إن الوسيلة في الآية التي ذكروها هو مقام الشفاعة الكبرى للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، واتّضح أن الوسيلة والشفاعة وجهان لمقام واحد، واتّضح أيضاً أن الشفاعة والتوسّل ركن من أركان الدين قائم في الدنيا والآخرة، سواء كان النبيّ حيّاً في دار الدنيا أو عند ربّه تعالى بعد وفاته (صلى الله عليه وآله)، وهكذا الشفاعة منصوبة في ديانة الإسلام لطلب الحوائج الدنيوية وغيرها.
وممّا يبرهن على عموم شفاعة النبي (صلى الله عليه وآله) لكلّ النشآت والعوالم ولعموم الأمور ما مرّ في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَاب وَحِكْمَة ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ لَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}(1)، حيث مرّ في الفصل الثالث أن الآية تبيّن مشارطة الله ومواثقته على النبيين في إعطائهم مقام النبوة والرسالة والمقامات الغيبية أنهم إنما يستأهلوها ويستحقّوها إذا آمنوا بخاتم النبيّين والتزموا بنصرته واتباعه وأقرّوا على أنفسهم بذلك، فالآية تبيّن أن سيد الأنبياء صاحب الوسيلة لجميع المخلوقات، بل ولأشرف المخلوقات وهم الأنبياء والرسل، وأنهم إنما نالوا المقامات الكبرى الغيبية من النبوّة والرسالة والحكمة بالتوسّل بذيل ولاية سيد الأنبياء وأهل بيته المعصومين، مع أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يُخلق بدنه حينذاك، وإنما خُلق نوره وأنوار أهل بيته قبل خلق السماوات والأرض وخلق الأنبياء، كما أشارت إلى ذلك سورة النور والروايات من الفريقين، حسب ما تقدّم في الفصل الثالث.
____________
1- سورة آل عمران 3: 81.
وأخيراً نقول:
إذا كانت الأعمال كما قالوا تُزلف وتُقرّب العبد إلى الله عزّ وجلّ وهي فيها ما فيها من عدم الخلوص وخلطها بالصالح والطالح، فكيف ظنك بمقام سيّد الرسل (صلى الله عليه وآله)؟!
فالعمل موجود مخلوق وكذا النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ولكن لا قياس ولا نسبة بينهما في الوجاهة والقرب إذا توسّل بهما العبد.
الشبهة الخامسة: التوحيد الإبراهيميّ يأبى التوسّل بغير الله
وذلك ما ورد في الحديث أن إبراهيم (عليه السلام) حين ألقي في النار (عرض له جبرئيل وهو في الهواء، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا وأما من الله فبلى)(1)، (قال جبرئيل: فسل ربّك، فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فقال الله عزّ وجلّ: يانار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم)(2) فالنبيّ إبراهيم (عليه السلام) في هذا الحديث يحصر التوجّه في الحاجات إلى الله عزّ وجلّ ويرفض كلّ واسطة ولو كانت بمنزلة جبرئيل (عليه السلام)، وهذا هو النفس التوحيدي الصحيح من مؤسّس التوحيد ومكسّر الأصنام ومجاهد الوثنية إبراهيم (عليه السلام)، إذ لم يوسّط حتى جبرئيل
____________
1- تفسير ابن كثير: ج3 ص193.
2- زاد المسير / ابن الجوزي: ج5 ص254.
إذاً لابدّ من نفي الشرك في الواسطة وطلب الحاجة; إذ لا حجاب بين الله وبين خلقه، ولم يتّخذ الله تعالى أصناماً ولا أحجاراً ولا أشخاصاً ليتوجّه بها إليه.
الجواب عن الشبهة الخامسة:
وهو ما يتعلّق بقصة إبراهيم (عليه السلام) عندما أُلقي في النار، وما جرى بينه وبين جبرئيل، حيث أن جبرئيل (عليه السلام) تدارك إبراهيم وهو في حال الهويّ في النار، وهي حالة عصيبة جدّاً، ولكن مع ذلك عندما عرض جبرئيل (عليه السلام) عليه قضاء حاجته وتخليصه من محنته، قال (عليه السلام): (علمه بحالي يغني عن سؤالي)، فقالوا إن نفس عدم سؤال إبراهيم (عليه السلام) من جبرئيل معناه أن السؤال والاستغاثة بغير الله تعالى غير جائزة.
الردّ الأول:
إن أي حادثة من الحوادث تتضمّن دائماً ملابسات تحتفّ بها لابدّ من معرفتها; لمدخليتها في استيضاح سياق تلك الحادثة، وفي المقام مسائلة جبرئيل (عليه السلام) للنبيّ إبراهيم (عليه السلام) من أجل امتحانه وابتلائه وتفقّد رسوخ إيمانه وطمأنينته ورباطة جأشه; ولذا قال له: (أما إليك فلا) ليبيّن له أنه ليس في مقام طلب الحاجة والخوف والهلع وإنقاذ الموقف وأنه مطمئن النفس ثابت الإيمان متوكّل على ربّه.
ويعزّز هذه الدعوى قول إبراهيم (عليه السلام) لجبرئيل (عليه السلام): (علمه بحالي يغني عن سؤالي) مع أن السؤال والدعاء مرغوب فيه ومحبّب عند الله عزّ وجلّ، وقد حثّ القرآن الكريم في آيات عديدة على السؤال والدعاء وطلب قضاء الحاجة من الله
إذن الدعاء من الأمور المرغوب فيها والمأمور بها، ومن الواضح المتّفق عليه أن الرواية في المقام لا تريد أن تقول أن الدعاء باللسان أمر مرجوح ومرغوب عنه، بل إن الدعاء وطلب الحاجة بالقول واللسان من الآداب الإلهية، وقد قال الله تعالى لنبيّه الأكرم (صلى الله عليه وآله): {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(1) وحاشا للنبيّ إبراهيم (عليه السلام) أن يخرج عن أعظم الآداب الإلهية ولا يتقيّد بها; إذ الدعاء أعظم العبادات وروحها.
فهذا شاهد بيّن دامغ على أن كلام إبراهيم (عليه السلام) بحسب السياق في مقام آخر، وهو مقام الامتحان للثبات على الإيمان والطمأنينة به.
فأراد إبراهيم (عليه السلام) باكتفائه بعلم الله عزّ وجلّ بحاله أن يبيّن لجبرئيل (عليه السلام) أنه ليس على وجل واضطراب، ويظهر له الثبات والحزم الذي هو عليه في الحقيقة والواقع.
ودعاؤه (عليه السلام) في خصوص ذلك الظرف والمقام قد يكون كاشفاً عن الوجل والتزلزل وعدم الطمأنينة، فهو (عليه السلام) لكمال ثباته وتوكّله علىالله تعالى أظهر ما هو عليه من رباطة الجأش والحزم وقوّة الإيمان.
فصدر الجواب وذيله في هذا المقام الذي ذكرناه.
الردّ الثاني:
قد يقال هنا أن إبراهيم (عليه السلام) لم يستنجد بجبرئيل (عليه السلام) ولم يسأله لأنه أفضل منه، وذلك إن مقام أنبياء أولي العزم أفضل من مقام الملائكة الذين أسجدهم وأطوعهم لآدم، وقد ورد في روايات الفريقين أن جبرئيل (عليه السلام) في مواطن عديدة
____________
1- طه: 114.
الردّ الثالث: أنه ينقض عليهم بموارد:
منها: أن الجاحدين للتوسّل يقرّون بأن الضرورة قائمة في الدين ـ كما تقدّم ـ على ثبوت الشفاعة الكبرى لسيد الأنبياء يوم المعاد، وأنه يستشفع به (صلى الله عليه وآله) للنجاة الأبدية، فإذا كان الاستشفاع شركاً ـ حسب زعمهم ـ وخلاف منهج التوحيد الذي هو ملّة إبراهيم الحنيف فكيف يسمح الباري بوقوعه يوم القيامة، ويُبشر به نبيّه، وأنه يعدّه الباري مقاماً محموداً؟!
ومنها: ما تقدّم من استشفاع آدم بسيد الأنبياء، فهل يظن بنبي الله وصفوته مجانبة طريق التوحيد؟!
الشبهة السادسة: التوسّل يعني التفويض وعجز الله تعالى
قد يطرح هنا إشكال حول التوسّل بالوسائط، وهو دعوى أن الاعتقاد بالوسائط والتوسّل بها لاستدرار الفيض الإلهي قد يوجب اعتقاد العجز في قدرة الله تعالى، ومما لاشك فيه أن الباري عزّ وجلّ واجب بالذات وغني عن العالمين، فلابدّ من رفض الوسائط في التوجّه إلى الله عزّ وجلّ.
وبعبارة أخرى: إن السؤال والتوسّل والتوجّه إلى غير الله تعالى يستبطن
الجواب عن الشبهة السادسة:
قصور الجاحدين للتوسّل عن معرفة التوحيد في الأفعال:
في مقام ردّ هذه الشبهة نجيب بعدّة أجوبة:
الجواب الأول: إن الله عزّ وجلّ إذا أقدر مخلوقاً من المخلوقات على بعض الأمور، فهو لا يعني سلب القدرة عنه تعالى في تلك الأمور، ولا يعني أيضاً عزله عن صفاته التي منها الصفات التي أعزاها إلى كلماته ووسائطه، فلا تجافي ولا عزلة في البين; لأن التجافي والعزلة من أحكام المادّة.
إذن الباري تعالى لا يتجافى ولا ينعزل عن القدرة التي أقدر بعض الموجودات عليها، بل هو أقدر من تلك الوسائط على ما أقدرها عليه.
ويقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) في هذا المقام: "إن الله تبارك وتعالى لا يطاع باكراه ولا يعصى بغلبة ويهمل العباد في الهلكة، ولكنه المالك لما ملّكهم، والقادر لما عليه أقدرهم"(1).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصفه لله عزّ وجلّ: "لا تشبهه صورة ولا يحسّ بالحواس ولا يقاس بالقياس، قريب في بعده بعيد في قربه، فوق كلّ شيء ولا يقال: شيء تحته، وتحت كلّ شيء ولا يقال: شيء فوقه، أمام كلّ شيء ولا يقال
____________
1- فقه الرضا (عليه السلام) / علي بن بابويه: ص408.
والحاصل: إن أقدار الله عزّ وجلّ وكّل عطية إلهية يجود بها علىمخلوقاته ليس تمليكها تمليكاً عزلياً وبنحو التجافي، وإنما هو تمليك قيّومي إحاطي، فهو عزّ وجلّ بكلّ شيء محيط وقيّوم على كلّ شيء، وهو المالك لما ملّكهم والقادر لما عليه أقدرهم، بل إن التمليك بعينه مخلوق من المخلوقات والمُعطى والعطية كلّها قائمة بالله تعالى حدوثاً وبقاءً، فكيف يستقل المخلوق في فعله وهو محتاج في ذاته ومفتقر إلى قيوميّة الباري تعالى؟!
وهذا يعني أن ذات المخلوق وفعله وتمكينه وتمليكه وإقداره على بعض الأمور كلّها بحول الله وقوته، ولا يخرج عن حيطة قيوميّته، فلا مجال للتفويض العزلي في عالم الخلقة والامكان، وليست الوسائط إلاّ مجار لفيض الله عزّ وجلّ وقدرته; لأجل عجز بعض القوابل عن التلقّي عن الله تعالى مباشرة.
الجاحدين للتوسّل بنوا جحودهم على التفويض الأكبر:
الجواب الثاني: إن هذه الشبهة التي ذكروها تستبطن التفويض والغلو في المخلوق; لأنها مبتنية على دعوى أن المخلوق مستقلّ عن خالقه في الوجود بقاءً، وأن الله تعالى عندما ملّك وأقدر بعض الموجودات المادّية على بعض الأفعال الحياتية اليوميّة، كقدرة الشخص على تحريك أعضائه مثلاً باختياره،
____________
1- المحاسن / البرقي: ج1 ص240، التوحيد / الصدوق: ص285.
ولا فرق بين فعل وفعل من الناحية العقلية، فإذا كان التوسّل وجعل الوسيلة والشفاعة لبعض المخلوقات يوجب التفويض العزلي، فكذلك إقدارهم على أفعالهم الحادثة اليومية لابدّ أن يكون أيضاً محكوماً بقانون التفويض العزلي، وأن الله تعالى انعزل عن مخلوقاته بعد أن أوجدها وأقدرها وملّكها لأفعالها.
ولا شك أن هذا التفكير مبنيّ على الموازين الحسّية المادّية، ودعوى الفرق بين الأفعال الدنيوية الصغيرة والأفعال التدبيرية الخطيرة، كتدبير السماوات والأرض، وإيصال فيض الله تعالى إلى الموجودات المادّية الدانية في الوجود، حيث آمنوا ببطلان التفويض بجعل وسائط في الفيض، وصحّحوا مقولة التفويض في صغائر الأمور والأفعال المادية الدنيويّة غير الخطيرة.
مع أن موازين بطلان التفويض موازين عقلية لا يفرق فيها بين الأفعال الصغيرة والخطيرة; لأن التفويض يوجب الشرك وهو باطل على جميع الأحوال.
ولو كان أصحاب هذه الشبهة يرفضون فكرة التفويض مطلقاً ويوحّدون في الخلقة حدوثاً وبقاءً لما حصلت لهم هذه الشبهة، لأن الله تعالى لا تنحسر قدرته عن المخلوق في أصل خلقته وبعد خلقته، فهو دائماً يستمدّ وجوده وبقاءه من الفيض والمدد الإلهي، وهم أرادوا أن ينكروا التوسّل، وهو فعل من الأفعال للزوم التفويض، فوقعوا فيما هو أعظم وهو التفويض في أصل وجود المخلوقات من حيث البقاء فضلاً عن أفعالها، مع أن الله تعالى دائم الفيض على البريّة، والمخلوق في كلّ آن من آنات وجوده محتاج إلى فيض باريه، لا يستقلّ عنه في وجوده ولا ينادده في فعله; إذ الباري قيّوم على وجود المخلوق وأفعاله بنحو الأمر بين الأمرين، فلا ننفي المخلوقات وأفعالها كما فعل ذلك بعض جهلة الصوفية، ولا نعزل قدرة الله تعالى عن مخلوقاته كما فعل المفوّضة، بل نقول كما قال الله عزّ وجلّ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}(1).
الجواب الثالث: أن الجاحدين للتوسّل حيث كانوا عبّاد المذهب الحسّي المادي من حيث يشعرون أو من حيث تشبّع نفسياتهم وذهنهم بذلك، حيث يبنون على أن كلّ فعل حسّي هو فعل للمخلوقات، وكلّ فعل وراء الحسّ فهو فعل لاهوتي إلهي، أو أن الأفعال الصغيرة الحجم هي فعل للمخلوقات أما الأفعال الكبيرة فهي فعل إلهي، وعلى هذا الميزان يكون إماتة الموتى لا يصح
____________
1- الأنفال: 17.
فتبيّن أن الضابطة في كون الفعل إلهيّاً هو صدوره عن الفاعل بمعزل عن قدرته غيره، ومن ثمّ لا يصحّ توهّم استقلال المخلوق في الفعل ولو كان حقيراً صغيراً; إذ لو استقلّ لكان فاعلاً فعلاً إلهيّاً.
الشبهة السابعة: إيجاد المخلوقات الإمكانية كلّه ابداعيّ بلا واسطة
قالوا في المقام لِمَ لا يكون فعل الله تعالى دائماً إبداعياً بكن فيكون بلا أي واسطة أو وسيلة؟ وهذا من مظاهر القدرة والهيمنة الإلهية، بخلاف القول بالأفعال غير الابداعية، فهي تستبطن القول بعجز الله تعالى واحتياجه إلى الأسباب في عملية الخلق والايجاد.
الجواب عن الشبهة السابعة:
ويُجاب عن هذه الشبهة بنفس الجواب السابق، ونضيف إليه بعض الأجوبة الأخرى:
الجواب الأول: لا ريب أننا نشاهد في عالم الخلقة الامكانية أفعالاً لبعض المخلوقات بل موجودات مخلوقة غير ابداعية، كما نصّ علىذلك القرآن الكريم في آيات عديدة كما سيأتي ـ وأن الله تعالى كان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض، ثم خلق من الأرض النباتات والزرع، ثم خلق من الطين البدن الانساني، وخلق الجنّ من نار السموم، وخلق من الماء كلّ شيء حيّ، وغير ذلك من المخلوقات غير الإبداعية، التي توجد بعملية التوليد والتوالد بين الأسباب والمسبّبات، وبناءً على ما ذكروه من الشبهة، من أن كلّ فعل غير ابداعي، فهو مستبطن للعجز والحاجة إلى الوسيلة والأسباب ويكون اسناد تلك المخلوقات غير الابداعية إلى الله تعالى إسناداً للعجز والحاجة إلى الله عزّ وجلّ، وإن لم نُسند تلك المخلوقات إلى الله تعالى نقع في معضلة الشرك في الخالقية وهو شرك أعظم; لأن شطراً وافراً من المخلوقات كالموجودات المادّية في أصل وجودها فضلاً عن أفعالها يتمّ تخليقها عن طريق الأسباب والوسائط لا بنحو الابداع، فإن اسندناها إلى الباري تعالى على زعمهم ـ يلزم نسبة العجز إلى الخالق، وإن لم نسندها إليه عزّ وجلّ يلزم القول بالشرك في الخالقية وخروج تلك الموجودات عن حيطة قدرته تعالى.
فالصحيح: إن الله تعالى خالق كلّ شيء سواء كان بالابداع أو التخليق، والسببيّة لا توجب الشرك ولا نسبة العجز إلى الله تعالى; لأن المخلوق الذي يكون واسطة ووسيلة في تخليق بعض المخلوقات لا يخرج عن حيطة القدرة
ثم إن البارئ والمصوّر من أسماء الله تعالى، والبَرء عملية تحويل وإيجاد وإيجاب شيء من شيء آخر، ثم بعد البرء تأتي عملية تشكيل الصورة، وهذه كلّها دائرة الموجودات غير الابداعية، وهي تحت هيمنة الأسماء الإلهية، كالبارئ والمصوّر ولا تخرج عن حيطة قدرته عزّ وجلّ.
سبب جحود التوسّل القصور في معرفة كنه ذوات المسبّبات والأسباب:
الجواب الثاني: إن الاحتياج إلى الأسباب والوسائط ليس لعجز في الباري تبارك وتعالى، بل لعجز وعدم قابلية في ذات الممكن، وذلك لأن بعض الموجودات الممكنة لا يمكن أن تفرض لها شيئية إلاّ بعد وجود موجودات أخرى سابقة عليها، فالجسم مثلاً لا يمكن أن يخرج إلى الوجود إلاّ من المادة; لعدم قابلية الجسم إلاّ أن يكون متقوّماً بالمادّة، والله عزّ وجلّ على كلّ شيء قدير، ولا شيئية للجسم قبل المادّة لكي تتعلّق به القدرة; إذ اللاّشيئية عدم وبطلان وعجز وفقدان، ولا معنى لأن تتعلق القدرة الإلهية بالعجز والبطلان.
نعم إذا فُرض كونه شيئاً بواسطة السبب تتعلّق به القدرة حينئذ، فالأشياء التي هي ذوات أسباب ذواتها متقوّمة ذاتياً قوامياً بنيوياً وهوية بتلك الأسباب، فنفي
الجواب الثالث: وهو عبارة عن الشواهد والطوائف القرآنية الدالّة على وقوع التخليق من الله تعالى عبر الوسائط من ملائكة ورسل وغير ذلك، وأن نظام الخلقة على نحوين: إبداعيّ وتخليقيّ، كما قال عزّ وجلّ: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاَْمْرُ}(1).
وإليك بعض تلك الطوائف:
الطائفة الأولى: آيات الإماتة وتوفّي الأنفس، وقد أسند التوفّي فيها إلى الله عزّ وجلّ وإلى الملائكة وإلى ملك الموت خاصّة:
الاسناد الأول: إسناد توفّي الأنفس إلى الملائكة.
1 ـ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}(2).
2 ـ قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}(3).
____________
1- الأعراف: 54.
2- النساء: 97.
3- النحل: 28.
4 ـ قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ}(2).
5 ـ قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ}(3).
6 ـ قوله تعالى: {لَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}(4).
7 ـ قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}(5).
8 ـ قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}(6).
وغير ذلك من الآيات المباركة التي نلاحظ في مجموعها أن الله سبحانه وتعالى قد نسب وأسند وفاة الأنفس إلى الملائكة من باب التوسيط، مع أن المميت من أسماء الله تعالى ولا منافاة في ذلك، ولا يلزم منه العجز; لأن الملك بكلّ وجوده وأفعاله قائم بالله تعالى ومفتقر إليه حدوثاً وبقاءً.
____________
1- النحل: 32.
2- الأنعام: 61.
3- الأعراف: 37.
4- الأنفال: 50.
5- محمد: 27.
6- الأنعام: 93.
الاسناد الثاني: وهي الآيات التي يسند الله عزّ وجلّ فيها التوفّي إليه مباشرة:
1 ـ قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الاَْنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}(1).
2 ـ قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ}(2).
3 ـ قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ}(3).
4 ـ قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكّ مِنْ دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(4).
وكما أسلفنا لا تنافي بين الاسناد الأول والثاني وكذلك الثالث الآتي، وكلّ منها اسناد حقيقي، لأن الملائكة لا حول لهم ولا قوة إلاّ بالله تعالى.
ويدلّ على هذه الطولية في الاسناد السياق الواحد في آيتي سورة النحل المتقدّمتين، حيث أسند في أحدهما التوفّي إلى الله تعالى وفي الأخرى إلى الملائكة.
الاسناد الثالث: إسناد التوفّي إلى ملك الموت:
____________
1- محمد: 27.
2- الأنعام: 93.
3- الزمر: 42.
4- يونس: 104.
فإسناد الإماتة إلى ملك الموت والرسل في وقت واحد يعني أن بقيّة الملائكة أعوان لملك الموت، تحت هيمنته وقدرته، كما جاء ذلك في روايات الفريقين.
والحاصل: أن برنامج الإماتة لكلّ ذي روح تحت تدبير وإدارة ملك الموت، وهو يدير ذلك البرنامج التكويني عن طريق رسله وأعوانه الذين هم تحت إمرته وسلطانه وقدرته، وهو في الوقت ذاته تحت سلطان الله عزّ وجلّ وقدرته، وافتقاره، واحتياجه إلى الله عزّ وجلّ حدوثاً وبقاءً أشدّ من احتياج الملائكة من أعوانه إليه بما لا يقاس.
ومن هذا البيان يتّضح أن إسناد فعل إلى الملائكة لا يعني عدم إسناده إلى الباري تعالى، وهكذا إسناد فعل إلى الملائكة لا يعني عدم إسناده إلى ذات أخرى شريفة تهيمن على الملائكة، وتكون الملائكة رسلاً وأعواناً لها وتحت سلطانها، كملك الموت الذي يدبّر الملائكة بإقدار الله تعالى وتدبيره، ووراء ملك الموت مخلوقات أخرى أشرف منه تدبّره وتدير شؤون عالم الإمكان بإذن الله تعالى وهم خلفاء الله تعالى.
الطائفة الثانية: وهي الآيات التي صرحت بإيكال بعض الأفعال والأمور التدبيريّة إلى بعض المخلوقات.
1 ـ قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}(2).
2 ـ وقال عزّ وجلّ: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا
____________
1- السجدة: 11.
2- السجدة: 11.