الصفحة 240
وتعظيمها تعظيم للفعل الإلهي وزيادة خضوع للربّ بالخضوع إلى ما هو بمنزلة صفاته في مقام الفعل فضلاً عن مقام ذات عزّه تعالى.

الشبهة الثالثة: التوسّل مخالف للآيات القرآنية

حاول أصحاب هذه الشبه الاستناد إلى بعض الآيات القرآنية، وادّعوا أنها تدلّ على أن التوسّل والقصد لا يكون إلاّ لله عزّ وجلّ، وأن التوسّل بغيره شرك وإلحاد، منها الآيات التالية:

1 ـ قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الاَْسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(1).

فقوله تعالى: {فَادْعُوهُ بِهَا} معناه أنه في مقام الدعاء والتوجّه لا يُدعى إلاّ بأسماء الله عزّ وجلّ، وأما غير الأسماء الإلهية فيشملها قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} أي ينحرفون عنها إلى أسماء المخلوقات، كقول القائل: يا محمّد ويا عليّ ويا فاطمة، فإن هذا ـ بحسب زعمهم ـ انحراف وإلحاد في أسماء الباري تعالى.

2 - قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}(2).

3 - قوله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ}(3).

4 - قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ

____________

1- الأعراف: 18.

2- الجن: 18.

3- يونس: 106.


الصفحة 241
اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}(1).

5 - قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُواْ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا}(2).

هذه الآيات المباركة لسانها واحد واستدلالهم بها قريب من الاستدلال بالآية الأولى، حيث أن هذه الآيات القرآنية تنهى عن أن يدعو الإنسان مع الله أحداً، أي لا يعبد مع الله مخلوقاً من المخلوقات، وإذا كان الدعاء روح العبادة وقوامها فسوف يكون منهيّاً عنه بمقتضى صريح هذه الآيات الكريمة; لكونه من الشرك الصريح.

6 ـ قوله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}(3).

7 ـ قوله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِى يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ}(4).

وهذا اللسان من الآيات القرآنية يؤكّد على أن التوجّه إلى الغير بغية الاستنصار به شرك ومغالاة يوجب الخذلان الإلهي.

8 ـ قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}(5).

9 ـ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ

____________

1- الحج: 62.

2- الجن: 20.

3- آل عمران: 126.

4- آل عمران: 160.

5- يونس: 18.


الصفحة 242
زُلْفَى}(1).

فهاتان الآيتان دلّتا على وجوب نبذ مقالة المشركين الذين جعلوا أصنامهم شركاء في الدعاء والتوسّل والتقرّب والتشفّع والوساطة بينهم وبين الله عزّ وجلّ، والإسلام جاء لكسر مثل هذه الأصنام وإبطال عقيدة الصنمية والوثنية والمغالاة والتشفّع والتوسّل بغير الله تعالى، وهو ما ابتلى به مشركو العرب، إذ لم يكن شركهم في ذات الله تعالى أو صفاته، بل كان شركهم شركاً في العبادة والدعاء والاستغاثة والتوسّل.

فيُعلم من هذه الآيات أن التوحيد في العبادة والدعاء والاستغاثة والتوسّل أساس الدين، وهدف الرسالة الإسلامية الخاتمة، وذلك لأن صحة الأعمال والنسك العبادية مشروطة بصحّة العقيدة، فمن يعمل ويعبد وكان في معتقده الدينيّ شيء من الغلو والصنمية للأشخاص يحبط عمله كلّه، ويستدلّون لذلك بقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(2)، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(3)، فصحّة العقيدة بالتوحيد شرطاً في صحة وقبول الأعمال، ولابدّ حينئذ من نبذ كلّ ما يوجب الشرك وبطلان العقيدة، كالتشفّع والتوسّل بغير الله تعالى.

الجواب عن الشبهة الثالثة:

الشبهة الثالثة عبارة عن تمسّكهم ببعض الآيات القرآنية التي زعموا أنها

____________

1- الزمر: 3.

2- الزمر: 65.

3- الأنعام: 88.


الصفحة 243
تنهى عن التوجّه والقصد إلى غير الله عزّ وجلّ منها:

قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الاَْسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}(1)، فلا يجوز التوسّل والدعاء بغير الأسماء الحسنى التي جاءت في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُواْ فَلَهُ الاَْسْمَاءُ الْحُسْنَى}(2).

إذن لابدّ من التوحيد في الدعاء الذي هو مخّ العبادة ولا يجوز القصد والتوجّه في الدعاء إلى غير الله عزّ وجلّ وأسمائه الحسنى; لأنه شرك وإلحاد بالأسماء الإلهية.

الجواب الأول: حقيقة الأسماء الالهية مستند للتوسّل

في البدء لابدّ من الإجابة عن التساؤل التالي:

ما هو المراد من الأسماء الإلهية الواردة في الآيات المباركة؟

الاسم في اللغة عبارة عن السّمة والعلامة.

قال ابن منظور: (واسم الشيء علامته).

(قال أبو العباس: الاسم وسمة توضع على الشيء يُعرف به، قال ابن سيدة: والاسم اللفظ الموضوع على الجوهر أو العرض لتفصل به بعضه عن بعض، كقولك مبتدئاً: اسم هذا كذا).

(قال أبو إسحاق: إنما جعل الاسم تنويهاً بالدلالة على المعنى)(3).

____________

1- الأعراف: 180.

2- الإسراء: 110.

3- لسان العرب: ج14 ص401 ـ 403.


الصفحة 244
إذن اسم الشيء سمته وعلامته وصفته الدالّة عليه.

والأسماء والصفات تنقسم إلى ذاتية وفعلية، فللّه تعالى أسماء وصفات ذاتية هي عين ذاته غير زائدة عليها، وله عزّ وجلّ أسماء وصفات فعلية هي عين فعله.

فالقدرة والعلم والحياة صفات ذاتية يُشتقّ منها القادر والعالم والحيّ، وهي أسماء ذاتية غير زائدة على الذات الإلهية المقدّسة.

والخلق والرزق والتدبير والربوبية والحكم والعدل وغيرها صفات فعلية يشتقّ منها أسماء فعلية، هي الخالق والرازق والمدبّر والربّ والحكم والعدل، ولا ريب أن الأسماء الفعلية غير الذات وليست عينها مخلوقة لها مشتقّة من أفعاله عزّ وجلّ.

ولا ريب أيضاً أن جملة وافرة من الأسماء الإلهية هي أسماء فعلية مشتقّة من أفعاله ومخلوقاته تعالى.

والمخلوق يكون اسماً لله عزّ وجلّ بملاحظة صدوره من خالقه وأنه فقير له متقوّم به ليس له من نفسه شيء، دالّ بسبب افتقاره بما فيه من كمال على كمال خالقه وباريه، فهو سمة وعلامة على صانعه، وما فيه من عظمة وحكمة دالّة على عظمة وحكمة الخالق; إذ ليس له من ذاته إلاّ الفقر والاحتياج.

الجواب الثاني: الكلمة والآية:

إن الكلمة والآية مع الاسم متقاربة المعنى متّحدة المضمون، فهي وإن لم تكن ألفاظاً مترادفة، إلاّ أن مضمونها والمراد منها في اللغة وفي القرآن الكريم واحد، وهو الدلالة على الشيء والعلامّية والمرآتية له.


الصفحة 245
ففي لسان العرب:

(الآية العلامة) (وأيّا آية: وضع علامة).

وفيه أيضاً: (وقال ابن حمزة: الآية في القرآن كأنها العلامة التي يفضى منها إلى غيرها كأعلام الطريق المنصوبة للهداية)(1).

كذلك قال في اللسان:

(كلمات الله أي كلامه وهو صفته وصفاته)(2).

أضف إلى ذلك أن الكلمة في حقيقتها دالّة على مراد المتكلم وكاشفة عنه.

إذن الأسماء والآيات والكلمات في شطر وافر منها عبارة عن مخلوقات دالّة بوجودها على وجود صانعها، ودالّة بعظمتها واتقانها وهادفيتها على عظمة وقدرة وحكمة الباري عزّ وجلّ، ومن ثمّ يكون كلّ مخلوق إسماً من أسماء الله تعالى وآية من آياته وكلمة من كلماته، ولكن الأسماء والآيات والكلمات على درجات في الصغر والكبر، فكلّما كان الاسم أعظم والآية أكبر، لما أعطيت من المقامات والكرامات الإلهية كلّما كانت آيتيّة ذلك المخلوق وإسميته أعظم، لا سيما المخلوق الأول وهو نور النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام).

وقد ورد هذا الاستعمال في القرآن الكريم في موارد كثيرة جدّاً، منها:

1 ـ قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً}(3).

2 ـ قوله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا

____________

1- لسان العرب: ج4 ص61 ـ 62.

2- لسان العرب: ج12 ص522.

3- المؤمنون: 50.


الصفحة 246
آيَةً لِلْعَالَمِينَ}(1).

3 ـ قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَة مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}(2).

4 ـ قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}(3).

5 ـ قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الِْمحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَة مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}(4).

فقد أطلق في هذه الآيات المباركة على مريم (عليها السلام) أنها آية، وعلى عيسى (عليه السلام) أنه كلمة الله وآيته للعالمين.

6 ـ قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الاَْسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(5).

7 ـ قوله تعالى: {فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَات فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(6).

8 ـ قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ

____________

1- الأنبياء: 91.

2- آل عمران: 45.

3- النساء: 171.

4- آل عمران: 38 ـ 39.

5- البقرة: 31.

6- البقرة: 37.


الصفحة 247
إِمَامًا}(1).

9 ـ {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}(2).

فإن هذه المخلوقات العظيمة عند الله عزّ وجلّ أسماء وآيات وكلمات وعلامات لله تعالى، وحينئذ تكون مشمولة لإطلاق قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الاَْسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}(3) فهذه الآية المباركة وغيرها، التي ذكروها للتدليل على مدّعاهم لا تعني النهي عن التوجّه إلى الله عزّ وجلّ بالوسائط، بل هي توجب وتعيّن التوجّه إلى الله تعالى بأعاظم مخلوقاته وأسمائه الفعلية.

إذن ليست الآية المباركة غير صالحة للاستدلال بها على مدّعاهم فحسب، بل هي تحكمهم وتدينهم بالإلحاد عن أسمائه وتنصّ على ضرورة توسيط الأسماء الإلهية والمخلوقات الوجيهة عند الله تعالى، ولابدّ من عدم الالحاد فيها والاعراض عنها في الدعاء.

لكن لابدّ من الالتفات إلى أن النظرة إلى الوسائط لابد أن لا تكون نظرة استقلالية وموضوعية وبما هي هي، بل لابدّ أن تكون نظرة آلية حرفية آيتيّة، أي بما هي يُنظر بها إلى الله تعالى، فالتوجّه بها لا إليها بما هي هي.

وبناء على ذلك يكون التعاطي مع الأسماء والآيات والوسائط على ثلاثة مناهج:

الأول: منهج إبليس وهو رفض وساطة الآيات والأسماء والمخلوقات

____________

1- البقرة: 124.

2- الأنعام: 115.

3- الأعراف: 180.


الصفحة 248
الوجيهة عند الله عزّ وجلّ وإنكارها والإلحاد بها والصدّ عنها، وهذا شرّ المناهج، وهو الكفر والحجاب الأعظم; إذ مع الالحاد في تلك المخلوقات العظيمة والأسماء الإلهية لا يمكن التوجّه والزلفى إلى الله عزّ وجلّ; لأنه ليس بجسم وهو حقيقة الحقائق والمقوّم لها، فلا يجابه ولا يقابل، فلابدّ من التوجّه إلى المظاهر والمجالي والآيات.

الثاني: وهو منهج المغالين الذين ينظرون إلى الأسماء الإلهية بالنظرة الاستقلالية وبما هي هي ويتوجّهون إليها لا بها، وهذا أيضاً من الشرك والحجاب الذي يمنع عن معرفة الله تعالى، ولكنّه أهون من سابقه; إذ أصحابه على سبيل نجاة فيما إذا شملهم الله عزّ وجلّ بلطفه ورأوا ما وراء الآية من الحقائق، بخلاف من أعرض عن الآية بالمرّة.

الثالث: التوجّه بالآيات وتوسيطها في الدعاء، وهذا هو التوحيد التام الذي يوصل إلى معرفة الله تبارك وتعالى.

فالنظرة في هذا المنهج إلى الأسماء الإلهية الفعلية من حيث هي مخلوقة للباري تعالى ومرتبطة به ومفتقرة إليه ودالّة عليه، وأكرم المخلوقات وأعظم الآيات هم النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) ; إذ حباهم الله عزّ وجلّ بالكرامات والمقامات التكوينية، التي تفضل جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين، فهم (عليهم السلام) الأسماء التي تعلّمها آدم وفُضل بها على الملائكة كلّهم أجمعون، وذلك بنصّ سورة البقرة في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الاَْسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(1)، حيث جاء

____________

1- البقرة: 31.


الصفحة 249
التعبير فيها بـ (عرضهم) ولم يقل: عرضها، وكذا التعبير بـ (هؤلاء) ولم يقل: هذه، كلّ ذلك يدلّ على أن تلك الأسماء موجودات نورية مخلوقة حيّة شاعرة عاقلة، أفضل من جميع الملائكة، ولم يعلم بها الملائكة ولا يحيطون بها وهي تحيط بهم وهي أوّل ما خلق الله تعالى، فهم عباد ليس على الله أكرم منهم، أُسند إليهم ما لم يسند إلىغيرهم، ومكّنهم الله عزّ وجلّ ما لم يمكّن به غيرهم بإرادته وإذنه وسلطانه.

والحاصل: إن تلك الآيات التي ذكروها لنفي التوسّل تدلّ على ضرورة التوجّه والتشفّع والتوسّل بالآيات الكبرى، والأسماء الفعلية الحسنى والعظمى وهم محمّد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) ـ إلى الله عزّ وجلّ، والباء في قوله تعالى: {فَادْعُوهُ بِهَا} للتوسيط وجعل الآيات والأسماء واسطة; ولذا ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال:

"يا هشام الله مشتق من إله، وإله يقتضي مألوهاً، والاسم غير المسمّى، فمن عبد الإسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئاً، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد الإثنين، ومن عبد المعنى دون الإسم فذاك التوحيد، أفهمت يا هشام؟ قال: قلت: زدني، قال: لله تسعة وتسعون إسماً فلو كان الإسم هو المسمى لكان كل إسم منها إلهاً، ولكن الله معنى يُدلّ عليه بهذه الأسماء وكلّها غيره، يا هشام الخبز اسم للمأكول والماء اسم للمشروب والثوب اسم للملبوس والنار إسم للمحرق، أفهمت يا هشام فهماً تدفع به وتناضل به أعداءنا المتخذين مع الله عزّ وجلّ غيره، قلت: نعم، فقال: نفعك الله به وثبّتك يا هشام،

الصفحة 250
قال: فوالله ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا"(1)، فبيّن (عليه السلام) أن الإسم غير المسمى وهو الذات الإلهية ومغاير لها، ولو كان الاسم هو عين الذات الإلهية لكان كل اسم إلهاً ولتكثرت الآلهة، ولكن الله ذات أحدية واحدة يُدلّ عليه وله علامات هي هذه الأسماء المتكثرة المتعدّدة، فالأسماء آيات وعلامات وكلمات دالّة ووسيلة إلى الذات، فظهر أن قوله تعالى: {لِلَّهِ الاَْسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}(2) برهان قرآني على ضرورة الوسيلة، وهي الكلمات والآيات الإلهية، بأن يدعى الله بها، فلا يُدعى الله بدونها، بل لابدّ من توسيطها في دعاء الله، وذلك بالتوجّه بها إليه، فلابدّ من تعلّق التوجّه بها كي يتوجّه منها إلى الله، ولابدّ من تعلّق الدعاء بها ليتحقّق دعاء الله تعالى، وقد جعلت الآية الإعراض عن الأسماء والكلمات والآيات الإلهية إلحاداً ومجانبة وزيغاً عن الطريق إلى الله، ومن ثمّ قد أُكّد في الآية أن الأسماء الإلهية بكثرتها الكاثرة هي برمّتها ملك لله تعالى مملوكة له، فالاستخفاف بها استخفاف بالعظمة الإلهية، وجحود وساطتها استكبار وتمرّد على الشأن الإلهي، ومنه يعرف اتحاد الإسم والوجه وأن الأسماء هي وجه الله التي يتوجّه بها إليه، وأن من له وجاهة ووجيه عند الله هو وجه لله يتوجّه به إليه تعالى، فيكون إسماً وآية وكلمة لله تعالى.

نعم بين الأسماء والكلمات والآيات درجات وتفاضل في الدلالة عليه تعالى عظمة وكبراً.

وذلك لأن الاسم إذا كان من أسماء الأفعال يكون مخلوقاً لله تعالى وآية من

____________

1- توحيد الصدوق: ص521، أصول الكافي: ج1 ص89 باب معاني الأسماء واشتقاقها ح2.

2- سورة الأعراف 7: 180.


الصفحة 251
آياته، فالعبادة ليست له، بل لباريه تعالى، ومن ثم يتوجّه إليه كمرآة وآية يُنظر بها ولا ينظر إليها; ولذا تكون إسماً وعلامة، وأما إذا نظر إلى الاسم بما هو هو، فيكون حينئذ صنماً موجباً للشرك والكفر وهو الغلو المنهيّ عنه، ولكن هذا لا يعني رفض الأسماء والوسائط، فإن ذلك يحجب عن المسمّى أيضاً، فلا يلحد بها ولا ينظر إليها بالاستقلال بل ينظر بها، وذلك لما بيّناه سابقاً من أنه لا تعطيل ولا تشبيه، فالالحاد في الأسماء تعطيل للباري بعد عدم كونه جسماً يقابل أو يجابه أو يشابه مخلوقاته وهو نفي الجسميّة، فلا محيص عن التوجّه بالأسماء، لا سيّما الاسم الأعظم وهو أوّل ما خلق الله عزّ وجلّ، نور النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، الذين بواسطتهم وصل آدم إلى ما وصل إليه من الخلافة، عندما علّمه الله عزّ وجلّ تلك الأسماء الحيّة الشاعرة العاقلة المجرّدة النوريّة، التي هي أعظم آيات الباري تعالى وأفضل من جميع الملائكة.

الكلمات التامّات:

هناك آيات عديدة تدلّ بمعونة الروايات الواردة فيها ـ على أن الكلمات التامّات والآيات الكبرى لله عزّ وجلّ هم النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) منها:

1 ـ ما تقدّم من قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الاَْسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(1)، وقد سبق تقريب الاستدلال بهذه الآية المباركة، وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: "إن الله تبارك وتعالى كان ولا شيء، فخلق خمسة من نور جلاله، وجعل لكلّ واحد منهم إسماً من أسمائه المنزلة، فهو الحميد وسمّى النبيّ محمّداً (صلى الله عليه وآله)، وهو الأعلى وسمّى

____________

1- البقرة: 31.


الصفحة 252
أمير المؤمنين (عليه السلام) عليّاً، وله الأسماء الحسنى فاشتقّ منها حسناً وحسيناً، وهو فاطر فاشتقّ لفاطمة من أسمائه إسماً، فلمّا خلقهم جعلهم في الميثاق، فإنهم عن يمين العرش، وخلق الملائكة من نور، فلما نظروا إليهم عظّموا أمرهم وشأنهم ولقّنوا التسبيح فذلك قوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ}(1) فلمّا خلق الله تعالى آدم صلوات الله وسلامه عليه نظر إليهم عن يمين العرش، فقال: ياربّ مَنْ هؤلاء؟ قال: ياآدم هؤلاء صفوتي وخاصّتي، خلقتهم من نور جلالي وشققت لهم إسماً من أسمائي، قال: ياربّ فبحقّك عليهم علّمني أسماءهم، قال: ياآدم فهم عندك أمانة، سرّ من سرّي، لا يطّلع عليه غيرك إلاّ بإذني، قال: نعم ياربّ، قال: ياآدم أعطني على ذلك العهد، فأخذ عليه العهد، ثم علّمه أسماءهم ثم عرضهم على الملائكة، ولم يكن علّمهم بأسمائهم، {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ}(2) علمت الملائكة أنه مستودع وأنه مفضّل بالعلم، وأُمروا بالسجود إذ كانت سجدتهم لآدم تفضيلاً له وعبادة لله، إذ كان ذلك بحقّ له، وأبى إبليس الفاسق عن أمر ربّه"(3).

2 ـ قوله تعالى: {فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَات فَتَابَ عَلَيْهِ}، ويمكن تقريب دلالة الآية إجمالاً على كون الكلمات هي النبي وأهل بيته بما تقدّمت الإشارة من

____________

1- الصافات: 165 - 166.

2- البقرة: 31 و32و33.

3- تفسير فرات الكوفي: ص56، كمال الدين وتمام النعمة: ص14، الهداية الكبرى للخصيبي: ص428 (واللفظ للأول).


الصفحة 253
إطلاق الكلمة في القرآن الكريم على النبي عيسى (عليه السلام) بما هو حجّة لله اصطفاه على العباد، فمنه يعرف أن الكلمة في استعمال القرآن تطلق على حجج الله وأصفيائه، ويشير إلى ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً}(1) حيث تومئ الآية إلى كون كلمة الله تعرف بالصدق والعدالة وهو وصف لحجج الله، وهذا الوصف أحرى بالصدق على سيد الأنبياء بعد صدقه على النبي عيسى (عليه السلام)، وقد وردت بذلك الروايات من الفريقين كما سيأتي معتضداً ذلك بأن الأسماء التي تعلّمها آدم وشرّف بها على الملائكة قد مرّ أنها عرّفت بضمير الجمع للحي الشاعر العاقل وأُشير إليها بإسم الإشارة للجمع الحي الشاعر العاقل، مما يدلُّ على أنها موجودات وكائنات حيّة شاعرة عاقلة، نشأتها في غيب السماوات والأرض لعدم علم ملائكة السماوات والأرض بها، كما أُشير إلى ذلك بقوله تعالى: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ}(2) ولا ريب أن أشرف الكائنات بنصوصية الكثير من الآيات وروايات الفريقين هو سيد الأنبياء، كما قد تبيّن أن الكلمات التي بشرفها قُبلت توبة آدم أوّلها وأسماها هو سيد الأنبياء، وحينئذ تُبيّن الآيات أن تلك الأسماء والكلمات حيث عبّر عنها بلفظ الجمع يقتضي أن مع سيد الأنبياء حجج آخرين لله تعالى شُرّف بمعرفتهم آدم وتاب الله بهم عليه، ولا نجد القرآن الكريم يُنزّل منزلة نفس النبي أحداً من الأنبياء والرسل، بل نزل علي بن أبي طالب منزلة نفس النبي (صلى الله عليه وآله) وهذه خصيصة اختصّ هو (عليه السلام) بها، كما لم يُشرك الله تعالى في طهارة

____________

1- سورة الأنعام 6: 115.

2- سورة البقرة 2: 33.