ابطال ما استدلّ به
لإمامة أبي بكر
تمهيد:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.
بعد أنْ انتهينا من الأدلة المنتخبة على إمامة أمير المؤمنين من نصوص الكتاب والسنّة، وانتهينا أيضاً من الدليل العقلي على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، على ضوء ما أسّسه وقرّره علماء الكلام من أهل السنّة، في الشروط المعتبرة في الإمام، وأنّه لولا تلك الشروط لما جاز انتخاب ذلك الشخص واختياره إماماً بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، حيث أنّهم يقولون بأنّ الإمامة تكون بالاختيار والانتخاب، وعلى هذا الأساس يعيّنون له الأوصاف والشروط التي لابدّ من توفّرها فيه حتى يُنتخب، ونحن تكلّمنا معهم على أساس تلك الشروط المعتبرة فيما بينهم بالإجماع وعلى ضوء كلمات كبار علمائهم.
البحث الآن في الأدلّة التي يقيمونها على إمامة أبي بكر، ولولا التعرّض لهذه الأدلّة لبقي البحث ناقصاً، لأنّا قد أقمنا الأدلّة على إمامة أمير المؤمنين، لكنّهم أيضاً يقيمون الأدلّة على إمامة أبي بكر، فلا بدّ من النظر في تلك الأدلّة أيضاً، لنرى مدى تمامية تلك الأدلّة بحسب الموازين العلميّة.
وفي هذا الفصل من بحثنا أيضاً، سنكون ملتزمين بآداب البحث وبقواعد المناظرة، وسنرى أنّهم يستدلّون بأحاديث أو بأدلّة تختص بهم أو يختصّون هم وينفردون هم بالاستدلال بتلك الأدلّة، وبرواية تلك الأحاديث، وقد قلنا وقرّرنا وأسّسنا منذ الليلة الأُولى أنّ الأدلّة يجب أن تكون مورد قبول عند الطرفين، أو تكون الأدلّة التي يستدل بها
لكن الأدلّة التي يستدلون بها على إمامة أبي بكر أدلّة ينفردون هم بها، وإذا كانت روايات، فإنّها ليست إلاّ في كتبهم وعن طرقهم، ومع ذلك ننظر في تلك الروايات ونباحثهم عليها، على أساس كتبهم ورواياتهم وأقوال علمائهم.
وكما أشرتُ من قبل، نكون في هذا الفصل أيضاً ملتزمين بآداب البحث، ملتزمين بالمتانة في الكلام، ملتزمين بعدم التعصب، وكلّ استدلالاتنا ستكون على ضوء رواياتهم وكتبهم، ليتّضح لهم عدم تماميّة أدلّتهم بحسب كلمات علمائهم، فكيف لو أرادوا أن يلزمونا بمثل هذه الأدلّة التي هم لا يقبلون بها، وعلماؤهم لا يرتضون بصحّتها وجواز الاستدلال بها؟
وعندما نريد أنْ ننقل تلك الأدلّة، نعتمد على أهم كتبهم، نعتمد على أشهر كتبهم في علم العقائد.
وأهم كتبهم: كتاب المواقف في علم الكلام وشرح المواقف وأيضاً شرح المقاصد، هذه أهم كتبهم الكلامية التي ألّفت في القرن الثامن والتاسع من الهجرة، وكانت هذه الكتب تدرس في حوزاتهم العلمية، ولأساتذتهم شروح وحواشي كثيرة على هذه الكتب، فلو رجعتم إلى كشف الظنون وقرأتم ما يقوله صاحب كشف الظنون عن شرح المواقف وعن شرح المقاصد وعن المواقف(1) نفسها، لرأيتم كثرة الكتب والشروح والحواشي المؤلفة عليها، وإنّ هذه الكتب أصبحت محوراً لتلك الكثرة من الكتب الكلامية عندهم.
ولا خلاف بينهم في اعتبار هذه الكتب وأهميتها، وكونها المعتمد والمستند عندهم في مباحث العقائد.
____________
1- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون 2 / 1780، 1891.
أهمّ أدلّة القوم على إمامة أبي بكر
إذن، لننظر في أهمّ أدلّتهم على إمامة أبي بكر، ولننظر ماذا يقولون هم في هذه الأدلّة.
نصّ عبارة شرح المواقف(1):
المقصد الرابع: في الإمام الحق بعد رسول الله، هو عندنا أبو بكر، وعند الشيعة علي... لنا وجهان ـ أي دليلان ـ الأول: إنّ طريقه ـ طريق الإمام ـ وتعيين الإمام إمّا النص أو الإجماع... أمّا النص فلم يوجد(2)، وأمّا الإجماع فلم يوجد على غير أبي بكر إتفاقاً من الأُمّة... الإجماع منعقد على حقيّة إمامة أحد الثلاثة: أبي بكر وعلي والعباس [ أي الشبهة منحصرة ومحصورة بين هؤلاء الثلاثة ] ثمّ إنّهما [ أي علي والعباس ] لم ينازعا أبا بكر، ولو لم يكن على الحق [ أبو بكر ]لنازعاه.
إذن يتم الدليل على إمامة أبي بكر عن طريق الإجماع، ويعترف بعدم وجود النص.
فالدليل الأول على إمامة أبي بكر هو الإجماع والنص مفقود.
ويقول صاحب شرح المقاصد(3) في المبحث الثالث في طريق ثبوت الإمامة:
إنّ الطريق إمّا النص وإمّا الاختيار(4)، والنص منتف في حقّ أبي بكر، مع كونه إماماً بالإجماع.
____________
1- شرح المواقف 8 / 354.
2- فيعترف على عدم وجود نص على أبي بكر، وإنْ كان يدّعي عدم وجود نص على علي، لكن كلامنا الآن في أبي بكر.
3- شرح المقاصد 5 / 255.
4- لاحظوا: شارح المواقف يقول: الإجماع، شارح المقاصد يقول: الإختيار، وفرقٌ بين الإجماع والإختيار، وكلّ هذا سيتّضح في محلّه بالتفصيل.
يبقى طريق ثالث، هم أيضاً يتعرضون لذلك الطريق، وهو طريق الأفضلية، فكما بحثنا نحن يبحثون هم أيضاً عن الأفضلية، كما أشرنا بالأمس، عندما يبحثون عن الأفضلية يختلفون في اشتراطها في الإمام، كما أشرنا من قبل، فمن أنكر اعتبار الأفضليّة فلا داعي له للإصرار على أفضلية أبي بكر، كالفضل ابن روزبهان، وقد أشرنا أمس، وأمّا الذي يعتبر الأفضلية في الإمام، فلابدّ وأن يصرّ على أفضليّة أبي بكر، لأنّه قائل بإمامة أبي بكر، ومن هؤلاء القائلين بالأفضليّة ابن تيميّة، ولذا يصرّ على أفضليّة أبي بكر، ويكذّب كلّما يستدلّ به الإماميّة على أفضليّة علي (عليه السلام) .
أدلّة القوم على أفضلية أبي بكر
حينئذ نرجع إلى بحث الأفضليّة في كتاب المواقف وشرح المواقف(1) يقول:
المقصد الخامس: في أفضل الناس بعد رسول الله، هو عندنا وأكثر قدماء المعتزلة أبو بكر، وعند الشيعة وعند أكثر متأخّري المعتزلة علي.
فيظهر إلى هنا: إنّ الدليل عندهم على إمامة أبي بكر: الإجماع والأفضليّة، بناء على اعتبار الأفضليّة في الإمام، والنصّ عندهم مفقود.
أمّا نحن، فقد أقمنا الأدلّة الثلاثة كلّها على إمامة أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.
هم يقولون بعدم النصّ على أبي بكر ويعترفون بهذا، فتبقى دعوى الأفضليّة، ثمّ دعوى الإجماع على إمامة أبي بكر.
فلننظر إلى أدلّتهم في الأفضليّة:
الدليل الأول:
قوله تعالى ( وَسَيُجَنَّبُهَا الاَْتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لاَِحَد عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَة تُجْزَى )(2).
يقول في شرح المواقف: قال أكثر المفسرين وقد اعتمد عليه العلماء: إنّها نزلت في
____________
1- شرح المواقف 8 / 365.
2- سورة الليل: 17.
ولا ريب أنّ من كان الأفضل والأكرم عند الله، فهو المتعيّن للإمامة والخلافة بعد رسول الله، وهذا لا إشكال فيه، من كان الأكرم والأفضل عند الله فهو المتعيّن للإمامة والخلافة بعد رسول الله، فيكون أبو بكر هو الأفضل، الأفضل من الأُمّة كلّها بعد رسول الله، فهو المتعيّن للخلافة بعده (صلى الله عليه وسلم) .
الدليل الثاني:
قوله (صلى الله عليه وسلم) : " إقتدوا باللَّذين من بعدي أبي بكر وعمر ".
فإنّ " اقتدوا " أمر، والخطاب لعموم المسلمين، وهذا الخطاب العام يشمل عليّاً، فعلي أيضاً مأمور بالاقتداء بالشيخين، فيجب على علي أنْ يكون مقتدياً بالشيخين، والمقتدى هو الإمام.
وهذا حديث نبوي يروونه في كتبهم، فحينئذ يكون دليلاً على إمامة أبي بكر، وخلافة عمر فرع خلافة أبي بكر، فإذا ثبتت خلافة أبي بكر ثبتت خلافة عمر، وليس البحث الآن في خلافة عمر بن الخطّاب.
الدليل الثالث:
إنّ النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لأبي الدرداء: " والله ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على رجل أفضل من أبي بكر ".
وهذا في الحقيقة يصلح أنْ يكون نصّاً على إمامة أبي بكر، والله ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على رجل أفضل من أبي بكر، فيكون أبو بكر أفضل من
____________
1- سورة الحجرات: 13.
الدليل الرابع:
قوله (صلى الله عليه وسلم) لأبي بكر وعمر: " هما سيّدا كهول أهل الجنّة ما خلا النبيين والمرسلين ".
ومن كان سيّد القوم، ومن كان كبير القوم، فهو الإمام بينهم، هو المقتدى بينهم، هو المتّبع لهم، وعلي أيضاً من الناس، فيكون علي من جملة من عليه أن يتّبع الشيخين وهما سيّدا كهول أهل الجنّة.
الدليل الخامس:
قوله (عليه السلام) : " ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أنْ يتقدم عليه غيره ".
إذن، غير أبي بكر لا يجوز أنْ يتقدّم على أبي بكر، وهذا يشمل عليّاً أيضاً، فعلي لا يجوز له أنْ يتقدم على أبي بكر، ولا يجوز لأحد أن يدّعي التقدم لعلي على أبي بكر، لأنّه سيخالف قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
الدليل السادس:
تقديمه ـ أي تقديم النبي أبا بكر ـ في الصلاة مع أنّها أفضل العبادات، فأبو بكر صلّى في مكان النبي (صلى الله عليه وسلم) في مرض النبي، وكانت صلاته تلك على ما يروون بأمر من النبي، والصلاة أفضل العبادات، فإذا صلّى أحد في مكان النبي وأمّ المسلمين بأمر من النبي، فيكون هذا الشخص صالحاً لأنْ يكون إماماً للمسلمين بعد النبي.
الدليل السابع:
قوله (صلى الله عليه وسلم) : " خير أُمّتي أبو بكر ثمّ عمر ".
الدليل الثامن:
قوله (صلى الله عليه وسلم) : " لو كنت متّخذاً خليلاً دون ربي لاتّخذت أبا بكر خليلاً ".
الدليل التاسع:
قوله (صلى الله عليه وسلم) وقد ذكر عنده أبو بكر فقال رسول الله: " وأين مثل أبي بكر، كذّبني الناس وصدّقني، وآمن بي وزوّجني ابنته، وجهّزني بماله، وواساني بنفسه، وجاهد معي ساعة الخوف ".
الدليل العاشر:
قول علي (عليه السلام) : " خير الناس بعد النبيين أبو بكر ثمّ عمر ثمّ الله أعلم ".
هذه هي عمدة أدلّتهم على أفضليّة أبي بكر، تجدون هذه الأدلّة في: كتب الفخر الرازي، وفي الصواعق المحرقة، وفي شرح المواقف، وفي شرح المقاصد، وفي عامة كتبهم من المتقدمين والمتأخرين، وحتى المعتزلة، أي المعتزلة أيضاً يشاركون الأشاعرة في الاستدلال بمثل هذه الأدلّة على إمامة أبي بكر، إلاّ المعتزلة المتأخّرين الذين لا يقولون بأفضليّة أبي بكر، وإنّما يقولون بأفضليّة علي، لكن المصلحة اقتضت أن يتقدّم أبو بكر على علي في الإمامة.
مناقشة أدلّة القوم على أفضلية أبي بكر
هذه عامّة أدلّتهم، ولو سألتني عن أهمّ هذه الأدلّة لذكرت لك: قضيّة الصلاة أوّلاً، وحديث " إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر "، فهما أهم هذه الأدلّة العشرة.
لكنّا نبحث عن كل هذه الأدلّة واحداً واحداً، على ضوء كتبهم، وعلى أساس رواياتهم، وأقوال علمائهم.
الدليل الأول:
قوله تعالى: ( وَسَيُجَنَّبُهَا الاَْتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لاَِحَد عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَة تُجْزَى ).
هذه آية قرآنية، وكما ذكرنا في مباحثنا حول الآيات المستدل بها على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) : إنّ دلالة الآية على إمامة علي تتوقّف على ثبوت نزولها في علي وبدليل معتبر، وإلاّ فالآية من القرآن، وليس فيها اسم علي ولا اسم غير علي.
قوله تعالى: ( سَيُجَنَّبُهَا الاَْتْقَى ) يتوقّف الاستدلال به على مقدمات، حتّى تتمّ دلالة الآية على إمامة أبي بكر...
أوّلاً: الاستدلال بهذه الآية على إمامة أبي بكر يتوقّف على سقوط جميع الأدلّة التي أقامها الإمامية على عصمة علي (عليه السلام) ، وإلاّ فالمعصوم أكرم عند الله سبحانه وتعالى ممّن يؤتي ماله يتزكّى، فإذن، يتوقّف الاستدلال بهذه الآية على إمامة أبي بكر ـ لو كانت نازلةً فيه ـ على عدم تماميّة تلك الأدلّة التي أقامها الإمامية على عصمة علي (عليه السلام) ، وإلاّ فلو تمّ
وثانياً: يتوقف الاستدلال بهذه الآية المباركة لأكرميّة أبي بكر، على أنْ لا يتمّ ما استدلّ به لأفضليّة علي (عليه السلام) ، وإلاّ لتعارضا بناء على صحة هذا الاستدلال وحجيّة هذا الحديث الوارد في ذيل هذه الآية المباركة، ويكون الدليلان حجّتين متعارضتين، ويتساقطان، فلا تبقى في الآية هذه دلالة على امامته.
ولكنّ ممّا لا يحتاج إلى أدلّة إثبات هو: أنّ عليّاً (عليه السلام) لم يسجد لصنم قط، وأبو بكر سجد، ولذا يقولون ـ إذا ذكروا عليّاً ـ: كرّم الله وجهه، وهذا يقتضي أن يكون علي أكرم عند الله سبحانه وتعالى.
ثالثاً: يتوقف الاستدلال بهذه الآية المباركة على نزول الآية في أبي بكر، والحال أنّهم مختلفون في تفسير هذه الآية على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إنّ الآية عامّة للمؤمنين ولا اختصاص لها بأحد منهم.
القول الثاني: إنّ الآية نازلة في قصّة أبي الدحداح وصاحب النخلة، راجعوا الدر المنثور في التفسير بالمأثور(1)، يذكر لكم هذه القصة في ذيل هذه الآية، وإنّ الآية بناء على هذا القول نازلة بتلك القصة ولا علاقة لها بأبي بكر.
القول الثالث: إنّ الآية نازلة في أبي بكر.
فالقول بنزول الآية المباركة في أبي بكر أحد الأقوال الثلاثة عندهم.
لكن هذا القول ـ أي القول بنزول الآية في أبي بكر ـ يتوقف على صحة سند الخبر به، وإذا لم يتمّ الخبر الدال على نزول الآية في أبي بكر يبطل هذا القول.
وإليكم المصدر الذي ذكر فيه خبر نزول الآية في أبي بكر وتصريحه بضعف سند هذه الرواية:
____________
1- الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6 / 358.
فالقول الثالث الذي هو أحد الأقوال في المسألة يستند إلى هذه الرواية، والرواية ضعيفة.
ومصعب بن ثابت هو حفيد عبدالله بن الزبير، مصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير، وآل الزبير منحرفون عن أهل البيت كما هو مذكور في الكتب المفصلة المطولة، ومصعب بن ثابت: ضعّفه يحيى بن معين، ضعّفه أحمد بن حنبل، ضعّفه أبو حاتم قال: لا يحتجّ به، وقال النسائي: ليس بالقوي، وهكذا قال غير هؤلاء(2).
فكيف يستدل بالآية المباركة على أكرميّة أبي بكر وأفضليّته، وفي المسألة ثلاثة أقوال، والقول بنزولها في أبي بكر يستند إلى رواية، وتلك الرواية ضعيفة؟
مضافاً: إلى أنّ هذا الاستدلال موقوف على عدم تماميّة أدلّة الإماميّة على أفضليّة أمير المؤمنين وإمامته.
الدليل الثاني:
الحديث: " إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ".
هذاالحديث من أحسن أدلّتهم على إمامة الشيخين...، يستدلون بهذا الحديث في كتب الكلام، وفي كتب الأُصول أيضاً، واستناداً إلى هذا الحديث يجعلون اتفاق الشيخين حجة، ويعتبرون سنّة الشيخين إستناداً إلى هذا الحديث حجة، فالحديث مهمّ جدّاً، لاسيّما وأنّه في مسند أحمد بن حنبل(3)، وأيضاً في صحيح الترمذي(4)، وأيضاً في
____________
1- مجمع الزوائد 9 / 50.
2- تهذيب التهذيب 10 / 144.
3- مسند أحمد 5 / 382، 385.
4- صحيح الترمذي 5 / 572.
ولكن بإمكانكم أن ترجعوا إلى أسانيد هذا الحديث، وتدقّقوا النظر في حال تلك الأسانيد، على ضوء أقوال علمائهم في الجرح والتعديل، ولو فعلتم هذا ودقّقتم النظر وتتبعتم في الكتب، لرأيتم جميع أسانيده ضعيفة، وكبار علمائهم ينصّون على كثير من رجال هذا الحديث بالضعف، ويجرحونهم بشتّى أنواع الجرح.
لكنّكم لابدّ وأنْ تطلبون منّي أن أذكر لكم خلاصة ما يقولونه بالنسبة إلى هذا الحديث، وأُقرّب لكم الطريق ولا تحتاجون إلى مراجعة الكتب، فأقول:
قال المنّاوي في شرح هذا الحديث في فيض القدير في شرح الجامع الصغير(2): أعلّه أبو حاتم [ أي قال: هذا الحديث عليل ] وقال البزّار كابن حزم لا يصح(3).
فهؤلاء ثلاثة من أئمّتهم يردّون هذا الحديث: أبو حاتم، أبو بكر البزّار، وابن حزم الأندلسي.
والترمذي حيث أورد هذا الحديث في كتابه بأحسن طرقه، يضعّفه بصراحة، فراجعوا كتاب الترمذي وهو موجود(4).
وإذا ما رجعتم إلى كتاب الضعفاء الكبير لأبي جعفر العُقيلي لرأيتموه يقول: منكر لا أصل له(5).
____________
1- المستدرك على الصحيحين 3 / 75.
2- وقد ذكرت لكم من قبل إنّنا في فهم الأحاديث والدقّة في أسانيدها لابدّ وأن نرجع إلى ماقيل في شرحها والكتب المؤلّفة في شروح الأحاديث، من قبيل المرقاة وفيض القدير وشروح الشفاء للقاضي عياض، وأمثال ذلك.
3- فيض القدير شرح الجامع الصغير 2 / 56.
4- صحيح الترمذي 5 / 572.
5- كتاب الضعفاء الكبير 4 / 95.
ويقول الدارقطني ـ وهو أمير المؤمنين في الحديث عندهم في القرن الرابع الهجري ـ: هذا الحديث لا يثبت(2).
وإذا رجعتم إلى كتاب العلاّمة العبري الفرغاني المتوفّى سنة 743هـ، يقول في شرحه على منهاج البيضاوي: إنّ هذا الحديث موضوع(3).
ولو رجعتم إلى ميزان الاعتدال لرأيتم الحافظ الذهبي يذكر هذا الحديث في مواضع عديدة من هذا الكتاب، وهناك يردّ هذا الحديث ويكذّبه ويبطله، فراجعوا(4).
وإذا رجعتم إلى تلخيص المستدرك ترونه يتعقّب الحاكم ويقول: سنده واه جدّاً(5).
وإذا رجعتم إلى مجمع الزوائد للهيثمي حيث يروي هذا الحديث عن طريق الطبراني يقول: وفيه من لم أعرفهم(6).
وإذا رجعتم إلى لسان الميزان لابن حجر العسقلاني الحافظ شيخ الإسلام لرأيتم يذكر هذا الحديث في أكثر من موضع وينصّ على سقوط هذا الحديث، فراجعوا لسان الميزان(7).
وإذا رجعتم إلى أحد أعلام القرن العاشر من الهجرة، وهو شيخ الإسلام الهروي، له كتاب الدر النضيد من مجموعة الحفيد ـ وهذا الكتاب مطبوع موجود ـ يقول: هذا
____________
1- ميزان الاعتدال 1 / 142.
2- لسان الميزان 5 / 237.
3- شرح المنهاج: مخطوط.
4- ميزان الإعتدال 1/105، 141 و43/610.
5- تلخيص المستدرك ـ ط في ذيل المستدرك 3 / 75.
6- مجمع الزوائد 9 / 53.
7- لسان الميزان 1/188، 272 و5/237.
وابن درويش الحوت يورد هذا الحديث في كتابه أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب، ويذكر الأقوال في ضعف هذا الحديث وسقوطه وبطلانه(2)(3).
فهذا الحديث ـ إذن ـ لا يليق أنْ يُستدلّ به على مبحث الإمامة، سواء كان يستدل به الشيعة الإمامية أو السنّة، حتّى لو أردنا أن نستدلّ عليهم بمثل هذا الحديث لإمامة علي (عليه السلام) ، وهو حديث تبطله هذه الكثرة من الأئمّة، فلا يمكن الإحتجاج به على القوم لإثبات الإمامة أصلاً، ولا يمكن الإستدلال به في مورد من الموارد.
ولذا نرى بعضهم لمّا يرى سقوط هذا الحديث سنداً، ومن ناحية أُخرى يراه حديثاً مفيداً لإثبات إمامة أبي بكر دلالة ومعنىً، يضطر إلى أن ينسبه إلى الشيخين والصحيحين كذباً.
فالقاري ـ مثلاً ـ ينسب هذا الحديث في كتابه شرح الفقه الأكبر إلى صحيحي البخاري ومسلم، وليس الحديث موجوداً في الصحيحين، ممّا يدلّ على أنّهم يعترفون بسقوط هذا الحديث سنداً، لكنّهم غافلون عن أنّ الناس سينظرون في كتبهم وسيراجعونها، وسيحقّقون في المطالب التي يذكرونها.
ثمّ كيف يأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإقتداء بالشيخين، مع أنّ الشيخين اختلفا في كثير من الموارد، فبمن يقتدي المسلمون؟ وكيف يأمر رسول الله بالإقتداء بالشيخين، مع أنّ الصحابة خالفوا الشيخين في كثير ممّا قالا وفعلا؟ وهل بإمكانهم أن يفسّقوا أولئك
____________
1- الدر النضيد من مجموعة الحفيد: 97.
2- أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب: 48.
3- هذا، وللحافظ ابن حزم الأندلسي في الاستدلال بهذا الحديث كلمة مهمة جدّاً، إنّه يقول ما هذا نصّه: ولو أننا نستجيز التدليس والأمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحاً أو أبلسوا أسفاً لاحتججنا بما روي: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر "، ولكنّه لم يصح ويعيذنا الله من الاحتجاج بما لا يصح. الفصل في الملل والنحل 4 / 88.
الدليل الثالث:
قول رسول الله لأبي الدرداء: " ما طلعت شمس ولا غربت... " إلى آخره.
هذا الحديث ضعيف للغاية عندهم، فقد رواه الطبراني في الأوسط بسند قال الهيثمي: فيه إسماعيل بن يحيى التيمي وهو كذّاب.
وفيه أيضاً ـ أي في مجمع الزوائد بسند آخر يرويه عن الطبراني ويقول: فيه بقيّة ـ بقيّة بن الوليد ـ وهو مدلّس وهو ضعيف(1).
وهو ساقط عند علماء الرجال.
الدليل الرابع:
" هما سيّدا كهول أهل الجنّة ".
هذا الحديث يرويه البزّار، ويرويه الطبراني، كلاهما عن أبي سعيد.
قال الهيثمي حيث رواه عنهما في مجمع الزوائد: فيه علي بن عابس وهو ضعيف.
ويرويه الهيثمي عن البزّار عن عبيدالله بن عمر ويقول في راويه عبد الرحمن بن ملك: هو متروك(2).
وليس لهذا الحديث سند غير هذين السندين.
الدليل الخامس:
" ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أنْ يتقدّم عليه غيره ".
____________
1- مجمع الزوائد 9 / 44.
2- مجمع الزوائد 9 / 53.
وإذا كانت فتاوى ابن الجوزي معتبرة عند ابن تيميّة وأمثاله، فليكنْ قوله وفتواه في هذا المورد أيضاً حجة.
الدليل السادس:
وأمّا صلاة أبي بكر، وهي مسألة مهمة جدّاً لسببين:
السبب الأوّل: إنّ خبر صلاة أبي بكر وارد في الصحيحين لا بسند بل أكثر، ووارد في المسانيد والسنن، وفي أكثر كتبهم المعتبرة المشهورة.
وثانياً: الصلاة أفضل العبادات، وإذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أرسل أبا بكر ليصلّي في مكانه في حال مرضه ودنوّ أجله، فإنّه سيكون دليلاً على أنّه يريد أنْ يرشّحه للخلافة من بعده، فيكون هذا الحديث ـ حديث صلاة أبي بكر في مكان رسول الله ـ من أحسن الأدلّة على إمامة أبي بكر.
ولو راجعتم الكتب لرأيتم اهتمامهم بهذا الحديث، واستدلالهم بهذا الخبر على رأس جميع الأدلّه وفي أوّل ما يحتجّون به لإمامة أبي بكر.
رووا هذا الحديث عن عدّة من الصحابة، وعلى رأسهم عائشة بنت أبي بكر، ولكنّك لو تأمّلت في الأسانيد لرأيت الصحابة يروون هذا الخبر مرسلاً، أو يسمعون الخبر عن عائشة وتكون هي الواسطة في نقل هذا الخبر، وحينئذ تنتهي جميع أسانيد هذا الخبر إلى عائشة، وعائشة متّهمة في نقل مثل هذه القضايا لسببين:
الأوّل: مخالفتها لعلي.
الثاني: كونها بنت أبي بكر.
____________
1- كتاب الموضوعات 1 / 318.
فمن جملة القرائن المهمة التي لها الأثر البالغ في فهم هذه القضية: قضية أمر رسول الله بخروج القوم مع أُسامة، قضية بعث أُسامة، وتأكيده (صلى الله عليه وآله وسلم) على هذا البعث إلى آخر لحظة من حياته المباركة.
أمّا أنّ النبي كان يؤكّد على بعث أُسامة، وإلى آخر لحظة من حياته، فلم يخالف فيه أحد، ولا خلاف فيه أبداً، وهو مذكور في كتبنا وفي كتبهم، فلا خلاف في هذا.
وأمّا أنّ كبار الصحابة وعلى رأسهم أبو بكر وعمر كانا في هذا البعث، فهذا أيضاً ثابت بالكتب المعتبرة التي نقلت هذا الخبر، فكيف يأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخروج أبي بكر في بعث أُسامة، ويؤكّد على خروجه إلى آخر لحظة من حياته، ومع ذلك يأمر أبا بكر أنْ يصلّي في مكانه؟
وهنا يضطرّ مثل ابن تيميّة لأن ينكر وجود أبي بكر في بعث أُسامة، ويقول هذا كذب، لأنّه يعلم بأنّ وجود أبي بكر في بعث أُسامة، يعني كذب خبر إرسال أبي بكر إلى الصلاة، ولكنّ مسألة الصلاة من أهمّ أدلّتهم على إمامة أبي بكر، إذن، لابدّ من الإنكار والحال أنّ وجود أبي بكر في بعث اُسامة لا يقبل الإنكار.
أنقل لكم عبارة واحدة فقط، يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتاب فتح الباري بشرح البخاري:
قد روى ذلك ـ أي كون أبي بكر في بعث أُسامة ـ الواقدي، وابن سعد، وابن إسحاق، وابن الجوزي، وابن عساكر، وغيرهم(1). أي: وغيرهم من علماء المغازي والحديث.
ولذا لمّا توفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أُسامة بجيشه في خارج المدينة، ولذا لمّا ولّي
____________
1- فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8 / 124.
القرائن الداخلية والخارجية تقتضي كذب هذا الخبر، أي خبر: أنّ النبي أرسل أبا بكر إلى الصلاة.
ولكن لا نكتفي بهذا القدر، ونضيف أنّ عليّاً (عليه السلام) كان يعتقد، وكذا أهل البيت كانوا يعتقدون، بأنّ خروج أبي بكر إلى الصلاة كان بأمر من عائشة لا من رسول الله.
قال ابن أبي الحديد: سألت الشيخ ـ أي شيخه وأُستاذه في كلام له في هذه القضية ـ أفتقول أنت أنّ عائشة عيّنت أباها للصلاة ورسول الله لم يعيّنه؟ فقال: أمّا أنا فلا أقول ذلك، لكن عليّاً كان يقوله، وتكليفي غير تكليفه، كان حاضراً ولم أكن حاضراً.
ولا نكتفي بهذا القدر فنقول:
سلّمنا بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي أمر أبا بكر بهذه الصلاة، فكم من صحابي أمر رسول الله بأنْ يصلّي في مكانه في مسجده وفي محرابه، ولم يدّع أحد ثبوت الإمامة بتلك الصلاة لذلك الصحابي الذي صلّى في مكانه (صلى الله عليه وآله وسلم) .
لكنْ لكم أن تقولوا: بأنّ الصلاة في أُخريات حياته تختلف عن الصلاة في الأوقات السابقة، هذه الصلاة بهذه الخصوصية حيث كانت في أواخر حياته فيها إشعار بالنصب، بنصب أبي بكر للإمامة من بعده، لك أنْ تقول هذا، كما قالوا.
فاسمع لواقع القضية، واستمع لما يأتي:
إنّه لو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الآمر، فقد ذكرت تلك الأخبار أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج بنفسه الشريفة ـ معتمداً على رجلين ورجلاه تخطّان على الأرض ـ ونحّى أبا بكر عن المحراب، وصلّى تلك الصلاة بنفسه.
لكنّهم يعودون فيقولون: بأنّ صلاة أبي بكر كانت أيّاماً عديدة، وهذا الذي وقع من رسول الله وقع مرّة واحدةً فقط.
قلت:
أوّلاً: لم تكن الصلاة أيّاماً، بل هي صلاة واحدة، وهي صلاة الصبح من يوم الإثنين، فكانت صلاة واحدة.
وثانياً: على فرض أنّه قد صلّى أيّاماً وصلوات عديدة، ففعل رسول الله ذلك في آخر يوم من حياته، وخروجه بهذا الشكل معتمداً على رجلين ورجلاه تخطّان على الأرض، دليل على أنّه عزله بعد أن نصبه لو صحّ هذا النصب.
فلو سلّمنا أنّ الآمر بهذه الصلاة هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لو سلّمنا هذا، فرسول الله ملتفت إلى أنّهم سيستدلّون بهذه الصلاة على إمامته من بعده، وفي هذا الفعل إشعار بالإمامة والخلافة العامة من بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فخرج بهذا الشكل ليرفع هذا التوهّم وليزيل هذا الإشعار، وهذا مذكور وموجود في نفس الروايات التي اشتملت في أوّلها على أنّ رسول الله هو الآمر بهذه الصلاة بزعهم.
وهنا نكات:
النكتة الأولى: قالت الروايات: إنّه خرج معتمداً على رجلين، والراوي عائشة ـ كما ذكرنا، الأخبار كلّها تنتهي إلى عائشة ـ خرج رسول الله معتمداً على رجلين ورجلاه تخطّان الأرض، وتنحّى أبو بكر عن المحراب، وصلّى تلك الصلاة بنفسه الشريفة.
وخروجه بهذه الصورة دليل على العزل لو كان هناك نصّ.
وعائشة ذكرت أحد الرجلين اللذين اعتمد عليهما رسول الله لدى خروجه، ولم تذكر اسم الرجل الثاني، والرجل الثاني كان علي (عليه السلام) ، ممّا يدلّ على انزعاجها من هذا الفعل.
يقول ابن عباس للراوي: أسمّتْ لك الرجل الثاني؟ قال: لا، قال: هو علي، ولكنّها لا تطيب نفساً بأن تذكره بخير.
النكتة الثانية: إنّه لمّا رأى بعض القوم أنّ خروج النبي بهذه الصورة وصلاته بنفسه وعزل أبي بكر سيهدم أساس استدلالهم بهذه الصّلاة على إمامة أبي بكر بعد رسول الله،