الصفحة 221
الخلافة الإلهية، فمن يتحلّى بهذا المقام يطوع الله عزّ وجلّ له الملائكة ويدينون بأجمعهم لله تعالى بطاعته بما فيهم كبار الملائكة المقرّبين، وهم في كلّ ما يقومون به من أدوار عظيمة في عالم الإمكان والكون خاضعون لوليّ الله، وهو خضوع حقيقي قائم على أساس العلوّ الرتبيّ التكويني لخليفة الله تعالى، وحينئذ يكون الأمر بالسجود والخضوع للخليفة شامل للأنبياء، وخصوصاً أولي العزم منهم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى والرسول الأكرم وأوصيائه (عليهم السلام)، فالملائكة المقرّبين وغيرهم بابهم إلى الله تعالى خليفة الله الذي يُنبئهم بالأسماء والمقامات.

ثمّ إن الآيات والروايات ذكرت أن الملائكة عندما اعترضت على جعل خليفة الله في الأرض وهو من ترك الأولى الناشئ من ضيق الأفق وعدم سعة العلم ـ آبت وتابت إلى الله عزّ وجلّ بالسجود لآدم (عليه السلام).

إذن سنّة الله للملائكة كدين هو الإقبال على وليّ الله، وهو شرط أوبتهم وقبول عبادتهم وحظوتهم بالمقامات العالية.

ففي عالم الغيب الذي هو خال عن نشأة التشريع الأرضي، وليس خال عن الدين الإلهي، كما قال تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ}(1)، افتقرت الملائكة إلى أن يكون بينهم وبين الله تعالى واسطة في الخضوع والإنباء والمعرفة والعبادة والتقرّب إلى الله تعالى، فما بالك بالنشآت الأخرى؟!

وإذا كان آدم أبو البشر نبيّ الملائكة وقناة الإنباء والفيوضات العلمية وغيرها عليهم من الله تعالى، وهو وليّهم وهم طائعون له لا يتمرّدون عليه ولا ينبغي لهم

____________

1- سورة آل عمران 3: 83.


الصفحة 222
ذلك، فكيف بسيّد البشر؟! ألا تكون الملائكة منقادة وطائعة له؟!

ومن هنا تكون الملائكة مشمولة بقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الاَْمْرِ مِنْكُمْ}(1) من غير اختصاص بالنشأة الأرضيّة، وهذا لوحدة الدين وشموله لجميع المخلوقات كما سيأتي لاحقاً بيانه.

فالخليفة نبيّ الملائكة وله مقام إنبائهم وتعليمهم; لأنه مزوّد بالعلم اللّدني الأسمائي، فهو نبيّ المعارف وإن لم يكن نبيّ شريعة للناس في الأرض.

والحاصل: إن المقامات التكوينيّة العالية للملائكة لا يمكن أن تنال إلاّ بطاعة وليّ الله والإقبال عليه والتوجّه إليه وبه إلى الله تعالى.

أخذ ميثاق ولاية أهل البيت (عليهم السلام) معرفة وتوسّلاً في جميع النشآت على أصناف المخلوقات:

الدين الذي هو عند الله الإسلام لا يختصّ بنشأة من النشآت، بل الكلّ مكلّف بالطاعة لله والإسلام له في أصول معالم دينه، قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}(2)، ولذا كان الأمر بالسجود لآدم غير خاصّ بالملائكة، بل شامل لكل النشآت ومن هنا عمّ الأمر إبليس، لأن دين الله عزّ وجلّ وهو التسليم دين جميع المخلوقات، فالملائكة أيضاً مأمورة بالتوحيد لله تعالى وطاعة وليّ الله بالسجود له، وعلى هذا فكلّ ما يبيّن في النصوص القرآنية بأنه من أركان الدين فقد أخذ على جميع

____________

1- النساء: 59.

2- آل عمران: 83.


الصفحة 223
الملائكة الإيمان به، ومن تلك الأركان تولّي خليفة الله والطاعة له.

وإذا عرفت ذلك يتّضح لك ما ورد في الروايات من أن ولاية النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) أُخذت من جميع الملائكة وسائر الكائنات، وذلك لكونها من الدين غير الخاص بنشأة من النشآت.

إذن فنبوّة خاتم الأنبياء وولاية سيّد الأوصياء لا تختصّ بالموجودات الأرضية، وهذا يعني أن الشهادة الثانية والثالثة لم تؤخذ على أهل هذه الدنيا فحسب، لأن الإنباء ونيل الفيوضات عموماً يحتاج إلى وجود خليفة الله ولابدّ من التوجّه إليه لنيل المقامات وقبول الطاعات في جميع النشآت; لأنه واسطة الله وسفيره بينه وبين خلقه في كلّ المقامات العلمية والتكوينية.

تأبيد رسالة الرسول (صلى الله عليه وآله) ووساطته في الوحي الإلهي لجميع النشآت:

فمفاد الشهادة الثانية والثالثة إقرار بالواسطة الأبدية غيرالخاصة بالنشأة الأرضية، وهذه هي تداعيات ومقتضيات الشهادة الثانية والثالثة، التي لا يتمّ التوحيد بدونها، ومن دونها لا يتحقّق قرب المخلوق إلى ربّه، ذلك المخلوق البعيد عن مقامات الربوبية وعظمة الصفات الإلهية.

جحود التوسّل سنّة إبليس في الاستكبار:

ومن يأبى ذلك يحصل له العتوّ والاستكبار في نفسه والتعظيم لها، مع أن نفسه صغيرة فقيرة بعيدة عن ساحة عظمة الصفات الإلهية، فهي أي النفس ـ محتاجة إلى الواسطة والسفارة التي يتوجّه بها إلى الله تعالى، كما في قوله تعالى:


الصفحة 224
{قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَار وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}(1).

ويتّضح أيضاً أن معطيات الشهادة الثانية والثالثة ومؤداهما مرتبطة بالمعارف الدينيّة الأبديّة الشاملة للملائكة والجنّ والإنس والبرزخ والجنّة والنار والآخرة، فضلاً عن النشأة الأرضية، كذلك الوساطة والشهادة الثانية والثالثة شاملة لعالم العقول والأرواح، ولذا نجد أن مجرى الفيض في تكامل عقول علماء هذه الأمة ومستوياتها العلميّة في الدين هو النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، حيث تمّ بجهودهم المباركة تشييد المعارف الصحيحة ورفض الجبر والتفويض والتجسيم والتشبيه والتعطيل وغيرها من العقائد الفاسدة، فهم (عليهم السلام) وسائط الفيض وسفراء الأرواح والعقول.

وهذا بيان عقلي لمعطيات الشهادة الثانية والشهادة الثالثة يُضاف إلى البيانات السابقة المعتمدة على الآيات القرآنية المباركة.

والحاصل: إن شرطية التوسّل في المقامات الثلاث المذكورة تعمّ جميع الأنبياء والرسل وكلّ المخلوقات من الملائكة وغيرها.

____________

1- سورة ص 38: 75-78.


الصفحة 225

الفصل الرابع



  شبهات وردود





الصفحة 226
الشبهة الأولى: التوسّل عبادة لغير الله تعالى.

الشبهة الثانية: التوسّل مناف لكلمة التوحيد.

الشبهة الثالثة: التوسّل مناف للآيات القرآنية.

الشبهة الرابعة: الأعمال الصالحة هي الوسيلة.

الشبهة الخامسة: التوحيد الإبراهيمي يأبى التوسّل بغير الله.

الشبهة السادسة: التوسّل يعني التفويض وعجز الله تعالى.

الشبهة السابعة: إيجاد المخلوقات الامكانية كلّه ابداعيّ بلا واسطة.


الصفحة 227

شبهات وردود


قبل الدخول في بيان الشبهات والأجوبة التفصيلية عنها لابدّ من التنبيه على نقطة جديرة بالإلتفات، وهي إننا لا نخطّئ قول أصحاب الشبهة في تأثير التوسّل ومدخليته المباشرة في العقيدة التوحيدية، وذلك لأن فروع الدين الاعتقادية، بل كلّ فروع الدين ترجع في لبّها وجذرها إلى أصول الدين، فإن معنى كونها من فروع الدين أنها تنحدر وتنشعب وتتنزّل من الشجرة المباركة الطيّبة لأصول الدين.

إذن فعبادة التوسّل توحيدية، بمعنى أن لها عمقاً توحيدياً وجذراً تنشعب منه يربطها بأصول الدين الكلّية.

وهذا هو معنى أن التوحيد لا يتمّ بكلمة (لا إله إلاّ الله)، بل لابدّ من أدبيات ومعطيات الشهادة الثانية لكي يتمّ التوحيد.

والحاصل: إن المسألة ليست مرتبطة بصورة الفعل الذي يأتي به العبد، بل الأمر يعود إلى لبّ ذلك الفعل وجذره وهو التوحيد، ولكن بعد أن أثبتنا ضرورة التوسّل فضلاً عن مشروعيته، بل شرطيته في صحّة العقيدة والأعمال، يكون الأمر على عكس ما ذكروه من أن التوسّل بغير الله تعالى يوجب الكفر والخروج

الصفحة 228
عن العقيدة التوحيدية، بل نقول: إن ترك التوسّل والتوجّه يوجب الجحود والاستكبار والكفر والخروج عن عقيدة التوحيد.

كذلك من الجدير بالإلتفات أن ثبوت ضرورة التوسّل بآيات الله وكلماته من الأنبياء والأولياء والأوصياء معناه ضرورة الإرتباط بكائن حيّ بشري يربطنا مع الحيّ القيوم، فلابدّ من استشعار ضرورة وجود نموذج بشري نرتبط به وله القدرة على أن يكون حلقة الوصل بين الله عزّ وجلّ وبين عبيده، وليس ذلك إلاّ لعظمة الله تعالى وتنزّهه عن التشبيه والتجسيم والتعطيل.

وفي غير هذه الصورة تكون جميع المناسك العبادية كمناسك الحجّ عبارة عن جمادات لا حيوية فيها، وهذا يعطي استشعاراً بأننا نعظّم أحجاراً جامدة لا حيوية فيها ولا تماسّ لها بالله الذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيوم.

بعد هذا البيان الموجز نقول:

إن المنكرين لمشروعية التوسّل استدلّوا على دعواهم ببعض الأدلّة، وهي بعد بيان ما هو الحقّ في المسألة وأن التوسّل ضرورة لابدّ منها تكون شبهات وتلبيسات لابدّ من الإجابة عنها، وهذه عمدتها:


الصفحة 229

شبهات المنكرين لجواز التوسّل


الشبهة الأولى: التوسّل عبادة لغير الله تعالى

إن الدعاء عبارة عن النداء وطلب الحاجة، ولا شك أن الدعاء عبادة للمدعو; لأن الدعاء فيه نوع من التوجّه والقصد والنيّة، وهذه الأمور هي روح العبادة وقوامها، ولذا ورد في الحديث "أن الدعاء مخ العبادة وجوهرها".

وبالتالي يكون دعاء غير الله تعالى وندبته وطلب الحاجة منه عبادة له، وهو من أوضح أنواع الشرك في العبادة.

ويعبّر عنه بالشرك الصريح أو الشرك الأكبر، الذي يوجب الرّدة والارتداد عن الدين والمنافاة لأوليّات الدين الاسلامي، والخروج عن المواثيق والعهود التي التزم بها الشخص بالتزامه وتشهّده الشهادتين.

مع العلم أن جميع طقوس العبادة لا تبلغ درجة الدعاء الذي هو قوام حقيقة العبودية، وهو نوع افتقار إلى الباري تعالى.

والحاصل: إن الدعاء والنداء وطلب الحوائج من غير الله تعالى من أغلظ أنواع العبادة والتأليه للشخص المدعو، وهو عبارة عن الشرك الصريح أو الأكبر.


الصفحة 230

الجواب عن الشبهة الأولى:

كان خلاصة الشبهة هو أن الدعاء والنداء وطلب الحاجة عبادة لا تجوز لغير الله تعالى.

والجواب عن هذه الشبهة اتضح ضمناً سابقاً في بيان ما هو الحقّ في المسألة، وأن الدعاء بمعنى النداء، والطلب إنما يكون عبادة للمدعو إذا اعتقد الداعي أن المدعو مستقل بالقدرة غني بالذات، وأما إذا اعتقد الداعي أن المدعو لا يستقل بالقدرة، بل يستمد القدرة من الباري تعالى وأن الحول والقدرة التي لديه هي من الباري تعالى وأن المدعو إنما حصل عليها لمكان حظوته وقربه عند الباري وأن الداعي إنما يدعوه نظراً لقربه ووجاهته من الباري وأن تكريم الله له بالقرب والوجاهة حفاوة منه تعالى وإذن منه للاستشفاع والتوسّل والتوجّه به إليه عزّوجلّ، فإن دعاء ذلك الغير يعدّ حينئذ توجّهاً وقصداً إلى الحضرة الإلهية، لأن قصد القريب من الحضرة الإلهية قصد للحضرة، كما أن الصدّ والإعراض عن القريب ابتعاد عن الحضرة الإلهية، فدعاء ذلك الغير هو دعاء لله بآياته العظيمة ودعاء له بأسمائه الحسنى التي يظهر بها.

وينقض أيضاً على هذه الشبهة بطلب الحيّ الحاجة من الحيّ، مثل طلب العلاج من الطبيب، وطلب البناء من البنّاء، واصلاح الزراعة من الزرّاع، فإنه لا ريب في عدم توقّف أحد من المسلمين، بل ولا من البشر عموماً في ذلك.

ولم يقل أحد أن ذلك يوجب كفراً أو زندقة أو شركاً، والحال إنه على مقتضى كلامهم لابدّ أن يكون ذلك كفراً وشركاً; لأن الحدّ الذي ذكروه لبيان معنى الشرك ينطبق على نداء الحيّ للحيّ وطلب الحيّ الحاجة من الحيّ واستغاثته به، كما

الصفحة 231
في قوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ}(1) وكذا في التوسّل والتشفّع وتوسيط الحيّ للحيّ، فإنه لم يدّع أحد أن ذلك من الشرك والكفر، مع أن حدّ الشرك الذي زعموه ينطبق عليه تماماً.

لا سيما وأن هذه المباحث من المباحث العقلية التكوينية وهي لا تقبل التخصيص، بخلاف المباحث الاعتبارية الجعلية التي قد لا تكون مطّردة في جميع المصاديق.

ثم إن أصحاب هذه المقالة حاولوا أن يجيبوا عن هذا النقض بجوابين:

الأول: إن سؤال الحيّ الحاضر بما يقدر عليه والاستعانة به في الأمور الحسّية التي يقدر عليها ليس ذلك من الشرك، بل من الأمور العادية الحياتية الجائزة بين المسلمين.

الثاني: إن الأمور العادية والأسباب الحسّية التي يقدر عليها المخلوق الحيّ الحاضر ليست من العبادة، بل تجوز بالنصّ والاجماع، بأن يستعين الإنسان بالإنسان الحيّ القادر في الأمور العادية، التي يقدر عليها كأن يستعين به أو يستغيث به في دفع شر ولده أو خادمه أو كلبه، وما أشبه ذلك، وكأن يستعين الانسان بالانسان الحيّ الحاضر القادر أو الغائب بواسطة الأسباب الحسّية، كالمكاتبة ونحوها في بناء بيته أو إصلاح سيارته أو ما أشبه ذلك، ومن ذلك الاستغاثة التي جرت لأحد بني إسرائيل عندما استغاث بموسى (عليه السلام) في قوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}(2)، وكذا استغاثه الانسان

____________

1- القصص: 15.

2- القصص: 15.


الصفحة 232
بأصحابه في الجهاد أو الحرب أو نحو ذلك، وأما الاستغاثة بالأموات والجنّ والملائكة والأشجار والأحجار فذلك من الشرك الأكبر، وهو من جنس عمل المشركين الأوّلين مع آلهتهم كاللاّت والعزّى وغيرهما.

دفع الجوابين:

جحود التوسّل يستند إلى التفويض

أما الجواب الأول: فالوهن فيه واضح; لأنه يقول الاستعانة بالانسان الحيّ القادر على الأمور العادية الحسّية ليس من الشرك، وكونه حيّاً أو ميّتاً لا يؤثّر في تحقّق الغيرية مع الله عزّ وجلّ، والشرك ـ بحسب زعمهم ـ قائم بالغيريّة مع الله تعالى، والغيريّة لغة وعقلاً لا تختلف سواء جعل مصداق الغير والغيريّة الحيّ أو الميّت، فإن أحد الأجزاء المقوّمة لحصول الشرك كما ذكروا هو ضمّ غير الله تعالى إليه، وهذا لا يختلف في تحقّقه سواء كان الغير حيّاً أو ميّتاً، فالتفريق بلا فارق.

وأما ما ذكروه من التعلّق بالقادر، حيث قيّد الجواب بالقادر، فنقول فيه: إن كانت القدرة التي يعتقدها للحيّ نابعة من ذاته بلحاظ الاستقلال لا من إقدار الله عزّ وجلّ وتمكينه فهو الشرك الأكبر، وقد كرّ هذا المجيب على ما فرّ منه.

وأما إن كان يعتقد أن هذه القدرة من الله تعالى ومضافة إلى المخلوق من قبل الخالق فأي فرق بين الحيّ والميت؟! فكما قد يُقدر تعالى الحيّ يُقدر روح الميّت على ما أقدر عليه الحيّ.

ثم إنه لا معنى للتفريق أيضاً بين الاستعانة بالأمور العادية وغيرها، فهل إن

الصفحة 233
قدرة الله تعالى تنحسر في الأمور العادية والحسّية ويكون هناك ندّ فيها لقدرة الربّ عزّ وجلّ وهي قدرة الحيّ الحاضر؟! فإن هذا هو القول بالثنوية، ومعناه أنه في الأمور غير العادية لابدّ من التوحيد بقدرة الربّ فيها وأما في الأمور العادية فنؤمن بالثنوية.

وحيث أن الثنوية باطلة وشرك صريح فلابدّ من التوحيد في جميع الأفعال الإلهية، وأنها كلّها تستند من دون جبر إلى الباري عزّ وجلّ، من دون أي درجة من درجات التفويض، وحينئذ يستوي الحال في الأمور العادية والأمور غير العادية.

جحود التوسّل يستند إلى المذاهب الحسيّة المادية:

ثم ما هو الفرق في التوسّل في شفاء مريض على يد طبيب نادرة زمانة وبين التوسّل بأحد أولياء الله تعالى في الشفاء؟!

فإن مورد الحاجة في هذا المثال عادي، فهل الكلام في مورد الحاجة وأنه لابدّ أن يكون من الأمور العادية أو في السبب المتوسل به؟ وما هو الفرق في السبب بين العادي وغير العادي إذا كان الأمر بيد الله تعالى وهو على كلّ شيء قدير؟!

مع أن الأدلّة الشرعية والدراسات الحديثة العلمية أثبتت أن طاقات البدن البرزخي لا تقاس بطاقات بدننا المادّي وقدرته، وأن البدن البرزخي يحتوي على طاقات هائلة تفوق قدرة أبداننا المادّية بكثير جدّاً، وعليه كيف نتصور أن الحيّ قادر على قضاء الحوائج بما لا قدرة للميت عليه بروحه وبدنه البرزخي؟!


الصفحة 234
أضف إلى ذلك كلّه أن تقييد الاستعانة والتوسّل بالأمور الحسّية ناشي من الايمان بأصالة الحسّ والمادّة والتنكّر للعوالم المخلوقة الأخرى التي ما وراء الحسّ والمادّة، وأن كلّ ما غاب عن الحسّ ينكر، وهذا الكلام أشبه بالفلسفات المادّية الحسّية، التي آمنت بأضعف العوالم وأدنى المراتب الوجودية وتنكّرت لبقيّة العوالم العلوية.

هذا بالنسبة إلى دفع الجواب الأول.

تفصيل الجاحدين للتوسّل في الوسائط:

وأما الجواب الثاني: إن صاحب الشبهة بعد أن استشعر أن الجواب الأوّل غير موزون من الناحية العقلية تشبّث بالنصّ والإجماع وأن توسّل وتشفّع الحيّ بالحيّ في الأمور العادية الحسّية جائزة بالنصّ والإجماع، وأما الاستغاثة والتوسّل بالأموات فهو من جنس عمل الوثنية.

والتمسّك بالدليل النقلي في المقام، سواء في جانب الجواز أو النفي غير تام من وجوه:

الأول: إن بحث الشرك بحث عقلي لا سيما في الشرك الأكبر، فهو من أوليّات العقيدة التي للعقل فيها دور ومجال واسع، وإذا كان عقلياً يرد عليه ما ورد في الدفع الأول، من أن حكم العقل وانطباق حدّ الشرك على الحيّ الحاضر والميّت سواء.

الثاني: الاستدلال على التحريم بأن الطلب من الأموات من جنس عمل الوثنيين، تمسّكاً بعموم دليل التحريم، مع أن موضوعه ومصبّه ما لم يأذن به الله

الصفحة 235
عزّ وجلّ، إذ سبق أن محطّ ومصبّ انكار العقيدة الوثنية في القرآن الكريم هو التوجّه إلى ما لم يأذن به الله تعالى ولم ينزل به سلطاناً، وكونه تحكيماً لسلطان العبيد وإرادتهم على سلطان الله وإرادته، ولم يكن المحذور في أصل الوساطة، وسبق أيضاً أن الله عليّ حكيم، متعال عن الجسمية والتجسيم وحكيم غير معطّل، فلابدّ من الوسائط والحجج، والعبادة إنما تتحقّق بالطوعانية لله تعالى وإن كان التوجّه بالفعل إلى الحجر كالتوجّه إلى الكعبة الشريفة، والشرك إنما يتحقّق بالاستكبار على الله تعالى حتّى مع نفي الواسطة كما في إبليس.

الثالث: إذا كان توسيط غير الله تعالى شركاً، فكيف يعقل تجويزه بالنصّ؟! فإن الله عزّ وجلّ لا يأمر بالشرك.

وهذا يعني أن توسيط الغير بحدّ ذاته ليس شركاً، فإذا جازت الاستغاثة بالحيّ لقيام النص والاجماع، أي الإذن الشرعي، فلا فرق إذن في الاستغاثة بين الحيّ والميّت ما دام المجوّز لذلك هو الإذن، إذ يتّضح أن المدار في الشرك ليس على الغيرية مع الله تعالى كما فرضه القائل، بل على الإذن وعدمه وعلى وجود الأمر وعدمه، وقد أذن الله عزّ وجلّ بذلك في كثير من الآيات القرآنية، كما تقدّم في قصة آدم وغيرها.

الشبهة الثانية: التوسّل خلاف كلمة التوحيد

إن التوجّه والقصد والدعاء والنداء لغير الله عزّ وجلّ ينافي مقتضى كلمة التوحيد، وهي قول (لا إله إلاّ الله).

بيان ذلك:


الصفحة 236
اختلف المفسّرون في بيان قول (لا إله إلاّ الله):

فهل المراد من تلك الكلمة المباركة التوحيد في الذات أو التوحيد في الصفات والأسماء أو التوحيد في الأفعال أو التوحيد في الخضوع والعبادة؟

وهذا الاختلاف ناشئ من الاختلاف في تفسير معنى الألوهية (لا إله) وتفسير معنى لفظة (الله).

فهل اسم الجلالة علم للذات أو هو اسم مشتقّ من التأليه؟

فإن كان مشتقّاً من التأليه وباق على المعنى الوصفيّ حينئذ يكون المعنيان متحدّين أو متقاربين.

وأما إذا كان لفظ الجلالة في الأصل علماً للذات فيكون على خلاف المعنى الأول وهو الألوهية والتأليه في مقطع (لا إله).

وكيفما كان; فإن لفظ (إله) الذي جاء في كلمة التوحيد معناه في اللغة من أله يأله إذا تحيّر، ومعنى ولاه أن الخلق يولهون إليه في حوائجهم ويضرعون إليه فيما يصيبهم، ويفزعون إليه في كلّ ما ينوبهم، كما يوله كلّ طفل إلى أمه(1).

إذاً فالمعنى اللغوي يتضمّن طلب الشيء والتوجّه نحوه.

وأما الإله في الاصطلاح:

فقد اختلفوا في بيان معناه; فبعض قال: هو بمعنى الاتجاه والقصد، وبعض آخر فسّره بالحبّ والعشق، وثالث قال: وله يأله من عبد يعبد، ورابع قال: وله يأله بمعنى اتخذه ربّاً وخالقاً، وغير ذلك من المعاني التي ذكرت لمعنى (إله).

ولكن اتفقوا على أن التأليه فعل المخلوق، فأله ووله إنما يحكي شأن

____________

1- لسان العرب: ج13 ص467.


الصفحة 237
المخلوق وهو التوحيد في العبادة، وأما توحيد الذات أو الصفات أو الأفعال فإنما هو مرتبط بالواقعية ونفس الأمر، وأن هناك ذات واجبة قيّومة غنية الذات لها الأسماء الحسنى والكلمات التامّة وهذا كلّه غير مرتبط بفعل المخلوقات.

ولذلك يقال إن كلمة (لا إله إلا الله) تختلف عن التعبير بـ (يامن لا هو إلاّ هو)، فإن مفاد هذه العبارة غير مرتبط بفعل العبد، بل هو إخبار عن نفي أي ذات مستقلة واجبة الوجود إلاّ ذات الله عزّ وجلّ.

ولكن عندما نقول: (لا إله إلا الله) فإن التأليه فيه مادّة مأخوذة من فعل العبد وليس هو وصفاً أو معنىً قائم بذات واجب الوجود.

ومن ثم يقال إن النبيّ (صلى الله عليه وآله) بعث بكلمة (لا إله إلاّ الله) ولم يبعث بـ (يا من لا هو إلاّ هو)، إذ أن هذا توحيد الذات، والبشريّة قد أقرّته واعتقدت به، وهي الآن في خطىً متقدّمة من التوحيد الأفعالي والتوحيد في العبودية.

والخلاف في زمن البعثة مع المشركين ليس في توحيد الذات، بل في توحيد العبودية وتوحيد الدعاء والطلب والتوسّل والتوجّه أو في توحيد الأفعال باسنادها إلى الله عزّ وجلّ.

فالنبيّ (صلى الله عليه وآله) بُعث بالتوحيد في الألوهية والعبادة والخضوع والخشية والوله والتوجّه، فلابدّ من ترك الدعاء والتوسّل والعبادة لغير الله تعالى، وهو ما كان عليه مشركي العرب.

والحاصل: أن معنى الشرك الذي حاربه الاسلام بكلمة التوحيد هو جعل أنداد لله تعالى يستغاث ويتوسل بهم، فالتوسل جاهلية جديدة استُبدلت بالجاهلية القديمة.


الصفحة 238

الجواب عن الشبهة الثانية:

كان حاصل هذه الشبهة هو أن مقتضى قول: (لا إله إلاّ الله) هو التوحيد في العبادة، فإذا دعي غير الله عزّ وجلّ كان هذا نوعاً من العبادة والتأليه لغير الله عزّ وجلّ.

والجواب عن هذه الشبهة اتضح مما ذكرناه في الدليل العام وكذلك ما ذكرنا من الجواب على الشبهة الأولى، وحاصله: أن التوسّل بالوسائط الإلهية التي أمر الله عزّ وجلّ بالتوجّه إليها هي عبادة لله تعالى وطاعة وانصياعاً لأوامره وليس هو عبادة للوسائط، بل قلنا إن التوسّل طوعانية للأوامر الإلهية وهو عين التوحيد التام، فالتوسل مقتضى التوحيد في العبادة وجحوده وإباؤه هو الاستكبار والكفر المنافي لكلمة التوحيد، ونبذ التوسّل جاهلية إبليس الذي أبى واستكبر وكان من الكافرين، فالتوسّل بالوسيلة المنصوبة لله تعالى هو قصد لله والصدّ عن تلك الوسيلة صدّ عن التوجّه إليه تعالى; لأن المفروض أن تلك الوسيلة والآية والكلمة هي علامة يُهتدى بها إليه تعالى، وتفتّح بها أبواب سماء الحضرة الإلهية، والعلامة سمة ووسم وإسم إلهي يُدعى به، بل إن قول القائل التوسّل بالله معنى مقلوب غير صحيح، فإنّ الباري تعالى لا يجعل وسيلة إلى غيره; إذ ليس وراء الله منتهى ولا غاية كي يجعل هو تعالى واسطة إليها، بل هو غاية الغايات، وإلى شموخ عظمته توسّط الوسائط ويتوسّل بالوسائل، وقد تقدّم أن الاعتقاد بضرورة الواسطة والوسيلة إلى الله تعالى هو حاقّ حقيقة تعظيم الله وتنزيهه، ولم ينكر القرآن على المشركين هذه العقيدة، وهي ضرورة الحاجة إلى الوسيلة بين العبيد وخالقهم; ليقتربوا من خالقهم، لضرورة الحاجة إلى التقرّب والنجاة

الصفحة 239
من البعد من جهة العبيد، وإن كان الباري تعالى قريب من كل مخلوقاته على السواء، إلاّ أن مخلوقاته ليست في القرب منه على استواء ولا في القرب من عظمته ونوره وعلمه وقدرته على سواسية، فضرورة الحاجة إلى الوسيلة والقيام بالتقرب ضرورة نابعة من العبودية والفقر إلى الغني المطلق، وهذا ما لم ينكره القرآن على المشركين، كيف وهي عين التوحيد والتعظيم، بل إنما أنكر عليهم اتخاذ الوسائل والوسائط من قبل أنفسهم ومن قرائحهم ومن فرض إرادتهم في تعيين الوسيلة على إرادة الله، وهي من تكبّر المعبود على العابد، فالإنكار عليهم نشأ من كونهم توسّلوا بوسائل وأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، ومن ذلك يكون الجاحدون لضرورة التوسّل بالوسائط المنصوبة من قبله تعالى أشدّ جاهلية من المشركين; لأنهم لا يرجون لله وقاراً ولا تعظيماً، فيجعلون الباري تعالى منالاً تحت أيديهم، لأن إنكار الحاجة إلى الوسيلة والوسائل هو إنكار لعظمة الله وكبريائه وعلوّ شأنه ورفعته وعزّته وجبروته وكينونته بالأفق الأعلى، في حين قاهريته تعالى وهيمنته على تمام مخلوقاته وأنه خبير بصير، إلاّ أن الحال من ناحية المخلوق تجاه الخالق هو بُعد المخلوق عن معرفة خالقه وبعده عن مقام الزلفى لباريه وكذا بعده عن حظوة الكرامة عند خالقه، وبعده عن استحقاق الإجابة والمنّ والتفضّل الإلهي، بعد كون المخلوق في حُجب التقصير والقصور والجهل والجهالة، مما يستحق بها الطرد لا القرب والإبعاد لا الدنو والعقوبة لا الثواب والحرمان لا الإنعام، فكل هذه الحجب المانعة عن القرب يزيلها العبد بوجاهة الوسيلة عند الربّ العظيم، لا سيّما وأن اللجوء إلى الوسيلة التي هي آية للربّ المتعال هو لُجأ إلى الجناب الإلهي،