الصفحة 352
وضع حديثاً في أنّ رسول الله لم يعزل أبا بكر، وإنّما جاء إلى الصلاة معتمداً على رجلين، وصلّى خلف أبي بكر، فثبتت القضية وقويت.

وبعبارة أُخرى: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينصب أبا بكر عملاً، مضافاً إلى إرساله إلى الصلاة لفظاً وقولاً، إذ يأتي معتمداً على رجلين حينئذ ورجلاه تخّطان الأرض ويصلّي خلف أبي بكر.

ومن الذي يمكنه حينئذ من أنْ يناقش في إمامة أبي بكر وكونه خليفة لرسول الله، مع اقتداء رسول الله به في الصلاة، ألا يكفي هذا لأن يكون دليلاً على إمامة أبي بكر لما عدا رسول الله؟

نعم، وضعوا هذه الأحاديث الدالّة على أنّ رسول الله اقتدى بأبي بكر.

لكن الشيخين لم يرويا هذا الحديث، أي هذه القطعة من الحديث غير موجودة في الصحيحين، الموجود في الصحيحين: إنّ رسول الله نحّاه أو تنحّى أو تأخّر أبو بكر، وصلّى رسول الله بنفسه تلك الصلاة.

أمّا هذا الحديث فموجود في مسند أحمد، وهو حديث كذب قطعاً، وكذّبه غير واحد من كبار الأئمّة من حفّاظ أهل السنّة، وحتّى أنّ بعضهم كالحافظ أبي الفرج ابن الجوزي ألّف رسالة خاصة في بطلان حديث اقتداء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأبي بكر، وهل من المعقول أن يقتدي النبي بأحد أفراد أُمّته، فيكون ذلك الفرد إماماً للنبي، هذا غير معقول أصلاً.

رسالة ابن الجوزي مطبوعة منذ عشرين سنة تقريباً لأوّل مرّة، نشرتها أنا بتحقيق منّي والحمد لله(1).

النكتة الثالثة: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن خرج إلى الصلاة وصلّى بنفسه الشريفة، ونحّى

____________

1- هذه الرّسالة ألّفها الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي، المتوفى سنة 597 هـ، ردّاً على معاصره الحافظ عبد المغيث الحنبلي، ولذا أسماها بآفة أصحاب الحديث في الردّ على عبد المغيث، طبعت لأوّل مرّة بتحقيقنا.


الصفحة 353
أبا بكر، لم يكتف بهذا المقدار، وإنّما جلس على المنبر بعد تلك الصلاة، وخطب، وذكر القرآن والعترة، وأمر الناس باتّباعهما والاقتداء بهما، فأكّد رسول الله بخطبته هذه ما دلّ عليه فعله، أي حضوره للصلاة وعزله لأبي بكر عن المحراب، ثمّ أضاف في هذه الخطبة بعد الصلاة إنّ على جميع المسلمين أن يخرجوا مع أُسامة، وأكّد على وجوب هذا البعث وعلى الإسراع فيه.

وبعد هذا كلّه لا يبقى مجال للاستدلال بحديث تقديمه في الصلاة.

الدليل السابع:

قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : " خير أُمّتي أبو بكر وعمر ".

هذا الحديث بهذا المقدار ذكره القاضي الإيجي وشارحه وغيرهما أيضاً.

لكن الحديث ليس هكذا، للحديث ذيل، وهم أسقطوا هذا الذيل ليتمّ لهم الاستدلال، فاسمعوا إلى الحديث كاملاً:

عن عائشة، قلت: يا رسول الله، من خير الناس بعدك؟ قال: " أبو بكر "، قلت: ثمّ مَن؟ قال: " عمر ".

هذا المقدار الذي استدلّ به هؤلاء.

لكن بالمجلس فاطمة سلام الله عليها، قالت فاطمة: يا رسول الله، لم تقل في علي شيئاً!

قال: " يا فاطمة، علي نفسي، فمن رأيتيه يقول في نفسه شيئاً؟ ".

فيستدلّون بصدر الحديث بقدر ما يتعلّق بالشيخين، ويجعلونه دليلاً على إمامة الشيخين، ويسقطون ذيله، وكأنّهم لا يعلمون بأنّ هناك من يرجع إلى الحديث ويقرأه بلفظه الكامل، ويعثر عليه في المصادر.

لكن الحديث ـ مع ذلك ـ ضعيف سنداً، فراجعوا كتاب تنزيه الشريعة المرفوعة عن

الصفحة 354
الأحاديث الشنيعة الموضوعة(1).

الدليل الثامن:

قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : " لو كنت متّخذاً خليلاً دون ربّي لاتّخذت أبا بكر ".

ويكفي في الجواب عن هذا الحديث أن نقول: إذا كان رسول الله قال في حقّ أبي بكر: " لو كنت متّخذاً خليلاً لاتّخذت أبا بكر " إذا كان قال هكذا في حقّ أبي بكر، فقد جاءت الرواية عندهم في حقّ عثمان: إنّه اتّخذه خليلاً! فبالنسبة إلى أبي بكر يقول " لو " أمّا في حقّ عثمان يقول: " اتّخذته خليلاً "، يقول: " إنّ لكلّ نبيّ خليلاً من أُمّته، وإنّ خليلي عثمان بن عفّان " فيكون عثمان أفضل من أبي بكر.

وأنا أيضاً ـ كما ذكرت هذا مرّة في بعض الليالي الماضية اعتقادي على ضوء رواياتهم في مناقب المشايخ ـ أرى أنّ عثمان أفضل من أبي بكر وعمر، لمناقبه الموجودة في كتبهم، ومن جملتها هذا الحديث، لكنه حديث باطل مثله(2).

الدليل التاسع:

قوله: وأين مثل أبي بكر فقد فعل كذا وكذا، زوّجني واساني بنفسه كذا جهّزني بماله إلى آخره.

وهذا الحديث:

أمّا سنداً، فقد أدرجه الحافظ السيوطي في كتابه اللآلي المصنوعة بالأحاديث الموضوعة(3)، وأيضاً أدرجه الحافظ ابن عرّاق صاحب كتاب تنزيه الشريعة(4)، أدرجه

____________

1- تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة 1 / 367.

2- تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة 1 / 392.

3- اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 1 / 295.

4- تنزيه الشريعة المرفوعة في الأحاديث الشنيعة الموضوعة 1 / 344.


الصفحة 355
في كتابه هذا المؤلف في خصوص الروايات الموضوعة.

أمّا دلالة، فإنّه يدلّ على أنّ أبا بكر كان يعطي من ماله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكان يصرف من أمواله الشخصية على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكان رسول الله بحاجة إلى مال أبي بكر وإنفاقه عليه، وهذا من القضايا الكاذبة، وقد وصل كذب هذا الخبر إلى حدٍّ التجأ مثل ابن تيميّة إلى التصريح عن كذبه، مثل ابن تيميّة يصرّح بأنّ هذا غير صحيح(1) ورسول الله لم يكن محتاجاً إلى أموال أبي بكر.

وهكذا يضع الواضعون الفضائل والمناقب المستلزمة بالطعن في رسول الله، فإنفاق أبي بكر على رسول الله كذب، وابن تيميّة ممّن يعترف بهذا.

فهذا الحديث كذب سنداً ودلالة.

الدليل العاشر:

ما رووه عن علي (عليه السلام) في فضل الشيخين، منها الرواية التي ذكرها هؤلاء أنّه قال: خير الناس بعد النبيين أبو بكر ثمّ عمر ثمّ الله أعلم.

ليس هذا اللفظ وحده، لهم أحاديث أُخرى، وألفاظ أُخرى أيضاً ينقلونها عن علي في فضل الشيخين، لكن:

أوّلاً: أبو بكر نفسه يعترف بأنّه لم يكن خير الناس، ألم يقل: ولّيتكم ولست بخيركم؟، وهذا موجود في الطبقات لابن سعد(2)، أو: أقيلوني فلست بخيركم، كما في المصادر الكثيرة(3).

وثانياً: ذكر صاحب الإستيعاب بترجمة أمير المؤمنين(4) سلام الله عليه، وذكر ابن

____________

1- منهاج السنة 4 / 289.

2- الطبقات الكبرى 3 / 139.

3- مجمع الزوائد 5 / 183، سيرة ابن هشام 2 / 661، تاريخ الخلفاء: 71.

4- الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3 / 1090.


الصفحة 356
حزم في كتاب الفصل(1)، وذكر غيرهما من كبار الحفّاظ: إنّ جماعة كبيرة من الصحابة كانوا يفضّلون عليّاً على أبي بكر.

فإذا كان علي بنفسه يعترف بأفضليّة الشيخين منه، كيف كان أولئك يفضّلون عليّاً عليهما؟ لقد ذكروا أسماء عدّة من الصحابة كانوا يقولون بأفضليّة علي، منهم أبو ذر، وسلمان، والمقداد، وعمّار، و...، وعلي يعترف بأفضليّة الشيخين منه!! هذه أخبار مكذوبة على أمير المؤمنين (عليه السلام) سلام الله عليه.

إذن، لم نجد دليلاً من أدلّة القوم سالماً عن الطعن والجرح والإشكال، إمّا سنداً ودلالة، وإمّا سنداً، على ضوء كتبهم وعلى ضوء كلمات علمائهم.

فتلك الأحاديث من الأحاديث الموضوعة التي لا أساس لها، في اعترافهم، لاسيّما حديث اقتدوا باللذين من بعدي.

والمهم قضيّة الصلاة، فصلاة أبي بكر في حياة رسول الله قد تشعر بإمامته بعده، لكن رسول الله عزله عن المحراب وصلّى تلك الصلاة بنفسه، إن صحّ خبر إرساله أبا بكر إلى الصلاة.

مضافاً إلى أنّ إمامة الشيخين يجب أن تبحث من ناحية أُخرى، وهي: أنّ هناك موانع، أنّ هناك قضايا تمنع من أن يكونا إمامين للمسلمين، تلك القضايا كثيرة ومذكورة في الكتب، ولم يكن من منهجنا التعرض لتلك القضايا.

____________

1- الفصل في الملل والنحل 4 / 181.


الصفحة 357

مناقشة الاجماع على خلافة أبي بكر

ويبقى الإجماع، إجماع الصحابة على خلافة أبي بكر، وأنتم أعرف بحاله، ولا أحبّ الدخول في هذا البحث، لأنّه سيجرّنا إلى قضايا قد لا يقتضي ذكرها في الوقت الحاضر.

وأيّ إجماع هذا الذي يدّعونه على إمامة أبي بكر؟! وتلك قضايا السقيفة وملابسات بيعة أبي بكر وإمامته التي يقولون بها، ولربّما نتعرّض إلى بعض النقاط المتعلّقة بهذا الأمر في بحثنا عن الشورى التي خصّصنا لها ليلة.

ولكن الذي يكفي أن أقوله هنا هو: أنّ صاحب شرح المقاصد(1) وغيره من كبار علماء الكلام يقولون بأنّا عندما ندّعي الإجماع، لا ندّعي وقوع الإجماع حقيقةً، عندما نقول: قام الإجماع على خلافة أبي بكر، ليس بمعنى أنّ القوم كلّهم كانوا مجمعين وموافقين على إمامته، بل إنّ إمامته قد وقعت في الحقيقة ببيعة عمر فقط وفي السقيفة، بعد النزاع بين المهاجرين والأنصار، وإلقاء النزاع بين الأنصار الأوس والخزرج، يكفي أنْ أُشير إلى هذا المطلب.

لكن مع ذلك عندما نراجع إلى هذه الكتب يقولون بأنّ الأولى أنْ نسكت عن مثل هذه القضايا ولا نتكلّم عنها، فإنّ رسول الله قد أمر بالسكوت عمّا سيقع بين أصحابه، لا داعي لطرح مثل هذه القضايا وللتعرض لمثل هذه الأُمور.

____________

1- شرح المقاصد 5 / 254.


الصفحة 358
وإنّي أرى من المناسب أنْ أقرأ لكم نصّ عبارة السعد التفتازاني في شرح المقاصد، لتروا كيف يضطربون، وإنّهم إلى أين يلتجئون، يقول السعد:

إنّ جمهور علماء الملّة وعلماء الأُمّة أطبقوا على ذلك ـ أي على إمامة أبي بكر ـ وحسن الظن بهم يقضي بأنّهم لو لم يعرفوه بدلائل وإمارات لما أطبقوا عليه.

قلت: إذا كان كذلك، إذا كنّا مقلّدين للصحابة من باب حسن الظن بهم، فلماذا أتعبنا أنفسنا؟ ولماذا اجتهدنا فنظرنا في الأدلّة وجئنا بالآية والحديث، كنّا من الأوّل نقول: بأنّا في هذه المسألة مقلّدون للصحابة، فعلوا كذا ونحن نقول كذا، لاحظوا، ثمّ يقول التفتازاني:

يجب تعظيم الصحابة والكفّ عن مطاعنهم، وحمل ما يوجب بظاهره الطّعن فيهم على محامل وتأويلات، سيّما المهاجرين والأنصار.


الصفحة 359

خاتمة المطاف

وعندما ينقل السعد عن الإماميّة قولهم: إنّ بعد رسول الله إماماً، وليس غير علي، لانتفاء الشرائط من العصمة والنص والأفضليّة عن غيره ـ وقد رأيتم كيف كان هذا الإنتفاء في بحوثنا السابقة ـ يتهجّم ويشتم الشيخ المحقق نصير الدين الطوسي وسائر علماء الإماميّة، لاحظوا كلامه، أنقل نصّ عبارته، لتقفوا على مقدار فهم هؤلاء، وعلى حدّ أدبهم، ثمّ تقارنوا بين كلام الإماميّة وكلام هؤلاء القوم، يقول:

احتجّت الشيعة بوجوه لهم في إثبات إمامة علي بعد النبي من العقل والنقل، والقدح فيما عداه من أصحاب رسول الله الذين قاموا بالأمر، ويدّعون في كثير من الأخبار الواردة في هذا الباب التواتر، بناء على شهرته فيما بينهم، وكثرة دورانه على ألسنتهم، وجريانه في أنديتهم، وموافقته لطباعهم، ومقارعته لأسماعهم، ولا يتأمّلون كيف خفي على الكبار من الأنصار والمهاجرين، والثقات من الرواة والمحدّثين، ولم يحتجّ البعض على البعض، ولم يبرموا عليه الإبرام والنقض، ولم يظهر إلاّ بعد انقضاء دور الإمامة وطول العهد بأمْر الرسالة، وظهور التعصّبات الباردة، والتعسّفات الفاسدة، وإفضاء أمر الدين إلى علماء السوء، والملك إلى أُمراء الجور، ومن العجائب أنّ بعض المتأخرين من المتشغّبين، الذين لم يروا أحداً من المحدّثين ولا رووا حديثاً في أمر الدين، ملؤوا كتبهم من أمثال هذه الأخبار والمطاعن في الصحابة الأخيار، وإن شئت فانظر في كتاب التجريد المنسوب إلى الحكيم نصير الدين الطوسي، كيف نصر الأباطيل وقرّر الأكاذيب....


الصفحة 360
قلت: أمّا نصير الدين الطوسي، فإنّا نشكر التفتازاني على قناعته بهذا المقدار من الشتم والسبّ له! نشكره على اكتفائه بهذا المقدار!

فإنّ ابن تيميّة ذكر في الشيخ نصير الدين الطوسي بسبب تأليفه كتاب التجريد واستدلاله في هذا الكتاب على إمامة علي من كتب أهل السنّة، ذكره بما لا يمكن أن يتفوّه به مسلم في حقّ أدنى الناس، ذكره بما لا يقال، ونسب إليه الكبائر والعثرات التي لا تقال، وقد خصّصنا ليلةً للتحقيق حول هذا الموضوع، وسنتعرض لكلامه بعون الله.

هذا فيما يتعلق بالشيخ نصير الدين الطوسي.

وأمّا أصل المطلب، فإنّا قد أقمنا الأدلّة على إمامة علي من نفس كتبهم، بيّنا صحّة تلك الأدلّة من نفس كتبهم، وقد ذكرنا احتجاجاتنا بكلّ أدب ومتانة ووقار، لم نتعرض لأحد منهم بسبّ أو شتم، فأثبتنا إمامة أمير المؤمنين بالنص، وأثبتنا إمامته بالعصمة، وأثبتنا إمامته بالأفضليّة، كلّ ذلك من كتبهم، كلّ ذلك بناء على أقوال علمائهم، واستشهدنا بأفضل الطرق والأسانيد، واستندنا إلى أشهر الكتب والمؤلّفات، لم يكن منّا سبّ ولا شتم ولا تعصّب ولا تعسّف، ثمّ نظرنا إلى أدلّتهم في إمامة أبي بكر، أمّا النص فقالوا هم: بعدم وجوده، وأمّا الإجماع فلا إجماع حتّى اضطرّوا إلى الإعتراف بعدم انعقاده، وربما نتعرض لذلك في ليلة خاصة، وأمّا الأفضليّة فتلك أفضل أدلّتهم، وقد نظرنا إليها واحداً واحداً على ضوء كتبهم، فما ذنبنا إنْ لم يتم دليل على إمامة أبي بكر؟ وتمّ الدليل من كتبهم على إمامة علي.

لماذا لا يريدون البحث عن الحقيقة؟ لماذا تكون الحقيقة مرّة؟ لماذا يلجؤون إلى السبّ والشتم؟ ولماذا هذا التهجّم؟ ألا يكفي ما واجهه علماؤنا منذ العصور الأولى إلى يومنا هذا، من سبّ وشتم وقتل وسجن وطرد وإلى آخره؟ إلى متى؟ ولماذا هذا؟ نحن نريد البحث عن أمر حقيقي واقعي يتعلّق بمن نريد أن نقتدي به بعد رسول الله، نريد أن نجعله واسطة بيننا وبين ربّنا، في أُمورنا الإعتقادية وفي أُمورنا العملية، أي في الأُصول والفروع وفي جميع الجهات، نريد أن نبحث عن الحقيقة ونتوصّل إليها، فإذا وصلنا إلى

الصفحة 361
الحقيقة وعثرنا على الحق حينئذ نقول لربّنا: إنّا قد نظرنا في الأدلّة وبحثنا عن الحقيقة، فكان هذا ما توصّلنا إليه، وهذا إمامنا، وهذا منهجنا ومسلكنا، ليكون لنا عذراً عند الله سبحانه وتعالى، وكلّ هذا البحث لهذا، وليس لحبّ أو بغض، وليس لدينا أيّ غرض، وما الداعي إلى الشتم؟ وإلى متى تكون الحقيقة مرّة؟ وإلى متى لا يريدون استماع الحق وأخذ الحق وقبول الحق؟ والشتم لماذا؟ وهل يتفوّه به إلاّ السوقه؟ إلاّ الجهلة؟

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفّقنا لما يرضيه، نسأله تعالى أن يهدينا إلى فهم الحقائق، إلى أخذ الحقائق، إلى العمل بالحق، إلى اتّباع الحق، ونسأله سبحانه وتعالى أن يبيّض وجوهنا عندما نرد عليه ونلقاه، وعندما نواجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.


الصفحة 362

الصفحة 363



إمامة
بقية الأئمّة (عليهم السلام)





الصفحة 364

الصفحة 365

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.

قال الله عزّوجلّ: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا )(1).

موضوع بحثنا في هذه الليلة إمامة بقيّة الأئمّة (عليهم السلام) .

بعد أن فرغنا من بيان الأدلّة بنحو الإختصار والإيجاز من الكتاب والسنّة والعقل على إمامة أمير المؤمنين سلام الله عليه، وبحثنا أيضاً عن أدلّة القوم على إمامة أبي بكر، كان لابدّ من التعرض للبحث عن إمامة بقية الأئمّة سلام الله عليهم.

القول بإمامة الحسن المجتبى بعد أمير المؤمنين، والحسين سلام الله عليه بعد الحسن، وعلي بن الحسين السجاد، ومحمّد بن علي الباقر، وجعفر بن محمّد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمّد بن علي الجواد، وعلي بن محمّد الهادي، والحسن بن علي العسكري، والإمام المهدي صلوات الله عليهم أجمعين.

القول بإمامة هؤلاء الأئمّة هو من ضرورات مذهب الشيعة الإماميّة الإثني عشرية، فلو أنّ أحداً يشكّك في إمامة أحدهم أو يشك يكون بذلك خارجاً عن هذا المذهب،

____________

1- سورة السجدة: 24.


الصفحة 366
فالقول بإمامة الأئمّة من ضروريات هذا المذهب، وهذه الطائفة تسمّى بالطائفة الاثني عشرية بهذه المناسبة، وبعد أن كان هذا الإعتقاد من ضروريات هذا المذهب لا تبقى حاجة للبحث عن أدلة هذا الإعتقاد في داخل المذهب.

ومع ذلك فهناك كتب كثيرة ألّفها علماء الطائفة في إثبات إمامة هؤلاء الأئمّة سلام الله عليهم، عن طريق النص، وعن طريق العصمة، وعن طريق الأفضليّة.

وقد ذكرنا منذ اليوم الأوّل: أنّ طريق إثبات الإمامة لإمام، إمّا يكون بالأفضليّة، وإمّا بالنص، وإمّا بالعصمة.

والحق إجتماع الأدلّة الثلاثة في إمامة أمير المؤمنين وسائر الأئمّة الطاهرين، ولاسيّما على صعيد النصوص الواردة في إمامة الأئمّة سلام الله عليهم، فقد ثبت نصّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على الحسن (عليه السلام) وهكذا على الحسين (عليه السلام) إلى آخر الأئمّة، وثبت نصّ رسول الله على إمامة كلّ هؤلاء.

والكتب المؤلّفة في خصوص النصوص كثيرة، بإمكانكم الرجوع إلى كتاب كفاية الأثر في النص على الأئمّة الإثني عشر، وهكذا كتاب الإنصاف في النصّ على الأئمّة الأشراف، وكتاب إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، وغير هذه الكتب المؤلّفة في هذا الباب.

وهل بالإمكان إثبات إمامة بقية الأئمّة على ضوء أدلّة أهل السنّة؟ وهل يمكن أن نستند إلى كتب أهل السنّة المشهورة ورواياتهم في إثبات إمامة بقيّة الأئمّة عليهم الصلاة والسلام أوْ لا؟

التحقيق أنّنا يمكننا إثبات إمامة بقيّة الأئمّة أيضاً على ضوء كتب أهل السنّة فقط، وعن طريق النصّ والعصمة والأفضليّة كلّها، وقد تتعجّبون وتستغربون من هذا الذي أدّعيه الآن، ولكن لا تستعجلوا، وسترون أنّ أيّ باحث محقّق حرّ منصف يستمع إلى ما أقوله في هذه الليلة، سوف لا يمكنه أن يناقش في شيء ممّا أقوله، اللهمّ إلاّ أنْ يتعصّب، وليس لنا مع التعصّب والمتعصّب بحث.


الصفحة 367

الأئمّة اثنا عشر

إنّنا نسأل أهل السنّة ونراجع كتبهم، ونفحص في رواياتهم، عمّا إذا كان عندهم شيء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإمامة، وعدد الأئمّة بعد رسول الله، هل هناك دليل على حصر الأئمّة بعد رسول الله في عدد معيّن أو لا يوجد دليل؟ وإذا كان يوجد دليل فما هو ذلك العدد؟ ومن هم أُولئك الأئمّة الذين دلّت عليهم وعلى إمامتهم تلك الأدلّة؟

الجواب واضح تماماً، فحديث الأئمّة إثنا عشر أو الخلفاء من بعدي إثنا عشر، هذا الحديث مقطوع الصدور، اتفق عليه الشيخان وغيرهما من أئمّة الحديث، وأخرجوه بطرق وأسانيد معتبرة، ورووه عن عدة من الصحابة، أقرأ لكم نصوصاً من هذا الحديث، وأرجو الدقّة في ألفاظ هذه النصوص، والتأمّل فيما تختلف فيه هذه الألفاظ، والتوصل إلى نتيجة قطعية على ضوء الدقّة في هذه النصوص.

نصوص من حديث الأئمّة اثنا عشر:

أخرج أحمد في المسند عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: " يكون لهذه الأُمّة اثنا عشر خليفة "(1).

وأخرج أحمد أيضاً عن مسروق قال: كنّا جلوساً عند عبدالله ابن مسعود وهو يقرؤنا القرآن فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كم تملك هذه الأُمّة من

____________

1- مسند أحمد 5/106.


الصفحة 368
خليفة؟ فقال: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك، ثمّ قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: " إثنا عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل "(1). في هذا اللفظ توجد هذه الإضافة: " كعدّة نقباء بني إسرائيل ".

وأخرج أحمد عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي: أخبرني بشيء سمعته من رسول الله، قال: فكتب إليّ: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم جمعة عشية رجم الأسلمي ـ يعطي علامة أنّه في ذلك اليوم المعين الذي رجم فيه فلان ـ سمعته يقول: " لا يزال الدين قائماً حتّى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلّهم من قريش "(2).

لاحظوا الإضافات في هذا اللفظ عن نفس جابر الراوي لهذا الحديث.

وأخرج مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة، نفس هذا الشخص قال: دخلت مع أبي على النبي (صلى الله عليه وسلم) فسمعته يقول: " إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة "، ثمّ تكلّم بكلام خفي عَلَيّ، فقلت لأبي: ما قال؟ قال: قال: " كلّهم من قريش "(3).

في هذا اللفظ إضافة، والتفتوا إلى هذه الفوارق.

وأمّا البخاري فيروي في صحيحه عن جابر نفسه: سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: " إثنا عشر أميراً "، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنّه يقول: " كلّهم من قريش "(4).

وأخرج الترمذي عن جابر نفسه قال: قال رسول الله: " يكون من بعدي اثنا عشر أميراً "، ثمّ تكلّم بشيء لم أفهمه فسألت الذي يليني فقال: قال: " كلّهم من قريش "، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن جابر بن سمرة، وفي

____________

1- مسند أحمد 1/398.

2- مسند أحمد: 5/86.

3- صحيح مسلم 3/1452 رقم 5.

4- صحيح البخاري 9/101 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.


الصفحة 369
الباب عن ابن مسعود وعبدالله بن عمرو(1).

وأمّا في صحيح أبي داود يقول جابر، ـ الرواية عن جابر نفسه ـ: سمعت رسول الله يقول: " لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر خليفة "، قال: فكبّر الناس وضجّوا، ثمّ قال كلمة خفيت، قلت لأبي: يا أبه، ما قال؟ قال: قال: " كلّهم من قريش "(2).

يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني: أصل هذا الحديث في صحيح مسلم بدون كلمة: فكبّر الناس وضجّوا(3).

وقد قرأنا عبارته، لم تكن فيه هذه الجملة: فكبّر الناس وضجّوا، لكنّها موجودة في صحيح أبي داود.

وللطبراني لفظ آخر، يقول الطبراني عن جابر بن سمرة: " يكون لهذه الأُمّة اثنا عشر قيّماً " ـ لم يقل خليفة، ولم يقل أميراً ـ " لا يضرّهم من خذلهم، كلّهم من قريش "(4).

قال ابن حجر في فتح الباري في شرح البخاري: ووقع عند الطبراني من وجه آخر هذا الحديث في آخره يقول جابر هذا الراوي يقول: فالتفتُ فإذا أنا بعمر بن الخطّاب وأبي في أُناس، فأثبتوا إليّ الحديث(5).

هذه هي الألفاظ التي انتخبتها، واكتفيت بها لإلقائها في هذه الجلسة.

ولاحظوا أوّلاً ألفاظ الحديث إلى الآن، في بعض الألفاظ: " إثنا عشر خليفة "، في بعض الألفاظ: " إثنا عشر أميراً "، في بعض الألفاظ: " إثنا عشر قيّماً "، وبين الكلمات فرق كبير.

ثمّ في بعض الألفاظ: " لا يزال هذا الدين عزيزاً "، وفي بعض الألفاظ توجد جملة:

____________

1- سنن الترمذي 4/106 رقم 2223.

2- سنن أبي داود 4/106 رقم 4280 ـ دارالفكر ـ بيروت.

3- فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13/180 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ـ 1402.

4- المعجم الكبير للطبراني 2/196 رقم 1794 ـ دار إحياء التراث العربي.

5- فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13/180.


الصفحة 370
" لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة... "، وفي بعض الألفاظ: " لا يضرّهم من خذلهم ".

أمّا هذه الألفاظ التي لم ينقلها كلّ الرواة ونقلها بعضهم دون بعض، لماذا؟ لماذا لم تكن جملة " فكبّر الناس وضجّوا " في صحيح مسلم، والحال أنّ الحديث نفس الحديث كما ينصّ الحافظ ابن حجر؟ غير مسلم يأتي بهذه الجملة لكن ليست الجملة في صحيح مسلم! أمّا البخاري فلم ينقل من هذه النقاط الاضافيّة المهمة شيئاً!

تارة المتكلم يتكلّم ثمّ يخفض صوته فلا يسمع كلامه، وتارة المتكلم لا يخفض صوته، وإنّما الصياح في أطرافه والضجّة من حوله تمنع من وصول كلامه وبلوغ لفظه فلا يسمع كلامه، وفي أكثر الألفاظ يقول جابر: إنّه قال كلمة لم أسمعها، قال كلمة لم أفهمها، قال كلمة خفيت عَلَيّ.

ولسائل أن يسأل: ما هو السبب في خفاء هذه الكلمة أو غيرها من الكلمات على جابر؟ جابر الذي ينقل الحديث من رسول الله ويقول: سمعته.. فلمّا وصل إلى هنا خفّض رسول الله صوته أو كانت هناك أسباب وعوامل خارجية؟ فهذه العوامل الخارجية مَن الذي أحدثها وأوجدها؟ لماذا قال رسول الله بعض الحديث وسُمع كلامه وبعض الحديث خفي ولم يُسمَع؟ وماذا قال؟ وهل كان لعمر بن الخطّاب وأصحابه دور في خفاء صوته وعدم بلوغ لفظه إلى الحاضرين؟ أو لم يكن؟

لسائل أن يسأل عن هذه الأُمور، والمحقق لا يترك مثل هذه القضايا على حالها، المحقق لا يتجاوز هذه الأشياء بلا حساب، تارةً يراد منّا أن نقرأ ونسكت، وتارة يراد منّا أن نسمع ونسلّم، وتارة يراد منّا أن نحقق ونفهم.

لقد وجدنا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا أمر بإتيان دواة وقرطاس إليه، كثر اللغطُ من حوله، وجعل الحاضرون يتصايحون، لئلاّ يسمع كلامه، ولئلاّ يلبّ طلبه! وحينئذ قال عمر كلمته المشهورة في تلك القضية!! أتستبعدون أن يكون رسول الله قد قال هنا كلمات ومنعوا الحاضرين من سماع تلك الكلمات لئلاّ ينقلوها إلى من بعدهم، عن طريق إحداث

الصفحة 371
الضجّة من حوله والتكبير؟ وماذا قال رسول الله حتّى يكبّروا كما جاء في الحديث: فكبّر الناس وضجّوا؟ لماذا؟ وأيّ مناسبة بين قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : " يكون بعدي خلفاء... " وبين التكبير، وبين الضجّة ولماذا؟

وعندما بحثت عن ألفاظ الحديث، وجدت في عمدة المصادر لا يلتفتون إلى هذه الحقيقة، أوْ لا ينبّهون على هذه النقطة، حتّى عثرت على اسم عمر بن الخطّاب في أحد ألفاظه، هذا المقدار الذي بحثت عنه، وقارنت بين القضيّة هذه وبين قضية الدواة والقرطاس.

وإن أردتم مزيداً من التأكيد والتوضيح، فراجعوا بعض مؤلفات أهل السنّة من المتأخرين، فإذاً لوجدتم الحديث عن نفس جابر وبنفس السند الذي في صحيح البخاري، كانت تلك الكلمة التي خفيت على جابر: " كلّهم من بني هاشم " وليس " كلّهم من قريش " فماذا حدث؟ وماذا فعل القوم؟ وكيف انقلبت ألفاظ رسول الله وتغيّرت من لفظ إلى لفظ على أثر الضجّة؟ منعوا من سماع الكلمة وحالوا دون وصول كلامه، فإذا سئلوا ماذا قال؟ أجابوا بغير ما قال رسول الله، عندما سأل: يا أبه أو يا عمر أو يا فلان، يقول: سألت الذي يليني ماذا قال رسول الله؟ قال: " كلّهم من قريش ".

لكن عبد الملك بن عمير، يروي الرواية عن جابر نفسه أنّه قال: " كلّهم من بني هاشم "، وعبد الملك بن عمير نفس الراوي عن جابر في صحيح البخاري، فراجعوا.

نحن وإنْ كنّا لا نوافق على وثاقة عبد الملك بن عمير، هذا الرجل عندنا مطعون ومجروح، لأنّه كان قاضي الكوفة، وعندما أرسل الحسين (عليه السلام) إلى الكوفة رسولاً من قبله، وأمر عبيد الله بن زياد بأن يأخذوا هذا الشخص إلى القصر وأمر بإلقائه من أعلى القصر إلى الأرض فسقط على الأرض وبه رمق، جاء عبد الملك ابن عمير، وذبح هذا الرجل في الشارع، فلمّا اعترض عليه قال: أردت أنْ أُريحه.

هذا الشخص ـ عبد الملك ـ ليس عندنا بثقة، لكنّه من رجال الصحاح الستّة.

عبد الملك بن عمير يروي الحديث عن جابر وفيه بدل " كلّهم من قريش " جملة

الصفحة 372
" كلّهم من بني هاشم ".

وأيضاً، يوافق عبد الملك بن عمير في رواية الحديث عن جابر بلفظ " كلّهم من بني هاشم ": سماك بن حرب، وسماك بن حرب من رجال مسلم، ومن رجال البخاري في تعليقاته، ومن رجال الصحاح الأربعة الأُخرى.

فعبدالملك وسماك كلاهما يرويان عن جابر الحديث نفسه بلفظ " كلّهم من بني هاشم ".

وإذا ما رجعتم إلى كتب أصحابنا وجدتموهم يروون هذا الحديث بأسانيدهم إلى جابر نفسه، وتجدون الحديث مشتملاً على ألفاظ وخصوصيات أُخرى، وسأقرأ لكم تلك الخصوصيات عندما أُريد أنْ أستدلّ بهذا الحديث على إمامة الأئمّة (عليهم السلام) .

وإلى الآن عرفنا من هذه الأحاديث:

أوّلاً: عدد الأئمّة على وجه التحديد، عدد الخلفاء، أو القوّام على هذا الدين على وجه التحديد: اثنا عشر.

ثانياً: يقول رسول الله بأنّ هؤلاء باقون إلى قيام الساعة.

ثالثاً: يقول رسول الله بأنّ عزّ الإسلام منوط بوجود هؤلاء، بإمامة هؤلاء، بخلافة هؤلاء.

رابعاً: هؤلاء أئمّة قوّام للدين، وإن خذلوا وإن خولفوا.

يقول أصحابنا بأنّ المراد من هذا العدد وهؤلاء الذين ذكرهم رسول الله أو أشار إليهم هم أئمّتنا الاثنا عشر سلام الله عليهم.

ومن العجيب أنّ إمامة أئمّتنا بنفس العدد والنص موجود في الكتب السماوية السابقة، وثابت عند أهل الكتاب وأهل الأديان السالفة، ولذا لو أنّ أحداً من أهل الكتاب أسلم، صار شيعيّاً، وهذا ما ينصّ عليه ابن تيميّة في منهاج السنّة(1).

____________

1- منهاج السنة 8 / 242.


الصفحة 373

المراد من الاثني عشر عند أهل السنة

فإذا كان المراد بنظر أصحابنا من هذا الحديث أئمّتنا الأطهار الإثنا عشر، فلنرجع إلى أئمّة أهل السنّة ومحدّثيهم الحفّاظ الكبار، لنلاحظ ماذا يقولون في معنى هذا الحديث، ومَن المراد من هؤلاء الأئمّة في هذا الحديث الثابت؟ فهنا أُمور:

الأمر الأوّل: هذا الحديث لا يمكنهم ردّه، لصحّته ووجوده في الصحيحين وغيرهما من الكتب.

الأمر الثاني: إنّهم لا يريدون أن يعترفوا بما تقوله الشيعة الإمامية.

الأمر الثالث: إنّ الذين تولّوا الأمر بعد رسول الله عددهم أكثر من هذا العدد بكثير.

ومع الإلتفات إلى هذه الأُمور الثلاثة، لاحظوا ما يقولون في شرح هذا الحديث، وانظروا كيف يضطربون وتتضارب أفكارهم وآراؤهم وأقوالهم في شرح هذا الحديث وبيان معناه، ولو أردتُ أنْ أذكر لكم كلّ ما حصلت عليه من كلماتهم لطال بنا المجلس، وعندنا بحوث لاحقة أيضاً فلا يبقى لها مجال.

أقول: لقد اضطربوا في معنى هذا الحديث اضطراباً كبيراً، فابن حجر العسقلاني في فتح الباري يذكر آراء ابن الجوزي والقاضي عياض، ويباحثهم فيما قالا، وابن كثير الدمشقي يذكر في كتابه البداية والنهاية ـ حيث يعنون هذا الحديث ـ يذكر آراء البيهقي وغيره ويناقشهم، ولا بأس أنْ أقرأ لكم رأي ابن كثير فقط، وبه أكتفي لئلاّ يطول بنا البحث.

يقول ابن كثير بعد أنْ يذكر رأي البيهقي وغيره: وفيه نظر، وبيان ذلك: إنّ الخلفاء

الصفحة 374
إلى زمن الوليد بن يزيد أكثر من اثني عشر على كل تقدير، وبرهانه إنّ الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي خلافتهم محققة بنص حديث سفينة: " الخلافة بعدي ثلاثون سنة "، ثمّ بعدهم الحسن بن علي كما وقع ـ لأنّ عليّاً أوصى إليه، وبايعه أهل العراق وركب وركبوا معه لقتال أهل الشام ـ ثمّ معاوية، ثمّ ابنه يزيد بن معاوية، ثمّ ابنه معاوية بن يزيد، ثمّ مروان بن الحكم، ثمّ ابنه عبد الملك بن مروان، ثمّ ابنه الوليد بن عبد الملك، ثمّ سليمان بن عبد الملك، ثمّ عمر بن عبد العزيز، ثمّ يزيد بن عبد الملك، ثمّ هشام بن عبد الملك. فهؤلاء خمسة عشر، فزادوا ثلاثة، وعلى كلّ تقدير فهم اثنا عشر قبل عمر بن عبد العزيز، فهذا الذي سلكه أي البيهقي على هذا التقدير يدخل في الإثني عشر يزيد بن معاوية، ويخرج منهم عمر بن عبد العزيز، الذي أطبق الأئمّة على شكره وعلى مدحه، وعدّوه من الخلفاء الراشدين، وأجمع الناس قاطبة على عدله، وأنّ أيّامه كانت من أعدل الأيّام، حتّى الرافضة يعترفون بذلك(1).

فإن قال: ـ يعني البيهقي ـ أنا لا أعتبر إلاّ من اجتمعت الأُمّة عليه، لزمه على هذا القول أنْ لا يعدّ علي بن أبي طالب ولا ابنه، لأنّ الناس لم يجتمعوا عليهما، وذلك لأنّ أهل الشام بكاملهم لم يبايعوهما، وعدّ حينئذ معاوية وابنه يزيد وابن ابنه معاوية بن يزيد، ولم يعتد بأيّام مروان ولا ابن الزبير، لأنّ الأُمّة لم تجتمع على واحد منهما، ولكن هذا لا يمكن أن يسلك، لأنّه يلزم منه إخراج علي وابنه الحسن من هؤلاء الإثني عشر، وهو خلاف ما نصّ عليه أئمّة السنّة بل الشيعة(2).

فهذا قول من أقوالهم، وهو من البيهقي، ثمّ هذا قول ابن كثير باعتراضه على البيهقي حيث يقول بأنّ لازم كلامكم إخراج علي والحسن من الاثني عشر.

____________

1- إذن، يظهر: إنّ الملاك في الأئمّة أن يكونوا عدولاً، حتّى يُعَدوا في الإثني عشر الذين أرادهم رسول الله، فيعترض على القوم لماذا أدخلتم يزيد بن معاوية وأخرجتم عمر بن عبد العزيز؟ والحال أنّ عمر بن عبد العزيز معروف بالعدل؟

2- البداية والنهاية المجلد 3 الجزء 6/249 ـ 250 ـ دارالفكر ـ بيروت.


الصفحة 375
ولو أردتم التفصيل، فراجعوا: شرح النووي على صحيح مسلم، راجعوا فتح الباري في شرح صحيح البخاري، وراجعوا تفصيل كلام ابن كثير في تاريخه، فقد ذكروا في هذه الكتب أن بعضهم أخرج الإمام عليّاً (عليه السلام) والحسن من الأئمّة الاثني عشر، وأدخلوا في مقابلهما ومكانهما معاوية ويزيد ابن معاوية وأمثالهما(1).

لكن ممّا يهوّن الخطب أنّهم بعد أنْ شرّقوا وغرّبوا، اضطرّوا إلى الإعتراف بعدم فهمهم للحديث، وكما ذكرنا في الأُمور الثلاثة، فإنّ الحقيقة هي أنّهم لا يريدون أن يعترفوا بما تقوله الشيعة، ورغم جميع محاولاتهم، وعلى مختلف آرائهم، فإنّ الحديث لا ينطبق على خلفائهم وأئمّتهم، فماذا يفعلون؟ يعترفون بأنّا لم نفهم معنى هذا الحديث، لاحظوا هذه الكلمات:

يقول الحافظ ابن العربي المالكي كما في شرح الترمذي(2): لم أعلم للحديث معنى.

وفي فتح الباري عن ابن البطال إنّه حكى عن المهلب قوله ـ وهي عبارة مهمة ـ: لم

____________

1- لنا بحث طويلٌ حول هذا الحديث، يقع في جهتين:

    الأولى: في تحقيق الوجوه التي ذكرها القوم في معناه، ونقدها واحداً واحداً.

    والثانية: في بيان معناه على ضوء الأدلّة المتقنة من الكتاب والسنّة، لاسيّما سائر الأحاديث الصحيحة الواردة في الموضوع، لأنّ الحديث يفسّر بعضه بعضاً.

    وبعبارة أُخرى: يتكوّن البحث في معنى هذا الحديث من فصلين:

    أحدهما: في الموانع عن انطباق الحديث على الأشخاص الذين ذكرهم القوم.

    والثاني: في مصاديقه الذين قصدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

    وكلّ ذلك بالنظر إلى الأحاديث الصحيحة وأخبار أولئك الأشخاص المدوّنة في كتب السير والتواريخ.

    هذا، وقد توافق القوم على ذكر جملة من ملوك بني أُميّة في عداد الخلفاء الإثني عشر، وذلك باطلٌ بالنظر إلى أن الحديث في " الخلفاء " لا " الملوك " وبالنظر إلى ما ورد في كتب الفريقين في ذمّ بني أُميّة، لاسيّما الحديث المعتبر بتفسير قوله تعالى: (... وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) [ الاسراء: 60 ] من أنّ المراد بنو أُميّة.

2- عارضة الأحوذي في شرح الترمذي 9/69.


الصفحة 376
ألق أحداً يقطع في هذا الحديث بشيء معيّن(1).

وعن ابن الجوزي: قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث وتطلّبت مضانّه وسألت عنه، فلم أقع على المقصود(2).

أقول: المقصود معلوم، المقصود يقع عليه من كان عنده إنصاف ولم يكن عنده تعصّب.

والملاحظ أنّهم يحاولون قدر الإمكان تطبيق الحديث على زمن حكومة بني أُميّة، مع أنّهم يروون عن النبي أن الخلافة بعده ثلاثون سنة، ثم يكون الملك، وقلّ ما رأيت منهم من يشارك حكّام بني العباس في معنى هذا الحديث، نعم، وجدته في كلام الفضل ابن روزبهان، فلاحظوا من يرى ابن روزبهان أنّهم الأئمّة الإثنا عشر، يقول: إنّ عدد صلحاء الخلفاء من قريش اثنا عشر [ وكأنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قيّد هذا الحديث بالصلحاء، والحال أنّه لا يوجد في لفظ الحديث كلمة: الصلحاء، أو ما يؤدّي معنى كلمة الصلحاء ] وهم: الخلفاء الراشدون، وهم خمسة ـ يعني منهم الحسن (عليه السلام) ـ ثمّ عبدالله بن الزبير وعمر بن عبد العزيز فهؤلاء سبعة، وخمسة من بني العباس.

أمّا مَن هؤلاء الخمسة من بني العباس؟ لا يذكرهم، فمن يذكر؟ يذكر هارون؟ يذكر المتوكل؟ يذكر المنصور الدوانيقي؟ أيّهم يستحقّ أن يطلق عليه اسم خليفة رسول الله والامام من بعده؟ فهو لا يذكر أحداً، وإنّما يقول خمسة، وكأن تقسيم هذا الأمر فوّض إلى الفضل ابن روزبهان، فجعل من هؤلاء سبعة ومن هؤلاء خمسة.

وعلى كلّ حال، ليس لهم رأي يستقرّون عليه، ثمّ يعترفون بعدم فهمهم للحديث، وفي الحقيقة ليس بعدم فهم، وإنّما عدم اعتراف بالواقع والحقيقة.

____________

1- فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13/180.

2- فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13 / 181.