يقول علي القاري في المرقاة في شرح المشكاة(1) بأنّ هذا القول باطل، لثبوت أنّ عليّاً رجع من اليمن، وكان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجّة الوداع.
وفي الصحاح أيضاً حديث بقضيّة الخروج من الإحرام، كلّهم يروون هذا الحديث، أصحاب الصحاح الستّة وغيرهم، وفيه: إنّ عليّاً كان مع رسول الله في حجّة الوداع.
فقول الفخر الرازي بأنّ عليّاً كان في اليمن في ذلك الوقت، يدلّ من جهة أُخرى على صحّة هذا الحديث، وتماميّة دلالة حديث الغدير على إمامة أمير المؤمنين.
مسألة عدم التسليم بصحة حديث الغدير:
ثمّ هناك محاولة أُخرى لردّ حديث الغدير، يقول بعضهم: لا نسلّم صحّة هذا الحديث، ومن هؤلاء الفخر الرازي أيضاً.
وقد ذكرنا عدّة من أعلام القوم الذين ينصّون على تواتر حديث الغدير، ويذكرون حديث الغدير في كتبهم المختصة بالأحاديث المتواترة.
مسألة عدم تواتر حديث الغدير:
هناك مطلب ثالث، يقوله ابن حزم الأندلسي وبعض أتباعه، وترون الشيخ سليم البشري المالكي يقوله في مراجعته للسيّد شرف الدين، يقول: بأنّكم معاشر الإماميّة
____________
1- المرقاة في شرح المشكاة 5 / 574.
ويتلخص هذا الإشكال في إنكار تواتر حديث الغدير، الإشكال السابق كان إنكار صحّة حديث الغدير، فيسلّم هؤلاء بصحّة حديث الغدير، إلاّ أنّهم يناقشون في تواتره، فإذا لم يتم تواتر حديث الغدير لم يتم الإستدلال به على إمامة علي، لأنّ الحديث الظنّي وإنْ كان صحيحاً، وإن كان معتبراً، لا يثبت لنا أصلاً من أُصول الدين، إذْ لابدّ في أُصول الدين من القطع واليقين، والحديث الظنّي لا يفيد القطع، إذن، لا يثبت به أمر قطعي.
وهذا الإشكال إشكال أساسي إن تمّ نفي تواتر حديث الغدير، لكنّنا نلزمهم بمثل تصريح الذهبي، وابن كثير، وابن الجزري، والسيوطي، والكتّاني، والزبيدي، والمتقي الهندي، والشيخ علي القاري، وغيرهم، بتواتر حديث الغدير.
أمّا ابن حزم فقد ذكروا في ترجمته إنّه كان من النواصب، وأيضاً: يذكرون بترجمته إنّ لسان ابن حزم وسيف الحجّاج شقيقان، والأشقى منه من يتّبعه فيما يقول ويستند إلى كلماته وإلى أباطيله، وليس المجال الآن يسع لأكثر من هذا، وإلاّ لذكرت لكم بعض أباطيل هذا الرجل، لذكرت لكم كلامه المقتضي للحكم بكفر هذا الشخص.
إذن، هذا الإشكال أيضاً يندفع باعتراف كبار أئمّة القوم بتواتر حديث الغدير.
مسألة مجيء ((المولى) ) بمعنى ((الأُولى) )
عمدة الإشكال: مسألة المولى ومجيء هذه الكلمة بمعنى " الأولى ".
يقول الشيخ عبد العزيز الدهلوي صاحب كتاب التحفة الإثنا عشرية: بأنّ لفظة مولى لا تجيء بمعنى الأولى بإجماع أهل اللغة.
فهو ينفي مجي المولى بمعنى الأولى، ويدّعي إجماع أهل اللغة على هذا النفي.
نقول في الجواب:
أوّلاً: قد لا نستدلّ بالحديث المشتمل على لفظ المولى، ونستدلّ بالأحاديث الأُخرى التي جاءت بلفظ " الولي " و " الأمير " ونحو ذلك من الألفاظ.
وثانياً: نقول بأنّ الحديث يفسّر بعضه بعضاً، فالألفاظ الأُخرى رافعة للإبهام المدّعى وجوده في هذا اللفظ، ولا تبقى حينئذ مشكلة.
الجواب الثالث: الآية الكريمة الموجودة في سورة الحديد في القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة الموجودة حتّى في الصحيحين، الدالة على مجيء كلمة المولى بمعنى الأولى، لكنّ الورود في بحث مجيء المولى بمعنى الأولى على ضوء القرآن والحديث والأشعار العربية وغير ذلك يتطلّب وقتاً، ونحن لا يسعنا أن ندخل في ذلك البحث، غاية ما هناك نكتفي الآن بذكر أسامي عدّة من كبار علماء اللغة والتفسير والأدب ـ وهم من أهل السنّة ـ يصرّحون وينصّون على مجيء مولى بمعنى الأولى، فمنهم:
1 ـ أبو زيد الأنصاري، اللغوي المعروف.
2 ـ أبو عبيدة البصري معمر بن المثنى.
3 ـ أبو الحسن الأخفش.
4 ـ أبو العباس ثعلب.
5 ـ أبو العباس المبرّد.
6 ـ أبو إسحاق الزجّاج.
7 ـ أبو بكر ابن الأنباري.
8 ـ أبو النصر الجوهري، صاحب كتاب صحاح اللغة.
9 ـ جار الله الزمخشري، صاحب الكشّاف.
10 ـ الحسين البغوي، صاحب التفسير وصاحب مصابيح السنّة.
11 ـ أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي.
13 ـ النسفي، صاحب التفسير المعروف.
14 ـ أبو السعود العمادي، صاحب التفسير المعروف.
وأيضاً، ممّن ينصّ على مجيء المولى بمعنى الأولى من العلماء الآخرين الذين سجّلت أسماءهم هنا:
15 ـ شهاب الدين الخفاجي، الذي ذكرته لكم.
وأيضاً بعض المحشّين والمعلّقين من كبار العلماء والمدرّسين في تعاليقهم على تفسير البيضاوي.
ويكفي هذا المقدار للجواب عن هذه الشبهة.
إذن، يتلخص الجواب عن هذه الشبهة بالقرآن الكريم، فنفس كلمة المولى موجودة فيه وقد فسّرت بالأولى، في سورة الحديد قوله تعالى: ( هِيَ مَوْلاَكُمْ )أي النار (وَبِئْسَ الْمَصِيْرُ )(1) يفسّرون الكلمة بـ: هي أولى بكم وبئس المصير، والأحاديث أيضاً كثيرة، والأشعار العربيّة الفصيحة موجودة، وكلمات اللغويين أيضاً موجودة.
فارجعوا: إلى كتاب عبقات الأنوار، ونفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار ـ في قسم حديث الغدير ـ وارجعوا إلى كتاب الغدير للشيخ الأميني رحمة الله عليه، التفاصيل موجودة هناك، ولا أعتقد أنّ من العسير عليكم الحصول على تلك المطالب.
مسألة دلالة حديث الغدير على إمامة علي (عليه السلام) بعد عثمان:
وإذ رأوا أنْ لا جدوى في هذه المزاعم وفي هذه المناقشات، رأوا أنْ لا فائدة في إنكار وجود علي في يوم الغدير، رأوا أنْ لا فائدة في إنكار تواتر حديث الغدير، رأوا أنْ
____________
1- سورة الحديد: 15.
ولكن عندي ـ وأعتقد بيني وبين ربّي بحسب أحاديثهم ـ إنّ عثمان أفضل من الشيخين، هذا ما أعتقده بحسب أحاديثهم، وهذه دعوى لابدّ من إثباتها في وقت وفي فرصة تسنح لطرح مثل هذا البحث، وله أثره، لأنّه في النتيجة، إذا كان عليّ أفضل من عثمان ـ كما هو قول عدّة كبيرة من أعلامهم ـ فيكون عليّ أفضل من الكلّ بالقطع واليقين.
وعلى كلّ حال، فيحملون إمامة عليّ التي يدلّ عليها حديث الغدير على الإمامة بعد عثمان.
لكن هذا الحمل:
أوّلاً: يحتاج إلى أدلّة تفيد حقّية ما يذهبون إليه في الإمامة والخلافة بعد رسول الله، فإنْ أقاموا الدليل على صحة إمامة المشايخ الثلاثة كان حديث الغدير دالاًّ على إمامة عليّ بعدهم، ولكن لو كان هناك حديث معتبر على معتقدهم لما كان بيننا نزاع، لو كان هناك حديث يفيد القطع واليقين ويكون متّفقاً عليه بين الطرفين، لما كان بيننا نزاع.
إذن، هذه الدعوى أول الكلام، وهي مصادرة بالمطلوب.
وثانياً: مفاد حديث الغدير إنّ عليّاً أولى بهؤلاء من أنفسهم.
وثالثاً: ماذا يفعلون بالأحاديث الصحيحة الواردة في تهنئة المشايخ لعلي يوم غدير خم ومبايعتهم له بالإمامة والخلافة، وقد أصبحت كلمة عمر " بخ بخ لك يا علي، أصبحت
وكيف يحمل حديث الغدير على إفادة الإمامة بعد عثمان مع تلك البيعة؟ وهل بايعوا على أن يكون بعد ثالثهم؟ وهذا الوجه أيضاً لا يفيد وهم ملتفتون إلى هذا.
مسألة دلالة حديث الغدير على الامامة الباطنية:
وهل من وجه آخر؟ قال بعضهم: نعم، إنّ حديث الغدير يدلّ على إمامة عليّ، لكنّ الإمامة تنقسم إلى قسمين، هناك إمامة باطنيّة هي الإمامة في عرف المتصوّفة، فعليّ إمام المسلمين بعد رسول الله بلا فصل لكن هو إمامٌ في المعنى، إمام في القضايا المعنوية، إمام في الأُمور الباطنيّة، والمشايخ الثلاثة هم أئمّة المسلمين في الظاهر، ولهم الحكومة ولهم الأمر والنهي، ولهم القول المسموع واليد المبسوطة والكلمة النافذة.
يقولون هذا، وكأنّه قد فوّض إليهم أمر الإمامة والخلافة وتقسيم الإمامة، بأن يضعوها بذلك المعنى لعلي وولده، وبالمعنى الآخر للمشايخ الثلاثة، ثمّ لمعاوية ثمّ ليزيد ثمّ للمتوكّل ثمّ وثمّ إلى يومنا هذا!! كأنّ الإمامة أمر يرجع إلى هؤلاء وما تهواه أنفسهم، بأن يقولوا لعليّ: أنت إمام بمعنى كذا، وأنت يا فلان إمام بالمعنى الآخر، وهذا أشبه بالمضحكة، وإنْ دلّ على شيء فإنّما يدلّ على عجزهم عن الوجه الصحيح المعقول، والقول المقبول.
( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ) أي ليسوا بمؤمنين، أي لا يكونوا مؤمنين ( حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِم حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا
( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاْخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )(2) ( وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِي لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ )(3).
الحمد لله الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية أمير المؤمنين وأبنائه المعصومين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.
____________
1- سورة النساء: 65.
2- سورة البقرة: 201.
3- سورة الأعراف: 43.
حديث الولاية
تمهيد:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.
موضوع البحث: حديث الولاية، وهذا الحديث أيضاً من الأحاديث المتفق عليها بين الفريقين، حديث نقطع بصدوره عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
هذا الحديث يدلّ على إمامة أمير المؤمنين من جهات عديدة:
الجهة الأُولى: ثبوت الولاية والأولوية لأمير المؤمنين (عليه السلام) .
الجهة الثانية: دلالته على عصمة أمير المؤمنين (عليه السلام) .
الجهة الثالثة: إنّ بغض عليّ يخرج المبغض عن الإسلام وعليه أنْ يجدّد إسلامه ويشهد الشهادتين من جديد.
وكلّ جهة من هذه الجهات الثلاث يمكن أنْ يستدلّ بها بالإستقلال على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) .
رواة حديث الولاية
هذا الحديث يروونه [ أي أبناء السنّة ]:
1 ـ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) .
2 ـ عن الإمام الحسن السبط (عليه السلام) .
ويروونه أيضاً:
3 ـ عن ابن عباس.
4 ـ عن أبي ذر الغفاري.
5 ـ عن أبي سعيد الخدري.
6 ـ عن البراء بن عازب.
7 ـ عن عمران بن حصين.
8 ـ عن أبي ليلى الأنصاري.
9 ـ عن بريدة بن الحصيب.
10 ـ عن عبدالله بن عمرو.
11 ـ عن عمرو بن العاص.
12 ـ عن وهب بن حمزة.
وبعض هؤلاء الصحابة هم من مشاهير أعلامهم، وعلى رأسهم أمير المؤمنين (عليه السلام) .
ومن أشهر مشاهير الأئمّة الحفّاظ وأعلام الحديث الرواة لهذا الحديث الشريف في كتبهم عبر القرون المختلفة:
2 ـ أبو بكر بن أبي شيبة، صاحب المصنّف.
3 ـ أحمد بن حنبل، صاحب المسند، إمام الحنابلة.
4 ـ أبو عيسى الترمذي، صاحب الصحيح.
5 ـ النسائي، صاحب الصحيح.
6 ـ أبو يعلى الموصلي، صاحب المسند.
7 ـ أبو جعفر الطبري، صاحب التاريخ والتفسير المعروفين.
8 ـ أبو حاتم بن حبّان، صاحب الصحيح.
9 ـ أبو القاسم الطبراني، صاحب المعاجم الثلاثة.
10 ـ الحاكم النيسابوري، صاحب المستدرك.
11 ـ أبو بكر بن مردويه، صاحب التفسير.
12 ـ أبو نعيم الإصفهاني، صاحب حلية الأولياء وغيره من الكتب.
13 ـ أبو بكر الخطيب البغدادي، صاحب تاريخ بغداد.
14 ـ ابن عبد البر، صاحب الإستيعاب.
15 ـ ابن عساكر الدمشقي، صاحب تاريخ دمشق.
16 ـ ابن الأثير الجزري، صاحب أُسد الغابة.
17 ـ الضياء المقدسي، صاحب المختارة.
18 ـ البغوي، صاحب مصابيح السنّة، وصاحب التفسير المعروف معالم التنزيل.
ومن رواته أيضاً:
19 ـ الحافظ شمس الدين الذهبي، صاحب الكتب المعروفة.
20 ـ ابن حجر العسقلاني، صاحب فتح الباري والإصابة وغيرهما من الكتب.
21 ـ الحافظ جلال الدين السيوطي، صاحب المؤلفات الكثيرة المعروفة.
22 ـ شهاب الدين القسطلاني، صاحب إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري.
24 ـ الحافظ محمّد بن يوسف الصالحي الدمشقي، صاحب السيرة الشامية.
25 ـ ابن حجر المكّي، صاحب الصواعق المحرقة.
26 ـ الشيخ علي بن سلطان القاري الهروي، صاحب المرقاة في شرح المشكاة.
27 ـ عبد الرؤوف المنّاوي، صاحب فيض القدير في شرح الجامع الصغير.
28 ـ شاه ولي الله الدهلوي، علاّمة الهند، والمحدّث الكبير، صاحب المؤلفات الكثيرة، وصاحب المدرسة المعروفة في مدينة دهلي بالهند.
فهؤلاء وغيرهم يروون هذا الحديث الشريف عن الصحابة المذكورين.
نصّ حديث الولاية وتصحيحه
إلاّ أنّ المشهور برواية هذا الحديث من بين الصحابة:
1 ـ عبدالله بن عباس.
2 ـ بريدة بن الحصيب.
3 ـ عمران بن الحصين.
هؤلاء الثلاثة أكثر الروايات تنتهي إليهم.
أمّا رواياتهم عن ابن عباس، فلا يروون عنه إلاّ هذا المقدار من الحديث وهو محلّ الشاهد: " أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي " وهذا لفظ أبي داود الطيالسي في مسنده(1)، أو " أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي ومؤمنة " وهذا لفظ الحاكم في المستدرك(2)، أو " أنت وليّي في كلّ مؤمن بعدي " وهذا لفظ أحمد في المسند(3).
فرسول الله يخاطب عليّاً بمثل هذا الخطاب: " أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي ومؤمنة "، أو " أنت وليّ كلّ مؤمن من بعدي "، أو " أنت وليّي في كلّ مؤمن بعدي ".
ولا يخفى عليكم وجود كلمة بعدي في جميع الألفاظ الثلاثة في هذه المصادر التي ذكرتها.
هذا هو اللفظ عن ابن عباس، يرويه ابن عباس ضمن حديث يشتمل على مناقب
____________
1- مسند أبي داود الطيالسي: 360 رقم 2752 ـ دار المعرفة ـ بيروت.
2- مستدرك للحاكم 3/134.
3- مسند أحمد 1/545 ذيل حديث 3052.
وأمّا عن عمران وعن بريدة فيذكرون قضيةً وفيها قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : " علي منّي وأنا من علي وعلي وليّ كلّ مؤمن بعدي "، ففي روايتهم عن عمران بن حصين وعن بريدة بن الحصيب توجد هذه الإضافة: " علي منّي وأنا من علي وعلي وليّ كلّ مؤمن بعدي ".
إذن، عرفنا إلى الآن: الصحابة الرواة لهذا الحديث وأعلام المحدّثين وأشهر الأئمّة الحفّاظ من أهل السنّة في القرون المختلفة، الذين يروون هذا الحديث، وأيضاً عرفنا متن الحديث ولفظه الذي نريد أن نستدلّ به.
وأمّا سند الرواية عن ابن عباس، هذا السند الموجود في مسند أحمد، والموجود في مسند أبي داود الطيالسي، وفي مستدرك الحاكم، وغيرها من الكتب التي هي من أهمّ المصادر، هذا السند صحيح قطعاً، وقد نصّ على صحّته أيضاً كبار الأئمّة: كابن عبد البرّ صاحب الإستيعاب(1)، والمزّي صاحب تهذيب الكمال(2)، والسيوطي(3)، والمتقي(4)وغيرهم.
يقول الذهبي حيث يروي هذا الحديث في رسالته في حديث الغدير(5) في الرقم (81) عن بريدة: وهو حديث ثابت عن بريدة.
____________
1- الإستيعاب في معرفة الأصحاب 3 / 1092.
2- المزّي في تحفة الأشراف 5/191 رقم 6316 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت، تهذيب الكمال 20 / 481.
3- القول الجلي في مناقب عليّ: 60، جمع الجوامع كما في ترتيب كنز العمال 11 / 32941.
4- كنز العمال 11 / 608.
5- الرسالة مخطوطة، عثر عليها المرحوم المحقق العلاّمة السيد عبد العزيز الطباطبائي رحمة الله عليه وحقّقها.
إذن، سند الرواية عن ابن عباس صحيح، وأنا راجعت أسانيده وحقّقت رجاله، وقد اعترف بصحّته كبار الأئمّة الذين ذكرتهم.
أمّا اللفظ الذي يروونه عن عمران بن حصين، فممّن أخرجه وصحّحه: ابن أبي شيبة في المصنّف، وابن أبي شيبة كما تعلمون شيخ البخاري صاحب الصحيح، روى الحديث في المصنّف وعنه في كنز العمّال ونصّ على صحّته(1).
وأيضاً: رواه محمّد بن جرير الطبري.
وقد نصّ على صحّته أيضاً جلال الدين السيوطي(2) والمتقي الهندي صاحب كنز العمّال(3).
اللفظ الذي يروونه عن عمران، فيه شيء من التفصيل، وهذا لفظ الحديث كما في كنز العمّال(4):
عن ابن أبي شيبة والطبري عن عمران بن حصين يقول: بعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سرية ـ السرية قطعة من الجيش ـ واستعمل عليها علياً، فغنموا، فصنع علي شيئاً فأنكروه، وفي لفظ: فأخذ علي من الغنيمة جارية، فتعاقد أربعة من الجيش إذا قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنْ يعلموه، وكانوا إذا قدموا من سفر بدأوا برسول الله، فسلّموا عليه ونظروا إليه ثمّ ينصرفون إلى رحالهم، فلمّا قدمت السريّة سلّموا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فقام أحد الأربعة فقال: يا رسول الله ألم تر أنّ عليّاً قد أخذ من الغنيمة جارية، فأعرض عنه رسول الله، ثمّ قام الثاني فقال مثل ذلك، فأعرض عنه رسول الله، ثمّ قام الثالث فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثمّ قام الرابع فأقبل إليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يعرف الغضب في وجهه فقال: " ما تريدون من علي؟ ما
____________
1- كنز العمال 11 / 608.
2- القول الجلي في مناقب عليّ: 60.
3- كنز العمال 11 / 608.
4- كنز العمال 13/142 رقم 36444.
هذا لفظ كتاب المصنف ولفظ الطبري على ما يرويه عنهما المتقي الهندي في كنز العمال.
وكذا الحديث في المسند لأحمد بن حنبل وفي آخره: " فأقبل رسول الله على الرابع وقد تغيّر وجهه فقال: دعوا عليّاً، دعوا عليّاً، إنّ عليّاً منّي وأنا منه، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي "(1).
وفي صحيح الترمذي: فأقبل إليه ـ أي إلى الرابع ـ رسول الله، والغضب يعرف في وجهه فقال: " ما تريدون من علي، ما تريدون من علي، ما تريدون من علي، إنّ عليّاً منّي وأنا منه، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي "(2).
وكذا تجدون الحديث في صحيح ابن حبّان(3)، وفي صحيح النسائي(4)، وفي المستدرك وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه(5)، وكذا تجدون الحديث في المصادر الأُخرى.
إذن، قرأنا لفظ الحديث عن ابن عباس، فكان حديثاً مختصراً لم يرووا منه إلاّ ذلك المقدار المستشهد به، ثمّ قرأنا الحديث عن عمران بن حصين وفيه بعض التفصيل وذكر تلك القضية التي قال فيها رسول الله هذا الكلام.
لكن عند بريدة الخبر الصحيح " وعند جهينة الخبر الصحيح " فلننظر ماذا يروي بريدة بن الحصيب، فإنّه صاحب القضية، وهو الرجل الرابع الذي أقبل إليه رسول الله
____________
1- مسند أحمد 5/606 رقم 19426.
2- سنن الترمذي 5/632 رقم 3712 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
3- صحيح ابن حبان 15/373 رقم 6929 ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1418 هـ.
4- خصائص علي: 75، فضائل الصحابة للنسائي: 14 رقم 43 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت.
5- مستدرك الحاكم 3/110 ـ 111.
أرسل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى اليمن جيشين، على أحدهما علي بن أبي طالب وعلى الآخر خالد بن الوليد، قال (صلى الله عليه وسلم) : " إذا كان قتال فعلي على الناس كلّهم "، فالتقى الجيشان، وكان علي (عليه السلام) على الجيشين، وكان خالد تحت إمرة علي بأمر من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فافتتح علي حصناً.
يقول بريدة: فغنمنا، فخمّس علي الغنائم، وكانت في الخمس جارية حسناء فأخذها عليّ لنفسه، فخرج ورأسه يقطر.
يقول بريدة: كنت أبغض عليّاً بغضاً لم أُبغضه أحداً قط، وأحببت خالداً حبّاً لم أُحبّه إلاّ على بغض علي، لأنّ خالداً كان يبغض عليّاً، فلمّا أخذ علي الجارية من الخمس، دعا خالد بن الوليد بريدة وقال له: إغتنمها ـ وكلاهما يبغضان عليّاً ـ اغتنمها فأخبر النبي بما صنع.
هذا لفظ الطبراني في المعجم الأوسط(1).
وفي تاريخ دمشق لابن عساكر: فقال خالد بن الوليد: دونك يا بريدة.
يقول بريدة: فكتب بذلك خالد بن الوليد إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وأمرني أن أنال منه، وهذا لفظ النسائي أيضاً.
وفي تاريخ دمشق: فكتب معي خالد يقع في علي وأمرني أنْ أنال منه، فأعطى الكتاب بيد بريدة وعبّأ معه ثلاثة(2).
وكأنّه يريد بذلك إقامة البيّنة اللازمة على ما صنع علي عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
يقول بريدة ـ كما في المعجم الأوسط(3) للطبراني وغيره من المصادر ـ: فقدمت
____________
1- المعجم الأوسط 6/232 رقم 6085 ـ دار الحديث ـ القاهرة ـ 1417 هـ.
2- تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الإمام علي (عليه السلام) 1/400 رقم 466 ـ مؤسسة المحمودي ـ بيروت.
3- المعجم الأوسط 5/217 رقم 4842.
فخرج رسول الله من بيته، فقام أحد الأربعة فقال: يا رسول الله، ألم تر أنّ عليّاً صنع كذا وكذا، فأعرض عنه النبي، ثمّ قال الثاني ما قال الأوّل، فأعرض عنه رسول الله، ثمّ قام الثالث فقال ما قال، فأعرض عنه رسول الله.
يقول بريدة: أعطيته الكتاب، فأخذه بشماله، فطأطأت رأسي، فتكلّمت في علي حتّى فرغت فرفعت رأسي.
ويقول كما في لفظ آخر: وكنت من أشدّ الناس بغضاً لعلي، فوقعت في علي حتّى فرغت فرفعت رأسي.
يقول: فرأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غضب غضباً لم أره غضب مثله إلاّ يوم قريظة وبني النضير، فقال: " ماذا تريدون من علي؟ ماذا تريدون من علي؟ ماذا تريدون من علي؟ إنّ عليّاً منّي وأنا من علي، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي ".
ثمّ قال رسول الله ـ كما في سنن البيهقي(1)، وايضاً في معجم الصحابة لأبي نعيم الإصفهاني، وفي تاريخ دمشق لابن عساكر، وفي سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، وفي غيرها من المصادر، فراجعوها إن شئتم ـ: قال لهم رسول الله: " إنّ له في الخمس أكثر من ذلك ".
ثمّ قال (صلى الله عليه وسلم) ـ كما في المستدرك للحاكم، وفي المختارة للضياء المقدسي، وفي المعجم الأوسط(2) وفي غيرها من المصادر: " إنّه [ أي علي ] لا يفعل إلاّ ما يؤمر "، أو: " إنّما يفعل علي بما يؤمر به".
____________
1- سنن البيهقي 6/342 ـ دارالفكر.
2- المعجم الأوسط 5 / 425.
يقول بريدة: فقمت وما من الناس أحد أحبّ إليّ من علي.
لاحظوا الفوارق بين روايتهم للقصة عن عمران بن حصين وعن بريدة ابن الحصيب، ولاحظوا، كيف تلاعبوا بالقضية فزاد أحدهم ونقص الآخر، ذكر بعضهم بعض القصة ولم يذكر البعض الآخر، وأحدهم أو آحاد منهم يذكرون القصة مبتورة.
فهذه هي القصة كما يرويها بريدة بن الحصيب وهو صاحب القصة.