الصفحة 286
بِكَافِرِينَ}(1).

وهذا التوكيل المذكور في الآيتين الكريمتين ليس على نسق إيكال مخلوق إلى مخلوق آخر; لأنه في باب الوكالات الاعتبارية والقانونية هناك نوع من الاستقلال للوكيل عن الموكّل في الفعل، وفيه نوع من أنواع التفويض العزلي وإن لم يكن تفويضاً واستقلالاً وانعزالاً تاماً; لإمكان عزله في كلّ آن آن، وأما في توكيل الله تعالى بعض المخلوقات فليس هو توكيلاً وتفويضاً عزلياً تنحسر فيه قدرة الباري عن الفعل الموكّل فيه، لأنها وكالة افتقار وتقوّم فعل الوكيل بالموكّل، فالله تعالى أقدر بعض مخلوقاته وأوكل لهم بعض الأمور بلا انعزال عمّا وكّلهم فيه، بل هو تعالى فيما أقدرهم عليه أقدر بما لا يتناهى من القدرة، لأن وجودهم فضلاً عن فعلهم متقوّم بذات الباري تعالىحدوثاً وبقاءً، وهو الحيّ القيّوم الذي به قامت السماوات والأرض.

ثم إن التوكيل الذي ورد في سورة الأنعام توكيل لدنّي لجماعة من الانس، وهذه من التعابير القرآنية الدالّة على وجود الارتباط اللّدني بين الله تعالى ومجموعة من البشر، لم يكفروا بالله عزّ وجلّ طرفة عين.

الطائفة الثالثة: وهي الدالّة على توسيط بعض المخلوقات في الخلق:

1 ـ قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الَّثمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ}(2)، فإخراج الثمرات ليس إبداعيّ بل توسيطيّ، فالباري تعالى يُخرج بواسطة الماء الثمرات، والخالق هو الله تعالى

____________

1- الأنعام: 89.

2- البقرة: 22.


الصفحة 287
وليس الماء إلاّ وسيطاً في جريان الفيض الإلهي.

2 ـ قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْء}(1).

3 ـ قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآيَةً لِقَوْم يَسْمَعُونَ}(2).

4 ـ قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاء فَأَحْيَا بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّة}(3).

وقد قرّر الحكماء وجود حياة نباتية، كما أكّدت ذلك العلوم المادّية، وهذه الحياة والإحياء يحصل بواسطة الماء ولو إعداداً، فكيف يستعظم ذلك على من هو أشرف من الماء وأعظم عند الله تعالى؟!

5 ـ قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ}(4).

فالطهارة التي هي أمر معنوي ونوري يحصل من الله تعالى بواسطة الماء; لأنها ليست من الأفعال الإبداعية بل التخليقية.

6 ـ قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}(5).

____________

1- الأنعام: 99.

2- النحل: 65.

3- البقرة: 164.

4- الأنفال: 11.

5- هود: 7.


الصفحة 288
والعرش هو القدرة الإلهية، فقدرته تعالى على الماء، والماء واسطة في فيض القدرة، على الاختلاف في المراد من الماء في الآية الكريمة.

فالقوابل محدودة ونشأة الماء هي الواسطة في تقبّل الفيوضات الإلهية.

7 ـ قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْء حَيّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ}(1).

8 ـ قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّة مِنْ مَاء}(2).

9 ـ قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا}(3).

10 ـ قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}(4).

فالروح الذي هو خلق أعظم من الملائكة سبب وواسطة إلهية لنزول الملائكة وعروجها.

الطائفة الرابعة: إسناد الخلق والتخليق إلى بعض المخلوقات:

1 ـ قوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}(5).

فأُسند الخلق إلى الأيدي الإلهية وهي القدرة، إذ لا شك أن الله تعالى لا يد جسمانية له، فيده قدرته وتصرّفه المخلوق له الخارج عن الذات المقدّسة، وهذه اليد المخلوقة تعمل وتخلق الأنعام بالمباشرة.

____________

1- الأنبياء: 30.

2- النور: 45.

3- الفرقان: 54.

4- النحل: 2.

5- يس: 71.


الصفحة 289
2 ـ قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاَْعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}(1).

فالتسبيح في هذه الآية الكريمة أسند إلى الإسم، و (الذي) وصف للمضاف إلى الربّ وهو الاسم، فالإسم هو الذي خلق فسوّى وقدّر فهدى، والإسم غير المسمّى قائم به ومخلوق من مخلوقاته، كما جاء ذلك في سورة الرحمن في قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِْكْرَامِ}(2)، فالجلال والإكرام وصف لوجه الربّ لا لنفس الربّ، وهو مخلوق من المخلوقات وآية يتوجّه بها إلى الله عزّ وجلّ، والشاهد على المغايرة ما جاء في آخر سورة الرحمن، حيث جعل وصف الجلال والإكرام صفة للربّ لا للوجه، حيث قال تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإِْكْرَامِ}(3)، وليس المراد من الاسم والوجه في الآية المباركة جزء الذات الجسماني، كما توهّم ذلك المجسّمة والحشوية، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل المراد منه الآية الكبرى الدالّة على عظمة الله عزّ وجلّ والقائمة الوجود به، وقد أطلق على البيت الحرام والكعبة أنهما وجه الله تعالى الذي يتوجّه به إليه، كما في قوله عزّ وجلّ: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وقال تعالى أيضاً: {أَيْنََما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} مما يدلّل على أن البيت الحرام أحد الوجوه والآيات الكبرى التي يتوجّه إلى الله عزّ وجلّ بها، وكذلك الأنبياء، حيث أطلق على موسى وعيسى (عليهما السلام) أنهما وجيهين عند الله تعالى، كما تقدّم أنهما كلمات الله وأسمائه.

3 ـ قوله تعالى: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي

____________

1- الأعلى: 1 ـ 2.

2- الرحمن: 27.

3- الرحمن: 78.


الصفحة 290
أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الاَْكْمَهَ وَالاَْبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(1).

4 ـ قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الاَْرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الاَْمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا}(2)، فهنا أسند تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى أي إحيائهم إلى القرآن الكريم.

الطائفة الخامسة: وهي التي عُبّر فيها بالمُلك، وأن الله تعالى أملك كثيراً من الأمور لمخلوقاته الشريفة من دون أن يكون هذا التمليك عزلي تفويضي، بل كلّما تلقى المخلوق من باريه فيضاً أكثر ومرتبة أعلى وأشرف في الوجود كلّما كان أكثر فقراً إلى الله عزّ وجلّ من غيره، ومن ثم كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أعبد الخلائق إلى الله تعالى، لأنه أكثرهم فقراً إلى الله عزّ وجلّ، كما أثر ذلك عنه (صلى الله عليه وآله) حيث كان يقول: (الفقر فخري)، وإليك بعض تلك الآيات في المقام:

1 ـ قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}(3).

والملك العظيم الذي أعطي لآل إبراهيم هو الإمامة، ولم يُعبّر عن غير الإمامة بالملك العظيم.

2 ـ قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي ِلأَحَد مِنْ

____________

1- آل عمران: 49.

2- الرعد: 31.

3- النساء: 54.


الصفحة 291
بَعْدِي}(1).

3 ـ قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا}(2).

4 ـ {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}(3).

5 ـ {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا}(4).

6 ـ {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ}(5).

والملك في هذه الآية ليس خاصّاً بالملك الأرضي، بل هو عامّ شامل لمطلق النشآت.

7 ـ {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}(6)، فوصف الله عزّ وجلّ خازن النيران الملك الموكّل بالنار بمالك; لأنه ملّكه القدرة على تدبير النيران.

8 ـ {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذ ثَمَانِيَةٌ}(7)، والعرش هو مقام القدرة والله تعالى أقدر أربعة من الأوّلين وأربعة من الآخرين على حمله بلا تفويض.

9 ـ قوله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ

____________

1- ص: 35.

2- الإنسان: 5.

3- ص: 20.

4- البقرة: 247.

5- آل عمران: 26.

6- الزخرف: 77.

7- الحاقة: 17.


الصفحة 292
وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}(1).

10 ـ قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّى مُمِدُّكُمْ بِأَلْف مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ}(2).

11 ـ {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَّكْفِيَكُمْ أَن يُّمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَف مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ}(3).

12 ـ {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَف مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ}(4).

الطائفة السادسة: ما ذكر فيها نسبة الإهلاك إلى نفسه تعالى وإلى بعض مخلوقاته.

1 ـ قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(5).

2 ـ {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ}(6).

3 ـ {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيح صَرْصَر عَاتِيَة}(7).

4 ـ {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ}(8).

5 ـ {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا

____________

1- التحريم: 4.

2- الأنفال: 9.

3- آل عمران: 124.

4- آل عمران: 125.

5- الأحقاف: 27.

6- الحاقة: 5.

7- الحاقة: 6.

8- العنكبوت: 31.


الصفحة 293
بِهِ الاَْرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا}(1).

الطائفة السابعة: إسناد تدبير بعض المخلوقات عن طريق الرياح:

1 ـ قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}(2).

2 ـ {اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا}(3).

3 ـ {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}(4).

4 ـ {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَات}(5).

5 ـ {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا}(6).

والحاصل: إنّ نظام الخلقة في السنّة الإلهيّة نظام الأسباب والمسبّبات، كما نصّ على ذلك متواتر آيات القرآن الكريم، وما ورد من روايات الفريقين "أبى الله أن يجري الأمور إلاّ بأسبابها"، وذلك لأن الأمور ذواتها متقوّمة بالأسباب في هويتها، فهم يجهلون نظام الخلقة والمخلوقات.


*  *  *  *  *

____________

1- العنكبوت: 40.

2- الحجر: 22.

3- الروم: 48.

4- الفرقان: 48.

5- الروم: 46.

6- فاطر: 9.


الصفحة 294

خاتمة في:


أ ـ الروايات الواردة في مشروعية التوسّل والتشفّع والتبرّك:

الروايات في هذا المجال كثيرة جدّاً، نشير إلى بعض ما ورد منها في الكتب السنّية:

1 ـ ما أخرجه البخاري في صحيحه عن الجعيد بن عبد الرحمن قال: (سمعت السائب بن يزيد قال: ذهبت بي خالتي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقالت: يارسول الله إن ابن أختي وجع، فمسح رأسي ودعا لي بالبركة وتوضّأ فشربت من وضوئه)(1).

2 ـ كذلك روى البخاري في صحيحه عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: (رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قبّة حمراء من أدم، ورأيت بلالاً أخذ وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورأيت الناس يتبدّرون ذاك الوضوء، فمن أصاب منه شيئاً تمسّح به،

____________

1- صحيح البخاري: ج4 كتاب المناقب، باب صفة النبي (صلى الله عليه وآله) ص163.


الصفحة 295
ومن لم يصب منه شيئاً أخذ من بلل يد صاحبه)(1).

3 ـ وأخرج مسلم في صحيحه عن أنس قال: (لقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) والحلاّق يحلقه وأطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلاّ في يد رجل)(2).

قال النووي في شرحه لصحيح مسلم تعليقاً على مثل هذه الروايات: (وفي هذه الأحاديث بيان بروزه (صلى الله عليه وآله) للناس وقربه منهم... وإجابته من سأله حاجة أو تبريكاً بمسّ يده وإدخالها في الماء كما ذكروا، وفيه التبرّك بآثار الصالحين وبيان ما كانت الصحابة عليه من التبرّك بآثاره (صلى الله عليه وآله) وتبرّكهم بإدخال يده الكريمة في الآية وتبرّكهم بشعره الكريم وإكرامهم إياه أن يقع شيء منه إلاّ في يد رجل سبق إليه)(3).

إذن هذه الشواهد وغيرها كاشفة عن أن سيرة المسلمين منذ الصدر الأول كانت قائمة على التبرّك بما يتصل بالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، من دون ردع ونهي، وهذا دالّ على مشروعية ما كان يأتي به الصحابة، وقلنا أن التبرّك يجتمع مع التوسّل والاستغاثة في ماهية واحدة وهي التوسيط، فالتبرّك طلب البركة ونوع توسّل واستشفاع بما يرتبط بالأولياء والأوصياء والحجج من أشياء.

4 ـ وفي الجامع الصغير للسيوطي: (غبار المدينة شفاء من الجذام)(4)، وقال المناوي في فيض القدير بعد نقل مثل هذه الروايات: (قال السمهودي: قد

____________

1- صحيح البخاري: ج1 كتاب الصلاة، باب الصلاة في الثوب الأحمر ص92.

2- صحيح مسلم: ج7 ص79.

3- شرح مسلم: ج15 ص82.

4- الجامع الصغير: ج2 ص197.


الصفحة 296
شاهدنا من استشفى به منه وكان قد أضرّ به فنفعه جدّاً)(1).

5 ـ أخرج الحاكم في المستدرك عن عثمان بن حنيف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقال: يارسول الله علّمني دعاءً أدعو به يردّ الله عليّ بصري، فقال له: قل: "اللّهم إني أسألك وأتوجّه إليك بنبيك نبيّ الرحمة، يامحمّد إني قد توجّهت بك إلى ربّي، اللّهم شفّعه فيّ وشفّعني في نفسي" فدعا بهذا الدعاء، فقام وقد أبصر(2).

6 ـ روى البيهقي في خبر صحيح إنه في أيام عمر جاء رجل إلى قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقال: يامحمّد استسق لأمتك، فسقوا(3).

7 ـ أخرج النسائي عن عبدالله بن عمرو قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول، وصلّوا عليّ، فإنه من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنّة لا تنبغي إلاّ لعبد من عباد الله، أرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشفاعة"(4).

8 ـ روى مسلم عن عائشة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: "ما من ميّت تصلّي عليه أمة من المسلمين يبلغون مئة كلّهم يشفعون له إلاّ شفّعوا فيه"(5).

9 ـ روى مسلم أيضاً عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على

____________

1- فيض القدير شرح الجامع الصغير: ج4 ص526.

2- المستدرك: ج1 ص526.

3- سنن البيهقي: ج3 ص326.

4- سنن النسائي: ج2 ص26.

5- صحيح مسلم: ج3 ص53.