بقية الأقوال:
لا نطيل في ذكر بقية الأقوال، وأحاديثها الصحيحة عندهم، بل نجملها إجمالا:
- ففي صحيح البخاري 5 / 182: قال سمعت سعيد بن جبير قال: آية اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عباس، فسألته عنها فقال:
نزلت هذه الآية: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) النساء - 93.
هي آخر ما نزل، وما نسخها شئ.
- وفي البخاري 6 / 15: عن سعيد بن جبير قال: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن، فرحلت فيه إلى ابن عباس فقال: نزلت في آخر ما نزل، ولم ينسخها شئ.
- وفي الدر المنثور 2 / 196: وأخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن جرير والطبراني من طريق سعيد بن جبير قال:
اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن، فرحلت فيها... هي آخر ما نزل وما نسخها شئ.
وأخرج أحمد، وسعيد بن منصور، والنسائي، وابن ماجة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في ناسخه، والطبراني من طريق سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس... قال: لقد نزلت في آخر ما نزل ما نسخها شئ حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال: وأنى له بالتوبة؟!.
فهل يمكن لمسلم أن يقبل هذه الروايات الصحيحة من البخاري أو غيره، ومن ابن عباس أو غيره، ويلتزم بأن تحريم قتل المؤمن تشريع إضافي في الإسلام، نزل بعد آية إكمال الدين؟!
وفي مستدرك الحاكم 2 / 338: عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: آخر ما نزل من القرآن: لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم. حديث شعبة عن يونس بن عبيد صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. انتهى.
وهذه الرواية الصحيحة على شرط الشيخين نقصد الآيتين 128 - 129، من سورة التوبة.
- وفي الدر المنثور 3 / 295: وأخرج ابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، وابن منيع في مسنده، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، من طريق يوسف بن مهران، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب قال: آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم - وفي لفظ أن آخر ما نزل من القرآن - لقد جاءكم رسول من أنفسكم. إلى آخر.. الآية.
قوم لا يفقهون، فظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن، فقال أبي بن كعب:
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقرأني بعد هذا آيتين: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم. فهذا آخر ما نزل من القرآن. قال: فختم الأمر بما فتح به بلا إله إلا الله، يقول الله:
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون.
وأخرج ابن أبي دؤاد في المصاحف عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن فقام في الناس فقال: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان، فقتل وهو يجمع ذلك إليه.
فقام عثمان بن عفان فقال: من كان عنده شئ من كتاب الله فليأتنا به، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد به شاهدان، فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إني رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما! فقالوا: ما هما؟ قال: تلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم.. إلى آخر السورة.
قال: أختم بهما آخر ما نزل من القرآن، فختمت بهما براءة. انتهى.
وشبيه به في سنن أبي داود: 1 / 182
- وفي صحيح مسلم 8 / 243: عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال:
قال لي ابن عباس: تعلم (وقال هارون تدري) آخر سورة نزلت من القرآن نزلت جميعا؟ قلت: نعم، إذا جاء نصر الله والفتح. قال: صدقت.
وفي رواية ابن أبي شيبة: تعلم أي سورة، ولم يقل آخر.
- وفي سنن الترمذي 4 / 326: وقد روي عن ابن عباس أنه قال: آخر سورة أنزلت: إذ جاء نصر الله والفتح.
- وفي الغدير 1 / 228: وروى ابن كثير في تفسيره 2 / 2: عن عبد الله بن عمر أن آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح يعني النصر.
- وفي الدر المنثور 6 / 407: وأخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن أبي هريرة في قوله: إذا جاء نصر الله والفتح، قال: علم، وحد حده الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ونعى إليه نفسه، إنك لا تبقى بعد فتح مكة إلا قليلا.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن ابن عباس قال: آخر سورة نزلت من القرآن جميعا: إذا جاء نصر الله والفتح.
- وفي المعجم الكبير للطبراني 12 / 19: عن ابن عباس قال: آخر آية أنزلت: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله. انتهى. وهي الآية 281 من سورة البقرة!
ففي المعجم الكبير للطبراني 19 / 392: عمرو بن قيس أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر نزع بهذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم.. قال:
نزلت يوم عرفة في يوم جمعة، ثم تلا هذه الآية: فمن كان يرجو لقاء ربه...
وقال: إنها آخر آية نزلت... تأديبا لرسول الله.. انتهى.
وقد التفت السيوطي إلى أن كيل التناقض قد طفح لإبعاد آية إكمال الدين عن ختم القرآن، وحجة الوداع، وغدير خم.. فاستشكل في قبول قول معاوية وعمر! ولكنه مر بذلك مرورا سريعا، على عادتهم في التغطية والتستير، والروغان! قال في الإتقان 1 / 102: من المشكل على ما تقدم قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم، فإنها نزلت بعرفة في حجة الوداع وظاهرها إكمال جميع الفرائض والأحكام قبلها. وقد صرح بذلك جماعة منهم السدي، فقال: لم ينزل بعدها حلال ولا حرام مع أنه ورد في آية الربا والدين والكلالة أنها نزلت بعدها!
وقد استشكل ذلك ابن جرير وقال: الأولى أن يتأول على أنه أكمل لهم الدين بإفرادهم بالبلد الحرام، وإجلاء المشركين عنه حتى حجه المسلمون، لا يخالطهم المشركون!. انتهى.
ومعنى كلام ابن جرير الطبري الذي ارتضاه السيوطي: أن حل التناقض في كلام الصحابة بأن نقبله ونبعد إكمال الدين وإتمام النعمة عن التشريع،
إنها فتوى تتكرر أمامك من علماء الخلافة القرشية بوجوب قبول كلام الصحابة - ما عدا أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله - حتى لو استلزم ذلك تفريغ الآيات والأحاديث من معانيها! فالمهم عندهم درجة العصمة (العملية) للصحابة، وأن يكون كلامهم حاكما على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وآله!!
ثم يفرضون عليك أن تقبل ذلك وتغمض عينيك، وتصم سمعك عن صراخ ضحاياهم من الآيات الظاهرة والأحاديث الصحيحة!!
ونتيجة هذا المنطق: أن آية اليوم أكملت لكم دينكم ليست آخر آية، ولا سورتها آخر سورة، ولا معناها أكملت لكم الفرائض والأحكام، بل أكملت لكم فتح مكة! وأن معنى اليوم في الآية ليس يوم نزول الآية، بل قبل سنتين من حجة الوداع!
وسوف تعرف أن الخليفة عمر أقر في جواب اليهودي أن معنى اليوم في الآية: يوم نزولها، وليس يوم فتح مكة! بل قال القرطبي إن اليوم هنا بمعنى الساعة التي نزلت فيها الآية، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فكتب (مشارك) بتاريخ 2 - 7 - 1999، الواحدة صباحا:
ستكون لي وقفات مع بحثك هذا يا عاملي:
ماذا تقصد بأن تحريم الربا تشريع إضافي، ومن قال بهذا من العلماء، حتى ننظر في قيمة بحثك.
شكرا يا عاملي.
لماذا لم تجب يا عاملي؟
لا بد أنك قرأت قوله تعالى: (فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم، وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم)، فهل رأيت أحدا يقول لمن طرق بابه إرجع؟! إن عدم جوابه قول!
وأنت عندما تقبل أن آخر آية نزلت هي آية الربا أو الكلالة، أو غيرها من آيات الفرائض والأحكام قد نزلت بعد آية إكمال الدين، فمعناه أنك جعلتها تشريعات إضافية بعد تمام الدين!!
إن آية إكمال الدين صريحة لا تقبل التأويل عند من يجوزونه يا مشارك.
أما عندكم فهو من الأصل حرام، فكيف تصحح حديثا يقول إن هذا التشريع وهذا الجزء من الدين، نزل بعدها؟
عندما لا يستطيع الإنسان أن يجد مطعنا في مذهب أهل السنة والجماعة، يأخذ في نسبة أقوال لم تنسب إليهم، ويكذب ويقول إنهم قالوا به، وعندما يطالب بالبينة يعجز عن ذلك!
وهذا حال أهل البدع قديما وحديثا، ويبدو أنه لا فائدة من...
كلمتك بكلام علمي مستدل عليه بآية كريمة، فلم يكن لك جواب عليه إلا أن ادعيت أنك أهل السنة والجماعة، واتهمتنا بأننا أهل بدع عاجزون عن الجواب!!
فمن العاجز يا مشارك؟ إسأل شخصا ثالثا محايدا؟!
أما أنكم أتباع ابن تيمية فنعم، وأما أهل السنة والجماعة فلا، لأنكم تكفرون كل من خالف رأيكم من المسلمين من أهل السنة والشيعة!!
إن البلاد الإسلامية السنية من مصر والمغرب إلى إفريقيا وإندونيسيا..
وكلها عامرة والحمد لله بمشاهد وضرائح أهل البيت عليهم السلام والأولياء الصالحين وهم يزورونهم، وأنتم تكفرونهم بسبب ذلك.. فكيف تتكلم باسمهم يا مشارك؟!
نعم يصح أن تتكلم باسم من تمثل فكرهم، وهم فئة من الأقلية الوهابية الآخذة بالتناقص يوما فيوما والحمد لله.
وإن يكن فيك خير يأت بك الله تعالى، إلى التوحيد والتنزيه الذي عليه المسلمون السلف والخلف، ويخرجك من العجز عن الجواب على حديث العماء!
وليس العجز في حديث العماء، فقط وإنما العجز في حديث الاثني عشر، والعجز في حديث فقئ موسى لعين... والعجز في حديث الثقلين... فقد عاد مخصوما في كل ذلك.
ثم العجز عن الخلق الرفيع فنرى أيسر كلمة على لسان السلف والإسلام و...
كذاب كافر ماجن!!! (فيالحلم الله.. ويالممسك غضبه أن يسبق رحمته..)
لك النصر دائما يا أخي العاملي.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد.
(ثم واصل (العاملي) نشر بحثه في شبكة أنا العربي، بتاريخ 2 - 7 - 1999، الثامنة مساء، بعنوان (بحث في وقت نزول آية اليوم أكملت لكم دينكم؟) قال فيه:
نص الآية الكريمة وسياقها:
يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا، وإذا حللتم فاصطادوا، ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب.
آية إكمال الدين و.. اللحوم المحرمة:
أول ما يواجه الباحث في آية إكمال الدين غرابة مكانها في القرآن! فظاهر ما رواه المحدثون والمفسرون فيها، أنها نزلت في حجة الوداع، آية مستقلة لا جزء آية.. ثم يجدها في القرآن جزءا من آية اللحوم المحرمة، وكأنها حشرت في وسطها حشرا، بحيث لو رفعنا آية إكمال الدين منها لما نقص من معناها شئ، بل لاتصل السياق! فما هي الحكمة من هذا السياق؟ وهل كان هذا موضعها الأصلي من القرآن، أم وضعت هنا باجتهاد بعض الصحابة؟!
نحن لا نقبل القول بوقوع تحريف في كتاب الله تعالى، لكن نتساءل عسى أن يعرف أحد الجواب: ما هو ربط آية إكمال الدين باللحوم المحرمة؟ فهل وجدها الذين جمعوا القرآن في وقت متأخر، فوضعوها هنا؟!! فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الصحابة اجتهدوا في مكان وضع الآيات في المصحف!!
ثم.. قد يقبل الإنسان أن تكون الآية نزلت بعد آيات بيان أحكام اللحوم، ولكن هل يمكن أن ينزلها الله تعالى في وسط أحكام اللحوم؟! فإذا قال الله تعالى: أكملت لكم دينكم، فقد تمت الأحكام، فكيف يقول بعدها مباشرة: فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم؟!
- قال في الدر المنثور 2 / 259: وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله:
اليوم أكملت لكم دينكم قال: هذا نزل يوم عرفة، فلم ينزل بعدها حرام ولا حلال. انتهى.
- وقال في 2 / 257: وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس...
فلما كان واقفا بعرفات نزل عليه جبريل وهو رافع يده والمسلمون يدعون الله: اليوم أكملت لكم دينكم، يقول حلالكم وحرامكم، فلم ينزل بعد هذا حلال ولا حرام. انتهى.
والأحاديث والأقوال في عدم نزول أحكام بعد الآية كثيرة، وقد مر بعضها، ولا تحتاج إلى استقصائها بعد أن كان ذلك يفهم من الآية نفسها..
ويؤيده ما ذكره اللغويون في معنى الكمال والتمام.
- وقال الزبيدي في تاج العروس 8 / 103: الكمال: التمام وهما مترادفان كما وقع في الصحاح وغيره، وقد فرق بينهما بعض أرباب المعاني، وأوضحوا الكلام في قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، وبسطه في العناية، وأوسع الكلام فيه البهاء السبكي في عروس الأفراح.
وقيل: التمام الذي تجزأ منه أجزاؤه كما سيأتي، وفيه ثلاث لغات كمل كنصر وكرم وعلم، قال الجوهري والكسر أردؤها، وزاد ابن عباد: كمل يكمل مثل ضرب يضرب، نقله الصاغاني كمالا وكمولا فهو كامل وكميل جاؤوا به على كمل.
تمام الشئ ما تم به - بالفتح - لا غير، يحكيه عن أبي زيد. وتتمة كل شئ ما يكون تمام غايته، كقولك هذه الدراهم تمام هذه المائة، وتتمة هذه المائة.
قال شيخنا: وقد سبق في كمل أن التمام والكمال مترادفان عند المصنف وغيره، وأن جماعة يفرقون بينهما بما أشرنا إليه. وزعم العيني أن بينهما فرقا ظاهرا ولم يفصح عنه.
وقال جماعة: التمام الإتيان بما نقص من الناقص، والكمال الزيادة على التمام، فلا يفهم السامع عربيا أو غيره من رجل تام الخلق إلا أنه لا نقص في أعضائه، ويفهم من كامل، وخصه بمعنى زائد على التمام كالحسن والفضل الذاتي أو العرضي.
فالكمال تمام وزيادة، فهو أخص. وقد يطلق كل على الآخر تجوزا، وعليه قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي. كذا في كتاب التوكيد لابن أبي الأصبع.
وقيل التمام يستدعي سبق نقص، بخلاف الكمال، وقيل غير ذلك، مما حرره البهاء السبكي في عروس الأفراح، وابن الزملكاني في شرح التبيان، وغير واحد.
قلت وقال الحراني: الكمال: الانتهاء إلى غاية ليس وراءها مزيد من كل وجه.
وقال ابن الكمال: كمال الشئ: حصول ما فيه الغرض منه، فإذا قيل كمل فمعناه حصل ما هو الغرض منه. انتهى.
الأقوال في تفسير الآية:
بعد السؤال عن مكان الآية يواجهنا السؤال عن معناها، وسبب نزولها..
وفي ذلك ثلاثة أقوال:
القول الأول: قول أهل البيت عليهم السلام
أنها نزلت يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة في الجحفة، في رجوع النبي صلى الله عليه وآله من حجة الوداع، عندما أمره الله تعالى أن يوقف المسلمين في غدير خم، قبل أن تتشعب بهم الطرق، ويبلغهم ولاية علي عليه السلام من بعده، فأوقفهم وخطب فيهم وبلغهم ما أمره به ربه. وهذه نماذج من أحاديثهم:
فقد روى الكليني في الكافي 1 / 289:
عن الإمام محمد الباقر عليه السلام فقال: وقال أبو جعفر عليه السلام:
وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى، وكانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل الله عز وجل: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، قال أبو جعفر عليه السلام: يقول الله عز وجل: لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة، قد أكملت لكم الفرائض.
- وعن علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام قال:
كنت عنده جالسا فقال له رجل: حدثني عن ولاية علي، أمن الله أو من رسوله؟ فغضب ثم قال: ويحك كان رسول الله صلى الله عليه وآله أخوف لله من أن يقول ما لم يأمره به الله! بل افترضه الله كما افترض الصلاة والزكاة والصوم والحج. انتهى.
هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة، فيجوز فيها اختيارهم؟! إن الإمامة أجل قدرا، وأعظم شأنا، وأعلى مكانا، وأمنع جانبا، وأبعد غورا، من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أو يقيموا إماما باختيارهم.
إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوة والخلة، مرتبة ثالثة، وفضيلة شرفه بها، وأشاد بها ذكره فقال: إني جاعلك للناس إماما، فقال الخليل عليه السلام سرورا بها: ومن ذريتي؟ قال الله تبارك وتعالى: لا ينال عهدي الظالمين. فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى
فلم تزل في ذريته، يرثها بعض عن بعض، قرنا فقرنا، حتى ورثها الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله فقال جل وتعالى: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين، فكانت له خاصة فقلدها صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان، بقوله تعالى: قال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث، فهي في ولد علي عليه السلام خاصة إلى يوم القيامة، إذ لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وآله. فمن أين يختار هؤلاء الجهال!. انتهى.
القول الثاني: قول السنيين الموافق لقول أهل البيت عليهم السلام
وأحاديثهم في بيعة الغدير تبلغ المئات، وفيها صحاح من الدرجة الأولى عندهم وقد جمعها عدد من علمائهم القدماء، منهم الطبري المؤرخ في كتابه الولاية فبلغت طرقها ونصوصها عنده مجلدين، وتنص رواياتها على أن النبي صلى الله عليه وآله أصعد عليا معه على المنبر، ورفع يده حتى بان بياض إبطيهما، وبلغ الأمة ما أمره الله فيه... الخ.
وقد انتقد الطبري بعض المتعصبين السنيين لتأليفه هذه الكتاب في أحاديث الغدير، التي يحتج بها الشيعة عليهم، ويجادلونهم بها عند ربهم!
لكن ينبغي الالتفات إلى أن أكثر السنيين الذين صحت عندهم روايات الغدير، لم يقبلوا الأحاديث القائلة بأن آية إكمال الدين نزلت يوم الغدير، بل أخذوا بقول الخليفة عمر ومعاوية، أنها نزلت يوم عرفة، كما سيأتي.
وقد جمع أحاديث بيعة الغدير عدد من علماء الشيعة القدماء والمتأخرين، ومن أشهر المتأخرين النقوي الهندي في كتاب عبقات الأنوار، والشيخ الأميني في كتاب الغدير، والسيد المرعشي في كتاب شرح إحقاق الحق، والسيد الميلاني في كتاب نفحات الأزهار.
وقد أورد صاحب الغدير عددا من الروايات من مصادر السنيين، ذكرت أن آية إكمال الدين نزلت في يوم الغدير، بعد إعلان النبي صلى الله عليه وآله ولاية علي عليه السلام..
وهذه خلاصة ما ذكره في الغدير 1 / 230:
ومن الآيات النازلة يوم الغدير في أمير المؤمنين عليه السلام قوله تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا...
ثم ذكر الأميني رحمه الله عددا من المصادر التي روتها، نذكر منها:
1 - الحافظ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى 310، روى في كتاب الولاية بإسناده عن زيد بن أرقم، نزول الآية الكريمة يوم غدير خم في أمير المؤمنين عليه السلام...
2 - الحافظ ابن مردويه الأصفهاني المتوفى 410، روى من طريق أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري... ثم رواه عن أبي هريرة...
4 - الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي المتوفى 463، روى في تاريخه 8 / 290... عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم... قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم، فأنزل الله: اليوم أكملت لكم دينكم.. الآية.
5 - الحافظ أبو سعيد السجستاني المتوفى 477، في كتاب الولاية بإسناده عن يحيى بن عبد الحميد الحماني الكوفي، عن قيس بن الربيع، عن أبي هارون، عن أبي سعيد الخدري...
6 - أبو الحسن ابن المغازلي الشافعي المتوفى 483، روى في مناقبه عن أبي بكر أحمد بن محمد بن طاوان قال: أخبرنا أبو الحسين أحمد بن الحسين بن السماك قال: حدثني أبو محمد جعفر بن محمد بن نصير الخلدي، حدثني علي بن سعيد بن قتيبة الرملي، قال:.. عن أبي هريرة....
7 - الحافظ أبو القاسم الحاكم الحسكاني... عن أبي سعيد الخدري: إن رسول الله صلى الله عليه وآله لما نزلت هذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم، قال: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي، وولاية علي بن أبي طالب من بعدي.
9 - أخطب الخطباء الخوارزمي المتوفى 568، قال في المناقب / 80، عن أبي سعيد الخدري إنه قال: إن النبي صلى الله عليه وآله يوم دعا الناس إلى غدير خم أمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فقم، وذلك يوم الخميس ثم دعا الناس إلى علي، فأخذ بضبعه فرفعها حتى نظر الناس إلى إبطيه، حتى نزلت هذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم.. الآية... وروى في المناقب / 94، عن ضمرة، عن ابن شوذب، عن مطر الوارق. إلى آخر ما مر عن الخطيب البغدادي سندا ومتنا.
10 - أبو الفتح النطنزي روى في كتابه الخصايص العلوية، عن أبي سعيد الخدري بلفظ مر / 43، وعن الخدري وجابر الأنصاري...
11 - أبو حامد سعد الدين الصالحاني، قال شهاب الدين أحمد في توضيح الدلايل على ترجيح الفضايل: وبالإسناد المذكور عن مجاهد رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية: اليوم أكملت لكم، بغدير خم، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وبارك وسلم: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي، والولاية لعلي. رواه الصالحاني.
12 - شيخ الإسلام الحمويني الحنفي المتوفى 722، روى في فرايد السمطين في الباب الثاني عشر، قال: أنبأني الشيخ تاج الدين... الخ. انتهى.
القول الثالث: قول عمر بأنها نزلت في حجة الوداع بعرفة يوم جمعة
وهذا هو القول المشهور عند السنيين فقد رواه البخاري في صحيحه 1 / 16:
عن طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا!!
قال أي آية؟ قال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا. قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بعرفة، يوم جمعة.
- وفي البخاري 5 / 127: عن طارق بن شهاب إن أناسا من اليهود قالوا:
لو نزلت هذه الآية فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، فقال عمر: أية آية؟
فقالوا: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.
فقال عمر: إني لأعلم أي مكان أنزلت، أنزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة.. عن طارق بن شهاب: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرؤون آية، لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا!
فقال عمر: إني لأعلم حيث أنزلت وأين أنزلت، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت. يوم عرفة وأنا والله بعرفة - قال سفيان: وأشك كان يوم الجمعة، أم لا - اليوم أكملت لكم دينكم.
فقال عمر: إني لأعلم أي يوم نزلت هذه الآية، نزلت يوم عرفة في يوم جمعة.
سمع سفيان من مسعر، ومسعر قيسا، وقيس طارقا. انتهى.
وقد روت عامة مصادر السنيين رواية البخاري هذه ونحوها بطرق متعددة، وأخذ بها أكثر علمائهم، ولم يديروا بالا لتشكيك بعضهم في أن يكون يوم عرفة في حجة الوداع يوم جمعة، مثل سفيان الثوري والنسائي! ولا لرواياتهم المؤيدة لرأي أهل البيت عليهم السلام، التي تقدمت.. وذلك بسبب أن الخليفة عمر قال إنها لم تنزل يوم الغدير بل نزلت في عرفات قبل الغدير بتسعة أيام، وقوله مقدم عندهم على كل اعتبار.
قال السيوطي في الإتقان 1 / 75: عن الآيات التي نزلت في السفر:
منها: اليوم أكملت لكم دينكم. في الصحيح عن عمر أنها نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع، وله طرق كثيرة. لكن أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري: أنها نزلت يوم غدير خم.
وأخرج مثله من حديث أبي هريرة وفيه: أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة مرجعه من حجة الوداع. وكلاهما لا يصح. انتهى.
وقال في الدر المنثور 2 / 259: أخرج ابن مردويه، وابن عساكر بسند ضعيف، عن أبي سعيد الخدري قال: لما نصب رسول الله صلى الله عليه
اليوم أكملت لكم دينكم. وأخرج ابن مردويه، والخطيب، وابن عساكر بسند ضعيف عن أبي هريرة قال: لما كان غدير خم وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعلي مولاه، فأنزل الله: اليوم أكملت لكم دينكم. انتهى.
وموقف السيوطي هو الموقف العام للعلماء السنيين.. ولكنه ذلك لا يعني أنهم يضعفون حديث الغدير كما تقدم، بل يقولون إن حديث الغدير صحيح، ولكن الآية نزلت قبل ذلك اليوم، تمسكا بقول الخليفة عمر الذي روته صحاحهم، مع أنهم رووا في مقابله أحاديث صحيحة أيضا.
ومن المتعصبين لرأي عمر: ابن كثير، وهذه خلاصة من تفسيره 2 / 14:
قال أسباط عن السدي: نزلت هذه الآية يوم عرفة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام. وقال ابن جرير وغير واحد: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما، رواهما ابن جرير.
ثم ذكر ابن كثير رواية مسلم وأحمد والنسائي والترمذي المتقدمة وقال:
قال سفيان: وأشك كان يوم الجمعة أم لا: اليوم أكملت لكم دينكم الآية.
وشك سفيان رحمه الله إن كان في الرواية فهو تورع، حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا، وإن كان شكا في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة فهذا ما أخاله يصدر عن الثوري رحمه الله، فإن هذا أمر معلوم مقطوع به، لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير ولا من الفقهاء،
وقال ابن جرير: عن قبيصة يعني ابن أبي ذئب قال: قال كعب لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه!! فقال عمر: أي آية يا كعب؟ فقال: اليوم أكملت لكم دينكم.
فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت والمكان الذي أنزلت فيه، نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد... ورواه في مختصر تاريخ دمشق 2 جزء 4 / 309.
وقال ابن جرير: حدثنا عمرو بن قيس السكوني أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم حتى ختمها، فقال: نزلت في يوم عرفة، في يوم جمعة... وقال ابن جرير: وقد قيل ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس!!
ثم روى من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: اليوم أكملت لكم دينكم، يقول ليس بيوم معلوم عند الناس. قال: وقد قيل إنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى حجة الوداع..
ثم قال ابن كثير: قلت: وقد روى ابن مردويه من طريق أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم، حين قال لعلي: من كنت مولاه فعلي مولاه.
ثم رواه عن أبي هريرة، وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، يعني مرجعه عليه السلام من حجة الوداع.
وتلاحظ أن ابن كثير لا يريد الاعتراف بوجود تشكيك في أن يوم عرفة كان يوم جمعة، لأن ذلك يخالف قول عمر، وقد صعب عليه تشكيك سفيان الثوري الصريح فالتف عليه ليخربه!!
ومما يدل على أن الرواة كانوا في شك من أن يوم عرفات كان يوم جمعة:
ما رواه الطبري في تفسيره 4 / 111، مما لم يذكره ابن كثير قال: حدثنا ابن المثنى قال: ثنا عبد الوهاب قال: ثنا داود قال قلت لعامر: إن اليهود تقول: كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي أكمل الله لها دينها فيه؟! فقال عامر: أوما حفظته؟ قلت له: فأي يوم؟ قال: يوم عرفة أنزل الله في يوم عرفة!! وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية أعني قوله: اليوم أكملت لكم دينكم يوم الاثنين، وقالوا: أنزلت سورة المائدة بالمدينة.
ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: ثنا إسحاق قال: أخبرنا محمد بن حرب قال: ثنا ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش عن ابن عباس: ولد نبيكم صلى الله عليه وآله يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين: اليوم أكملت لكم دينكم، ورفع الذكر يوم الاثنين.