كذلك بنفس البيان ما ورد في قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاَْغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}(1)، فلإقامة العدالة المالية والاقتصادية على الأرض لابدّ أن تدار الأموال العامة التي ترجع إلى بلاد الإسلام بولاية الله ورسوله وذوي القربى، وهم قربى الرسول الأكرم الذين جعلت مودّتهم أجراً وعدلاً لما جاء به النبيّ الأكرم من الدين الحنيف، وذلك في قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(2).
وهذا يكشف عن أهميّة تولّي ذوي القربى وأن ولايتهم مفتاح لسائر أبواب الدين ومن دون التوسّل بها يخطأ الشخص ويضلّ طريق التوحيد، فيقع في مثل الجبر أو التفويض أو غير ذلك، فلابدّ من الولوج إلى الدين عن الطريق والباب الذي نصبه الله عزّ وجلّ لخلقه، ولا يمكن الوقوف على حقيقة الدين إلاّ بالإمامة.
فمودّة ذوي القربى أمر عظيم إذا سَلِم سَلِمت بقيّة أصول الدين، ولا يوجد قربى للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) بهذا الشأن الخطير سوى المعصومين من أهل بيته، فولايتهم عاصمة عن الضلال وهي ركن ركين في الدين الذي بعث به الأنبياء
____________
1- الحشر: 7.
2- الشورى: 23.
ولا شك أن الدين عام ـ كما ستأتي الإشارة إلى ذلك ـ لا يستثنى منه أحد في جميع النشآت بنحو الأبد وعدم الانقطاع، ومن ثمّ يكون وجوب الطاعة والولاية مكلَّف به جميع المخلوقات بنحو من التأبيد والخلود، فخلافة وولاية أولي الأمر ووجوب طاعتهم لا تختصّ بالجنّ أو الإنس ولا بالأمور السياسية الدنيوية وليس لأمدها حدّ ولا انقطاع.
وهناك أيضاً آيات أخرى ستأتي لاحقاً قرنت بين النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته، مما يكشف عن أن مقامات الأنبياء ونيل الحظوة الإلهية لا يتم إلاّ بالتوسل والتوجّه بهم إلى الله تعالى، وأن تولّيهم واسطة للفيض الإلهي، ولولاهم لما بعث الأنبياء والمرسلون، فهم الوسيلة إلى الله تعالى في عظائم الأمور، فكيف بالقضايا الأخرى التي هي أقلّ شأناً مما يرتبط بالأمور الحياتية والمعيشية للناس؟!
وهذا كلّه يصلح بياناً بذاته لتبعية الأنبياء جميعاً لخاتم الأنبياء وأهل بيته (عليهم السلام) مع سبقهم الزمني عليهم.
بيان آخر لتوسل الأنبياء بالرسول الأكرم وأهل بيته في نيل المقامات:
النبي وأهل بيته قدوة للأنبياء:
مما يشير إلى كون النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) قدوة لجميع الأنبياء والمرسلين حتّى أولي العزم منهم، وبالتالي اتّباعهم للنبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) وسيلة لبلوغهم إلى المقامات العالية من النبوّة والرسالة والخلّة والإمامة وغيرها، مع أن
وهذا ما يوجب تربية روحية عالية لهم ليتحلّوا بالكمالات عند مواجهتهم للشدائد والفتن والمحن وبالتالي نيل المقامات التي حظوا بها عند الله تعالى.
وكان فيما أوحى الله عزّ وجلّ لهم عن أحوال النبيّ وأهل بيته بأنماط متعدّدة من الوحي، أي من الوحي الصوري نظير الرؤيا أو الوحي بالإلهام والمعنى وغيرها من أنماط الوحي.
فكانت سيرة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) تمثالاً منصوباً وشعاراً مرفوعاً لهم يحتذون ويقتدون به، ماثل أمام أعينهم طيلة مسيرة أيام نبوّتهم ورسالتهم.
وهذا أحد معاني اقتداء الأنبياء والمرسلين بالنبيّ وأهل بيته.
أما الآيات التي تشير إلى هذا المعنى فهي عديدة نشير إلى جانب منها:
1 ـ ما تقدّم من قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَاب وَحِكْمَة ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ}(1) فإنها دالّة على أن الله عزّ وجلّ أخبرهم عن خاتم الأنبياء ومقاماته وأن الدين دينه وهو فاتح
____________
1- آل عمران: 81.
2 ـ قوله تعالى على لسان عيسى (عليه السلام): {وَمُبَشِّرًا بِرَسُول يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}(1).
3 ـ قوله تعالى في يهود المدينة، قُبيل ولادة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله): {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}(2)، فقد نقل المفسّرون في ذيل هذه الآية المباركة أن اليهود من أهل المدينة وخيبر كانوا إذا قاتلوا من يليهم من مشركي العرب من الأوس والخزرج يستنصرون بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) عليهم ويستفتحون به، لما يجدون من ذكره وصفاته وشمائله ومحلّ ولادته في التوراة، وكانوا يدعون ويتوسلون بحقّه للنصرة عليهم، حيث يقولون: (اللّهم إنّا نستنصرك بحقّ النبيّ الأميّ إلاّ نصرتنا عليهم).
وعن ابن عباس قال: (كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فكلّما التقوا هزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء: اللّهم إنا نسألك بحقّ محمّد النبيّ الأميّ الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلاّ نصرتنا عليهم، قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بُعث النبيّ (صلى الله عليه وآله) كفروا به، فأنزل الله وقد كانوا يستفتحون بك يامحمّد على الكافرين)(3).
4 ـ قوله تعالى في اليهود والنصارى الذين آمنوا بالنبيّ (صلى الله عليه وآله): {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاُْمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
____________
1- الصف: 6.
2- البقرة: 89.
3- تفسير الطبري: ج1 ص324، تفسير القرطبي: ج2 ص27.
5 ـ قوله تعالى في معرفة أهل الكتاب بصفات وشمائل النبيّ (صلى الله عليه وآله): {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(2).
إن هذه الأربع آيات الأخيرة صريحة في إخبار الأنبياء (عليهم السلام) أممهم بأحوال خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) وسيرته، وهذا يكشف عن أن الله تعالى أطلع أنبياءه على سيرة النبيّ الأعظم وما يجري عليه من المحن والشدائد.
6 ـ قوله تعالى على لسان إبراهيم في دعائه لذريّته:
{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}(3) فهي دالّة على أن إبراهيم كان مطّلعاً على سيرة ذرّيته الطاهرة، ودعا الله عزّ وجلّ بمودّة الناس لهم وهويّ القلوب إليهم.
هذا بالنسبة إلى الآيات المباركة، وهي دالّة على أن الأنبياء (عليهم السلام) كانوا على اطّلاع بالنبيّ الأكرم وأهل بيته الطاهرين وما يجري عليهم من البلايا.
أما الروايات في هذا المجال فهي كثيرة جدّاً نشير إلى شطر منها على سبيل الاختصار:
1 ـ ما أخرجه القندوزي الحنفي في الينابيع، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "ياعباد
____________
1- الأعراف: 157.
2- البقرة: 146.
3- إبراهيم: 37.
فقال الله عزّ وجلّ: انظر ياآدم إلى ذروة العرش.
فنظر آدم (عليه السلام) ووقع نور أشباحنا من ظهر آدم (عليه السلام) إلى ذروة العرش، فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا التي في ظهره كما ينطبع وجه الانسان في المرآة الصافية، فرأى أشباحنا.
فقال: ما هذه الأشباح ياربّ؟
قال الله تعالى: ياآدم هذه الأشباح أشباح أفضل خلائقي وبريّاتي، هذا محمّد وأنا المحمود في أفعالي، شققت له اسماً من اسمي، وهذا عليوأنا العليّ العظيم شققت له اسماً من اسمي، وهذه فاطمة وأنا فاطر السماوات والأرض، فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل القضاء، وفاطم أوليائي مما يبيرهم ويشينهم، شققت لها اسماً من اسمي، وهذا الحسن وهذا الحسين وأنا المحسن المجمل ومنّي الاحسان، شققت اسميهما من اسمي.
وهؤلاء خيار خلقي وكرائم بريّتي، بهم آخذ وبهم أعطي، وبهم أعاقب وبهم أثيب، فتوسل بهم إليّ ياآدم، وإذا دهتك داهية فاجعلهم إليّ شفعائك فإني آليت على نفسي قسماً حقّاً لا أُخيّب لهم آملاً ولا أردّ لهم سائلاً"(1).
____________
1- ينابيع المودّة لذوي القربى / القندوزي الحنفي: ج1 ص289.
2 ـ روي: أن آدم (عليه السلام) لما هبط إلى الأرض لم يرَ حواء، فصار يطوف الأرض في طلبها، فمرّ بكربلاء فاغتمّ وضاق صدره من غير سبب، وعثر في الموضع الذي قُتل فيه الحسين (عليه السلام) حتى سال الدمّ من رجله، فرفع رأسه إلى السماء وقال: إلهي هل حدث منّي ذنب آخر فعاقبتني به؟ فإني طفت جميع الأرض وما أصابني سوء مثل ما أصابني في هذه الأرض.
فأوحى الله تعالى إليه ياآدم ما حدث منك ذنب، ولكن يقتل في هذه الأرض ولدك الحسين ظلماً، فسال دمك موافقة لدمه(1).
3 ـ ما أخرجه المجلسي في البحار عن صاحب الدرّ الثمين في تفسير قوله تعالى: {فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَات}(2): (أنه رأى ساق العرش وأسماء النبيّ والأئمة (عليهم السلام)، فلقّنه جبرئيل، قل: ياحميد بحقّ محمّد، ياعالي بحقّ عليّ يافاطر بحقّ فاطمة، يامحسن بحقّ الحسن والحسين ومنك الإحسان.
فلمّا ذكر الحسين سالت دموعه وانخشع قلبه، وقال: ياأخي جبرئيل في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي؟ قال: جبرئيل: ولدك هذا يصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب، فقال: ياأخي وما هي؟ قال: يقتل عطشاناً غريباً وحيداً فريداً ليس له ناصر ولا معين)(3).
4 ـ ما أخرجه الصدوق عن عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام)، قال: "لما أمر الله تبارك
____________
1- بحار الأنوار: ج44 ص242.
2- البقرة: 37.
3- بحار الأنوار: ج44 ص245.
5 ـ ما أخرجه ابن قولويه في كامل الزيارات عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: "إن إسماعيل الذي قال الله تعالى في كتابه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا}(2) لم يكن إسماعيل ابن إبراهيم (عليه السلام)، بل كان نبيّاً من الأنبياء بعثه الله إلى قومه، فأخذوه فسلخوا فروة رأسه ووجهه، فأتاه ملك
____________
1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) / الصدوق: ج2 ص188 ب17 ح1.
2- مريم: 54.
وفي حديث آخر عنه (عليه السلام) قال: "ذاك إسماعيل بن حزقيل النبيّ (عليه السلام)، بعثه الله إلى قومه فكذّبوه فقتلوه وسلخوا وجهه، فغضب الله له عليهم فوجّه إليه اسطاطائيل ملك العذاب، فقال له: ياإسماعيل: أنا اسطاطائيل ملك العذاب، وجّهني إليك ربّ العزّة لأعذّب قومك بأنواع العذاب إن شئت، فقال له إسماعيل: لا حاجة لي في ذلك، فأوحى الله إليه فما حاجتك ياإسماعيل؟ فقال: ياربّ إنك أخذت الميثاق لنفسك بالربوبية ولمحمّد (صلى الله عليه وآله) بالنبوّة ولأوصيائه بالولاية، وأخبرت خير خلقك بما تفعل أمته بالحسين بن عليّ (عليه السلام) من بعد نبيّها، وأنك وعدت الحسين (عليه السلام) أن تكرَّهُ إلى الدنيا حتى ينتقم بنفسه ممن فعل ذلك به، فحاجتي إليك ياربّي أن تكرّني إلى الدنيا حتّى أنتقم ممن فعل ذلك بي، كما تكرّ الحسين (عليه السلام)، فوعد الله إسماعيل بن حزقيل ذلك، فهو يكرّ مع الحسين (عليه السلام) "(2).
6 ـ عن سعد بن عبدالله القمي في سؤاله للإمام المهدي (عليه السلام) في محضر الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، حيث قال: فأخبرني ياابن رسول الله عن تأويل {كهيعص}؟ قال (عليه السلام): "هذه الحروف من أنباء الغيب، أطلع الله عليها عبده زكريّا، ثم قصّها على محمّد (صلى الله عليه وآله)، وذلك إن زكريا سأل ربّه أن يعلّمه أسماء الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل فعلّمه إياها، فكان زكريا إذا ذكر محمّداً وعلياً وفاطمة والحسن والحسين، سرى عنه همّه، وانجلى كربه، وإذا ذكر الحسين خنقته
____________
1- كامل الزيارات / جعفر بن محمد بن قولويه: ص137.
2- المصدر السابق: ص138 ـ 139.
إلهي أتنزل بلوى هذه الرزية بفنائه؟ إلهي أتلبس علياً وفاطمة ثياب هذه المصيبة؟ إلهي أتحلّ كربة هذه الفجيعة بساحتهما؟
ثم كان يقول: أللّهم ارزقني ولداً تقرّ به عيني على الكبر، واجعله وارثاً وصيّاً، واجعل محلّه منّي محلّ الحسين، فإذا رزقتنيه فافتنّي بحبّه ثم افجعني به كما تفجع محمّداً حبيبك بولده، فرزقه الله يحيى وفجعه به"(2).
والروايات في هذا المجال كثيرة جدّاً، وهي دالّة على ما أردنا التنبيه عليه من تبعية الأنبياء لمحمّد وأهل بيته (عليهم السلام)، وكونهم قدوة لهم وواسطة في بلوغ ما وصلوا إليه من المقامات، وذلك عن طريق استعراض سيرتهم والحوادث التي جرت عليهم (عليهم السلام).
آيات أخرى في اقتران أهل البيت (عليهم السلام) بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) في الصفات:
1 ـ قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ
____________
1- البهر: تتابع النفس وانقطاعه كما يحصل بعد الإعياء والعدو الشديد.
2- كمال الدين وتمام النعمة / الصدوق: ص459.
2 ـ قوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}(2)، فلم يُنزَّل أحد كنفس النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلاّ عليّ (عليه السلام)، وقرن الله تعالى بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) أهل بيته (عليهم السلام) في الحجّية، فالخمسة (عليهم السلام) معاً حجج على جميع الأديان السماوية والبشرية عموماً إلى يوم القيامة، فهم (عليهم السلام) شركاء النبيّ (صلى الله عليه وآله) في الرسالة; لأن المباهلة نوع محالفة، وفي الحلف لابدّ أن يحلف الأصيل ولا وكالة في الحلف، وهذا يعني أنهم (عليهم السلام) شركاء في الرسالة أصالة، ولكنهم تابعون في ذلك للنبيّ (صلى الله عليه وآله) وهو سيّدهم وبشفاعته نالوا الأصالة في الحجّية.
والحاصل: إن أهل البيت (عليهم السلام) مقرونون بسيّد الأنبياء في المقامات تبعاً له (صلى الله عليه وآله)، وهذا يعني أن الإيمان بأهل البيت والتولّي لهم من الدين الذي أخذ على الأنبياء الإيمان به ونصرته لأجل نيل المقامات العالية عند الله تعالى.
هذا تمام الكلام في الدليل السابع على عموم شرطية التوسّل بالنبيّ (صلى الله عليه وآله)
____________
1- الأحزاب: 33.
2- آل عمران: 61.
الدليل الثامن: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}(1).
تقدّم أن هذه الآية المباركة دالّة على مبدأ التوسّل، ونشير هنا أيضاً إلى أنها دالّة عموم شرطية التوسّل في التوجّه إلى الحضرة الإلهية، فلابدّ من التوسّل بالذريّة والتوجّه بهم وصلتهم والمجيء إليهم، وسبق كذلك أن التوجّه نوع دعاء وهو لا يرتفع ولا تفتّح له أبواب السماء إلاّ بالتوسل بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) وهويّ القلوب إليهم.
ولذا كانت مودّة أهل البيت (عليهم السلام) أجر الرسالة الخاتمة، كما في قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(2)، وقال تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْر فَهُوَ لَكُمْ}(3)، مما يعني أن مودّة أهل البيت (عليهم السلام) يعود نفعها للأمة جمعاء، وقال عزّ وجلّ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً}(4)، ومعنى ذلك أن مودّتهم (عليهم السلام) هي السبيل الوحيد والطريق والوسيلة المنحصرة إلى الله تعالى، فهم السبيل إليه والمسلك إلى رضوانه.
____________
1- إبراهيم: 37.
2- الشورى: 23.
3- سبأ: 47.
4- الفرقان: 57.
الدليل التاسع: الاستكبار والصدّ عن آيات الله تعالى موجب لحبط الأعمال
نريد أن نتعرض هنا في الاستدلال على المقام بما تقدّم من قوله عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُْمجْرِمِينَ}(1) ونريد أن نضيف على ما تقدم من بيان هذه الآية الكريمة بما له دلالة على المطلوب في المقام، وذلك بالبيان التالي:
إن الآية المباركة تتعرّض لبعض الأحكام المترتّبة على التكذيب بآيات الله تعالى.
والمقصود من الآيات هي الحجج الإلهية، حيث أطلق الله عزّ وجلّ لفظ الآية على مريم وعيسى (عليهما السلام) {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً}(2)، وإذا كان عيسى (عليه السلام) لم ينل ما ناله إلاّ بولايته وإقراره وإيمانه بسيّد الأنبياء فكيف بنفس النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فهو أعظم آية لله تعالى؟ وإذا كان عيسى (عليه السلام) من وزراء الإمام المهدي (عليه السلام) وتابعاً له في دولته، فكيف لا يكون أهل البيت (عليهم السلام) من أعظم آيات الله تعالى؟ خصوصاً وأن الله تعالى قرن بالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) أهل بيته (عليهم السلام) في الطهارة والعصمة والحجّية والولاية وغيرها من المقامات التي تقدّم التعرّض لها آنفاً، فلا شك أن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) المصداق البارز للآية التي نحن بصدد بيانها، فهم (عليهم السلام) أوضح وأبرز وأعظم آيات الله تعالى.
والذين يكذّبون بآيات الله تعالى ويصدّون ويستكبرون عنها ـ كما فعل إبليس مع آدم (عليه السلام) ـ لا تفتّح لهم أبواب السماء، فلكي تفتّح أبواب السماء لقبول
____________
1- الأعراف: 40.
2- المؤمنون: 50.
الأول: عدم التكذيب، أى التصديق والإيمان والمعرفة بآيات الله الحجج.
والثاني: عدم الاستكبار عنها، وهذا الأمر يتضمّن شيئين:
أحدهما: عدم الاستكبار أي الخضوع والتواضع، وثانيتهما: عدم الصدّ الذي قد ضُمّن في فعل الاستكبار بقرنية عن، نظير ما ذكرته الآيات في مسبب كفر إبليس (أبى واستكبر) فالإباء هو الجحود مقابل التصديق، والاستكبار مقابل الخضوع والاتباع.
ونظير ذلك ما ورد في سورة المنافقين في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا
____________
1- سورة فاطر 35: 10.
فالتوسّل خيار حصري لابدّي شرطي منحصر بالمجيء واللجوء إلى الحضرة النبويّة واللّواذ بها والاستغاثة به (صلى الله عليه وآله)، ثم إبداء التوبة والاستغفار وإمضاء النبيّ (صلى الله عليه وآله) له باستغفاره وشفاعته لهم من أجل تحقّق التوبة ومقام المغفرة وقبول العبادة التي منها عبادة التوبة.
ونظير هذه الآيات أيضاً قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(2).
ومن الشواهد أيضاً على أن المراد من الآيات هنا هم الأنبياء والخلفاء الأوصياء الحجج هو التعبير بـ (كذّبوا) فإنه مقابل التصديق فيما يزعمون من مناصب وفيما لهم من دعوى، وأما الآية الكونية فليس فيها تكذيب أو تصديق، بل إنما يقع الغفلة والإعراض عنها; إذ لا يوجد فيها زعم أو دعوى معيّنة كي يصدق في حقّها التصديق أو التكذيب، فالتصديق أو التكذيب إنما يكون للحجج الإلهية التي تدّعي مقاماً إلهياً وكذا فيما تبلّغه عن الله تعالى، فالمراد
____________
1- المنافقون: 5.
2- الأعراف: 36.
والحاصل: إن هذه الآيات المباركة تبيّن أن مفتاح أبواب سماء الحضرة الربوبية الإقرار بالحجج والآيات والتوجّه إليها والتوسّل والتشبّث بها والإنقطاع إليها لا عنها، وأبرز وأعظم تلك الآيات النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، فهم مفاتيح أبواب السماء في قبول وصعود التوبة والعبادة والمعرفة والإيمان والعقيدة ونيل المقامات، فلا ترتفع أي عبادة ولا ينال مقام ولا تتحقّق التوبة مع عدم التصديق بالآيات وصلتها ومودّتها والتوجّه إليها والتوسّل بها، والإعراض عنها يوجب حبط الأعمال وامتناع دخولهم الجنّة في الآخرة {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط} {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}، فشرط النجاة يوم القيامة الارتباط بالآيات الإلهيّة والإنتماء إليها والتوسّل بها، لكونها قنوات غيبيّة توجب القرب إلى الله تعالى.
فالتوسل شرط في تفتّح الأبواب لقبول وصحّة الإيمان والتوبة وقبول الأعمال وسائر المقامات.
الدليل العاشر: خضوع الملائكة لآدم (عليه السلام)
كلّ خليفة الله الباب الأعظم لملائكته
لقد سبق ذكر الآيات التي تعرّضت لقصة آدم (عليه السلام) وأمر الملائكة كلّهم أجمعين بالسجود له، وقلنا إن الأمر بسجود الملائكة وخضوعهم وانقيادهم ليس خاصّاً بآدم (عليه السلام)، لأنها معادلة دائمة في عالم الخلقة لكلّ من يتحلّى بمقام