وقد نقل السقّاف في كتابه الاغاثة جملة من الروايات وكلمات علماء السنّة التي ادّعي فيها الاجماع والتواتر والعلم القطعي بحياة النبيّ الأكرم فراجع(2).
وإذا ثبت ذلك ثبت عموم الآية المباركة بالرجوع إلى النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) والاستغاثة به.
6 ـ آيات وروايات عرض الأعمال على الرسول (صلى الله عليه وآله)، كما في قوله تعالى: {قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(3) وهذه الآية متطابقة ومتشاهدة مع آية {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ...}، وأما الروايات في هذا المجال فهي كثيرة جدّاً:
منها: ما عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: "تعرض الأعمال على رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلّ صباح أبرارها وفجّارها فاحذروها"(4).
ومنها: ما عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: "إن الأعمال تعرض على نبيكم كلّ عشية خميس، فليستحي أحدكم أن يعرض على نبيه العمل القبيح"(5).
منها: ما ورد عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "حياتي خير لكم تحدّثون وتحدّث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض عليّ أعمالكم، فما رأيت من خير
____________
1- مجمع الزوائد: ج8 ص211.
2- الاغاثة: ص 5 ـ 7.
3- التوبة: 105.
4- تفسير البرهان: ج 3 ص 488.
5- تفسير البرهان: ج 3 ص 490.
وهذه الرواية وغيرها منسجمة المضمون مع الشرط الثالث في الآية التي هي محلّ البحث، حيث جاء فيها {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ}، فالتائب والمستغفر يتوجّه إلى النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ويعرض استغفاره عنده لكي يستغفر له الرسول (صلى الله عليه وآله) ويشفع له عند الله تعالى في قبول توبته، فعبادات الأمة لابدّ أن يشفع النبيّ (صلى الله عليه وآله) عند ربّه في قبولها، وهو المضمون والغرض والحكمة من عرض الأعمال وأن قبولها مشروط بإمضاء النبيّ (صلى الله عليه وآله) وشفاعته، فكما أن آيات وروايات عرض الأعمال ذكرت أن سبب العرض هو أن يستغفر النبيّ (صلى الله عليه وآله) لأمته، كذلك في الآية المباركة إنما يعرض العبد استغفاره في الحضرة النبويّة لكي يستغفر له، وإذا كانت آيات وروايات العرض عامة لحال الحياة وبعد الممات فكذلك الآية المباركة.
وهذا الذي ذكرناه أخيراً هو الشرط الثالث في الآية المباركة وهو استغفار النبيّ (صلى الله عليه وآله) للمذنب الظالم لنفسه.
7 ـ أن الأحكام في الآيات التي أخذ فيها الحكم مرتبطاً بالرسول (صلى الله عليه وآله) في الآيات الكثيرة كلّها لا تختص بحياة الرسول (صلى الله عليه وآله) كما في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(2) وقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}(3) وقوله تعالى: {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(4)
____________
1- مجمع الزوائد: ج9 ص24.
2- سورة الممتحنة 60: 6.
3- سورة النساء 4: 59.
4- سورة الحشر 59: 7.
والذي يتحصّل من الآية: أن المجيء إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) والتوجّه إليه شرط في قبول التوبة، بل كافّة العبادات ومطلق المقامات القربية عند الله تعالى.
كما يستفاد من الآية المباركة أيضاً أن التوسّل والتوجّه أمر تعييني ضروري لابدّ منه، وليس هو أمراً تخييرياً بيد العبد فعله أو تركه.
واتضح أن التوجّه للنبيّ (صلى الله عليه وآله) في تلك المقامات ليس خاصّاً بالتوجّه الفيزيائي البدني، بل شامل للتوجّه القلبي أيضاً.
ثم إن المجيء إلى النبيّ والتوسّل به بمعنى الارتباط به والإنتماء إليه بكلّ أنحاء الانتماء، كانتماء المواطنة والانتماء الأُسري والوظيفي والتنظيمي، وغيرها من أنحاء الانتماء إلى الرسالة الخاتمة والحاكمية الإلهية المتمثّلة بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام).
كذلك لابدّ أن يعلم أن الآية الخاصّة في المقام غير مختصّة بالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، بل هي سنّة إلهيّة جارية في النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) فالآية عامة; ولذا نصّت على هذا العموم آية عرض الأعمال، حيث شملت الذين آمنوا وهم أولوا الأمر من أهل بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله)، كما نصّ على ذلك قوله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ
____________
1- سورة الأنبياء 21: 107.
إذن التوجّه إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) في التوبة والعبادة ونيل المقامات شرط ومشارطة إلهية لابدّ من توفّرها لنيل ما يبتغيه العبد.
الدليل السابع: التوسّل بالرسول (صلى الله عليه وآله) ميثاق الأنبياء
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَاب وَحِكْمَة ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}(2)، فالميثاق المذكور في هذه الآية المباركة معناه أن هناك تعاقداً بين الله تعالى والأنبياء (عليهم السلام)، والطرفان اللذان وقع عليهم الميثاق والتعاقد هما النبوّة والمقامات الغيبة التي أعطاها الله تعالى للأنبياء في مقابل أمر مهمّ وخطير لابدّ أن يؤمنوا به، وهو قوله تعالى: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} فالمقامات الإلهية والمنح الربّانية إنما تعطى للأنبياء بشرط الإيمان بخاتمهم ونصرته، ولا شك أن الذي يكون
____________
1- سورة الحج 22: 78.
2- آل عمران: 81.
الأنبياء على دين النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله):
ومن ثمّ فإن هذه الآية المباركة تدلّل على أن دين الأنبياء بعد الايمان بالله عزّ وجلّ هو الإيمان بخاتم الأنبياء ومشايعته ومؤازرته، فالأنبياء كانوا على دين النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) وهو الإسلام، بيان ذلك:
إن قوله تعالى في الآية المباركة {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} معناه أن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ليس تابعاً للأنبياء، بل تابع للوحي الإلهي جملة، الذي هو فعل الله تعالى; ولذا لم يأمر الله عزّ وجلّ نبيّه الأكرم (صلى الله عليه وآله) بالاقتداء بالأنبياء وإنما بالهدى الذي هم عليه، قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}(1).
فالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ليس على هدى نبيّ من الأنبياء وليس هو تابعاً لأحد من الرسل، بل هو على هدى الله عزّ وجلّ، وهو أوّل المسلمين، والفاتح الأول للهدى الإلهي والدين الاسلامي الواحد هو خاتم الأنبياء، ولم يُعبَّر عن نبيّ من الأنبياء في القرآن الكريم بأنه أوّل المسليمن على الاطلاق سوى النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله)، وذلك في قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ
____________
1- الأنعام: 90.
{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(4) ولم يُعبَّر عنه بأنه أوّل المسلمين، ولا شك أن الدين عند الله عزّ وجلّ واحد، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِْسْلاَمُ}(5)، ولا يتقبّل من مخلوق من المخلوقات غير الاسلام، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِْسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}(6)، فالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) أوّل المسلمين وأوّل من نطق بميثاق التوحيد والتسليم لله عزّ وجلّ، فكان هو أفضل الأنبياء وهو الإمام المتبوع وهم المأمومون التابعون له في الدين الاسلامي، فضلاً عن غيرهم من المخلوقين، ولذا ورد في الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام): "أن بعض قريش قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله): بأي شيء سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال: إني كنت أوّل من
____________
1- الأنعام: 14.
2- الأنعام: 162 ـ 163.
3- الزمر: 11 ـ 12.
4- يونس: 72.
5- آل عمران: 19.
6- آل عمران: 85.
وفي الحديث أيضاً عن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) في حديثه لأصحابه قال: "فأخذ لي العهد والميثاق على جميع النبيين، وهو قوله الذي أكرمني به جلّ من قائل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَاب وَحِكْمَة ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ لَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}(2) وقد علمتهم أن الميثاق أخذ لي على جميع النبيّين، وأنا الرسول الذي ختم الله بي الرسل، وهو قوله تعالى: {رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}(3) فكنت والله قبلهم وبعثت بعدهم وأعطيت ما أعطوا وزادني ربّي من فضله ما لم يعطه لأحد من خلقه غيري، فمن ذلك إنه أخذ لي الميثاق على سائر النبيّين ولم يأخذ ميثاقي لأحد، ومن ذلك ما نَبَّأ نبيّاً ولا أرسل رسولاً إلاّ أمره بالإقرار بي وأن يبشّر أمته بمبعثي ورسالتي"(4).
اذن فالدين دين محمّد (صلى الله عليه وآله) وهو فاتح ذلك الصرح العظيم، وإن كانت الفطرة والملّة ملّة إبراهيم (عليه السلام) وهي غير الدين، وكذلك للأنبياء شرائع ومناهج مختلفة وهي غير الدين أيضاً، وإنما هي تفصيلات وتنزّلات كلّيات ذلك الدين الحنيف وهو الإسلام، ولذا جاء في دعاء التوجّه في الصلاة:
"وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم
____________
1- الكافي: ج 1 ص 441.
2- سورة آل عمران 3: 81.
3- الأحزاب: 40.
4- الهداية الكبرى / الحسين بن حمدان الخصيبي: ص380.
إذن الإسلام دين النبيّ والأنبياء على دينه ومن شيعته، ولذا فُسّر قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لاَِبْرَاهِيمَ}(2) بالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأن إبراهيم من شيعته وعلى دينه الحنيف، حيث ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: "قوله عزّ وجلّ: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لاَِبْرَاهِيمَ} أي إن إبراهيم (عليه السلام) من شيعة النبيّ (صلى الله عليه وآله) "(3) وقد اختار هذا القول الكلبي وابن السائب والفرّاء(4).
فالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ليس تابعاً للأنبياء بل على العكس، فهو على الهدى الذي هو هدى الله تعالى، ومصدّق لما مع الأنبياء، أي شاهد على ما هم عليه من دينه الحنيف وبإمضائه يُصدّق ما هم عليه، أما الأنبياء فهم يؤمنون بخاتم الأنبياء {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} لا أنهم يؤمنون بما معه، فإيمانهم بذات النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فهو (صلى الله عليه وآله) شاهد مطّلع مصدّق على ما عندهم، وأما هم فيؤمنون به، وهذا يعني أنه لا يوجد في مقامات الأنبياء ودرجاتهم عند الله تعالى ما هو غيب عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وأما الذي يؤمن بذات النبيّ (صلى الله عليه وآله) وهم سائر الأنبياء (عليهم السلام) فهو يؤمن بأمر غيبيّ، فمقام النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالنسبة إلى باقي الأنبياء غيب الغيوب، وأما مقامات سائر الأنبياء فالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) مطّلع عليها ويعلمها ويشهد لهم على صدقها، والأنبياء في أصل نيلهم لمقام النبوّة إنما استأهلوه بعد أن آمنوا بخاتم الأنبياء قبل سائر الأرواح في عالم الأرواح وشرطوا على أنفسهم نصرته، ولذا فإن النبيّ (صلى الله عليه وآله)
____________
1- الاحتجاج / الطبرسي: ج2 ص307.
2- الصافات: 83.
3- البرهان في تفسير القرآن / هاشم البحراني: ج6 ص419.
4- تفسير القرطبي: ج15 ص91.
ومن ذلك كلّه يتّضح أن هذه الآية المباركة نصّ في المقام الثالث، وأن التوجّه إلى الله لنيل أي مقام أو قربى أو زلفى لا يتمّ إلاّ بالتوسل بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) والتشفّع به، وبالتشفّع به يعطى للعبد أعظم الأرزاق وهو النبوّة والكتاب والحكمة، فكيف بك بسائر الأرزاق الأخرى، التي لا تقاس بمقامات الأنبياء.
ثم إن الآية الكريمة رسمت خطورة الأمر في ضمن تأكيدات مغلّظة، حيث جاء فيها قوله تعالى: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} وبعد أن تم الإقرار والمعاهدة والمعاقدة المشدّدة أشهدهم الله تعالى على ذلك، حيث قال: {فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}(2)، وهذا يعني أن للتوسل والتوجّه دوراً مهمّاً ومحورية رئيسية في رسم معالم الدين.
وإنكار التوسّل في المسائل الدنيوية غير الخطيرة ليس إلاّ تعظيماً لصغائر الأمور وتصغيراً لما عظّمه الله عزّ وجلّ، فإن الإيمان بكون الأنبياء لم يستحقّوا ما استحقّوه إلاّ بتوسلهم بالإيمان بالنبيّ (صلى الله عليه وآله)، وإنكار التوسّل في بعض الأمور الدنيويّة والحاجات المعاشية ليس له معنى إلاّ الاستهانة بتلك المقامات الشامخة وتعظيم وتهويل ما ليس حقّه ذلك.
____________
1- سورة الأنبياء 21: 107.
2- سورة آل عمران 3: 81.
أهل البيت (عليهم السلام) شركاء النبيّ (صلى الله عليه وآله) في الميثاق:
ثمّ إن أهل البيت (عليهم السلام) يشتركون مع النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) في دائرة الميثاق والدين الحنيف، الذي أخذ على الأنبياء الإيمان به ونصرته والدعوة إليه، وإن كان أهل البيت (عليهم السلام) تابعين للنبيّ (صلى الله عليه وآله) وهم يتوجّهون به إلى الله تعالى، وبشفاعته يكونون معه (صلى الله عليه وآله) في مقامه، وهو مقام الشفاعة الكبرى والوسيلة العظمى.
ويدلّ على اشتراك أهل البيت (عليهم السلام) مع النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) في دائرة الميثاق الذي أخذ على الأنبياء وجوه عديدة، وإليك بعضها:
1 ـ إن نصرة الأنبياء للرسول (صلى الله عليه وآله) لم تتحقّق إلى يومنا الحاضر، وهي إنما تتحقّق بالنصرة لأهل بيته عند ظهور المهدي من آل محمّد، وعند رجعة الأئمة (عليهم السلام)، كما نصّت على ذلك الروايات المتضافرة، حيث جاء فيها أن عيسى (عليه السلام) وإدريس وغيرهما من الأنبياء سوف يقاتلون بين يدي الإمام المهدي (عليه السلام) عند قيامه بدولة الحقّ والعدل، هذا من طرق الفريقين، وأما من طرقنا فقد دلّت الروايات المتضافرة أيضاً على أن جميع الأنبياء والمرسلين سوف يقاتلون مع الأئمة (عليهم السلام) عند رجوعهم وكرّتهم في دولتهم العالمية المباركة.
بل إن بعض الأنبياء كإلياس والخضر (عليهما السلام) على القول بنبوّة الخضر (عليه السلام) الآن هم وزراء في حكومة الإمام المهدي (عليه السلام) الخفيّة، وهي حكومة خليفة الله في أرضه، التي لا يمكن أن تفتقدها البشرية في لحظة من اللحظات، وإلاّ لساخت الأرض بأهلها.
ونشير فيما يلي إلى بعض تلك الروايات التي وردت في هذا المجال:
منها: طوائف الروايات التي دلّت على أن المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) ينزل
فقال له النبيّ (صلى الله عليه وآله): إنه يكره للعبد أن يزكّي نفسه، ولكنّي أقول: إن آدم (عليه السلام) لما أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال: اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لما غفرت لي فغفرها الله له، وإن نوحاً (عليه السلام) لما ركب في السفينة وخاف الغرق، قال: اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لما نجّيتني من الغرق، فنجّاه الله منه، وإن إبراهيم (عليه السلام): لما ألقي في النار قال: اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لما نجّيتني منها، فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، وإن موسى (عليه السلام) لما ألقى عصاه أوجس في نفسه خيفة، قال اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لما آمنتني منها، فقال الله جلّ جلاله: {لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الاَْعْلَى}(1) يايهودي: إن موسى لو أدركني ثم لم يؤمن بي وبنبوّتي ما نفعه إيمانه شيئاً ولا نفعته نبوّته.
يايهودي ومن ذريتي المهدي إذا خرج نزل عيسى بن مريم لنصرته، فقدّمه وصلّى خلفه"(2).
وفي حديث آخر: "فيلتفت المهدي فينظر عيسى (عليه السلام) فيقول لعيسى: ياابن
____________
1- طه: 68.
2- الأمالي / الصدوق: ص288، روضة الواعظين / النيسابوري: ص272.
ولا شك أن المبايعة لأجل نصرته (عليه السلام) لإقامة دولة الحقّ، بقرينة تتمّة الرواية حيث ورد فيها أن المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) بعد المبايعة يكون من وزراء المهدي (عليه السلام) ويخرج لقتال الدجال.
ومنها: الروايات التي دلّت على أن نصرة الأنبياء للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) إنما تحصل بالنصرة لوصيّه أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) والقتال بين يديه عند الكرّة والرجعة في دولة الحقّ، وذلك نظير ما أخرجه سعد بن عبدالله القمي عن فيض بن أبي شيبة، قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول، وتلا هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ}: "لتؤمننّ برسول الله (صلى الله عليه وآله) ولتنصرنّ علياً أمير المؤمنين (عليه السلام). قال: نعم والله من لدن آدم وهلمّ جراً، فلم يبعث الله نبيّاً ولا رسولاً إلاّ ردّ جميعهم إلى الدنيا حتّى يقاتلوا بين يدي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) "(2).
ومن الواضح أن نصرة أمير المؤمنين (عليه السلام) نصرة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وللدين الذي جاء به.
وحاصل هذه النقطة: هو اشتراك أهل البيت (عليهم السلام) مع النبيّ (صلى الله عليه وآله) في الميثاق الذي أخذ على الأنبياء، إذ أن إيفاءهم بالعهد إنما يكون بنصرتهم لأهل بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله).
2 ـ مرّ بنا أن الدين عند الله الإسلام وهو واحد لا تعدّد فيه، وأن جميع
____________
1- عقد الدرر / الشافعي: ص275.
2- مختصر بصائر الدرجات / الحسن بن سليمان الحلّي: ص25.
ومن هنا يتّضح أن الميثاق والعهد الذي أخذه الله على أنبيائه هو الإيمان بذات الرسول (صلى الله عليه وآله)، والإيمان بمقامه (صلى الله عليه وآله) هو الدين الذي بعث به جميع الأنبياء، وهو بدرجاته العالية غيب الله وسره المكنون الذي أمر الأنبياء بالإيمان به والتسليم له، وكان نيل مقامات النبوّة على قدر درجة التسليم لذلك الدين، وقد مدح الله تعالى أنبياءه لكونهم مسلمين، قال عزّ وجلّ: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(1)، وقد أمر الله تعالى أنبياءه باتخاذ الاسلام ديناً، كما في قوله لإبراهيم: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}(2).
إذن الدين الواحد هو الميثاق الذي أخذ على جميع الأنبياء التسليم له والإيمان به ونصرته، وهو دين النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) المتمثّل برسالته ووساطته بين
____________
1- آل عمران: 67.
2- البقرة: 131.
وإذا كان الأمر كذلك فكلّ ما هو داخل في دائرة الدين يكون من الميثاق الذي أخذ على الأنبياء الإيمان به ونصرته والتسليم له، ومن الدين ولاية أهل البيت (عليهم السلام) بنصّ القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلاَمَ دِينًا}(1) حيث نصّت روايات الفريقين على أن هذا المقطع من الآية المباركة نزل عند تنصيب الله عزّ وجلّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لمقام الخلافة والإمامة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذلك في واقعة الغدير(2).
إذن الولاية والخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الدين الذي بعث به جميع الأنبياء، وقد أُكمل بتنصيب أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد حجّة الوداع مضافاً إلى أن جملة الآيات والأدلّة القائمة على إمامة أهل البيت (عليهم السلام) دالّة على أن إمامتهم وولايتهم من أصول الدين تتلو أصل النبوّة، سيما وأن الأنبياء مخاطبون بآيات الولاية والقربى والمودّة عند رجوعهم للنصرة، فهم مأمورون بطاعة أولي الأمر والمودّة للقربى والتوجّه بهم إلى الله تعالى.
والحاصل: إنه لم يبعث نبيّ من الأنبياء إلاّ بعد أن آمن وسلّم بالدين الذي هو ولاية النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته، فالولاية دين الله الذي بتسليمه استحقّ الأنبياء مقام النبوّة كلّ بحسب ما بلغه من درجة التسليم، فإن للولاية والتسليم درجات وبحسب درجة التسليم لكلّ نبيّ يعطى ذلك النبيّ مقام الحظوة عند الله تعالى
____________
1- المائدة: 3.
2- لاحظ كتاب الغدير للأميني وشرح إحقاق الحق، حيث تتبعا الروايات في هذا المجال.
3 ـ لقد بيّن الله عزّ وجلّ حقيقة الميثاق الذي أخذه على الأنبياء وكيفية إقرارهم وإيمانهم به وثباتهم عليه، كما في قصة آدم (عليه السلام)، حيث جاء فيها أن الأمانة والميثاق الذي أقرّ به آدم وتحمّله لنيل منصب الخلافة الإلهية عبارة عن الأسماء الحيّة العاقلة الشاعرة، التي علّمها الله عزّ وجلّ آدم وليست هي من السماوات والأرض، بل هي ملكوتها وباطنها ومحيطة بها ومهيمنة عليها، والأسماء هم الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، كما تقدّم في الأبحاث السابقة كما نصّت عليه روايات الفريقين، وعليه فيكون الميثاق الذي تحمّله آدم وآمن به ونال بواسطته مقام الخلافة هو الولاية للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام).
كذلك الحال في الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم (عليه السلام)، فلما أتمّهن نال مقام
____________
1- الإسراء: 55.
2- البقرة: 253.
إذن الميثاق عبارة عن أمتحان وابتلاء لنيل المقامات الرفيعة كالنبوّة والإمامة، والميثاق هو ولاية أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
نعم النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) أعلى مقاماً من أهل بيته (عليهم السلام) وهـم يتوجّهون بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى الله عزّ وجلّ وبشفاعته ينالون درجة مقامـه عند الله.
4 ـ إن ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) ذكرت تلو ولاية النبيّ الأكرم في جملة من آيات الطاعة والولاية، التي تقدم ذكرها، مما يدلّل على أن ولاية المعصومين (عليهم السلام) من الدين الذي بعث به الأنبياء، إذ الدين دائرته موحّدة بين الأنبياء، والذي هو عبارة عن أصول العقائد وأصول الواجبات والمحرّمات، التي هي أركان الفروع كأصل وجوب الصلاة والحجّ والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه كلّها من دائرة الدين لا الشريعة المختلفة من نبيّ إلى آخر، وولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) من الدين الذي بعث به جميع الأنبياء والرسل.
كذلك من الآيات التي قرنت الرسول الأكرم بأهل بيته (عليهم السلام) آيات الفيء والخمس، كما في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}(1) فإن الآية المباركة تبيّن أن أولياء الخمس الذين لهم الولاية على اقتصاد الدولة الإسلامية هم الله
____________
1- الأنفال: 41.