الصفحة 94

الصفحة 95



حديث الدار





الصفحة 96

الصفحة 97

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.

تعرضنا في البحوث السابقة إلى بعض آيات من القرآن الكريم يستدلّ بها على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وكانت الآيات المذكورة دالة على عصمته، أو على ولايته، أو على أفضليّته (عليه السلام) من غيره، فكانت دالة على إمامة أمير المؤمنين بالوجوه المختلفة.

ننتقل الآن إلى الحديث والبحث عن عدّة من الأحاديث المستدل بها على إمامة أمير المؤمنين، فإنّ الأحاديث الواردة في كتب أهل السنّة الدالّة على إمامة أمير المؤمنين كثيرة لا تحصى، وهي أيضاً تنقسم إلى أقسام:

منها: ما هو نصّ في إمامته وخلافته.

ومنها: ما يدلّ على أفضليّته بعد رسول الله.

ومنها: ما يدلّ على أولويّته وولايته.

ومنها: ما يدلّ على العصمة.


الصفحة 98

الصفحة 99

نصّ حديث الدار

موضوع بحثنا في هذه الليلة حديث الإنذار أو حديث الدار.

لمّا نزل قوله تعالى ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ )(1) دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجال عشيرته، ودعاهم إلى الإسلام، وهذا الخبر وارد في كتب التاريخ، في كتب السيرة، في كتب التفسير، وفي الحديث أيضاً.

قبل كلّ شيء، أقرأ لكم نصّ الحديث عن تفسير البغوي المتوفى سنة 510هـ، يقول البغوي:

روى محمّد بن إسحاق، عن عبد الغفار بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبدالله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب، عن عبدالله بن عباس، عن علي بن أبي طالب قال:

لمّا نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) دعاني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا علي، إنّ الله يأمرني أن أُنذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أنّي متى أُباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمتُّ عليها، حتّى جاءني جبرئيل فقال لي: يا محمّد إلاّ تفعل ما تؤمر يعذّبك ربّك، فاصنع لنا صاعاً من طعام، واجعل عليه رِجل شاة، واملأ لنا عسّاً من لبن، ثمّ اجمع لي بني عبد المطّلب حتّى أُبلّغهم ما أُمرت به.

ففعلت ما أمرني به، ثمّ دعوتهم له، وهم يومئذ أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب.

فلمّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعته، فجئتهم به، فلمّا وضعته، تناول

____________

1- سورة الشعراء: 214.


الصفحة 100
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جذبة من اللحم، فشقّها بأسنانه، ثمّ ألقاها في نواحي الصفحة، ثمّ قال: خذوا باسم الله، فأكل القوم حتّى ما لهم بشيء حاجة، وأيم الله أنْ كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما قدمت لجميعهم.

ثمّ قال: إسقِ القوم، فجئتهم بذلك العس فشربوا حتّى رووا جميعاً، وأيم الله أنْ كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله.

فلمّا أراد رسول الله أن يكلّمهم بدره أبو لهب فقال: سحركم صاحبكم، فتفرّق القوم ولم يكلّمهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .

فقال في الغد: يا علي، إنّ هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول، فتفرّق القوم قبل أنْ أُكلّمهم، فأعد لنا من الطعام مثل ما صنعت ثمّ اجمعهم، ففعلت ثمّ جمعت، فدعاني بالطعام فقرّبته، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا وشربوا، ثمّ تكلّم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال:

يا بني عبد المطّلب، إنّي قد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أنْ أدعوكم إليه، فأيّكم يوآزرني على أمري هذا ويكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟

فأحجم القوم عنها جميعاً.

فقلت وأنا أحدثهم سنّاً: يا نبيّ الله، أكون وزيرك عليه.

قال: فأخذ برقبتي وقال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.

فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أنْ تسمع لعلي وتطيع(1).

____________

1- معالم التنزيل 4/278 ـ 279 ـ طبعة دارالفكر ـ بيروت ـ 1405 هـ.


الصفحة 101

رواة حديث الدار

هذا الخبر يرويه محمّد بن إسحاق مسنداً عن ابن عباس، وهو موجود في كتاب كنز العمال مع فرق سأذكره فيما بعد.

يرويه صاحب كنز العمال عن:

1 ـ ابن إسحاق.

2 ـ ابن جرير الطبري، صاحب التفسير والتاريخ.

3 ـ ابن أبي حاتم الرازي، صاحب التفسير المعروف.

4 ـ ابن مردويه.

5 ـ أبي نعيم الإصفهاني الحافظ.

6 ـ البيهقي(1).

فرواة هذا الحديث أئمّةٌ أعلام من أهل السنّة، منهم:

محمّد بن إسحاق صاحب السيرة، المتوفى سنة 152 هـ (2).

محمّد بن إسحاق يروي هذا الخبر عن عبد الغفار بن القاسم، وهو أبو مريم الأنصاري، وهو شيخ من شيوخ شعبة بن الحجاج الذي يلقّبونه بأمير المؤمنين في الحديث، ويقولون بترجمته إنّه لا يروي إلاّ عن ثقة، وشعبة بن الحجاج كان يثني على

____________

1- كنز العمال 13/131 رقم 36419 ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1405 هـ، تفسير الطبري 19/74 ـ دار المعرفة ـ بيروت، السنن الكبرى 9/7 ـ دار المعرفة ـ بيروت، تفسير ابن أبي حاتم 9/2826 رقم 16015 باختلاف ـ مكتبة نزار الباز ـ مكة المكرمة ـ 1417 هـ.

2- من رجال البخاري ـ في المتابعات ـ ومسلم والأربعة. تقريب التهذيب 2 / 144.


الصفحة 102
عبد الغفار بن القاسم الذي هو شيخه، لكن المتأخرين من الرجاليين يقدحون في عبد الغفار، لأنّه كان يذكر بلايا عثمان، أي كان يتكلّم في عثمان، أو يروي بعض مطاعنه، ولذا نرى في ميزان الإعتدال عندما يذكره الذهبي يقول: رافضي.

فإذا عرفنا وجه تضعيف هذا الرجل وهو التشيع، أو نقل بعض قضايا عثمان، إذا عرفنا هذا السبب للجرح، فقد نصّ ابن حجر العسقلاني في مقدمة فتح الباري في شرح البخاري على أنّ التشيع بل الرفض لا يضر بالوثاقة، هذا نص عبارة الحافظ ابن حجر العسقلاني في مقدمة شرح البخاري.

فإذن، هذا الرجل لا مطعن فيه ولا مورد للجرح، إلاّ أنّه يروي بعض مطاعن عثمان، لكن شعبة تلميذه يروي عنه ويثني عليه، وشعبة أمير المؤمنين عندهم في الحديث. فهذا عبد الغفار بن القاسم.

والمنهال بن عمرو، من رجال صحيح البخاري، والصحاح الأربعة الأُخرى فهو من رجال الصحاح ما عدا صحيح مسلم(1).

وأمّا عبدالله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب، فهذا من رجال الصحاح الستّة كلّها(2).

عن عبدالله بن العباس.

عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) .

فالسند في نظرنا معتبر، وعلى ضوء كلمات علمائهم في الجرح والتعديل، إلاّ عبد الغفار بن القاسم، الذي ذكرنا وجه الطعن فيه والسبب في جرح هذا الرجل، وهذا السبب ليس بمضر بوثاقته، استناداً إلى تصريح الحافظ ابن حجر العسقلاني في مقدمة فتح الباري(3).

____________

1- من رجال البخاري والأربعة، تقريب التهذيب 2 / 278.

2- تقريب التهذيب 1 / 408.

3- مقدمة فتح الباري: 382، 398، 410.


الصفحة 103
فهذا نص الخبر، وفيه كما سمعتم أنّ النبي يقول: " فأيّكم يوآزرني على أمري هذا ويكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فقال أمير المؤمنين: يا نبي الله أكون وزيرك عليه، فأخذ رسول الله برقبة علي وقال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيع ".

وليست الإمامة والخلافة إلاّ: وجوب الإطاعة، وجوب الإقتداء، وجوب الأخذ، وجوب التمسّك بالشخص، وأيّ نصّ أصرح من هذا في إمامة علي أو غير علي؟

يعني لو كان هذا اللفظ وارداً في حقّ غير علي بسند معتبر متفق عليه لوافقنا نحن على إمامة ذلك الشخص.

فهذا هو الخبر، وهو خبر متفق عليه بين الطرفين، إذ ورد هذا الخبر بأسانيد علمائنا وأصحابنا في كتبنا المعتبرة المشهورة.

فمن رواة هذا الخبر:

1 ـ ابن إسحاق، صاحب السيرة.

2 ـ أحمد بن حنبل، يروي هذا الخبر في مسنده(1).

3 ـ النسائي، صاحب الصحيح(2).

4 ـ الحافظ أبو بكر البزار، صاحب المسند.

5 ـ الحافظ سعيد بن منصور، في مسنده.

6 ـ الحافظ أبو القاسم الطبراني، في المعجم الأوسط.

7 ـ الحافظ أبو عبدالله الحاكم النيسابوري، في مستدركه على الصحيحين.

8 ـ عرفتم أنّ من رواته أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري.

9 ـ الحافظ أبو جعفر الطحاوي، صاحب كتاب مشكل الآثار.

____________

1- مسند أحمد 1/111 رقم 885 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ـ 1414 هـ.

2- سنن النسائي 6/248 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.


الصفحة 104
10 ـ عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، صاحب التفسير.

11 ـ أبو بكر بن مردويه.

12 ـ الحافظ أبو نعيم الإصفهاني، صاحب دلائل النبوة وكتاب حلية الأولياء.

13 ـ الحافظ البغوي، صاحب التفسير.

14 ـ الضياء المقدسي، في كتابه المختارة، وهذا الكتاب الذي التزم فيه الضياء المقدسي بالصحة، فلا يروي في كتابه هذا إلاّ الروايات الصحيحة المعتبرة، ولذا قدّم بعض علمائهم هذا الكتاب على مثل المستدرك للحاكم، ومن جملة من ينصّ على ذلك هو ابن تيميّة صاحب منهاج السنّة، ينصّ على أنّ كتاب المختارة أفضل وأتقن من المستدرك للحاكم.

15 ـ الحافظ ابن عساكر الدمشقي، صاحب تاريخ دمشق.

16 ـ أبو بكر البيهقي، صاحب دلائل النبوة.

17 ـ الحافظ ابن الأثير، صاحب الكامل في التاريخ.

18 ـ الحافظ أبو بكر الهيثمي، في كتابه مجمع الزوائد يروي هذا الحديث(1).

19 ـ الحافظ الذهبي، في تلخيص المستدرك ينصّ على صحّة هذا الحديث.

20 ـ الحافظ جلال الدين السيوطي، في كتابه الدر المنثور.

21 ـ الشيخ علي المتقي الهندي، صاحب كنز العمال، يرويه صاحب كنز العمال عن: أحمد، والطحاوي، وابن إسحاق، ومحمّد بن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبي نعيم الإصفهاني، والضياء المقدسي.

هذا بالنسبة إلى متن الحديث، وعدّة من كبار علماء القوم الرواة لهذا الحديث في كتبهم.

____________

1- مجمع الزوائد 9 / 113، وفيه: وإسناده جيّد ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ـ 1403 هـ.


الصفحة 105
وأمّا بالنسبة إلى سنده، فسنده في كتاب محمّد بن إسحاق قد قرأته لكم وصحّحت السند.

ويقول الحافظ الهيثمي في كتابه مجمع الزوائد بعد أن يرويه عن أحمد بن حنبل يقول: رواه أحمد ورجاله ثقات(1).

ويقول بعد أن يرويه بسند آخر عن بعض كبار علمائهم من أحمد وغير أحمد يقول: رجال أحمد وأحد إسنادي البزّار رجال الصحيح غير شريك وهو ثقة(2).

إذن، حصلنا على أسانيد عديدة ينصّون على صحّتها.

مضافاً: إلى سند الحافظ المقدسي في كتابه المختارة الملتزم في هذا الكتاب بالصحّة.

كما ذكر المتقي الهندي صاحب كنز العمال: أنّ الطبري محمّد بن جرير قد صحّح هذا الحديث.

وأيضاً، صحّحه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس في حديث طويل، ووافقه على التصحيح الحافظ الذهبي في تلخيص المستدرك.

وأيضاً نصّ على صحّة هذا الحديث الشهاب الخفاجي في شرحه على الشفاء للقاضي عياض، حيث يذكر هناك معاجز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومن جملة معاجزه هذه القضية، حيث أنّ الطعام كان صاعاً واحداً وعليه رِجل شاة فقط، فأكلوا وكلّهم شبعوا، وهذا من جملة معاجز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ويقول الشهاب الخفاجي: إنّ سند هذا الخبر صحيح(3).

وعندما نراجع نصوص الحديث في الكتب المختلفة، نجد في بعضها هذا اللفظ: " فأيّكم يوآزرني على أمري هذا ويكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟ قال علي: أنا يا

____________

1- مجمع الزوائد 8/302 ـ باب معجزاته صلّى الله عليه وسلّم في الطعام.

2- مجمع الزوائد 8/303.

3- نسيم الرياض ـ شرح الشفاء للقاضي عياض 3 / 35.


الصفحة 106
نبيّ الله، أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي فقال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لعلي ".

وهذا لفظ، وقد قرأناه عن عدّة من المصادر.

لفظ آخر: " من يضمن عنّي ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنّة ويكون خليفتي في أهلي؟ فقيل له: أنت كنت بحراً، من يقوم بهذا، فعرض ذلك على أهل بيته واحداً واحداً، فقال علي: أنا، فبايعه رسول الله على هذا "(1).

ومن ألفاظ هذا الحديث ما يلي: " قال رسول الله: من يبايعني على أن يكون أخي ووصيّي ووليّكم من بعدي؟ قال علي: فمددت يدي فقلت: أنا أُبايعك. فبايعني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "(2).

فهذه ألفاظ الحديث، وتلك أسانيد الحديث، وتلك كلمات كبار علمائهم في صحّة هذا الحديث وتنصيصهم على صحّته.

____________

1- تفسير ابن كثير 6/168 ـ دار طيبة ـ الرياض ـ 1418 هـ، كنز العمال 13/128 رقم 36408 ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1405 هـ.

2- كنز العمال 13/149 رقم 36465.


الصفحة 107

دلالة حديث الدار على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)

وهذا الحديث الصحيح المتفق عليه هو من جملة أدلّتنا على إمامة أمير المؤمنين الدالّة على إمامته وولايته بالنص.

وإنّما اخترت من بين الأحاديث التي هي نصّ على إمامة أمير المؤمنين هذا الحديث في هذه الليلة، لخصوصيات موجودة في هذا الحديث، قد لا تكون في غيره، مضافاً إلى صحّته وكونه مقبولاً بين الطرفين، بل يمكن دعوى تواتر هذا الحديث:

الخصوصية الأولى:

صدور هذا الحديث في أوائل الدعوة النبويّة، وفي بدء البعثة المحمّديّة، فكأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مأمورٌ بأنْ يبلّغ ثلاثة أُمور في آن واحد وفي عرض واحد:

مسألة التوحيد والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.

ومسألة رسالته.

ومسألة خلافته من بعده الثابتة لعلي (عليه السلام) .

وقد أسفر ذلك المجلس وتلك الدعوة عن هذه الأُمور الثلاثة.

الخصوصية الثانية:

إنّ القوم من أبي لهب وغيره قالوا ـ وهم يضحكون ـ لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لابنك علي.


الصفحة 108
هذا ممّا يؤيّد استنتاجنا من هذا الحديث واستظهارنا من هذا الكلام، إنّه حتّى أُولئك المشركون أيضاً فهموا من هذا الحديث ومن هذا اللفظ ومن كلام رسول الله: إنّه يريد أن ينصب عليّاً إماماً مطاعاً من بعده لعموم الناس.

الخصوصية الثالثة:

إستدلال أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذا الخبر في جواب سائل، يروي هذا الحديث النسائي في صحيحه(1) يقول: إنّ رجلاً قال لعلي: يا أمير المؤمنين بم ورثت ابن عمّك دون عمّك؟ أي، بأيّ دليل أصبحت أنت وارثاً لرسول الله ولم يكن العباس وارثاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ فذكر الإمام (عليه السلام) حديث الإنذار، وجاء في هذا الحديث بهذا اللفظ وقال: أنت أخي ووارثي ووزيري. فذكر أمير المؤمنين في جواب هذا السائل هذا الخبر ثمّ قال: فبذلك ورثت ابن عمّي دون عمّي.

إذن، يصبح علي (عليه السلام) بحكم هذا الحديث القطعي المتفق عليه خليفة لرسول الله ووزيراً له ووارثاً ووصيّاً وقائماً مقامه ووليّه من بعده، والناس كلهم مأمورون لأنْ يطيعوه ويسمعوه.

أو ليست الخلافة والإمامة هذا؟

وأيّ شيء يريدون منّا عند إقامتنا الأدلّة على إمامة أمير المؤمنين أوضح وأصرح من مثل هذه الأحاديث الواردة في كتبهم وبأسانيد معتبرة ينصّون هم على صحّتها؟

وهل ورد مثل هذا في حقّ أحد غير علي مع هذه الخصوصيات من حيث السند والدلالة والقرائن الموجودة في لفظه؟

____________

1- خصائص أمير المؤمنين: 86، ط الغري، وهو من صحيحه كما ثبت في محلّه.


الصفحة 109

مع علماء أهل السنة في حديث الدار

حينئذ يأتي دور مواقف العلماء من أهل السنّة، الذين يريدون ـ في الحقيقة ـ أن يبرّروا ما وقع، الذين يحاولون أن يوجّهوا ما كان!!

اختلفت مواقفهم أمام هذا الحديث الصحيح سنداً، الصريح دلالةً على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) .

مع الفضل ابن روز بهان:

يقول الفضل ابن روزبهان(1): إنّ كلمة خليفتي التي هي مورد الإستدلال غير موجودة في مسند أحمد، وهي من إلحاقات الرافضة.

لو لم يكن مسند أحمد موجوداً بين أيدينا، لو لم ينظر أحد في كتاب مسند أحمد، لأمكن للفضل أن يتفوّه بمثل هذه الكلمة ويقول هذا الكلام ويتركه على عواهنه، إذا لم يراجع أحد المسند، أو كان كتاب المسند غير موجود بين أيدينا، ولكن يقتضي أن يكون الإنسان عندما يتكلّم يتصوّر الآخرين يسمعون كلامه، ويلتفت إلى أنّهم سيراجعون إلى المصادر التي يحيل إليها، إمّا إثباتاً وإمّا نفياً، وإلاّ فمن العيب للإنسان العاقل عندما يريد أن يتكلّم يتصوّر الناس كأنّهم لا يسمعون، أو لا يفهمون، أو سوف لا يراجعون إلى تلك المصادر أو الكتب التي يذكرها.

____________

1- أنظر: دلائل الصدق 2 / 359.


الصفحة 110
إنّ هذا الحديث موجود في غير موضع من مسند أحمد بن حنبل والكلمة أيضاً موجودة في رواية مسند أحمد، وقد راجعناه نحن، ومسند أحمد بن حنبل موجود الآن بين أيدينا(1).

فالتكلم بهذا الأُسلوب، إمّا أن يكون من التعصب وقلة الحياء، وإمّا أن يكون من الجهل وعدم الفهم، وإلاّ فكيف يكذّب الإنسان مثل العلاّمة الحلّي الذي هو في مقام الإستدلال على العامة بكتبهم، ينقل عنهم ليستدلّ بما يروونه، فيلحق كلمة أو كلمات في حديث، وهو في مقام الإحتجاج والإستدلال؟! هذا شيء لا يكون من مثل العلاّمة وأمثاله.

هذا بالنسبة إلى الفضل ابن روزبهان، وقد أراد أن يريح نفسه بهذا الأُسلوب.

مع ابن تيمية:

وأمّا ابن تيميّة، فقد أراح نفسه بأحسن من هذا، وأراد أنْ يريح الآخرين أيضاً، قال: هذا الحديث كذب عند أهل المعرفة بالحديث، فما من عالم يعرف الحديث إلاّ وهو يعلم أنّه كذب موضوع، ولهذا لم يروه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات، لأنّ أدنى من له معرفة بالحديث يعلم أنّ هذا كذب(2).

إنّ هذا الأُسلوب من الكلام يدلّ بشكل آخر على صحّة هذا الحديث، وتماميّة الإستدلال بهذا الحديث، أي لولا صحّة هذا الحديث ولولا تماميّة دلالة هذا الحديث على مدّعى الإمامية، لما التجأ ابن تيميّة إلى أن يقول بهذا الشكل، وأن يتهجّم على العلماء من الشيعة والسنّة أيضاً لروايتهم هذا الحديث، لأنّه يقول: إنّ أدنى من له معرفة بالحديث يعلم أنّ هذا كذب.

____________

1- مسند أحمد 1 / 111.

2- منهاج السنّة 7 / 302.


الصفحة 111
إذن، فأحمد بن حنبل مع علمه بكون هذا الحديث كذباً يرويه أكثر من مرّة في مسنده! ومحمّد بن جرير الطبري في تاريخه يروي هذا الخبر مع علمه بأنّه كذب! والنسائي أيضاً! وأبو بكر البزّار كذلك! وو... إلى آخره، وهؤلاء كبار علمائهم وأعلام محدّثيهم، يروون مثل هذا الحديث وهم يعلمون أنّه كذب!!

ولو أمكن للإنسان أن يرتاح بمثل هذه الأساليب، فلكلّ منكر أن ينكر في أيّ بحث من البحوث، في أيّ مسألة من المسائل، سواء في أُصول الدين أو في فروع الدين، أو في قضايا أُخرى وعلوم أُخرى، يكتفي بالإنكار، بالنفي، والتكذيب.

لكن هذا الأُسلوب ليس له قيمة في سوق الإعتبار، هذا الأُسلوب لا يسمع ولا يعتنى به، ولا جدوى له ولا فائدة، لذلك لابدّ من أساليب أُخرى.

تحريف الحديث:

من جملة الأساليب: تحريف الحديث، فالطبري يروي هذا الحديث في تاريخه وفي تفسيره أيضاً، إنْ رجعتم إلى التاريخ لرأيتم الحديث كما ذكرناه، ورووه عنه في كتبهم كصاحب كنز العمال(1) وغيره، وأيضاً السيوطي في الدر المنثور(2) يروي هذا الحديث عن الطبري، وينصّ صاحب كنز العمال على أنّ الطبري قد صحّح هذا الحديث، فالحديث في تاريخه كما رأيتم وسمعتم.

أمّا في تفسيره، إذا لاحظتم تفسير الطبري في ذيل هذه الآية المباركة: ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) تأتي العبارة بهذا الشكل: " إنّ هذا أخي وكذا وكذا "(3)، وأصل العبارة: " إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم "، جاء بدل هذه العبارة: " إنّ هذا أخي وكذا وكذا ".

____________

1- مجمع الزوائد 9 / 113، كنز العمال 13 / 131.

2- الدر المنثور 6/324 ـ 329 ـ دارالفكر ـ بيروت ـ 1403 هـ.

3- تفسير الطبري 19/75 ـ دار المعرفة ـ بيروت.


الصفحة 112
لكنّنا لا نعلم هل هذا من صنع الطبري نفسه، أو من النسّاخ لتفسيره، أو من الطابعين؟ هذا لا نعلمه، ولا يمكننا أنْ نرمي الطبري نفسه، لأنّه يكون من باب الرجم بالغيب، لا نتمكّن أن نقول، أو أن نتّهم الطبري نفسه، فربّما كان هذا من النسّاخ للتفسير، أو كان من الطابعين، والله العالم.

هذا أُسلوبٌ، أُسلوب التحريف.

وأيضاً، إذا راجعتم الدر المنثور للسيوطي، ففي الدر المنثور ينقل نفس الحديث عن نفس الأشخاص من ابن إسحاق، وابن جرير الطبري، وأبي نعيم، والبيهقي، وابن مردويه، وغيرهم، عندما يصل إلى هذه الجملة التي هي محل الإستدلال، تأتي الجملة في الدرّ المنثور بهذا الشكل: " فأيّكم يوآزرني على أمري هذا، فقلت وأنا أحدثهم سنّاً: أنا، فقام القوم يضحكون "(1)، ولا يوجد أكثر من هذا، يعني حذف من اللفظ جملة: " ويكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ". هذا حذف.

وأيضاً حذفوا منه: قام القوم يضحكون وقالوا لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لعليّ. هذا أيضاً محذوف.

وهل هذا من السيوطي نفسه؟ لا نعلم، من النسّاخ؟ لا نعلم، من الناشرين للكتاب؟ لا نعلم.

مع الندوي:

ومن علماء العامّة المؤلِّفين المعروفين في هذا الزمان: أبو الحسن الندوي.

وهذا الرجل الذي هو من كبار علماء السنّة، يسكن في الهند، وعنده دار الندوة مدرسة كبيرة يعلّم هناك الطلبة ويدرّبهم، وله ارتباطات ببعض الجهات الكذائية، له كتب، ومن جملة مؤلفاته كتاب المرتضى سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وكرّم الله

____________

1- الدرّ المنثور 6 / 324 و329.


الصفحة 113
وجهه، وهو كتاب صغير في حجمه جدّاً، وكثير من مطالب هذا الكتاب لا علاقة لها بأمير المؤمنين أصلاً، لعلّ مائة صفحة أو مائة وخمسين صفحة من هذا الكتاب ـ الذي هو في مائتين وخمسين صفحة تقريباً ـ يتعلّق بأمير المؤمنين، وأصبح كتاب سيرة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وكرّم الله وجهه!! في مائة وخمسين صفحة تقريباً!!

فهناك عندما يصل إلى هذه القضية يقول: وتكلّم ابن كثير في بعض رواة القصة، وفيها ما يشكك في صحّتها وضبطها. انتهى، وهذا غاية ما حقّقه هذا الرجل العالم في نظرهم الذي له أتباع وأنصار في مختلف البلاد.

مع هيكل:

وأمّا محمّد حسين هيكل، فقد قامت القيامة عليه عندما نشر كتابه حياة محمّد، وذكر القصة كما هي في كتب القوم في كتابه المذكور، قامت القيامة ضدّه حتّى ألجأوه إلى حذف القصة في الطبعة الثانية من كتابه.

مع البوطي:

ويأتي محمّد سعيد رمضان البوطي، فيؤلّف كتاباً في السيرة النبويّة يسمّيها فقه السيرة النبويّة، يكتب السيرة النبويّة كما يشاء له هواه، وهناك إذا راجعتم لا يشير إلى هذه القصة لا من قريب ولا من بعيد، وهذا أيضاً له أنصار وأتباع وأعوان، ويذكر كعالم من علمائهم في هذا الزمان.


الصفحة 114

الصفحة 115

خاتمة المطاف

فتلخص ممّا ذكرنا: إنّ الحديث حديث متفق عليه بين الطرفين، مقطوع الصدور، وقد يمكن دعوى أنّ هذا الخبر قد بلغ إلى حدّ الدراية ولا يحتاج إلى رواية، ورواه كبار علماء القوم في كتبهم ونصّوا على صحّته كما ذكرت لكم بعض الكلمات.

كما أنّي حاولت أنْ أُحصّل على سند محمّد بن إسحاق نفسه كي أرى مدى اعتبار هذا السند، وقد قرأته لكم ووثّقت رجاله، إلاّ عبد الغفار بن القاسم الذي تكلّموا فيه، لأنّه كان يذكر بعض معايب عثمان ورموه بالتشيّع والرفض، وقد قلنا: إنّ التشيّع والرفض لا يضرّان بالوثاقة كما نصّ الحافظ ابن حجر العسقلاني في مقدمة شرح البخاري، مضافاً إلى أنّ هذا الرجل يثني عليه شعبة ويروي عنه، وشعبة عندهم أمير المؤمنين في الحديث.

فإذاً تمّ سنده، وكانت دلالته صريحة، ورأينا أنّهم ليس لهم كلام معقول في الجواب عن هذا الإستدلال.

مثلاً: إذا تراجعون منهاج السنّة يقول في الإشكال على هذا الخبر: بأنّ رجال قريش في ذلك العهد لم يكونوا يبلغون الأربعين، وهذا من علائم كذب هذا الخبر.

هذا وجه يقوله ابن تيميّة، لا أدري من الّذي يرتضي هذا الكلام من مثل هذا الشخص الذي هو شيخ إسلامهم!؟

وأيضاً: إنّه يشكل على هذا الخبر بأنّ العرب لم يكونوا أكّالين بهذا المقدار، بحيث أنّ هؤلاء أكلوا وشبعوا والطعام كفاهم كلّهم، فهذا من قرائن كذب هذا الخبر.

ليس عندهم كلام معقول يذكر في مقام ردّ الاستدلال بهذا الحديث، لذا تراهم يلتجئون إلى التحريف، يلتجئون إلى التصرّف في الحديث.


الصفحة 116
وإنّني على يقين بأنّ الباحث الحرّ المنصف، إذا وقف على هذا المقدار من البحث، أيّ باحث يكون، سواء كان مسلماً أو خارجاً عن الدين الإسلامي، ويريد أن يحقّق في مثل هذه القضايا، لو أُعطي هذا الحديث مع مصادره، وعرف رواة هذا الحديث، وأنّهم كبار علماء السنّة في العصور المختلفة، ثمّ لاحظ متن الحديث ولفظه بدقّة، ثمّ راجع كلمات المناقشين في هذا الحديث والمعارضين لهذا الإستدلال، من مثل ابن تيميّة والفضل ابن روزبهان وأمثالهما، وثمّ تصرّفات هؤلاء في متن هذا الحديث.

لو أنّ هذا الباحث الحرّ المنصف يحقّق هذه الأُمور، وفي ما يتعلّق بهذا الحديث وحده فقط، أنا على يقين بأنّ الباحث الحر المنصف يكفيه هذا الحديث للإعتقاد بإمامة علي بعد رسول الله، كما أنّي أعتقد أنّ الذين يأخذون معارف دينهم ومعالم دينهم من مثل الفضل ابن روزبهان أو من مثل ابن تيميّة أو الندوي أو البوطي، لو دقّقوا النظر وراجعوا القضايا على واقعيّاتها، واستمعوا القول لاتباع الأحسن، لرفعوا اليد عن اتباع مثل هؤلاء الأشخاص، وعن أن يقلّدوهم في أُصولهم وفروعهم.

ولكنّ الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يهدي أحداً يهديه، وما تشاءون إلاّ أنْ يشاء الله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.