الصفحة 162

الصفحة 163

دلالة حديث الولاية على العصمة

وهذه ألفاظ رسول الله في حق علي (عليه السلام) ، تارة يقول رسول الله: " إنّ عليّاً لا يفعل إلاّ ما يؤمر به "، أو " إنّما يفعل ما أُمر به ".

هذه العبارة تدلّ دلالة واضحة على العصمة.

العبارة هذه في الحقيقة صغرى لكبرى، أو مصداق لآية مباركة وهي قوله عزّ من قائل: (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُوْنَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ )(1).

وفي خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) يرويها شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي رحمة الله عليه في مصباح المتهجّد، رأيت من المناسب أنْ أقرأ لكم هذه القطعة من تلك الخطبة يقول الشيخ: إنّ أمير المؤمنين خطب هذه الخطبة في يوم الغدير:

" وإنّ الله اختصّ لنفسه بعد نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) من بريّته خاصةً، اختصّ منهم ـ أي من الخلائق بعد النبي ـ خاصة علاهم بتعليته، وسما بهم إلى رتبته، وجعلهم الدعاة بالحق إليه والأدلاء بالرشاد عليه، لقرن قرن وزمن زمن، أنشأهم في القدم قبل كلّ مدر ومبر، وأنواراً أنطقها لتحمده، وألهمها شكره وتمجيده، وجعلهم الحجج على كلّ معترف له بملكة الربوبية وسلطان العبودية، واستنطق بها الخراسات بأنواع اللغات، بخوعاً له بأنّه فاطر الأرضين والسماوات، وأشهدهم على خلقه، وولاّهم ما شاء من أمره، جعلهم تراجمة مشيّته [ هذه هي العصمة ] وألسنة إرادته، عبيداً [ مع ذلك هم عبيد ] لا يسبقونه

____________

1- سورة الأنبياء: 26، 27.


الصفحة 164
بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى، وهم من خشيته مشفقون "(1).

فهذه مراتب من كان لا يفعل إلاّ بما يؤمر به، عبادٌ مكرمون، أي مقرّبون، لا يسبقونه بالقول، أي لا يقولون قبل أنْ يقول الله سبحانه وتعالى، هذا بالقول، وأمّا في الفعل والعمل: لا يفعلون إلاّ ما يؤمرون.

فحديثنا يدلّ على العصمة.

وهذه في الجهة الأُولى من جهات البحث.

____________

1- مصباح المتهجد: 753 ـ مؤسسة فقه الشيعة ـ بيروت ـ 1411 هـ.


الصفحة 165

دلالة حديث الولاية على ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)

الجهة الثانية: يدلّ هذا الحديث على ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) : " علي منّي وأنا من علي، وهو وليّكم من بعدي ".

ووجه الإستدلال بهذا الحديث الشريف: إنّ هذا الحديث يدلّ على ثبوت الأولويّة بالتصرف لعلي (عليه السلام) ، وهذه الأولوية مستلزمة للإمامة، وذلك:

أوّلاً: لأنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حصرها في علي عندما قال: " وهو وليّكم من بعدي "، ومن المعلوم أنّ المعاني الأُخرى من الولاية، كالنصرة والمحبّة وغيرهما، ليست بأمور مختصّة بعلي (عليه السلام) .

ثانياً: لوجود كلمة " بعدي " في ألفاظ الحديث كلّها أو أكثرها، فكلمة " بعدي " صريحة في هذا المعنى، لأنّ البعديّة هذه إمّا بعديّة زمانية أو بعديّة رتبيّة:

ربّما يستظهر بالدرجة الأُولى أن تكون البعديّة رتبيّة، " علي وليّكم بعدي " أي غيري، أي ما عداي في الرتبة علي وليّكم.

أمّا إذا كانت كلمة " بعدي " بمعنى الزمان والظرف، علي وليّكم من بعدي، يدلّ وجود هذه الكلمة على أنّ أمير المؤمنين وليّ المؤمنين بعد رسول الله بلا فصل، وإلاّ لما أسقط بعضهم كلمة " بعدي " في الحديث، لما حرّفوا هذا الحديث بإسقاط كلمة " بعدي " كما سنعلم!

ثالثاً: هذه الرواية واردة بألفاظ أُخرى أيضاً، وتلك الألفاظ هي الأُخرى تدلّ على إمامة أمير المؤمنين وأولويته.


الصفحة 166
فمثلاً: لاحظوا المسند لابن حنبل، والمستدرك، وتاريخ دمشق، وغيرها من الكتب، كلّهم يروون عن بريدة في نفس هذه القصة يقول: فلمّا قدمت على رسول الله ذكرت عليّاً فتنقّصته، فرأيت وجه رسول الله يتغيّر، فقال: " يا بريدة، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟" قلت: بلى يا رسول الله، قال: " فمن كنت مولاه فعلي مولاه "(1).

نفس الحديث الذي سيقوله رسول الله يوم الغدير في أُخريات حياته، نفس هذا اللّفظ وارد في ألفاظ هذه القصة.

ولاحظوا المسند وغيره من المصادر التي ذكرتها وفي تاريخ دمشق بطرق عديدة يقول رسول الله بعد تلك العبارات: " يا بريدة، من كنت وليّه فعليّ وليّه "(2).

رابعاً: هناك في ألفاظ هذا الحديث وهذه القصة مناقب أُخرى لأمير المؤمنين، تلك المناقب تختصّ بعلي ولا يشاركه فيها غيره من الصحابة. فمثلاً، لاحظوا المعجم الأوسط للطبراني(3) يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه القضيّة: " ما بال أقوام ينتقصون عليّاً؟ [ لاحظوا بدقّة ]من ينتقص عليّاً فقد تنقّصني، ومن فارق عليّاً فقد فارقني، إنّ عليّاً منّي وأنا منه، خلق من طينتي، وخلقت من طينة إبراهيم، وأنا أفضل من إبراهيم، ذريّة بعضها من بعض والله سميع عليم ".

فهذه المناقب جاءت في نفس هذه القصة، مضافاً إلى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : " إنّه لا يفعل إلاّ ما يؤمر به "، وغير ذلك من ألفاظ هذا الحديث، كما قرأنا.

خامساً: ابن عباس يذكر هذه المنقبة، وهذه الفضيلة، ضمن فضائل لأمير المؤمنين يصرّح بأنّها خاصة بعلي، وحديث عبدالله ابن عباس موجود في مسند الطيالسي، في مسند أحمد، في المستدرك للحاكم، وفي غيرها من الكتب بسند ينصّون بصحّة ذلك السند... كما ذكرنا سابقاً.

____________

1- مسند أحمد 4/502 رقم 18841 هـ، مستدرك الحاكم 3/110 ـ دارالفكر ـ بيروت ـ 1398 هـ.

2- تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الإمام علي (عليه السلام) 1/404 رقم 473 ـ 478.

3- المعجم الأوسط 6/232 رقم 6085.


الصفحة 167
سادساً: حديث الولاية بهذا اللفظ من جملة ما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بدء الدعوة المحمّدية، في حديث الإنذار الذي قرأناه، حيث قال لهم ـ أي للحاضرين ـ: " من يبايعني على أنْ يكون أخي وصاحبي ووليّكم بعدي ".

إذن، الحديث ظاهر أو نصّ في الأولويّة، مضافاً إلى القرائن الموجودة في داخل الحديث، والقرائن الموجودة في خارج الحديث.

وحتّى الآن فهمنا كيف يكون الحديث دالاًّ على العصمة؟ وكيف يكون دالاًّ على الأولويّة؟

وفي هذا الحديث والقصة التي قرأناها فوائد كثيرة، ينبغي للباحث أنْ يدقّق النظر فيها.

وجود حركة النفاق في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) :

يدلّ هذا الحديث وتلك القصة على وجود حركة النفاق في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وبين المقرّبين من أصحابه، حتّى بين بعض قوّاد جيوشه، فلا يقال: بأنّ النفاق كان يختصّ بعبدالله بن أُبي وأمثاله من المنافقين المعروفين المشهورين الذين كان يشار إليهم بالبنان، وقد عرفوا بالنفاق بين جميع الناس.

يظهر من هذه القصة أنّ النفاق كان في داخل المقرّبين من رسول الله، حتّى في خواصّ أصحابه، إنّ هذه القصة تكشف لنا خفايا حالات المقرّبين من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

وكم كنت أُحبّ أنْ أعرف الثلاثة الآخرين الذين جاءوا من اليمن مع بريدة إلى المدينة قبل أن يرجع الجيش، أرسلهم خالد بن الوليد بلا علم من أمير المؤمنين، وإنْ كنت قد وجدت اسم واحد أو اثنين منهم!

وأيضاً، كم كنت أُحبّ أنْ أعرف أُولئك الذين كانوا جالسين على باب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، واستقبلوا بريدة ومن معه، وكأنّ هناك تنسيقاً بين خالد وأصحابه، وبين أُولئك الذين

الصفحة 168
كانوا عند النبي وعلى بابه!

خالد بن الوليد ـ كما في صريح القصّة ـ كان يبغض عليّاً، ويعترف عليه بهذا المعنى بريدة بن الحصيب في هذه القصّة، ويقرّ على نفسه أيضاً، فيظهر أنّ خالد بن الوليد كان عدوّاً لعلي منذ حياة رسول الله.

وخالد هذا هو الذي أرسله أبو بكر إلى القبائل العربية التي أبت أن تبايع لأبي بكر، وامتنعت من دفع الزكاة إلى أبي بكر، وأعلنت عن اعتقادها بإمامة علي (عليه السلام) .

وخالد هذا هو الذي أمره أبو بكر بأن يقتل عليّاً في أثناء الصلاة، ثمّ لمّا ندم على ذلك قبل أن يسلّم قال: يا خالد لا تفعل ما أمرتك به.

وخالد هذا من جملة المهاجمين على دار علي والزهراء في قضية السقيفة.

فقد كان أبو بكر يعرف من يرسل لقتل أنصار أمير المؤمنين، ويعرف من يكلّف بقتل الإمام في أثناء الصلاة، ولولا هذا الخبر الذي وجدناه في كتاب الأنساب(1) للسمعاني، يذكر لنا حضور علي في صلاة أبي بكر، وأنّ أبا بكر قد أمر خالداً بأنْ يقتل عليّاً في أثناء الصلاة، لولا هذا الخبر المشتمل على هذه الفائدة الكبيرة ـ لا أتذكّر الآن حديثاً في كتاب معتبر، خبراً في كتاب يعتمد عليه، يدلّ على أنّ عليّاً كان ملتزماً بالحضور للصلاة مع أبي بكر أو غيره من الصحابة، ولو وجدتم فأخبروني، أكون لكم من الشاكرين ـ الذي وجدناه إلى الآن هذا الخبر، وهو يفيدنا هذه الفائدة: إنّ أبا بكر أمر خالداً أنْ يقتل عليّاً وهو يصلّي خلفه في أثناء الصلاة! وهو في مسجد رسول الله! أمره بأنْ يقتل عليّاً! ثمّ إنّه ندم على ذلك، وقبل أنْ يسلّم قال: يا خالد لا تفعل ما أمرتك.

وهذا قد لا يجده أحد، لأنّ كتاب الأنساب للسمعاني ليس بكتاب حديث، وليس بكتاب رواية، قد تقول: لا يوجد مثل هذا الحديث في شيء من الصحاح، في شيء من المسانيد، في شيء من السنن، في شيء من معاجم الحديث، ولكنّ الله شاء أنْ يصلنا هذا

____________

1- الأنساب للسمعاني 6/170 ـ نشر محمّد أمين دمج ـ بيروت ـ 1400 هـ.


الصفحة 169
الخبر ولو في كتاب في الرجال، ولو من ناحية من يتّهمونه بالتشيّع ـ وهو عبّاد بن يعقوب الرواجني ـ يتّهمونه بالتشيّع لروايته مثل هذه الأخبار، ممّا يدلّ على فضائل أمير المؤمنين، وبعض ما يسيء الآخرين.

وعلى كلّ حال، فخالد هذا وضعه، وهذا شأنه، ترون أنّه أراد أن ينتهز تلك الفرصة، قضيّة أخذ أمير المؤمنين تلك الجارية، يقول الحديث: وكانت جارية حسناء ـ عندما قرأت هذه الكلمة، تذكّرت قضية زوجة مالك، فإنّ مالك بن نويرة عندما قبض عليه خالد وأمر بقتله، إلتفت إلى زوجته وقال: أنت التي قتلتيني، وذلك لأنّها كانت من أجمل نساء العرب، وكان خالد يهواها، ولذا زنا بها في نفس الليلة التي قتل فيها مالكاً، وهذا ما أدّى إلى ضجّة شديدة بالمدينة المنوّرة بين عامّة المسلمين ـ ففعل علي هذا، أي أخذ الجارية هذه من الخمس، وقال رسول الله: " إنّ له أكثر من ذلك "، وكان خالد يتصوّر بأنّه لو ينتهز هذه الفرصة، ويرسل هؤلاء الجماعة، ويكتب هذا الكتاب، وينسّق مع الموجودين في المدينة المنوّرة، الذين يفكّرون تفكيره ويخطّطون معه، يمكنهم أن يستفيدوا من هذه القضية، لأنْ يحطّوا من منزلة علي عند رسول الله وعند المسلمين، وكأنّ في القضيّة مؤامرةً مدبّرة من هؤلاء المنافقين، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ملتفت إلى جميع القضايا، رسول الله يعلم، رسول الله عالم بنوايا هؤلاء القوم، وهم لا يعلمون أنّه يسمع أصواتهم من وراء الباب، من وراء الجدار، وهم جالسون على بابه، فخرج (صلى الله عليه وآله وسلم) والغضب يعرف في وجهه فقال: " ما تريدون من علي، ما تريدون من علي، دعوا عليّاً... ".

وما زالت المؤامرات ضدّ علي وإلى يومنا هذا، وما زال علي مظلوماً تحاك له المؤامرات وتدبّر له المخطّطات، وإلى متى؟ حتّى بعض من ينسب نفسه إليه، حتّى بعض من يدّعي الإنتساب إليه، وإلى متى يبقى علي مظلوماً، لكن الله شاء هذا، وشاءت المصلحة العامة أن يكون حال علي كحال هارون، وأن تكون منزلته من رسول الله منزلة هارون من موسى، كما سنقرأ في حديث المنزلة.

والخلاصة: إنّي أرى في هذه القضيّة خطّة مدبّرة ومؤامرة منسّقة مرتّبة بين الغائبين

الصفحة 170
عن المدينة المنوّرة والحاضرين هناك ضدّ أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

وقد انقلبت المؤامرة عليهم، وأصبحت القضية من جملة موارد إعلان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل الله سبحانه وتعالى، إعلانه عن إمامة أمير المؤمنين، عن ولاية أمير المؤمنين، وعن عصمة أمير المؤمنين، وعن أنّ كلّ من يبغض عليّاً عليه أن يستغفر، وعليه أن يجدّد إسلامه بعد استغفاره.

أرادوا أنْ ينتهزوا هذه الفرصة ضدّ علي، فانتهزها رسول الله في صالح علي والإسلام، فكان حديث الولاية دالاًّ على إمامة أمير المؤمنين من جهات عديدة.


الصفحة 171

المناقشات في حديث الولاية

والآن، فلننظر ماذا يقول المخالفون في مقام الرد على هذا الحديث.

ليست لهم مناقشة تسمع وتستحق الذكر، إلاّ مناقشتهم في معنى " وليّكم "، لاحتمال أنْ يكون المراد: علي ناصركم، علي محبّكم من بعدي.

لكن الحديث بقرائنه الداخليّة وقرائنه الخارجيّة والقصة بأجمعها تأبى كلّ هذه التشكيكات وهم أيضاً يعلمون بهذا، هم المستشكلون يعلمون.

ولذا يضطرّون إلى اللجوء إلى طريقة أُخرى، تلك الطريقة هي تحريف الحديث، وقد ذكرت هنا بعض مواضع تحريفاتهم.

مثلاً: إذا راجعتم صحيح البخاري(1)، ترونه يروي بسنده عن عبدالله بن بريدة، عن أبيه ـ نفس السند ـ، يقول: بعث النبي (صلى الله عليه وسلم) عليّاً إلى خالد ليقبض الخمس، يقول بريدة: وكنت أُبغض عليّاً وقد اغتسل ـ التقطيع في الحديث واضح، فمن يدقّق النظر في لفظ هذا الحديث المبتور يرى أنّ فيه تقطيعاً! يرى أنّ فيه تحريفاً! ـ لاحظوا: بعث النبي (صلى الله عليه وسلم) عليّاً إلى خالد ليقبض الخمس وكنت أُبغض عليّاً وقد اغتسل، فقلت لخالد: ألا ترى إلى هذا، فلمّا قدمنا على النبي ذكرت ذلك له.

لا يقول: تنقّصت عليّاً عند النبي، لا يقول: أمرني خالد، ولا، ولا، ولا، يقول: ذكرت ذلك له ـ وكأنّه يذكر قضيةً طبيعية ـ ذكرت ذلك له فقال: " يا بريدة، أتبغض عليّاً؟ " فقلت:

____________

1- صحيح البخاري 5/207 ـ دار إحياء التراث ـ بيروت.


الصفحة 172
نعم، فقال: " لا تبغضه فإنّ له في الخمس أكثر من ذلك ".

فأين حديث " علي منّي وأنا من علي، وهو وليّكم من بعدي "؟

هذا لفظ البخاري.

وإذا راجعتم البيهقي في سننه(1)، البيهقي تلميذ الحاكم النيشابوري، قرأت لكم لفظ الحاكم النيشابوري في مستدركه، وهو أيضاً يروي الحديث عن الحاكم، البيهقي يروي الحديث عن شيخه الحاكم بإسناده ويسقط من آخره: " إنّ عليّاً منّي وأنا من عليّ وهو وليّكم من بعدي "، لا يوجد هذا في سنن البيهقي.

وإذا راجعتم مصابيح السنّة(2) للبغوي، الذي هو من أهم كتب الحديث عندهم، ترون أنّه لا توجد فيه كلمة " بعدي "، ففيه: "علي منّي وأنا من علي وهو وليّكم".

فعندما تسقط كلمة " بعدي " يصبح علي لائقاً للولاية أو منصوباً للولاية من قبل النبي، لكنْ متى؟ لِيكنْ بعد عثمان!!

وإذا راجعتم المشكاة(3)، يروي هذا الحديث عن الترمذي بلا لفظة "بعدي"، أي ينسب هذا الحديث المحرّف إلى الترمذي، مع أنّ الحديث موجود في الترمذي مع كلمة " بعدي "!! وكأنّهم لا يشعرون أنّ هناك ناظراً في الكتاب، أنّ هناك من يقرأ كتابه، أنّ هناك من يرجع إلى صحيح الترمذي ويطابق بين النقلين وبين اللفظين، لكنّهم لا يستحون.

إذن، هذه طريقة ثانية وهي طريقة التحريف.

لكنْ لا مناص لمن يريد أنْ يخالف الله ورسوله، لمن يريد أن يعرض عمّا أراد الله ورسوله، من أن يتّبع طريقة ابن تيميّة، إنّه يقول: هذا الحديث كذب، وهذه أحسن طريقة لمن يريد أن يخالف الله ورسوله فيما قالا، وفيما أرادا، أنْ ينفي أصل القضية، وينكر أصل الخبر، ويكذّب الحديث من أصله، نصّ عبارة ابن تيميّة:

____________

1- سنن البيهقي 6 / 342.

2- مصابيح السنّة 4/172 رقم 4766 وفيه باختلاف: " وهو وليّ كلّ مؤمن ".

3- المشكاة 3 / 1720.


الصفحة 173
قوله: " وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي " كذب على رسول الله، وكلام يمتنع نسبته إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)(1).

هذه الطريقة التي لهم أن يتّخذوها، والأفضل لهم أن يسلكوا هذا الطريق، فلماذا التحريف؟ ولماذا التكذيب لبعض الألفاظ؟ ولبعض الخصوصيات الموجودة في الحديث؟ لننكر أصل الحديث ونرتاح.

( فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ )(2).

( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً )(3).

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

____________

1- منهاج السنة 7 / 391.

2- سورة البقرة: 79.

3- سورة النساء: 65.


الصفحة 174

الصفحة 175



حديث الثقلين





الصفحة 176

الصفحة 177

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.

موضوع بحثنا " حديث الثقلين "، هذا الحديث الذي لو عمل به وطبّق لما وقع خلاف بين المسلمين.

إنّ الدعوة إلى الوحدة الإسلامية وإلى نبذ الخلافات بين الفرق، من جملة الأُمور التي يهتمّ بها المفكّرون المصلحون من المسلمين، وعندهم للوصول إلى هذا الهدف مشاريع واقتراحات ونظريات، ولكن حديث الثقلين خير جامع بين المسلمين، لأنّه حديث يتّفق عليه كلّ الأطراف، وهو حديث واضح في مدلوله وفي معناه.

ولنذكر قبل الورود بالبحث لفظاً أو لفظين من ألفاظ هذا الحديث الشريف:

في صحيح الترمذي بسنده عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " يا أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما إنْ أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي "(1).

وفي صحيح الترمذي أيضاً بإسناده عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " إنّي تارك فيكم ما إنْ تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتّى يردا عَلَيّ الحوض،

____________

1- صحيح الترمذي 5/662 رقم 3786 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.


الصفحة 178
فانظروا كيف تخلفوني فيهما "(1).

فهذان لفظان من ألفاظ الحديث، عن صحابيين من رواة هذا الحديث الشريف من الصحابة.

والبحث في هذا الحديث لابدّ وأن يكون في جهات:

الجهة الأُولى: في تحقيق ألفاظ هذا الحديث.

الجهة الثانية: في رواة هذا الحديث.

الجهة الثالثة: في دلالات هذا الحديث.

الجهة الرابعة: في المناقشات والمعارضات.

____________

1- صحيح الترمذي 5/663 رقم 3788.


الصفحة 179

الجهة الأُولى
في تحقيق ألفاظ حديث الثقلين

هذا الحديث مشهور بحديث الثقلَين، والثَقَل: متاع المسافر كما في اللغة، فإنّي تارك فيكم الثَقَلين، الثقلين تثنية ثَقَل، وجماعة من المحدّثين واللغويين يقرأون الكلمة بالثِّقْلين: " إنّي تارك فيكم الثِّقْلين "، فيكون تثنية للثِقْل.

ولعلّ الأظهر كون الكلمة محرّكةً، أي " إنّي تارك فيكم الثَّقَلين " على أن تكون تثنية للثَقَل.

يقول صاحب القاموس: والثقل ـ محركة ـ متاع المسافر وحشمه وكلّ شيء نفيس مصون، ومنه الحديث: إنّي تارك فيكم الثَقَلين كتاب الله وعترتي(1).

وإنّما أُرجّح الثَّقَل والثَّقَلين على الثِّقْلين، لأنّه إذا كان الثَّقَل بمعنى متاع المسافر، فهذا أنسب بحال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وبالظروف التي قال فيها هذا الكلام، لأنّ المسافر من بلد إلى بلد وخاصةً مع العزم على عدم العود إلى بلده السابق، يأخذ معه متاعه، ولمّا كانت المراكب في تلك العصور لا تتحمّل أخذ جميع وسائل الإنسان وأمتعته، فلابدّ وأن يأخذ المسافر أنفس الأشياء وأغلى الأشياء وأثمن الأشياء التي يمتلكها، أو تكون في حوزته.

ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في حديث الثقلين: " إنّي قد دعيت فأجبت "، أو: " يوشك أنْ أُدعى فأُجيب "، هذه مقدمة حديث الثقلين، فيخبر رسول الله عن دنوّ أجله وقرب

____________

1- القاموس المحيط 3/342 ـ ثقل ـ دارالفكر ـ بيروت ـ 1403 هـ.


الصفحة 180
رحيله عن هذه الحياة، وحينئذ يقول: " وإنّي تارك "، ولا يخفى أنّ أغلى الأشياء عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأثمنها في حياته: القرآن والعترة، فكان ينبغي أنْ يأخذ القرآن والعترة معه، لكن مقتضى رأفته بهذه الأُمّة وحرصه على بقاء هذا الدين هو أن يبقي أغلى الأشياء عنده في هذا العالم، ويترك الثقلين الأمرين اللّذين كان مقتضى الحال أن يأخذهما معه، فيقول: " إنّي تارك فيكم الثَقَلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي "، ثمّ يوصيهم بقوله: " ما إنْ تمسّكتم بهما لن تضلّوا "، فالغرض من إبقاء هذين الأمرين بين الأُمّة، والهدف من تركهما فيهم هو أنْ لا يضلّوا من بعده.

فبهذه القرائن الموجودة في داخل الحديث، والظروف المحيطة بهذا الحديث، نرجّح أنْ تكون الكلمة الثقَلين لا الثقْلين.

وقد لاحظتم في اللفظين المذكورين أنّه في اللفظ الأوّل يقول: " ما إنْ أخذتم بهما لن تضلّوا "، وفي اللفظ الثاني يقول: "ما إنْ تمسّكتم بهما لن تضلّوا"، وهذان اللفظان موجودان عند غير الترمذي أيضاً.

فلفظة " ما إن أخذتم " أو لفظة " الأخذ " موجودة في مسند أحمد(1)، وفي مسند ابن راهويه(2)، وفي طبقات ابن سعد(3)، وفي صحيح الترمذي(4)، وفي مسند أبي يعلى(5)، وفي المعجم الكبير للطبراني(6)، وفي مصابيح السنّة للبغوي(7)، وفي جامع الأُصول لابن الأثير(8)، وفي غيرها من المصادر.

____________

1- مسند أحمد 5/492 رقم 18780.

2- أنظر: المطالب العالية لابن حجر العسقلاني، رقم 1873.

3- طبقات ابن سعد 1 / 194.

4- صحيح الترمذي 2 / 219.

5- على مافي بعض المصادر، مثل كتاب مفتاح النجا للعلامة البدخشي.

6- المعجم الكبير للطبراني 3/62 رقم 2678 ـ دار إحياء التراث العربي.

7- مصابيح السنة 4/190 رقم 4816 ـ دار المعرفة ـ بيروت ـ 1407 هـ.

8- جامع الأصول 1/278 رقم 66 ـ دارالفكر ـ بيروت ـ 1403 هـ.


الصفحة 181
ولفظ " التمسك " تجدونه في مسند عبد بن حميد(1)، وفي الدر المنثور(2)، وغيرهما من المصادر.

وأنتم لو راجعتم اللغة لوجدتم معنى " الأخذ " في مثل هذا المقام، ومعنى " التمسك " في مثل هذا المقام هو " الإتّباع ".

لكنّ كلمة " الإتّباع " أيضاً من ألفاظ حديث الثقلين، وهذا ما تجدونه في رواية ابن أبي شيبة(3).

وفي رواية الخطيب البغدادي(4) لفظ " الاعتصام " بدل لفظ " التمسك " و"الأخذ"، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : " إنّي تركت فيكم مالن تضلّوا بعدي إنْ اعتصمتم به كتاب الله وعترتي "، و" الإعتصام " في اللغة العربية في الكتاب والسنّة وفي الإستعمالات الفصيحة هو " التمسك ".

ولذا نرى في الحديث المتفق عليه ـ أي الموجود في كتب أصحابنا وفي كتب القوم ـ عن الإمام الصادق (عليه السلام) بتفسير قوله تعالى: ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا )(5) يقول الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) : " نحن حبل الله ". حديث الصادق (عليه السلام) هذا بتفسير الآية المباركة موجود في تفسير الثعلبي، وفي الصواعق المحرقة(6)، وبعض المصادر الأُخرى.

وإذا راجعتم تفسير الفخر الرازي(7) في تفسير هذه الآية المباركة، وأيضاً تفسير

____________

1- منتخب مسند عبد بن حميد: 265.

2- الدر المنثور، الجامع الصغير، إحياء الميت: 12.

3- مصنف ابن أبي شيبة 10/505 رقم 10127 ـ الدار السلفية ـ الهند ـ 1401 هـ.

4- مفتاح النجا للعلامة البدخشي عن المتفق والمفترق للخطيب.

5- سورة آل عمران: 103.

6- الصواعق المحرقة: 233 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ 1414 هـ.

7- تفسير الرازي 8/173.


الصفحة 182
الخازن(1) وبعض التفاسير الأُخرى، لرأيتم أنّهم يذكرون حديث الثقلين في تفسير الآية المباركة، وقد عرفنا أنّ الإعتصام هو " التمسك "، و" التمسك " يرجع إلى " الإتّباع " أيضاً، وذلك موجود أيضاً بسند صحيح في مستدرك الحاكم(2).

وإذا وجب " الإتّباع " ثبتت الإمامة بلا نزاع، فيكون علي وأهل البيت (عليهم السلام) خلفاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بعده.

لكن حديث الثقلين ورد بلفظ " الخليفتين " أيضاً، كما تجدونه عند أحمد في المسند(3)، وابن أبي عاصم في كتاب السنّة(4)، وفي المعجم الكبير للطبراني، يقول الحافظ الهيثمي بعد أن يرويه عن المعجم الكبير للطبراني يقول: ورجاله ثقات(5)، وكذا صحّح الحديث جلال الدين السيوطي(6).

والألطف من هذا، عندما نراجع فيض القدير في شرح الجامع الصغير(7) يقول المنّاوي بشرح كلمة " عترتي " يقول: وهم أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

فلاحظوا، ألفاظ هذا الحديث كيف تنتهي إلى الإمامة والخلافة، وإلى تعيين الإمام والخليفة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

فظهر: أنّ هذا الحديث بجميع ألفاظه يؤدّي معنىً واحداً، وهو معنى الإمامة، أمّا بلفظ " الخليفتين " فهو نص، ولا خلاف في هذا، وأيّ لفظ يكون أصرح في الدلالة على

____________

1- تفسير الخازن 1/277 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ 1415 هـ.

2- المستدرك على الصحيحين 3 / 109.

3- مسند أحمد 6/232 رقم 21068 و244 رقم 21145.

4- كتاب السنّة لابن أبي عاصم: 336 رقم 754 ـ المكتب الإسلامي ـ بيروت ـ 1405هـ.

5- مجمع الزوائد 9/165 ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ـ 1402 هـ.

6- الجامع الصغير بشرح المناوي 3 / 14.

7- فيض القدير 3/14 شرح حديث 2631 ـ دارالفكر ـ بيروت ـ 1391 هـ.


الصفحة 183
الإمامة والخلافة من هذا اللفظ؟! " إنّي تارك فيكم خليفتين ـ أو الخليفتين ـ: كتاب الله وعترتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي ".

إذن، رأينا كيف يصدّق الحديث القرآن الكريم، وكيف يصدّق القرآن الكريم الحديث النبوي الشريف.

( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا ).

فهذه هي الجهة الأُولى فيما يرتبط بألفاظ حديث الثقلين، وأنّه كيف نستكشف الإمامة والخلافة من نفس الألفاظ، بغضّ النظر عن ذلك اللفظ الذي هو نصّ صريح بالخلافة بعد رسول الله.


الصفحة 184

الصفحة 185

الجهة الثانية
رواة حديث الثقلين

إنّ رواة حديث الثقلين من الصحابة هم أكثر من ثلاثين شخص، على رأسهم:

1 ـ أمير المؤمنين (عليه السلام) .

2 ـ الإمام الحسن السبط (عليه السلام) .

3 ـ أبو ذر الغفاري.

4 ـ سلمان الفارسي.

5 ـ جابر بن عبدالله الأنصاري.

6 ـ أبو الهيثم ابن التّيهان.

7 ـ حذيفة بن اليمان.

8 ـ حذيفة بن أسيد أبو شريحة أو سريحة.

9 ـ أبو سعيد الخدري.

10 ـ خزيمة بن ثابت.

11 ـ زيد بن ثابت.

12 ـ عبد الرحمن بن عوف.

13 ـ طلحة.

14 ـ أبو هريرة.


الصفحة 186
15 ـ سعد بن أبي وقّاص.

16 ـ أبو أيّوب الأنصاري.

17 ـ عمرو بن العاص.

وغير هؤلاء من الصحابة.

18 ـ فاطمة الزهراء بضعة الرسول صلوات الله عليها.

19 ـ أُمّ سلمة أُمّ المؤمنين.

20 ـ أُم هاني أُخت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) .

ورواة الحديث من مشاهير الأئمّة في مختلف القرون يبلغون المئات، وسأذكر أسامي خمسين رجلاً منهم، وهؤلاء أشهر مشاهيرهم عبر القرون المختلفة:

1 ـ سعيد بن مسروق الثوري.

2 ـ سليمان بن مهران الأعمش.

3 ـ محمّد بن إسحاق، صاحب السيرة.

4 ـ محمّد بن سعد، صاحب الطبقات.

5 ـ أبو بكر ابن أبي شيبة، صاحب المصنّف.

6 ـ ابن راهويه، صاحب المسند.

7 ـ أحمد بن حنبل، صاحب المسند.

8 ـ عبد بن حُميد، صاحب المسند.

9 ـ مسلم بن الحجّاج، صاحب الصحيح.

10 ـ ابن ماجة القزويني، صاحب السنن الذي هو أحد الصحاح الستّة.

11 ـ أبو داود السجستاني، صاحب السنن وهو أحد الصحاح.

12 ـ الترمذي، صاحب الصحيح.

13 ـ ابن أبي عاصم، صاحب كتاب السنّة.

14 ـ أبو بكر البزّار، صاحب المسند.