن أن لفظ "وابتغوا" أُسند إلى الوسيلة فقط، وأن لفظ "إليه" مرتبط بالوسيلة، لا بـ "ابتغوا"، أي أن الوسيلة هي إليه، فالابتغاء متوجّه إلى الوسيلة فقط، وصفة الوسيلة أنها إليه.
وبعبارة أخرى:
إن فعل "وابتغوا" عمل في لفظ "الوسيلة" كمفعول به، وأما لفظ "إليه" فليس متعلّقاً بـ "ابتغوا" وإنما الذي يعمل في الجار والمجرور هو لفظ "الوسيلة"; إذ فيها معنى المصدر والحدث، وأن التوسّل والوسيلة هو إلى الله تعالى، فالابتغاء من جهة التركيب الإعرابي يعمل في الوسيلة فقط ويتعلّق بها، والوسيلة تتعلّق بلفظ إليه وتعمل فيه، وعليه فيكون الابتغاء والتوجّه والقصد بحسب ظاهر الدلالة متعلّقاً بالوسيلة، فهي التي يتوجّه إليها النداء والرجاء والخطاب، وحيث أن صفتها الذاتية أنها تؤدّي إلى الله تعالى فيكون التوجّه إليها توجّهاً إلى الله عزّ وجلّ ونداؤها نداءً بها إليه تعالى، وقصدها قصد بها إليه جلّ ثناؤه، كما في التوجّه إلى الكعبة واستقبالها، فإنه توجّه بها إلى الله تعالى.
وعلى كلا البيانين لدلالة الآية الشريفة تكون الآية نصّ في الدلالة على الأمر بالتوجّه والنداء ودعاء الوسيلة وأنه دعاء لله تعالى.
ثم إن صيغة الأمر في الآية الكريمة يفيد ضرورة التوسّل بالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله).
حيث أن هذه الآية المباركة ليست في مقام بيان مشروعية التوسّل فحسب، بل الآية المباركة ترمي إلى بيان حتمية ولابدّية التوسّل، وأنه أمر تعيينيّ عينيّ، وذلك لأن المقصود من ابتغوا الوسيلة أي اقصدوها وتوجّهوا إليها في مقام توجّهكم إلى الله عزّ وجلّ، ومعنىّ (ابتغوا) أيضاً في الآية المباركة أن هناك بُعداً بين العبد والباري تعالى وأن هناك مسافة لابدّ أن تطوى بابتغاء الوسيلة والحضور عندها، ولو كان هناك قُرباً تلقائياً من طرف العبد إلى ربّه فلا حاجة إلى الوسيلة حينئذ للإقتراب من الله تعالى; لكونه تحصيلاً للحاصل ولا يكون معنى للوسيلة وابتغائها ولو بنحو التخيير أيضاً.
قرب الله وقرب العبد:
فالأمر بابتغاء الوسيلة وقصدها معناه أن هناك بُعداً بين العبد وبين الله تعالى، وهو بُعد من جهة العبد فقط لا من طرف الباري عزّ وجلّ، لأن الله تعالى قريب أقرب إلى العباد من حبل الوريد، كما قال تعالى ذكره: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِْنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}(1)، لكن العبد من طرفه يحتاج إلى الوسيلة لبُعده; لأن قرب الله تعالى إلى العبد ليس قرباً جسمانياً جغرافياً، لكي يكون هناك تلازم تضايفي بين العبد وربه في القرب والبُعد، وكذا ليس من نوع القرب العقلي أو الروحيّ ليحصل التجانس أو التماثل في القرب; وذلك لما تقدّم من كون الله تعالى منزّه عن التضايف والتقابل الجسماني أو العقلي أو الروحي، لأنه تشبيه باطل مناف لعظمة ذات الباري تعالى.
إذن القرب الإلهي تجاه العبد قرب القدرة والسلطنة والهيمنة والإحاطة، فالمقتدر والمهيمن والمحيط كلّما كانت قدرته، وهيمنته وإحاطته أشدّ كلّما كان أقرب من المحاط به، وعلى العكس يكون الطرف المقابل الضعيف، فهو يزداد ضعفاً كلّما كان طرفه المقابل أشدّ قوة واقتداراً، كذلك كلّما ازداد المهيمن إحاطة ازداد الطرف الآخر مُحاطيّة وبُعداً عن أن يحيط بالمحيط، فالقويّ قريب محيط والضعيف بعيد محاط، ويبعد كلّما ازداد القويّ قوّة وهيمنة; لأن الضعيف حينئذ بعيد من حيث افتقاده للصفات والكمالات اللاّمتناهية شدّة وعدّة، التي للقويّ المحيط.
والحاصل: إن هناك نمطاً من التعاكس في القرب والبُعد، فطرف يكون قريباً
____________
1- ق: 16.
ومن ثمّ لابدّ من ابتغاء الوسيلة التي هي أشدّ كمالاً وأقرب إلى الباري تعالى، لكي يطوي المخلوق شيئاً من ذلك البُعد وينال درجة من درجات القرب برقيّه في مدارج الكمال عن طريق الواسطة والوسيلة.
والوسيلة هي الأقرب إلى الله تعالى من حيث الكمالات، إذ كلّما تكامل المخلوق في الصفات ازداد قربه من الحضرة الربوبية، وكلّما عظم المخلوق صفة وكمالاً كلّما كان أقرب من الخالق لازدياد علمه ومعرفته بصفاته تعالى والعلم درجة من درجات القرب والوصول، إذ طالما تجلّت في المخلوق صفات الخالق أكثر عرف ذلك المخلوق بتلك الكمالات والصفات، صفات الخالق عزّ وجلّ; ولذا يكون أكمل المخلوقات أعرفهم بربّه وأقربهم منه وأكثر دلالة عليه وأشدّهم آية وعلامة ترشد إليه وتقرّب منه; لأن ما يتجلّى فيه من بديع الكمالات آيات لكمال الباري عزّ وجلّ، على العكس من ذلك ما لو قلّت في المخلوق الكمالات، فإنه تقلّ فيه الآيات الدالّة على عظمة الله تعالى وقلّت بالطبع معرفته.
ومن هنا كان المخلوق الذي يتّسم بالضعف والفقر والحاجة والبعد عن الله تعالى بحاجة إلى الوسيلة، التي هي أقرب صفة وكمالاً من الله عزّ وجلّ، كي تكون سبباً يقرّبه إلى ربّه.
فالوسيلة والوسائط هي أعاظم المخلوقات، وهي آيات الله وأسمائه
ولا شك أن الخطاب الوارد في الآية المباركة الكاشف عن ضرورة الوسيلة بالبيان المتقدم عامّ وشامل للتوبة ومطلق العبادات وللمعرفة والإيمان أو التوجّه إلى الحضرة الإلهية لنيل مقام أو حظوة عند الله تعالى.
الوسيلة معنى الشفاعة:
فللعلاقة بين العبد وربّه ولقطع مسافة البُعد لابدّ من الوسيلة، سواء في المعرفة والإيمان أو في قبول التوبة أو العبادات أو نيل المقامات، وقد أُطلق عن مثل هذا المقام في لسان الشارع بالشفاعة; لأن الشفع في الأصل بمعنى الزوج والاقتران، وهو في المقام اقتران الذات الربوبية بالآيات والأسماء الإلهية.
ثم إنه سبق أن الآيات العظمى والكلمات التامّات هم النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، وقد وصف الله تعالى رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله) بالعظمة، وذلك في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُق عَظِيم}(1)، فهم (عليهم السلام) الأسماء الحسنى التي أمر الله أن يُدعى بها وتاب بها على آدم وامتحن بها إبراهيم (عليه السلام) لنيل مقام الخلافة والإمامة، وهذا البيان الذي ذكرناه، من ضرورة الواسطة والوسيلة لعظمة الله تعالى هدى إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) عند بيانه لقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ
____________
1- القلم: 4.
حيث بيّن أمير المؤمنين (عليه السلام) ضرورة الوسيلة، وأن اشتباه وخطأ المشركين إنما هو في اتخاذهم وسيلة اقتراحية غير مأذون بها، حيث طبّقوا الوسيلة الأعظم كمالاً على غير المصداق والفرد الحقيقي لها، فذمّهم الله عزّ وجلّ على ذلك.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا المجال: "فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة، بالأعمال المختلفة والأديان المشتبهة، فكلّ محمول يحمله الله بنوره وعظمته وقدرته لا يستطيع لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً"(2).
فإن الأعمال المختلفة والأديان المشتبهة ناتج اتخاذ الخلق الوسيلة إلى الله تعالى، بسبب عظمته ونوره وتعاليه عزّوجلّ.
ومن ذلك كلّه يتّضح أن من ينكر التوسّل أسوء حالاً من قريش، التي آمنت بالوسيلة وأخطأت المصداق، حيث جعلوا وسائط باقتراحهم من غير سلطان أتاهم; لشعورهم بالفطرة التي خلقهم الله عليها بعظمته تعالى عن أن ينال أو يدرك بلا واسطة.
____________
1- الإسراء: 57.
2- الكافي: ج1 ص130.
ترامي الوسائل وتعاقبها:
ثم إن الآيات الكبرى تتفاوت فيما بينها، فأهل البيت (عليهم السلام) شفيعهم ووسيطهم إلى الله تعالى النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) في نيل المقامات، وبالنسبة للنبيّ ذاته فهو بذاته آية وعلامة عظمى على صفات الله تعالى، فتكون نفسه من حيث هي مخلوقة وفعل لله تعالى وسيلة لنفسه، نظير ما ورد في الروايات: (خلق الله المشيّة بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشيّة)(1).
فالنبيّ (صلى الله عليه وآله) مرآة الكمالات والصفات الإلهية له ولغيره في جميع جهات الإرتباط بالله تعالى كقبول التوبة أو بقيّة العبادات أو مطلق نيل مقامات القرب من الله عزّ وجلّ فهو (صلى الله عليه وآله) أمينه على وحيه وعزائم أمره.
الدليل السادس: شرطية الاستجارة بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) في طلب المغفرة
هنا أيضاً نريد التعرّض لبيان أدقّ وأعمق ودالّ على المطلوب في المقام لقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}(2).
لقد نصّت هذه الآية المباركة على ثلاثة شروط لقبول التوبة والاستغفار من هذه الأمة، وهي:
1 ـ المجيء إلى النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله).
2 ـ ابراز الاستغفار من الله عزّ وجلّ.
____________
1- توحيد الصدوق: ص148.
2- النساء: 64.
فهذه الآية من ضمن مجموع الآيات التي تعرّضت لذكر شرائط التوبة، وأوّل شرط لقبول توبة المذنب والظالم لنفسه ليس إظهار الندامة من العبد أمام الله تعالى مباشرة، بل الشرط الأوّل هو المجيء إلى الحضرة النبويّة والالتجاء إليه، واللّواذ والاستعاذة والاستجارة به (صلى الله عليه وآله)، فأولاً لابدّ أن يأتي العبد إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) ويلوذ به، ثم بعد ذلك يُظهر الندامة والاستغفار; إذ الترتيب للشروط في الآية المباركة ترتيب رتبي ترتيبي، حيث أخذت المراتب بعين الاعتبار، لا أنه ذكري فقط بقرينة العطف بالفاء.
والمجيء إلى النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) هو عين التوجّه إليه والتوسّل به في قبول التوبة.
وهذه الآية كشفت النقاب عن شرطية التوسّل بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) في أكبر خطر مصيريّ يُحدق بالإنسان وهو الذنب والمعصية، التي قد تؤدّي بالعبد إلى الهلاك والسقوط في الهاوية، في مثل هذا الأمر الخطير جعل الله تعالى الملاذ والملجأ هو النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فلابدّ من الكينونة في الحضرة النبوية ثم إظهار عبادة الاستغفار، لأنه (صلى الله عليه وآله) باب الله تعالى الذي منه يؤتى، فيكون اللّواذ بالله عزّ وجلّ باللّواذ بنبيّه الأكرم (صلى الله عليه وآله) ; ولذا بعد الاستجارة بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) قال تعالى: {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}.
إذن الاستعاذة والاستجارة واللجوء إلى الله بنبيّه أُخذ شرطاً في أخطر موقف للعبد مع ربّه وهو التوبة وغفران الذنوب.
ومن الواضح أيضاً أن الظلم المذكور في الآية المباركة ليس مختصّاً بالذنوب
ثم إن ذكر التوبة والاستغفار في الآية المباركة لا لخصوصية فيها، وإنما ذكرت بما هي عبادة من العبادات، لكونها أوبة ورجوع إلى الله تعالى واقتراب منه وقصد وتوجّه إليه، فليست الآية في ذكرها لشرطية التوسّل بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) خاصّة بالتوبة، بل هي شاملة في ذلك لكلّ العبادات.
خصوصاً وأن التوبة هي الأوبة، من آب يؤوب، والأوبة الرجوع إلى الله تعالى، أي الاقتراب والزلفى منه عزّوجلّ، ولا شك أن العبادات بمجموعها طلب الأوبة والقرب والزلفى إلى الله تعالى، فهي نوع من أنواع التوبة، وبناءً على ذلك لا تكون التوبة عملاً منحازاً ومنفصلاً عن سائر العبادات كالصلاة والحجّ وغيرهما، بل هي عمل عام وشامل لكافّة العبادات.
كذلك التوبة نوع من أنواع الدعاء، لأنها طلب المغفرة من الله تعالى ودعاء بالغفران، فمضمون هذه الآية المباركة مشترك مع ما تقدم من الروايات الدالّة على أن الدعاء وطلب العبد القرب من الله تعالى لا يرتفع إلى السماء ولا تُفتّح له الأبواب ما لم يقترن بذكر النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالصلاة على محمّد وآل محمّد، وإذا كان كذلك فإن الدعاء وطلب القرب من الله عزّ وجلّ شامل للمقامات الثلاث التي
وهذه الآية الكريمة الدالّة على شرطية التوجّه التوسّل وضرورته في جميع المقامات ليست خاصّة بحياة النبيّ (صلى الله عليه وآله) ; إذ ليس المراد من المجيء الحضور الفيزيائي لبدن المذنب عند النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) فقط، بل المجيء الفيزيائي والبدني المكاني أحد المصاديق المقصودة في الآية المباركة، والتعبير بالمجيء كنائي، يراد به مطلق الاستغاثة والتوسّل والتوجّه القلبي إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله)، والشواهد على ذلك عديدة، منها:
1 ـ إن هذه الآية المباركة جاءت لبيان ماهية التوبة وشرائطها العامة، التي يشترك فيها كافّة المسلمين وفي جميع الأزمنة، فلا يمكن أن تكون مختصّة بالفترة التي عاشها النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) أو بمن زامن وعايش تلك الفترة، فالمراد من المجي مطلق الارتباط بالنبيّ (صلى الله عليه وآله)، بالتوجّه إليه والكينونة في حضرته المباركة، ثم الاتيان بعبادة الاستغفار، وهذا المضمون متطابق مع مفاد قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، إذ معنى ذلك أن حضرة الأنبياء ومحضرهم مشاعر شعّرها الله تعالى ليتقرّب بها إليه.
ويتّضح هذا الشاهد أكثر إذا علمنا أن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) بُعث رحمة للعالمين، وهذه من الرحمات العامة للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) على هذه الأمة، وغير مختصّة بمن حضر الحضور الفيزيائي البدني عند النبيّ (صلى الله عليه وآله).
2 ـ إن نفس التعبير بقوله تعالى {جَاءُوكَ} يتضمّن معنى اللّواذ واللجوء
3 ـ استغفار آدم (عليه السلام) وتوبته أيضاً كما مرّ ـ كانت بالمجيء للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ولكن كان مجيئه إليه في أفق القلب والقصد، فقد ورد في روايات الفريقين أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "لما اقترف آدم الخطيئة، قال: ياربّ أسألك بحقّ محمّد لما غفرت لي، فقال: ياآدم وكيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟ قال: ياربّ لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، فعلمت أنك لم تُضف إلى اسمك إلاّ أحبّ الخلق إليك، فقال: صدقت ياآدم إنه لأحبّ الخلق إليّ، ادعني بحقّه فقد غفرت لك، ولولا محمّد ما خلقتك"(1) وغيرها من الروايات الدالّة على أن مجيء آدم إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) ولواذه به كان بالتوجّه القلبي به إلى الله تعالى.
وفي هذه الرواية الأخيرة التي نقلناها إشارة أخرى إلى اقتران اسم النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) باسم الله عزّ وجلّ في أعظم عبادة وأشرف كلمة في الإسلام، وهي كلمة التوحيد.
4 ـ إن المسلمين في سيرتهم منذ الصدر الأول فهموا من هذه الرواية الشمول والعموم وعدم الاختصاص بالفترة الزمنية التي عاشها النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وهذا دليل على عموم المعنى المستعمل في ارتكاز أبناء اللغة، ولذا كانوا يتوجّهون إلى النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) في طلب المغفرة ويأمرون الآخرين بذلك حتى بعد وفاة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، والشواهد الروائية والتاريخية على ذلك كثيرة جدّاً:
____________
1- المستدرك على الصحيحين / الحاكم النيسابوري: ج2 ص615.
ياخير من دفنت بالقاع أعظمه | فطاب من طيبهن القاع والأكم |
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه | فيه العفاف وفيه الجود والكرم |
قال: ثم انصرف، فحملتني عيناي فرأيت النبيّ (صلى الله عليه وآله) في النوم، فقال لي: ياعتبي، إلحق الأعرابي فبشّره بأن الله تعالى قد غفر له"(2).
ومنها: ما أخرجه السيوطي عن أبي حرب الهلاليّ قال: (حجّ أعرابي، فلما جاء إلى باب مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أناخ راحلته فعقلها، ثم دخل المسجد حتى دخل القبر ووقف بحذاء وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: بأبي أنت وأمي يارسول الله، جئتك مثقلاً بالذنوب والخطايا مستشفعاً بك على ربّك، لأنه قال في محكم كتابه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}(3) وقد جئتك بأبي أنت وأمي مثقلاً بالذنوب والخطايا استشفع بك على الله ربّك أن يغفر لي ذنوبي وأن يشفع فيّ)(4).
ومنها: ما روي عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال: "قدم علينا أعرابي بعد ما دفنّا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله)
____________
1- النساء: 64.
2- الأذكار النووية / النووي: ص206، كذلك في تفسير ابن كثير: ج1 ص532.
3- النساء: 64.
4- الدرّ المنثور: ج1 ص238.
5 ـ إن القرآن الكريم قد دلّ على حياة النبي (صلى الله عليه وآله) عند ربّه، كما قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(3) بل وكذا قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّة شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاَءِ}(4) وغيرها من عشرات الآيات الدالّة على أن النبي (صلى الله عليه وآله) يرى ويشهد على جميع أعمال العباد إلى يوما لقيامة، فهو حيّ عند ربّه، كيف لا وقد دلّ القرآن على حياة الشهداء في قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}(5)، وقد اتّفقت روايات الفريقين المتواترة أيضاً الدالّة على حياة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، منها ما ورد عن الإمام الحسن (عليه السلام) قال: "إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: حيثما كنتم فصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني"(6).
____________
1- النساء: 64.
2- كنز العمال: ج2 ص386، سبل الهدى والرشاد / الصالحي الشامي: ج12 ص390.
3- سورة التوبة 9: 105.
4- سورة النحل 16: 89.
5- سورة آل عمران 3: 169.
6- المعجم الأوسط / الطبراني: ج1 ص117.