الصفحة 254
النبي وعصمته ونمط حجيّته وعلمه بالكتاب كلّه مع العديد من المقامات الأخرى أحداً من أنبيائه ورسله، لكنه أشرك أهل بيته، وهم علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، كما في آية التطهير والمباهلة ومسّ الكتاب من المطهرين من هذه الأمة وغيرها من الآيات النازلة فيهم.

فتبيّن أن قرين سيد الأنبياء (صلى الله عليه وآله) في المراد من الكلمات والأسماء هم أهل بيته (عليهم السلام).

وقد ورد في كتب الفريقين من السنّة والشيعة أن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه هم النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، فدعا الله عزّ وجلّ بواسطة الكلمات فتاب عليه.

منها: ما أخرجه الحاكم في المستدرك عن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لما اقترف آدم الخطيئة، قال: ياربّ أسألك بحقّ محمّد لمّا غفرت لي، فقال: ياآدم وكيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟، قال: ياربّ لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، فعلمت أنك لم تُضف إلى إسمك إلاّ أحبّ الخلق إليك، فقال: صدقت ياآدم إنه لأحبّ الخلق إليّ، ادعني بحقّه فقد غفرت لك ولولا محمّد ما خلقتك"(1)، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد.

ومنها: ما أخرجه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل عن ابن عباس قال: "سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه، قال:

____________

1- المستدرك: ج2 ص615.


الصفحة 255
سأل بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلاّ تبت علي فتاب عليه"(1).

ومنها: ما أخرجه السيوطي عن الإمام علي (عليه السلام) أنه ذكر أن الله عزّ وجلّ علّم آدم الكلمات التي تاب بها عليه وهي: "اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد سبحانك لا إله إلاّ أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم.

اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد سبحانك لا إله إلاّ أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم، فهؤلاء الكلمات التي تلقّى آدم"(2).

3 ـ قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ}(3).

فالكلمة اُطلقت على عيسى (عليه السلام)، وهذا الإطلاق غير خاص به (عليه السلام)، بل هو شامل لكلّ الأنبياء لا سيما أولوا العزم منهم ولا سيما خاتم النبيين، فهو أفضل الأنبياء وسيّدهم وأعظمهم، فلا محالة يكون هو الكلمة الأتمّ، وكذا من هم نفس النبيّ (صلى الله عليه وآله) وهم أهل بيته (عليهم السلام).

4 ـ قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ}(4)

فإن إبراهيم (عليه السلام) بلا شك كلمة وآية من آيات الله تعالى; لأنه أفضل من عيسى (عليه السلام)، ومع ذلك امتحنه الله عزّ وجلّ بكلمات تفوقه في المقام والمنزلة، ولمّا ثبت في الامتحان فاز بمقام الإمامة بعد الخلّة والنبوّة والرسالة، فلا محالة

____________

1- شواهد التنزيل: ج1 ص101.

2- الدر المنثور: ج1 ص60.

3- النساء: 171.

4- البقرة: 124.


الصفحة 256
تكون الكلمات هم سيد الأنبياء (صلى الله عليه وآله) وآخرين غير النبي إبراهيم والنبي عيسى وموسى وآدم (عليهم السلام).

والكلمات كما جاء في الروايات ـ هم خمسة أصحاب الكساء، فإبراهيم نال مقام الخلافة في الأرض والزلفى عند الله عزّ وجلّ بالكلمات، كما أن آدم فضّل على الملائكة وأصبح مسجوداً لهم لتعلّمه الأسماء الحسنى والآيات العظمى، وهم أهل آية التطهير (عليهم السلام).

وكذلك آدم تسنّم مقام الخلافة الإلهية بتوسّط علم الأسماء الحيّة العاقلة النوريّة، التي تحيط بجميع المخلوقات، ولا يحيط بها مخلوق من المخلوقات إلاّ بما شاء الله عزّ وجلّ.

عن المفضّل بن عمر عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام)، قال: سألته عن قول الله عزّ وجلّ: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ} ما هذه الكلمات؟

قال: "هي الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب الله عليه، وهو أنه قال: أسألك بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلاّ تبت عليّ، فتاب الله عليه إنه هو التواب الرحيم"(1).

5 ـ قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}(2).

وقد كان المعصومون الأربعة عشر كلّهم (عليهم السلام) يقرأون هذه الآية عند ولادتهم، فهم الكلمات التامات التي تمّت صدقاً وعدلاً لا مبدّل لكلماته، وقد مرّت الإشارة إلى أن نعت الكلمة بالصدق والعدالة يشير إلى حجج الله فيما

____________

1- كمال الدين وتمام النعمة: ص358.

2- الأنعام: 115.


الصفحة 257
يؤدّونه عن الله وما هي عليه سيرتهم من الصدق والعدل والعدالة، هذا كلّه بالنسبة إلى الجواب الأوّل وتفصيلاته.

الجواب الثالث: الآيات القرآنية

1 ـ وهو ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُْمجْرِمِينَ}(1).

الاستكبار على الآيات الوارد في هذه الآية المباركة نظير ما فعله إبليس، حيث أبى واستكبر أن يسجد لآدم، فكذّب بآية من آيات الله تعالى، وذلك عندما قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَار وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين}(2) وقد استند في تكذيبه هذا إلى القياس الباطل وهو لا يعلم حقائق دين الله تعالى، ولا يعلم أن جانباً آخر في آدم نوريّ يعلو على النار هو الذي أهّله لذلك المقام، وليس الطين إلاّ وجوده النازل المادّي.

ثم إن الآية المباركة ذكرت أثراً آخر من آثار التكذيب بالآيات الإلهية والاستكبار عليها، حيث قالت: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ}، ومن الواضح أن أبواب السماء إنما تفتّح حين الدعاء والعبادة والتوجّه إلى الله عزّ وجلّ وحين إرادة الزلفى والقرب، وكذلك لتصاعد الإيمان والعقيدة، كما يشير إليه قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}(3)، فهذه الآية المباركة تقول إن الذين يكذّبون بآيات الله تعالى وأسمائه وكلماته ويستكبرون عنها كما فعل إبليس لا تفتّح لهم

____________

1- الأعراف: 40.

2- الأعراف: 12.

3- سورة فاطر 35: 10.


الصفحة 258
أبواب السماء، فلا يمكنهم أن يدعوا الله أو يتقرّبوا إليه، ولا يستجاب لهم دعاؤهم ولا عباداتهم كالصلاة والصوم والحجّ.

والربط بين ترك الآية والاعراض عنها والاستكبار عليها وبين عدم القرب وعدم قبول الدعاء وعدم تفتّح الأبواب هو أن الله عزّ وجلّ ليس بمادّي ولا بجسم، فلا يمكن أن يقابل أو يجابه فلا زلفى إلاّ بالآيات والإيمان بها والطاعة والخضوع لها والتوجّه بها إلى الله عزّ وجلّ: {وَلِلَّهِ الاَْسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}، وقد مرّ في هذا الفصل وفي الفصل الثالث أن الآيات هم الحجج المصطفون، فلابدّ عند إرادة التوجّه إلى سماء الحضرة الإلهية بالدعاء والعبادة والازدلاف من التوجّه بهم والتوسّل بهم; لأن ذلك مفتاح فتح أبواب السماء، فهذه الآية تتشاهد وتتطابق مع الآية المتقدمة من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الاَْسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(1) وأن الأسماء التي يُدعى بها في مقام الدعاء والفوز على الله هي الآيات التي لابدّ من الإيمان بها والخضوع والإقبال عليها والتوجّه بها إلى الحضرة السماوية.

وهذا المضمون هو ما ورد في الروايات المتواترة من أن ولاية أهل البيت (عليهم السلام) شرط في قبول الأعمال والعقائد، فإمامتهم (عليهم السلام) مقام من مقامات التوحيد في الطاعة، وهي شرط التوحيد وكلمة لا إله إلاّ الله، فمن لا ولاية ولا طاعة له لا يقبل الله عزّ وجلّ له عملاً، كما هو الحال في إبليس، حيث لم يقبل الله عزّ وجلّ أعماله، ولم يقم له وزناً وطُرد من جوار الله وقربه.

____________

1- سورة الأعراف 7: 180.


الصفحة 259
إذن من لا يذعن بالواسطة والولاية لا يقبل له عمل، لأنه لا تفتّح له الأبواب، ولا يكون ناجياً يوم القيامة {وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُْمجْرِمِينَ}.

2 ـ وهو قوله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ}(1)، فهذه الآية جاءت في سياق واحد مع قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا ِلآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَار وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}(2)، فالسياق الواحد في هذه الآيات دالّ على أن ما فعله إبليس كان إنكاراً وظلماً لآية من آيات الله تعالى، ودالّ أيضاً على أن ثقل الميزان والقرب وقبول الأعمال إنما يتمّ بالخضوع للآيات والإيمان بها.

وليست الأصنام إلاّ الوسائل والوسائط المقترحة.

3 ـ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(3)، وتقريب الاستدلال بهذه الآية كالتقريب الذي تقدّم في الآيات التي سبقتها، ولا يخفى ما في التعبير بـ (عنها) دون التعبير بـ (عليها) من دلالة على الاعراض والإنكار لوساطة الآيات الإلهية، وأنه موجب لبطلان الأعمال والخلود في النار.

____________

1- الأعراف: 9.

2- الأعراف: 11 ـ 13.

3- الأعراف: 36.


الصفحة 260

الشبهة الرابعة: الأعمال الصالحة هي الوسيلة

التوسّل والوسيلة حقيقة العقيدة بالنبوّة والرسالة

لقد قام أصحاب هذا الاتجاه المنكر لمبدأ التوسّل بتوجيه قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}(1)، حيث فسّروا الوسيلة في هذه الآية بالطاعات والقربات والأعمال الصالحة التي يتقرّب بها العبد إلى ربّه.

وقد ورد في الأحاديث بأن العبد لا يتقرّب إلى الله عزّ وجلّ إلاّ بالطاعة والعمل الصالح، فطوعانية العبد لربّه هي وسيلته الوحيدة، وليس بين الله وبين خلقه قرابة وقرب إلاّ بالطاعة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فالجنّة يدخلها المطيع ولو كان عبداً حبشياً والنار يدخلها العاصي ولو كان سيّداً قرشيّاً.

الجواب عن الشبهة الرابعة:

كان حصيلة الشبهة الرابعة هو تمسّكهم بقوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} حيث فسّروا الوسيلة بالأعمال الصالحة من البرّ والتقوى والورع وسائر العبادات، وأن طوعانية العبد لربّه هي الوسيلة الوحيدة للنجاة والفوز بالجنة.

وفي المقدّمة نحن لا ننفي كون الأعمال الصالحة وسيلة من وسائل القرب إلى الله عزّ وجلّ، ولكن نريد أن نقول هي أحد مصاديق الوسيلة وليست الوسيلة منحصرة بها، وذلك بمقتضى نفس زعمهم من أن الوسيلة هي الأعمال الصالحة والطاعات، حيث أن أعظم الأعمال الصالحة والطاعات هو الإيمان بالله ورسوله; إذ لا يقاس بالإيمان بقيّة الأعمال من الصلاة والصيام والحج وغيرها،

____________

1- المائدة: 35.


الصفحة 261
بل إن بقية الأعمال لا تقبل ولا يثاب عليها الإنسان إلاّ بالإيمان، فإذا كان الإيمان أعظمها، والإيمان هو الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، بل إن الإيمان بالرسول (صلى الله عليه وآله) هو الهادي إلى حقيقة التوحيد، فيكون الإيمان بالرسول (صلى الله عليه وآله) من أعظم ما يتوسّل به إلى الله عند الدعاء وعند العبادة وعند التوجّه إلى الحضرة الإلهية، فهذا يقتضي كون الرسول (صلى الله عليه وآله) أعظم وسيلة، لأن الإيمان إنما حاز هذا الشرف العظيم ومكان الوساطة والوسيلية إلى الله تعالى ببركة تعلّق الإيمان بالنبي (صلى الله عليه وآله)، إذ شرف المعرفة بالمعروف الذي تعلّقت به المعرفة، كما أن شرف العلم بالمعلوم الذي تعلّق به العلم، فذات المعلوم والمعروف أشرف من العلم والمعرفة المتعلّقة بهما، ومن شرف ذات المعلوم المعروف ترشّح شرف العلم والمعرفة، فهذا يقضي بالضرورة أن أعظم الوسائل هو النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ومن ثم نُعت في القرآن الكريم بأنه رحمة للعالمين، وهذا ما أشارت إليه الأدلّة المتضافرة من أنه (صلى الله عليه وآله) صاحب الوسيلة الكبرى والشفاعة العظمى.

ولكي تكون الاجابة واضحة لابدّ من التأمل في مفاد الآية المباركة، وذلك ضمن النقاط التالية:

النقطة الأولى: ما هو المراد من الوسيلة؟

لقد جاء التعبير في الآية الكريمة هكذا {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} ولم يقل الله عزّ وجلّ (وابتغوه بالوسيلة)، وليس ذلك إلاّ للتنبيه على أن الذي يُبتغى ويُقصد لطلب الحوائج هو الوسيلة، التي تكون واسطة في الفيض بين العبد وربّه، ومعنى الآية المباركة وابتغوا الوسيلة إليه، فالابتغاء والقصد والتوجّه بالوسيلة

الصفحة 262
إلى الله عزّ وجلّ، ولا تتحقّق البُغية إلى الله تعالى إلاّ بالوسيلة; ولذا لابدّ من تحديد ما هو المراد من الوسيلة.

إن روايات الفريقين متّفقة على أن الوسيلة مقام من المقامات المشهودة والسامية للنبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وهي على طوائف متعدّدة:

منها: الطائفة التي فسّرت الوسيلة بالمقام المحمود ومقام الشفاعة المختصّ بالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وذلك كقوله (صلى الله عليه وآله): (سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنّة لا تنبغي إلاّ لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت عليه الشفاعة)(1)، وقد فهم بعض الشرّاح من هذا الحديث أن المقصود من الوسيلة فيه هي الشفاعة ذاتها(2).

ولا شك أن الروايات نصّت على أن الشفاعة هي المقام المحمود، فالشفاعة التي هي المقام المحمود لا تحلّ على الشخص إلاّ بسؤال ذلك الشخص مقام الوسيلة للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).

ومنها: الطائفة التي يظهر منها أن مقام الوسيلة والشفاعة والمقام المحمود مناصب متعدّدة للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، كقوله (صلى الله عليه وآله): "من قال حين يسمع النداء اللّهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمّداً الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إلاّ حلّت له شفاعتي يوم القيامة"(3)، وظاهر هذه الرواية تغاير المقامات الثلاثة وهي الوسيلة والمقام المحمود والشفاعة.

ومنها: الروايات التي ذكرت أن مقام الوسيلة منبر من نور ينصب للنبيّ (صلى الله عليه وآله)،

____________

1- مسند أحمد: ج2 ص168.

2- تحفة الأحوذي / المبارك فوري: ج10 ص57.

3- سنن النسائي: ج2 ص27.


الصفحة 263
فعن النبيّ (صلى الله عليه وآله) في حديث له مع أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة وضع لي منبر بين الجنة والنار من نور، لذلك المنبر مائة مرقاة وهي الدرجة الوسيلة، ثم تحفّ بالمنبر النبيّون ثم الوصيّون ثم الصالحون ثم الشهداء، ثم يجاء إليّ، فيقال لي: يامحمّد قم فارقه، قال: فأرقي حتى أصير في أعلى مرقاة من المنبر ـ إلى أن قال (صلى الله عليه وآله) ثم يقال لك: إرقَ ياعليّ، فترقى ياأبا الحسن حتّى تصير أسفل منّي بمرقاة، فأناولك يميني وأقعدك على جنبي الأيمن، وأقول: هذا الموقف الذي وعدني ربّي أنه يعطني فيك"(1).

وعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: "وفوق قبّة الرضوان منزل يقال له الوسيلة، وليس في الجنّة منزل يشبهه وهو منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) "(2).

ومنها: الروايات التي ذكرت أن مقام الوسيلة مقام حظوة وحبوة للنبيّ (صلى الله عليه وآله)، ويطول المقام بذكرها فلا حاجة إلى استعراضها، وبعض الروايات المتقدّمة فيها إشارة إلى ذلك.

ولا يوجد أي تنافي بين هذه الطوائف من الروايات، حيث أنها تثبت للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) مقاماً خاصّاً لا يدركه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل، وهذا المقام في جهة من جهاته يسمّى بالمقام المحمود وفي أخرى يسمّى بالوسيلة وفي ثالثة يسمّى بالشفاعة، وهذا أيضاً لا يتقاطع مع كون مقام الوسيلة منبر من نور; لأن التعبير بذلك للدّلالة على حظوة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وحمد مقامه عند الله عزّ وجلّ في ذلك اليوم العصيب، الذي يكون فيه كلّ الأنبياء على جانب عظيم من الوجل

____________

1- مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) / محمّد بن سليمان الكوفي القاضي: ج1 ص200، ميزان الاعتدال / الذهبي: ج2 ص25.

2- كتاب الغيبة / النعماني: ص101.


الصفحة 264
والشفقة والخشية، والكلّ يستغيث وانفساه، والنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) في تلك الحال وجيه عند الله عزّ وجلّ على منبر من نور صاحب حظوة ومكانة دون باقي البشر، فالمنبر كناية عن الوجاهة والقرب والزلفى والواسطة والشفاعة وأنه يتوسّط به إلى الله عزّ وجلّ ويستغاث به للنجاة من النار، فهو صاحب الشفاعة الكبرى، وهو القائل: "ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من اُمتي"(1).

النقطة الثانية: الرابطة بين الشفاعة والتوسّل

قلنا في النقطة السابقة أن المقام المحمود هو الشفاعة، كما نصّت على ذلك الروايات(2)، وأشرنا أيضاً إلى أن الاستشفاع بشفاعة الشفيع والتوسّل بالوسيلة وجهان لمقام واحد، ونريد الوقوف قليلاً عند هذه الحقيقة، فإن تفرقة المتكلمين والفقهاء بين الشفاعة والتوسّل صحيحة من جهة وخاطئة من جهة أخرى، وذلك لأن التوسّل والشفاعة وجهان لحقيقة واحدة لا ينفصلان عن بعضهما البعض، فالتوسل هو فعل صاحب الحاجة عند الشفيع، والشفاعة هي فعل الشفيع بينه وبين المشفوع عنده، فإذا لاحظنا جهة العلاقة والرابطة بين طالب الشفاعة والشفيع يقال توسّل واستشفاع، وإذا لاحظنا نفس العملية ولكن من جهة الرابطة بين الشفيع والمشفوع عنده فيقال لذات تلك العملية شفاعة، فالوسيلة تتلوها الشفاعة والشفاعة يتلوها قضاء الحوائج وغفران الذنوب.

وإذا كان المسلمون قد أجمعوا على ثبوت المقام المحمود والشفاعة

____________

1- البداية والنهاية / ابن كثير: ج10 ص254.

2- لاحظ مسند أحمد: ج2 ص478، المعجم الكبير للطبراني: ج2 ص48.


الصفحة 265
الكبرى للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) فهو يستلزم اجماعاً آخر وهو جواز التوسّل بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) وإن غفل شرذمة عن هذا اللازم، فإذا جازت الشفاعة من النبيّ (صلى الله عليه وآله) وهو فعل يقوم به بالإضافة إلى الله عزّ وجلّ في حقّ أصحاب الحاجات فبالتالي سوف يكون التوسّل راجحاً ومشروعاً لا محالة; لعدم تصوّر انفكاك مشروعية الشفاعة عن مشروعية التوسّل; لأن التوسّل متعلّقه طلب الشفاعة فإذا كانت الشفاعة مشروعه كيف يكون طلب المشروع غير مشروع؟!، بل حيث إن معتقد الشفاعة للنبي (صلى الله عليه وآله) دين من أسس الإيمان فلا محالة يكون التوسّل معتقد ديني من أسس الإيمان أيضاً، بل حيث كانت الضرورة قائمة على ثبوت مقام الشفاعة للنبي (صلى الله عليه وآله) فلا محالة الضرورة قائمة أيضاً على أن التوسّل من أركان العبادات.

فالذهاب إلى الوسيط وطلب توسيطه في قضاء الحاجة توسّل وعمل الوسيط شفاعة، والشفع هو الضمّ، فيضمّ الوسيط جاهه إلى حاجة المتوسل فيقضيها المشفوع عنده، فالتوسّل من مقوّمات الدعاء والتوجّه للحضرة الإلهيّة.

إذن دليل التوسّل القول بمشروعية وضرورة الشفاعة بقول مطلق.

وبناء على ذلك يكون عقد بابين مستقلّين للتوسل والشفاعة من المماشاة للغفلة التي وقع فيها أصحاب المقالة الجاحدة لعقيدة التوسّل، وإلاّ فإن باب الشفاعة لا يمكن أن ينفك عن باب التوسّل; لأن التوسّل هو طلب التشفّع.

النقطة الثالثة: عموم تشريع الشفاعة

حاول أصحاب هذه المقالة تحديد نطاق الأدلّة الدالّة على تشريع شفاعة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، حيث قالوا تارة بأن الشفاعة في دار الدنيا لا تجوز إلاّ إذا كان

الصفحة 266
النبيّ الأكرم حيّاً في هذه الدنيا، وأما بعد وفاته فلا مشروعية للشفاعة إلاّ يوم القيامة دون الشفاعة في الدنيا أو البرزخ، وقالوا أخرى بأن متعلّق الشفاعة طلب الغفران من الذنوب، وليس طلب الحاجات الدنيويّة، كشفاء المريض وغيره.

أما المزعمة الأولى: من أن الشفاعة في الآخرة فقط أو مع حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله):

فهي مبتنية على أن الشرك بالنصّ وعدم النصّ، مع أن الشرك من مدركات العقل وأحكامه، وهي غير قابلة للتخصيص، فإذا كان التشفّع شركاً فلابدّ أن يكون كذلك في جميع النشآت وسواء كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) موجوداً في دار الدنيا أو بعد وفاته.

فالتفرقة لجوء منهم إلى النصّ وأن الشرك ليس له حدّ عقلي منضبط، وهو خلاف ما عليه علماء المسلمين، من أن الشرك إما بحثه عقلي أو عقلي ونقلي وليس هو نقلياً محضاً، هذا أولاً.

وثانياً: مع فرض أن دليل مشروعية الشفاعة نقلي، فلا دليل على الاختصاص بيوم القيامة; لأن الآية مطلقة، فقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} شامل لما بعد وفاة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وهو (صلى الله عليه وآله) حيّ عند ربّه يرزق، مضافاً إلى قوله تعالى: {قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} فالنبيّ (صلى الله عليه وآله) ناظر للأعمال، والآية الكريمة مطلقة والمخاطب بها كلّ الأجيال، ولو بني على اختصاص الأحكام التي تعلّقت بالرسول (صلى الله عليه وآله) على خصوص حياته في دار الدنيا ونفي شمولها لحياته عند ربّه لاستلزم ذلك تعطيل جملة الآيات والأحكام في الدين الحنيف، ولما قامت للدين قائمة، نظير قوله تعالى: {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ

الصفحة 267
فَانْتَهُوا}(1) وقوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}(2) وقوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(3) وغيرها من الآيات والأحكام، فعلى زعمهم الواهي لابدّ أن تُخصّ هذه الآيات بخصوص حياته (صلى الله عليه وآله) في دار الدنيا دون حياته في عند ربّه.

وقد وردت روايات متضافرة تنصّ على أن الأعمال تُعرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلّ يوم أو كلّ يوم خميس أو جمعة، وأنه (صلى الله عليه وآله) يسمع السلام ويردّه، ويصلّي على من يصلّي عليه.

فما ذكر من الاختصاص بيوم القيامة باطل عقلاً ونقلاً.

وأما المزعمة الثانية: وهي أن متعلّق الشفاعة طلب الغفران لا الحاجات الدنيوية:

فالجواب عنها:

أولاً: ما ذكرناه آنفاً من اطلاق الآية المباركة، فإن متعلّقها شامل للمسائل الدنيوية أيضاً ولا دليل على التخصيص بما ذكروه.

وثانياً: إذا صحّت المقايسة التي زعموها فإن الحاجات الدنيوية أهون على الله تعالى من حاجات الآخرة، فكيف يعقل أن الشفاعة تنفذ فيما هو أكثر خطورة وهي الحياة الأبديّة، دون ما هو أقلّ خطورة وهي الحياة الدنيوية المنقطعة؟! وكيف يكون الثاني شركاً دون الأوّل؟!

ثم إن سيرة المسلمين وكذا الصدر الأول منهم تتنافي مع ما ذكره، حيث

____________

1- سورة الحشر 59: 7.

2- سورة المائدة 5: 55.

3- سورة الأعراف 7: 157.


الصفحة 268
أثبتت كتب المسلمين كما سيأتي ـ توسّل المسلمين بالنبيّ الأكرم بعد وفاته أيضاً، وسيرتهم إلى يومنا هذا جارية على التوسّل في طلب حاجاتهم الدنيوية، ولا يقتصرون في ذلك على طلب الحاجات الأخرويّة فقط.

وكذا ليس متعلّق الشفاعة غفران الذنوب والنجاة من النار فحسب، بل حتى في الرقيّ في المراتب والمقامات، فالشخص يحتاج إلى الشفاعة لعدم الأهلية في عمله للصعود إلى مقام أعلى، كما ورد ذلك في توسّل الأنبياء بسيّد الرسل (صلى الله عليه وآله)، بل هو (صلى الله عليه وآله) يشفع أيضاً للأئمة المعصومين (عليهم السلام) لرفع مقامهم ودرجتهم إلى مقامه ودرجته (صلى الله عليه وآله).

إذن متعلّق الشفاعة وسيع يشمل النجاة من النار وغفران الذنوب ورفع المقامات وقضاء الحاجات وغيرها، فالشفاعة بإذن الله تعالى متعلّقها مطلق موارد فيض الباري عزّ وجلّ.

وثالثاً: ما ورد من وصف النبيّ موسى وعيسى (عليهما السلام) بأنهما وجيهان عند الله عزّ وجلّ، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}(1)، وكذا قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَة مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}(2)، وهذا البيان ليس خاصاً بموسى وعيسى (عليهما السلام)، بل هو شامل على أقل تقدير لأنبياء أولي العزم، خصوصاً سيّد المرسلين وخاتمهم وأفضلهم محمّد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الذين أورثوا علم الكتاب كلّه، بل قد أشير إلى

____________

1- الأحزاب: 69.

2- آل عمران: 45.


الصفحة 269
ذلك في تشريع القبلة، وأنها رغم كونها وجهاً لله تعالى يتّجه إليه المصلّي في اتجاه استقباله في الصلاة، إلاّ أن الغاية منها هي الإنقياد والخضوع لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والولاية له، وهو يؤدّي للأوبة لله تعالى، حيث قال تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}(1) وقال تعالى أيضاً: {أَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}(2) وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}(3)، وللتعبير بالوجيه مدلولان التزاميان عقلي ونقلي:

أما العقلي; فلأن الله عزّ وجلّ منزّه عن الجسمية والمقابلة والمجابهة المادّية، فلابدّ من وجه يتوجّه به إليه، فالوجيه معناه هو وجه الله الذي يتقرّب به إليه وآيته الدالّة عليه، التي لابدّ أن تُوسّط وتُشفّع في التوجّه.

وأما النقلي; فهو ما ورد من أن زكاة الوجاهة الشفاعة في الخيرات.

إذن الشفاعة والوساطة مدلول التزامي عقلي ونقلي لمفهوم الوجاهة، فالوجيه هو الشفيع والوسيلة والواسطة بين العبد وربّه.

ومقتضى إطلاق كون الأنبياء (عليهم السلام) وجهاء عند الله عزّ وجلّ هو كونهم شفعاء في الخيرات وقضاء الحوائج الدنيوية والأخروية، ولا تختصّ وجاهتهم وشفاعتهم بغفران الذنوب فقط.

ومعنى ذلك أيضاً أن الأنبياء وجهاء عند الله وشفعاء في كلّ الأزمان والأدوار، من دون اختصاص بيوم القيامة أو قبل وفاة النبيّ، وذلك لإطلاق الآيات الدالّة على الوجاهة التي تلزمها الشفاعة عقلاً ونقلاً.

____________

1- سورة البقرة 2: 144.

2- سورة البقرة 2: 115.

3- سورة البقرة 2: 143.