الصفحة 377

حقيقة الاثني عشر

إذن، ما هي الحقيقة؟

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد أن يعرّف الأئمّة من بعده ويعيّن عددهم على وجه التحديد، وقد فعل هذا، لكن اللغط والصياح والضجّة من حوله، كلّ ذلك منع من سماع الحاضرين صوته ونقلهم ما سمعوا من رسول الله، فكان السبب في خفاء صوته في الحقيقة هذه الضجّة من حوله، لا أنّ صوته ضعف، أو حصل مثلاً انخفاض في صوته، ورسول الله ـ كما جاء في بعض ألفاظ هذا الحديث ـ قد قال: " كلّهم من بني هاشم ".

يقول جابر بن سمرة: كنت مع أبي عند النبي، فسمعته يقول: " بعدي اثنا عشر خليفة "، ثمّ أُخفي صوته، [ لاحظوا: ثمّ أُخفي صوته ] فقلت لأبي: ما الذي أخفى صوته؟ قال: قال: " كلّهم من بني هاشم "، وعن سماك بن حرب أيضاً مثل ذلك.

ثمّ نلاحظ القرائن الموجودة في لفظ الحديث، والقرائن ذكرتها في خلال البحث، أُكرّرها مرّةً أُخرى بسرعة:

" لا يزال الدين قائماً حتّى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة ".

يكون لهذه الأُمّة اثنا عشر قيّماً لا يضرّهم من خذلهم "، يظهر: إنّ هناك من الأُمّة خذلاناً، ومن الذي خذل معاوية؟ ومتى خذل يزيد؟ ومتى خذل مروان وغير أُولئك؟ أهل البيت هم الذين خُذلوا، هم الذين خولفوا.

ويظهر من كلمة " القيّم " أنّ المراد هو الإمامة بالمعنى الحقيقي، أي الإمامة الشرعية، وليس المراد هو الحكومة وبسط اليد ونفوذ الكلمة والسيطرة على السلطة الإجرائية.


الصفحة 378
وإذا رجعنا إلى أحاديثنا وأسانيدنا المتصلة إلى جابر بن سمرة وغيره وجدنا أشياء أُخرى، فلاحظوا الرواية:

عن سلمان: " الأئمّة بعدي اثنا عشر "، ثمّ قال: " كلّهم من قريش، ثمّ يخرج المهدي ـ عجّل الله تعالى فرجه ـ فيشفي صدور قوم مؤمنين، ألا إنّهم أعلم منكم فلا تعلّموهم، ألا إنّهم عترتي ولحمي ودمي، ما بال أقوام يؤذونني فيهم، لا أنالهم الله شفاعتي "(1) فهذا لفظ من ألفاظ الحديث.

ومن ألفاظ الحديث عن أبي هريرة: " أهل بيتي ـ الأئمّة بعدي اثنا عشر كذا ـ أهل بيتي عترتي من لحمي ودمي، هم الأئمّة بعدي، عدد نقباء بني إسرائيل "(2).

عن حذيفة بن أسيد: " الأئمّة بعدي عدد نقباء بني إسرائيل، تسعة من صلب الحسين ومنّا مهدي هذه الأُمّة، ألا إنّهم مع الحق والحق معهم، فانظروا كيف تخلفوني فيهم "(3).

وهذه من ألفاظ حديث الأئمّة إثنا عشر، والألفاظ هذه موجودة في كتاب كفاية الأثر في النص على الأئمّة الإثني عشر.

وإذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أخبر بعدد الأئمّة من بعده وعيّنهم بهذه الأوصاف، وأنّهم من العترة، وأنّهم أعلم، وأنّهم كذا، وأنّهم كذا، ثمّ قال: " فانظروا كيف تخلفوني فيهما "، فيكون قد أشار (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى حديث الثقلين، والحديث يفسّر بعضه بعضاً، فقد كان هذا من مداليل حديث الثقلين.

حديث الثقلين يفسّر الاثني عشر:

وحينئذ ننتقل إلى مفاد حديث الثقلين، لنفهم معنى حديث الثقلين بما يتعلّق في

____________

1- كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر: 44 ـ انتشارات بيدار ـ قم ـ 1401.

2- كفاية الأثر: 89.

3- كفاية الأثر: 130.


الصفحة 379
بحثنا هذه الليلة، وليكون حديث الثقلين مفسّراً لحديث الأئمّة الإثني عشر:

لاحظوا، رسول الله عندما يقول: " إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عَلَيّ الحوض "، معنى ذلك: إنّ الأئمّة من العترة باقون ما بقي القرآن لا يفترقان ولا يتفرَقان، والحديث ـ كما قرأنا في تلك الليلة التي خصّصناها للبحث عن هذا الحديث ـ حديث صحيح مقطوع صدوره ومقبول عند الطرفين، فعندما يقول رسول الله: " إنّي تارك فيكم الثَقَلين أو الثقْلين "، فقد قرن رسول الله الأئمّة من العترة بالقرآن، والقرآن مادام موجوداً فالعترة موجودة، فالعترة موجودة ما دام القرآن موجوداً، أي إلى آخر الدنيا، فالعترة موجودة إلى آخر الدنيا، لذا قال في حديث الإثني عشر: " حتّى تقوم الساعة ".

وإن كنتم في شك ممّا قلته في معنى حديث الثقلين، فلاحظوا نصوص عبارات القوم في شرح حديث الثقلين من هذه الناحية:

يقول المنّاوي في فيض القدير في شرح حديث الثقلين: تنبيه: قال الشريف ـ يعني السمهودي الحافظ الكبير ـ هذا الخبر يُفهم وجود من يكون أهلاً للتمسّك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كلّ زمان إلى قيام الساعة، حتّى يتوجّه الحث المذكور إلى التمسّك به، كما أنّ الكتاب كذلك، فلذلك كانوا أماناً لأهل الأرض، فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض(1).

ومثلها عبارة ابن حجر المكي في الصواعق: وفي حديث الحث على التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع مستأهل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك(2).

وقال الزرقاني المالكي في شرح المواهب اللّدنيّة: قال القرطبي: وهذه الوصية وهذا التأكيد العظيم يقتضي وجوب احترام آله وبرّهم وتوقيرهم ومحبّتهم، ووجوب الفرائض

____________

1- فيض القدير 3/15.

2- الصواعق المحرقة: 232.


الصفحة 380
التي لا عذر لأحد في التخلّف عنها، هذا مع ما علم من خصوصيّتهم به (صلى الله عليه وسلم) ، وبأنّهم جزء منه، كما قال: " فاطمة بضعة منّي "، ومع ذلك فقابل بنو أُميّة عظيم هذه الحقوق بالمخالفة والعقوق، فسفكوا من أهل البيت دماءهم، وسبوا نساءهم، وأسروا صغارهم، وخرّبوا ديارهم، وجحدوا شرفهم وفضلهم، واستباحوا سبّهم ولعنهم، فخالفوا وصيّته وقابلوه بنقيض قصده، فوا خجلتهم إذا وقفوا بين يديه، ويا فضيحتهم يوم يعرضون عليه، فالوصيّة بالبرّ بآل البيت على الإطلاق، وأمّا الاقتداء فإنّما يكون بالعلماء العاملين منهم، إذ هم الذين لا يفارقون القرآن. قال الشريف السمهودي: هذا الخبر يفهم وجود من يكون أهلاً للتمسّك به من عترته في كلّ زمان إلى قيام الساعة(1).

فيكون حديث " إنّي تارك فيكم الثقلين " دليلاً على إمامة أئمّتنا، وعددهم في حديث الأئمّة بعدي إثنا عشر، وفي ذلك الحديث أيضاً تصريح بأنّهم موجودون إلى قيام الساعة.

هذا بنحو الاختصار، وقد تركت بعض القضايا الأُخرى التي كنت قد سجّلتها هنا فيما يتعلّق بالنص على الأئمّة الإثني عشر.

فكان دليلنا على إمامة الأئمّة الإثني عشر من النصوص: حديث الأئمّة بعدي إثنا عشر، وحديث الثقلين.

____________

1- شرح الزرقاني على المواهب اللّدنيّة 7/7 ـ 8 ـ دار المعرفة ـ بيروت ـ 1414.


الصفحة 381

العصمة والأفضلية

وأمّا العصمة:

فحديث " إنّي تارك فيكم الثقلين " يدلّ على عصمة الأئمّة من العترة النبويّة بكلّ وضوح، كما سنذكر ذلك في بحث العصمة إنْ شاء الله تعالى.

وأمّا الأفضليّة:

أي: أفضليّة أئمّتنا سلام الله عليهم، فإنّه يدلّ على أفضليّتهم حديث الثقلين من جهات عديدة، لأنّ حديث الثقلين دلّ على تقدّمهم في العلم وغير العلم، وهذه جهات تقتضي الأفضليّة بلا شك، وإن كنتم في شك فأقرأ لكم بعض العبارات:

قال التفتازاني في شرح المقاصد ـ وأرجو الملاحظة بدقة ـ: وفضّل العترة الطاهرة، لكونهم أعلام الهداية وأشياع الرسالة، على ما يشير إليه ضمّهم ـ أي ضمُّ العترة إلى كتاب الله ـ في إنقاذ المتمسّك بهما عن الضلالة(1).

ولو راجعتم شرّاح حديث الثقلين، وحتى اللغويين ـ لو تراجعونهم في معنى ثِقْل أو ثَقَل حيث يتعرضون لحديث الثقلين ـ يقولون: إنّما سمّاهما ـ أي الكتاب والعترة ـ بالثقلين إعظاماً لقدرهما وتفخيماً لشأنهما.

وقد نصّ شرّاح الحديث، كالمنّاوي في فيض القدير، والقاري في المرقاة في شرح

____________

1- شرح المقاصد 5/303 ـ الشريف الرضي ـ قم ـ 1409.


الصفحة 382
المشكاة، والزرقاني المالكي في شرح المواهب اللدنية، وغير هؤلاء: على أنّ حديث الثقلين يدلّ على أفضليّة العترة.

ولاحظوا كلام نظام الدين النيشابوري في تفسيره المعروف، يقول بتفسير قوله تعالى: ( وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُه )(1).

( وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ ) استفهام بطريق الإنكار والتعجب، والمعنى من أين يتطرّق إليكم الكفر والحال أنّ آيات الله تتلى عليكم على لسان الرسول غضّة، في كلّ واقعة، وبين أظهركم رسول الله يبيّن لكم كلّ شبهة، ويزيح عنكم كلّ علة [ فرسول الله إنّما يكون بين الاُمّة ويبعثه الله الى الناس لهذه الغاية وهي: يبيّن لكم كلّ شبهة ويزيح عنكم كلّ علّة ]قلت: أمّا الكتاب فإنّه باق على وجه الدهر، وأمّا النبي فإنّه وإن كان قد مضى إلى رحمة الله في الظاهر، ولكن نور سرّه باق بين المؤمنين، فكأنّه باق، على أنّ عترته ورثته يقومون مقامه بحسب الظاهر أيضاً، فيكونون ـ أي العترة ـ يبيّنون كلّ شبهة ويزيحون كلّ علّة، ولهذا قال: " إنّي تارك فيكم الثقلين "(2).

فمسألة الأفضليّة أيضاً واضحة على ضوء أحاديث القوم وكلمات علمائهم.

وأمّا حديث السفينة، فذاك دليل آخر على أفضليّتهم وعلى عصمتهم أيضاً، ولربّما نتعرّض للبحث عن حديث السفينة في مباحث العصمة إن شاء الله تعالى.

أفضلية الأئمة واحداً واحداً:

وأمّا أفضليّتهم واحداً واحداً، أي من الحسن والحسين إلى آخرهم (عليهم السلام) ، فأقرأ لكم حول كلّ إمام بعض الكلمات وبسرعة:

____________

1- سورة آل عمران: 101.

2- تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان 2/221 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ 1416.


الصفحة 383

الحسنان سلام الله عليهما:

ثبتت أفضليّتهما بآية المباهلة وآية التطهير وغيرهما، وبالأحاديث المتّفق عليها الواردة في حقّهما، كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : " الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة "، رواه أحمد في المسند، الترمذي والنسائي في صحيحيهما والحاكم في المستدرك، وهو أيضاً في الإصابة وغير هذه الكتب(1)، وحتّى أنّ المنّاوي يقول عن السيوطي: إنّ هذا الحديث متواتر(2).

الإمام السجّاد (عليه السلام) :

وصفه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بزين العابدين، والحديث متّفق عليه، ومن رواته صاحب الصّواعق(3)، وعن يحيى ابن سعيد إنّه قال: هو أفضل هاشمي رأيته في المدينة(4)، وقصيدة الفرزدق في حقّه معروفة ومشهورة(5).

الإمام الباقر (عليه السلام) :

أعلم الناس وأفضلهم في عهده، ولذا لقّبه النبي بالباقر، لأنّه بقر العلم، وكان من الآخذين عنه أبو حنيفة وابن جريج والأوزاعي والزهري وغيرهم، وهؤلاء أئمّة أهل السنّة في ذلك العصر.

____________

1- مسند أحمد 3/3، 62، 64، 82، سنن الترمذي 5/656 رقم 3768، مستدرك الحاكم 3/167، الإصابة 2/12 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت.

2- فيض القدير 3/415.

3- الصواعق المحرقة: 302 ـ 304.

4- فيض القدير في شرح الجامع الصغير 3 / 415.

5- ديوان الفرزدق 2/178 ـ دار صادر ـ بيروت.


الصفحة 384

الإمام الصادق (عليه السلام) :

قال أبو حنيفة: ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد(1)، وقد حضر عنده هو ومالك بن أنس وغيرهما من أئمّة أهل السنّة، وفي مختصر التحفة الإثنا عشرية عن أبي حنيفة إنّه قال: لولا السنتان لهلك النعمان(2)، يعني السنتين اللتين حضر فيهما عند الإمام الصادق (عليه السلام) ، وقال ابن حبّان: من سادات أهل البيت فقهاً وعلماً وفضلاً.

الإمام الكاظم (عليه السلام) :

لقّبوه بالعبد الصالح كما في تهذيب الكمال وغيره من المصادر(3)، وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: مناقبه كثيرة(4)، وقال ابن حجر المكي في الصواعق: كان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأسخاهم(5)، قالوا: وكان معروفاً عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند الله(6) ـ أي في حياته وبعد حياته ـ وقد ذكروا له كرامات عجيبة، كقضيّته مع شقيق البلخي التي ذكرها ابن الجوزي في صفة الصفوة(7).

الإمام الرضا (عليه السلام) :

ذكروا إنّه كان يجلس في المسجد النبوي ويفتي الناس وهو ابن اثنتين وعشرين

____________

1- سير أعلام النبلاء 6/257 ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1405.

2- مختصر التحفة الإثنا عشرية: 9.

3- تهذيب الكمال 29/44، تاريخ بغداد 13 / 27.

4- تهذيب التهذيب 10 / 303.

5- الصواعق المحرقة: 307.

6- الصواعق المحرقة: 307.

7- صفة الصفوة 2/185.


الصفحة 385
سنة، لاحظوا هذه الكلمة في تهذيب التهذيب وفي المنتظم لابن الجوزي وغيرهما من الكتب(1)، وقد رووا أنّ من تلامذته: أحمد بن حنبل كما في سير أعلام النبلاء(2)، وقال الذهبي عن الإمام الرضا (عليه السلام) : كان سيّد بني هاشم في زمانه وأجلّهم وأنبلهم وكان المأمون يعظّمه ويخضع له(3)، وقال ابن حجر: قال الحاكم ـ رجاءً لاحظوا هذه القضية ـ: سمعت أبا بكر بن المؤمّل بن الحسن بن عيسى يقول: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة، وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاك متوافرون، خرجنا إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضا بطوس، فرأيت من تعظيمه ـ أي تعظيم ابن خزيمة ـ لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرّعه عندها ما تحيّرنا(4).

فليسمع من يحرّم زيارة القبور والتضرّع عند القبور في المشاهد المشرفة.

الإمام الجواد (عليه السلام) :

قال الذهبي بترجمته: من سادات أهل بيت النبوّة، وكذا قال الصفدي(5)، وفي تاريخ الخطيب ما يفيد أنّه كان يرجع إليه ـ أي إلى الإمام الجواد ـ في معاني الأخبار وحقائق الأحكام(6).

الإمام الهادي (عليه السلام) :

قال الخطيب: أشخصه جعفر المتوكل من مدينة رسول الله إلى بغداد، ثمّ إلى سرّ من

____________

1- تهذيب التهذيب 7/339 ـ دارالفكر ـ 1404، المنتظم لابن الجوزي 10/119 ـ 120 رقم 1114 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ 1412.

2- سير أعلام النبلاء 9/388 ـ مؤسسة الرسالة ـ 1405.

3- تاريخ الإسلام من 201 ـ 210: 270 ـ دار الكتاب العربي ـ 1411.

4- تهذيب التهذيب 7 / 339.

5- تاريخ الإسلام من 211 ـ 220: 385، وفيه " كان من سَرَوات آل بيت النبي (صلى الله عليه وسلم) .

6- تاريخ بغداد 3 / 54.


الصفحة 386
رأى، فقدمها وأقام فيها عشرين سنة وتسعة أشهر، ولذا عرف بالعسكري(1)، وقال الذهبي: كان المتوكل فيه نصب وانحراف(2)، وقد شهد أعلام أهل السنّة بفقه الإمام الهادي وعبادته وزهده، قال اليافعي: كان الإمام علي الهادي متعبّداً فقيهاً إماماً(3)، وقال ابن كثير: كان عابداً زاهداً(4)، وكان سلام الله عليه أعلم علماء عصره، وقد ظهرت منزلته العلميّة في قضيّة اتّفقت للمتوكل عجز العلماء عن إعطاء الرأي الصحيح فيها، وكان الرأي في تلك القضية للإمام (عليه السلام) ، ذكر القضيّة الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد(5).

الإمام العسكري (عليه السلام) :

كان أكثر عمره تحت النظر، وكان الناس ممنوعين من الالتقاء به، والاستفادة منه، وحال الحكام دون أن تظهر علوم هذا الإمام (عليه السلام) للأُمّة، ومع ذلك فقد ظهرت منه فوائد، وظهرت منه كرامات، ونقلت عنه روايات كثيرة، وبإمكانكم المراجعة إلى كتاب حلية الأولياء وإلى لسان الميزان(6)، إلى الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة(7) وإلى الصواعق المحرقة(8) وإلى نور الأبصار(9) والى روض الرياحين لليافعي(10) وإلى جامع كرامات

____________

1- تاريخ بغداد 12/56.

2- سير أعلام النبلاء 12 / 35، الكامل في التاريخ 7 / 55.

3- مرآة الجنان 2/119 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ 1417.

4- البداية والنهاية المجلد 6 الجزء 11/15 ـ دارالفكر ـ بيروت.

5- تاريخ بغداد 12/56 ـ 57.

6- لسان الميزان 1 / 209.

7- الفصول المهمّة: 284 ـ 290 ـ منشورات الأعلمي طهران.

8- الصواعق المحرقة: 314.

9- نور الأبصار: 183 ـ 185 ـ دارالفكر ـ بيروت.

10- روض الرياحين، وعنه جواهر العقدين ق2 ج2 / 431.


الصفحة 387
الأولياء للنبهاني(1)، وغير هذه الكتب.

الإمام المهدي عجّل الله فرجه:

سنبحث عنه وعمّا يتعلّق به في ليلة خاصّة، إن شاء الله تعالى.

وإن أردتم أن تعرفوا ابن تيميّة ورأيه في هؤلاء الأئمّة وحقده وتعصّبه ونصبه، فراجعوا كتاب منهاج السنّة، ولربّما نخصص ليلة للتحقيق عمّا جاء في منهاج السنّة في حقّ الأئمّة والشيعة والتشيّع.

ونسأل الله التوفيق لنا ولكم وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

____________

1- جامع كرامات الأولياء 2/18 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ 1417.


الصفحة 388

الصفحة 389



الإمام المهدي (عليه السلام)





الصفحة 390

الصفحة 391

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.

بحثنا في هذه الليلة عن الإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه.

الإمام المهدي في عقيدتنا نحن الشيعة الإمامية الإثني عشرية هو الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) .

نعتقد بأنّه ابن الحسن العسكري سلام الله عليه ومن أولاد الإمام الحسين من أهل البيت سلام الله عليهم.

ونعتقد بأنّه مولود حي موجود، إلاّ أنّه غائب عن الأبصار.

عقيدتنا هذه من ضروريّات مذهبنا، والتشكيك في هذه العقيدة من أبناء هذا المذهب خروج عن المذهب.

ولو أردنا أن نتكلّم مع أبناء غير هذا المذهب وندعو الآخرين إلى هذه العقيدة، لابدّ وأنْ نستدلّ بأدلّة مقبولة عندهم، إمّا عندهم فقط، وإمّا عند الطرفين.

بحثنا حول المهدي سلام الله عليه يكون في ثلاثة فصول:

الفصل الأوّل: فيما يتعلّق بأصل الاعتقاد، وما عليه الشيعة الإماميّة الإثنا عشريّة.

الفصل الثاني: في بحوث تتعلّق بمسألة المهدي على ضوء روايات أو أقوال موجودة في كتب السنّة تخالف ما عليه الشيعة الإماميّة.


الصفحة 392
الفصل الثالث: في سؤالات قد تختلج في أذهان أبناء الطائفة أيضاً، وقد تطرح في الكتب، ولربّما يشنّع بها من قبل الكتّاب من أهل السنّة على عقيدة هذه الطائفة وما تذهب إليه الإماميّة في هذا الموضوع.


الصفحة 393

الفصل الأوّل

وفي هذا الفصل نحاول أنْ نستدلّ بأدلة مشتركة بين عموم المسلمين، وأقصد من عموم المسلمين الشيعة الإماميّة الإثني عشريّة وأهل السنّة بجميع مذاهبهم.

في هذا الفصل نقاط وهي نقاط الاشتراك بين الجميع:

النقطة الأولى: لا خلاف بين المسلمين في أنّ لهذه الأُمّة مهدياً، وأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أخبر به وبشّر به وذكر له أسماء وصفات وألقاباً وغير ذلك، والروايات الواردة في كتب الفريقين حول هذا الموضوع أكثر وأكثر من حدّ التواتر، ولذا لا يبقى خلاف بين المسلمين في هذا الاعتقاد، ومن اطّلع على هذه الأحاديث وحقّقها وعرفها، ثمّ كذّب أصل هذا الموضوع مع الالتفات إلى هذه الناحية، فقد كذّب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما أخبر به.

الروايات الواردة في طرق الفريقين وبأسانيد الفريقين موجودة في الكتب وفي الصحاح والسنن والمسانيد، وقد أُلّفت لهذه الروايات كتب خاصة دوّن فيها العلماء من الفريقين تلك الروايات في تلك الكتب، وهناك آيات كثيرة من القرآن الكريم مأوّلة بالمهدي سلام الله عليه.

وحينئذ لا يُعبأ ولا يعتنى بقول شاذ من مثل ابن خلدون المؤرّخ، حتّى أنّ بعض علماء السنّة كتبوا ردوداً على رأيه في هذه المسألة.

ومن أشهر المؤلّفين والمدوّنين لأحاديث المهدي سلام الله عليه من أهل السنّة في مختلف القرون:


الصفحة 394
أبو بكر ابن أبي خيثمة، المتوفى سنة 279 هـ.

نعيم بن حمّاد المروزي، المتوفى سنة 288 هـ.

الحسين ابن منادي، المتوفى سنة 336 هـ.

أبو نعيم الإصفهاني، المتوفى سنة 430 هـ.

أبو العلاء العطّار الهمداني، المتوفى سنة 569 هـ.

عبد الغني المقدسي، المتوفى سنة 600 هـ.

ابن عربي الأندلسي، المتوفى سنة 638 هـ.

سعد الدين الحموي، المتوفى سنة 650 هـ.

أبو عبدالله الكنجي الشافعي، المتوفى سنة 658 هـ.

يوسف بن يحيى المقدسي، المتوفى سنة 658 هـ.

ابن قيّم الجوزية، المتوفى سنة 685 هـ.

ابن كثير الدمشقي، المتوفى سنة 774 هـ.

جلال الدين السيوطي، المتوفى سنة 911 هـ.

شهاب الدين ابن حجر المكّي، المتوفى سنة 974 هـ.

علي بن حسام الدين المتقي الهندي، المتوفى سنة 975 هـ.

نور الدين علي القاري الهروي، المتوفى سنة 1014 هـ.

محمّد بن علي الشوكاني القاضي، المتوفى سنة 1250 هـ.

أحمد بن صدّيق الغماري، المتوفى سنة 1380 هـ.

وهؤلاء أشهر المؤلّفين في أخبار المهدي منذ قديم الأيام، وفي عصرنا أيضاً كتب مؤلَّفة من قبل كتّاب هذا الزمان، لا حاجة إلى ذكر أسماء تلك الكتب.

وهناك جماعة كبيرة من علماء أهل السنّة يصرّحون بتواتر حديث المهدي والأخبار الواردة حوله، أو بصحة تلك الأحاديث في الأقل، ومنهم:

الترمذي، صاحب الصحيح.


الصفحة 395
محمّد بن حسين الآبري، المتوفى سنة 363 هـ.

الحاكم النيسابوري، صاحب المستدرك.

أبو بكر البيهقي، صاحب السنن الكبرى.

الفرّاء البغوي محيي السنة.

ابن الأثير الجزري.

جمال الدين المزّي.

شمس الدين الذهبي.

نور الدين الهيثمي.

ابن حجر العسقلاني.

وجلال الدين السيوطي.

إذن، لا يبقى مجال للمناقشة في أصل مسألة المهدي في هذه الأُمّة.

النقطة الثانية: إنّه لابدّ في كلّ زمان من إمام يعتقد به الناس أي المسلمون، ويقتدون به، ويجعلونه حجة بينهم وبين ربهم، وذلك ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّة )(1) و( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَة وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة )(2) و( قُلْ فَلِلّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ )(3).

ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام) كما في نهج البلاغة: "اللهمّ بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة إمّا ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً مغموراً، لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته"(4).

والروايات الواردة في هذا الباب أيضاً كثيرة، ولا أظنّ أنّ أحداً يجرأ على المناقشة في أسانيد هذه الروايات ومداليلها، إنّها روايات واردة في الصحيحين، وفي المسانيد،

____________

1- سورة النساء 4/165.

2- سورة الأنفال 8/42.

3- سورة الأنعام 6/149.

4- نهج البلاغة 3/188 رقم 147.


الصفحة 396
وفي السنن، وفي المعاجم، وفي جميع كتب الحديث، والروايات هذه مقبولة عند الفريقين.

فقد اتفق المسلمون على رواية: "من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة".

هذا الحديث بهذا اللفظ موجود في بعض المصادر، وقد أرسله سعد الدين التفتازاني إرسال المسلّم، وبنى عليه بحوثه في كتابه شرح المقاصد(1).

ولهذا الحديث ألفاظ أُخرى قد تختلف بنحو الإجمال مع معنى هذا الحديث، إلاّ أنّي أعتقد بأنّ جميع هذه الألفاظ لابدّ وأن ترجع إلى معنى واحد، ولابدّ أن تنتهي إلى مقصد واحد يقصده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

فمثلاً في مسند أحمد: "من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية"(2)، وكذا في عدّة من المصادر: كمسند أبي داود الطيالسي(3)، وصحيح ابن حبّان(4)، والمعجم الكبير للطبراني(5)، وغيرها.

وعن بعض الكتب إضافة بلفظ: "من مات ولم يعرف إمام زمانه فليمتْ إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً"، وقد نقله بهذا اللفظ بعض العلماء عن كتاب المسائل الخمسون للفخر الرازي.

وله أيضاً ألفاظ أُخرى موجودة في السنن، وفي الصحاح، وفي المسانيد أيضاً، نكتفي بهذا القدر، ونشير إلى بعض الخصوصيات الموجودة في لفظ الحديث:

____________

1- شرح المقاصد 5/239 وما بعدها.

2- مسند أحمد 5/61 رقم 16434.

3- مسند أبي داود الطيالسي: 259 ـ دار المعرفة ـ بيروت.

4- صحيح ابن حبّان 10/434 رقم 4573 ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1418 هـ، وفيه: "من مات وليس له إمام".

5- المعجم الكبير للطبراني 19/388 رقم 910.


الصفحة 397
"من مات ولم يعرف"، لابدّ وأنْ تكون المعرفة هذه بمعنى الاعتقاد أو مقدمة للاعتقاد، "من مات ولم يعرف" أي: من مات ولم يعتقد بإمام زمانه، لا مطلق إمام الزمان، بإمام زمانه الحق، بإمام زمانه الشرعي، بإمام زمانه المنصوب من قبل الله سبحانه وتعالى.

"من مات ولم يعرف إمام زمانه" بهذه القيود "مات ميتة جاهلية"، وإلاّ لو كان المراد من إمام الزمان أيّ حاكم سيطر على شؤون المسلمين وتغلَّب على أُمور المؤمنين، لا تكون معرفة هكذا شخص واجبة، ولا يكون عدم معرفته موجباً للدخول في النار، ولا يكون موته موت جاهلية، هذا واضح.

إذن، لابدّ من أن يكون الإمام الذي تجب معرفته إمام حق، وإماماً شرعياً، فحينئذ، على الإنسان أن يعتقد بإمامة هذا الشخص، ويجعله حجةً بينه وبين ربّه، وهذا واجب، بحيث لو أنّه لم يعتقد بإمامته ومات، يكون موته موت جاهلية، وبعبارة أُخرى: "فليمت إنْ شاء يهودياً وإنْ شاء نصرانياً".

وذكر المؤرخون: أنّ عبدالله بن عمر، الذي امتنع من بيعة أمير المؤمنين سلام الله عليه، طرق على الحجّاج بابه ليلاً ليبايعه لعبد الملك، كي لا يبيت تلك الليلة بلا إمام، وكان قصده من ذلك هو العمل بهذا الحديث كما قال، فقد طرق باب الحجّاج ودخل عليه في تلك الليلة وطلب منه أن يبايعه قائلاً: سمعت رسول الله يقول: "من مات ولا إمام له مات ميتة جاهلية"، لكن الحجّاج احتقر عبدالله بن عمر، ومدّ رجله وقال: بايع رجلي، فبايع عبدالله بن عمر الحجّاج بهذه الطريقة.

وطبيعي أنّ من يأبى عن البيعة لمثل أمير المؤمنين (عليه السلام) يبتلي في يوم من الأيّام بالبيعة لمثل الحجّاج وبهذا الشكل.

وكتبوا بترجمة عبدالله بن عمر، وفي قضايا الحرّة، بالذات، تلك الواقعة التي أباح فيها يزيد بن معاوية المدينة المنورة ثلاثة أيام، أباحها لجيوشه يفعلون ما يشاؤون، وأنتم تعلمون بما كان وما حدث في تلك الواقعة، حيث قتل عشرات الآلاف من الناس،

الصفحة 398
والمئات من الصحابة والتابعين، وافتضت الأبكار، وولدت النساء بالمئات من غير زوج.

في هذه الواقعة أتى عبدالله بن عمر إلى عبدالله بن مطيع، فقال عبدالله ابن مطيع: إطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إنّي لم آتك لكي أجلس، أتيتك لأُحدّثك حديثاً، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: "من خلع يداً من طاعة لقى الله يوم القيامة لا حجّة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"، أخرجه مسلم(1).

فقضية وجوب معرفة الإمام في كلّ زمان والاعتقاد بإمامته والالتزام ببيعته أمر مفروغ منه ومسلّم، وتدلّ عليه الأحاديث، وسيرة الصحابة، وسائر الناس، ومنها ما ذكرت لكم من أحوال عبدالله بن عمر الذي يجعلونه قدوة لهم، إلاّ أنّ عبدالله بن عمر ذكروا أنّه كان يتأسّف على عدم بيعته لأمير المؤمنين (عليه السلام) ، وعدم مشاركته معه في القتال مع الفئة الباغية، وهذا موجود في المصادر، فراجعوا الطبقات لابن سعد(2) والمستدرك للحاكم(3) وغيرهما من الكتب.

وعلى كلّ حال لسنا بصدد الكلام عن عبدالله بن عمر أو غيره، وإنّما أردت أن أذكر لكم نماذج من الكتاب والسنة وسيرة الصحابة على أنّ هذه المسألة ـ مسألة أنّ في كلّ زمان ولكلّ زمان إمام لابدّ وأنْ يعتقد المسلمون بإمامته ويجعلونه حجةً بينهم وبين ربهم ـ من ضروريات عقائد الإسلام.

النقطة الثالثة: إنّ المهدي من الأئمّة الإثني عشر في حديث الأئمّة بعدي إثنا عشر، لا ريب ولا خلاف في هذه الناحية، فإنّ القيود التي ذكرت في رواية الأئمّة إثنا عشر،

____________

1- صحيح مسلم 3/1478 رقم 1851.

2- طبقات ابن سعد 4/185 و187، وفيه: "ما أجدني آسى على شيء من أمر الدنيا إلاّ أنّي لم أُقاتل الفئة الباغية، ما آسى عن الدنيا إلاّ على ثلاث: ظمأ الهواجر ومكابدة الليل وألاّ أكون قاتلت الفئة هذه الفئة الباغية التي حلّت بنا".

3- مستدرك الحاكم 3/115، لكن في الصفحة 558 سطر 8 العبارة في المتن هكذا: "ما آسى على شيء" فلم يذكر بقية الخبر، وفي الهامش: بياض في الأصل!!.