الصفحة 521

باب: في أن الأئمة محدّثون مفهّمون.

باب: في أن الائمة لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلون إلاّ بعهد عن الله وأمر منه لا يتجاوزون.

العصمة لا تستلزم الغلوّ:

ولا يتوهمنَّ أحدٌ أنّ في هذه الأبواب غلوّاً بحق الأئمة سلام الله عليهم، وإني لأرى ضرورة التأكيد على هذه النقطة، قولنا بأن الأئمة معصومون حتى من السهو والخطأ، والنسيان، هذا ليس غلوّاً في حقهم، إنّهم سلام الله عليهم يبغضون الغالي ويكرهون الغلو، إنه قد ورد عنهم سلام الله عليهم: " إحذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدوهم، فإن الغلاة شرّ خلق الله، يصغّرون عظمة الله، ويدّعون الربوبية لعباد الله، وإن الغلاة لشرّ من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا "(1).

ومعنى الغلوّ في الروايات وكلمات العلماء معروف، ولا بأس أن أقرأ لكم هذه الكلمة ولو طال المجلس، لأنّي أرى ضرورة قراءة هذا النص.

يقول الشيخ المجلسي رحمه الله: إعلم أن الغلو في النبي والأئمة (عليهم السلام) إنما يكون بالقول بأُلوهيّتهم، أو بكونهم شركاء لله تعالى في العبودية والخلق والرزق، وأن الله تعالى حلّ فيهم أو اتحد بهم، أو أنّهم يعلمون الغيب بغير وحي وإلهام من الله تعالى، أو بالقول في الأئمة أنهم كانوا أنبياء، والقول بتناسخ أرواح بعضهم إلى بعض، أو القول بأن معرفتهم تغني عن جميع التكاليف، والقول بكلّ هذا إلحاد وكفر وخروج عن الدين، كما دلّت عليه الأدلة العقلية والآيات والأخبار السالفة وغيرها، وقد عرفت أن الأئمة تبرّؤوا منهم وحكموا بكفرهم ـ أي الغلاة ـ وأمروا بقتلهم.

قال (رحمه الله): ولكن أفرط بعض المتكلّمين والمحدّثين في الغلو، لقصورهم عن معرفة الأئمة وعجزهم عن إدراك غرائب أحوالهم وعجائب شؤونهم، فقدحوا في كثير من الرواة الثقات لنقلهم بعض غرائب المعجزات حتى قال بعضهم: من الغلو نفي السهو عنهم، أو القول بأنهم يعلمون ما كان وما يكون وغير ذلك.

____________

1- كتاب الأمالي للشيخ أبي جعفر الطوسي: 650 رقم 12.


الصفحة 522
قال (رحمه الله): فلابد للمؤمن المتدين أنْ لا يبادر بردّ ما ورد عنهم من فضائلهم ومعجزاتهم ومعالي أُمورهم، إلاّ إذا ثبت خلافه بضرورة الدين أو بقواطع البراهين أو بالآيات المحكمة أو بالأخبار المتواترة(1).

إذن، لابد من التأمل دائماً في العقائد، إنهم كما يكرهون التقصير في حقهم يكرهون أيضاً الغلو في حقهم، إلاّ أنّه لابد من التريّث عند كلّ عقيدة، فلا يرمى القائل بشيء من فضائل أهل البيت بالغلو، وتلك منازل شاءها الله سبحانه وتعالى لهم.

وقد أطلت عليكم في هذه الليلة، لكنّ البحث كان مهمّاً جداً، كان متشعّب الأطراف، فيه جهات عديدة، كان من الضروري الإلمام ببعض تلك الأطراف والجهات، وأستميحكم عذراً ومعذرةً إليكم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

____________

1- بحار الانوار 25/346 ـ 347.


الصفحة 523



الشورى في الإمامة





الصفحة 524

الصفحة 525

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.

تبيّن إلى الآن أنّ الإمامة نيابة عن النبوة، والإمام نائب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكما أنّ النبوّة والرسالة تثبت للنبي والرسول من قبل الله سبحانه وتعالى، كذلك الإمامة، فإنّها خلافة ونيابة عن النبوّة والرسالة، فنحن إذن بحاجة إلى جعل إلهي، إلى تعريف من الله سبحانه وتعالى، إلى تعيين من قبله بالنصّ، ليكون الشخص نبيّاً ورسولاً، أو ليكون إماماً بعد الرسول، والنص إمّا من الكتاب وإمّا من السنّة القطعيّة، ولو رجعنا إلى العقل، فالعقل يعطينا الملاك، ويقبّح تقديم المفضول على الفاضل، وعن هذا الطريق أيضاً يستدلّ للإمامة والولاية والخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وثبت إلى الآن أن لا طريق لتعيين الإمام إلاّ النص، وأن بيعة شخص أو شخصين أو أشخاص وأمثال ذلك، هذه البيعة لا تثبت الإمامة للمبايع له، وعن طريق النص والأفضليّة أثبتنا إمامة أمير المؤمنين والأئمّة الأطهار أيضاً من بعده.

وتبقى نظرية ربّما تطرح في بعض الكتب وفي بعض الأوساط العلميّة والفكريّة، وهي نظرية الشورى، بأن تثبت الإمامة لشخص عن طريق الشورى.

وموضوع الشورى موضوع بحثنا في هذه الليلة، لنرى ما إذا كان لهذه النظرية مستند

الصفحة 526
ودليل من الكتاب والسنّة وسيرة رسول الله، أوأنّها نظرية لا سند لها من ذلك.

وبحثنا موضوعه الشورى في الإمامة أو الإمامة في الشورى.

وأمّا الشورى والمشورة والتشاور في الأُمور، وفي القضايا الخاصّة أو العامّة، والأُمور الإجتماعيّة، وفي حلّ المشاكل، فذلك أمر مستحسن مندوب شرعاً وعقلاً وعقلاءاً، لأنّ من شاور الناس فقد شاركهم في عقولهم، والإنسان إذا احتاج إلى رأي أحد احتاج إلى مشورة من عاقل، ففي القضايا الشخصية لابدّ وأن يبادر ويشاور، وهذه سيرة جميع العقلاء، وكلامنا في الشورى في الإمامة، أو فقل الإمامة في الشورى:


الصفحة 527

الإمامة بيد الله سبحانه وتعالى

إنّه وإنْ أخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ثبوت الإمامة لأمير المؤمنين سلام الله عليه قبل هذا العالَم، أخبرنا بأنّ الإمامة والوصاية والخلافة من بعده ثابتة لعلي، هذا الثبوت قبل هذا العالم كان لأمير المؤمنين، كما ثبتت النبوة والرسالة لرسول الله قبل هذا العالم... أخبرنا رسول الله عن هذا الموضوع في حديث النور، هذا الحديث في بعض ألفاظه: " كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلمّا خلق الله آدم، قسّم ذلك النور جزئين، فجزءٌ أنا وجزء علي ".

هذا الحديث من رواته:

1 ـ أحمد بن حنبل، في كتاب المناقب.

2 ـ أبو حاتم الرازي.

3 ـ ابن مردويه الإصفهاني.

4 ـ أبو نعيم الإصفهاني.

5 ـ ابن عبد البر القرطبي.

6 ـ الخطيب البغدادي.

7 ـ ابن عساكر الدمشقي.

8 ـ عبد الكريم الرافعي القزويني، الإمام الكبير عندهم.

9 ـ شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني.

وجماعة غير هؤلاء، يروون هذا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بواسطة عدّة من

الصفحة 528
الصحابة، وبأسانيد بعضها صحيح(1).

وقد اشتمل بعض ألفاظ هذا الحديث على قوله: " فجعل فيّ النبوّة وفي علي الخلافة "(2)، وفي بعضها: " فجعل فيّ الرسالة وفي علي الوصاية "(3).

لكن كلامنا في هذا العالم، وأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبر عن أنّ الإمامة إنّما هي بيد الله سبحانه وتعالى، الإمامة حكمها حكم الرسالة والنبوّة كما ذكرنا، ففي أصعب الظروف وأشدّ الأحوال التي كان عليها رسول الله في بدء الدعوة الإسلاميّة، عندما خوطب من قبل الله سبحانه وتعالى بقوله: ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرْ )(4) جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرض نفسه على القبائل العربية، ففي أحد المواقف حيث عرض نفسه على بعض القبائل العربيّة ودعاهم إلى الإسلام، طلبوا منه واشترطوا عليه أنّهم إنْ بايعوه وعاونوه وتابعوه أن يكون الأمر من بعده لهم، ورسول الله بأشدّ الحاجة حتى إلى المعين الواحد، حتّى إلى المساعد الواحد، فكيف وقبيلة عربيّة فيها رجال، أبطال، عدد وعُدّة، في مثل تلك الظروف لمّا قيل له ذلك قال: " الأمر إلى الله... " ولقد كان بإمكانه أن يعطيهم شبه وعد، ويساومهم بشكل من الأشكال، لاحظوا هذا الخبر:

يقول ابن إسحاق صاحب السيرة ـ وهذا الخبر موجود في سيرة ابن هشام، هذا الكتاب الذي هو تهذيب أو تلخيص لسيرة ابن إسحاق ـ: إنّه ـ أي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ـ أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عزّوجلّ، وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم

____________

1- مناقب علي لأحمد بن حنبل، وعنه المحبّ الطبري في الرياض النضرة 2 / 217، وسبط ابن الجوزي في التذكرة: 46، ورواه الحافظ الكنجي في الكفاية: 314 عن ابن عساكر والخطيب البغدادي، وانظر: ترجمة أمير المؤمنين من تاريخ دمشق 1 / 135، ونظم درر السمطين: 78 ـ 79، وفرائد السمطين 1 / 39 ـ 44، والمناقب للخوارزمي: 88، والمناقب لابن المغازلي 87 ـ 89.

2- رواه الديلمي في فردوس الأخبار، وابن المغازلي في المناقب، وغيرهما من الأعلام.

3- رواه جماعة، منهم: ابن المغازلي في المناقب.

4- سورة الحجر: 94.


الصفحة 529
ويقال له بحيرة بن فراس قال: والله لو أنّي أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثمّ قال: أرأيت إنْ نحن بايعناك على أمرك، ثمّ أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: " الأمرُ إلى الله يضعه حيث يشاء "، فقال له: أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه(1).

وفي السيرة الحلبية: وعرض على بني حنيفة وبني عامر بن صعصعة فقال له رجل منهم: أرأيت إنْ نحن بايعناك على أمرك ثمّ أظفرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فقال: " الأمر إلى الله يضعه حيث شاء "، فقال له: أنقاتل العرب دونك، وفي رواية: أفتهدف نحورنا للعرب دونك، أي نجعل نحورنا هدفاً لنبالهم، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك وأبوا عليه(2).

هذا، والرسول ـ كما أشرت ـ في أصعب الأحوال وأشدّ الظروف، وكلّ العرب وعلى رأسهم قريش يحاربونه ويؤذونه بشتّى أنواع الأذى، يقول: " الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء "، وهذا معنى قوله تعالى: ( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ )(3).

ولو راجعتم الآيات الكريمة الواردة في نصب الأنبياء، غالباً ما تكون بعنوان " الجعل " وما يشابه هذه الكلمة، لاحظوا قوله تعالى: ( إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً )(4)هذا في خطاب لإبراهيم (عليه السلام)، وفي خطاب لداود: ( إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الاَْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ )(5).

ومن هذه الآية يستفاد أنّ الحكم بين الناس حكم من أحكام النبوّة والرسالة ( إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الاَْرْضِ فَاحْكُمْ ) الحكم من أحكام الخلافة، وليست الخلافة هي

____________

1- سيرة ابن هشام 1/424.

2- السيرة الحلبيّة 2/154.

3- سورة الأنعام: 124.

4- سورة البقرة: 124.

5- سورة ص: 26.


الصفحة 530
الحكومة، وقد أشرت إلى هذا من قبل في بعض البحوث، الخلافة ليست الحكومة، وإنّما الحكومة شأن من شؤون الخليفة، تثبت الخلافة لشخص ولا يتمكّن من الحكومة على الناس ولا يكون مبسوط اليد ولا يكون نافذ الكلمة، إلاّ أنّ خلافته محفوظة.

وإذا كانت الآيات دالّة على أنّ النبوّة والإمامة إنّما تكون بجعل من الله سبحانه وتعالى، فهناك بعض الآيات تنفي أن تكون النبوّة والإمامة بيد الناس، كقوله تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ )(1)، وذيل الآية ربّما يؤيّد هذا المعنى، إنّ القول باشتراك الناس وبمساهمتهم وبدخلهم في تعيين النبوّة لأحد أو تعيين الإمامة لشخص، هذا نوع من الشرك، وإلى الآن نرى أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يصرّح بأنّ الأمر بيد الله، أي ليس بيد النبي، فضلا عن أن يكون بيد أحد أو طائفة من الناس.

حتّى إذا أُمر بإنذار عشيرته بقوله تعالى: ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ )(2) فجمع أقطابهم، فهناك أبلغ الناس بأن الجعل بيد الله، وأخبرهم بالذي حصل الجعل له من الله من بعده(3).

وهكذا كان (صلى الله عليه وآله وسلم) ينصّ على علي، وإلى آخر لحظة من حياته المباركة.

ولم نجد، لا في الكتاب ولا في سنّة رسول الله دليلاً ولا تلميحاً وإشارةً إلى كون الإمامة بيد الناس، بأن ينصبوا أحداً عن طريق الشورى مثلاً، أو عن طريق البيعة والإختيار، ولا يوجد أيّ دليل على ثبوت الإمامة بغير النصّ.

____________

1- سورة القصص: 68.

2- سورة الشعراء: 214.

3- تقدّم الكلام على حديث الدار.


الصفحة 531

إمامة أبي بكر لم تكن بالشورى

توفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وآل أمر الخلافة والإمامة إلى ما آل إليه، تفرّق الناس بعد رسول الله، وبدأ الإختلاف والإفتراق بين الأُمّة.

توفي رسول الله وجنازته على الأرض، طائفة من المهاجرين والأنصار في بيوتهم، بعضهم مع علي حول جنازة رسول الله، وبعض الأنصار اجتمعوا في سقيفتهم، ثمّ التحق بهم عدد قليل من المهاجرين، فوقع هناك ما وقع، وكان ما كان، وأسفرت القضيّة عن البيعة لأبي بكر، ولم يدّع أحد أنّ هذه البيعة كانت عن طريق الشورى، ولم يكن هناك ـ في السقيفة ـ أيّ شورى، بل كان الصياح والسبّ والشتم، والتدافع والتنازع، حتّى كاد سعد بن عبادة ـ وهو مسجّى ـ بينهم يموت أو يقتل بين أرجلهم.

وحينئذ جاء عنوان البيعة إلى جنب عنوان النص، فإذا راجعتم الكتب الكلاميّة عند القوم قالوا: بأنّ الإمامة تثبت إمّا بالنص وإمّا بالبيعة والإختيار. عندما تحقّق هذا الشيء وبهذا الشكل، جعلوا الإختيار والبيعة طريقاً لتعيين الإمام كالنص.

أمّا عنوان الشورى فلم يتحقّق في السقيفة أصلا، ولم نسمع من أحد أن يدّعي أنّ القضيّة كانت عن طريق الشورى، وأنّ إمامة أبي بكر ثبتت عن طريق الشورى، لا يقوله أحد ولو قاله لما تمكّن من إقامة الدليل والبرهان على ما يقول.

وكما ذكرت في البحوث السابقة، حتّى في قضيّة أبي بكر، عندما فشل القوم ولم يتمكّنوا من إثبات إمامته عن طريق البيعة والإختيار، حيث ادّعوا الإجماع على إمامته ولم يتمكّنوا من إثبات ذلك، عادوا واستدلّوا لإمامة أبي بكر بالنص، وقد قرأنا بعض

الصفحة 532
الأحاديث وآية أو آيتين، يستدلّون بها على إمامة أبي بكر، مع الجواب عنها تفصيلا.

وحينئذ يظهر أنّ البيعة والاختيار أيضاً لا يمكن أن يكون دليلاً على ثبوت إمامة وتعيين إمام.


الصفحة 533

إمامة عمر لم تكن بالشورى

ثمّ أراد أبو بكر أنْ ينصب من بعده عمر بن الخطّاب، وإلى آخر أيّام أبي بكر، لم يكن عنوان الشورى مطروحاً عند أحد، ولم نسمع، حتّى إذا أوصى أبو بكر بعمر بن الخطّاب من بعده، كما يروي القاضي أبو يوسف الفقيه الكبير في كتاب الخراج(1) يقول: لمّا حضرت الوفاة أبا بكر، أرسل إلى عمر يستخلفه، فقال الناس: أتستخلف علينا فظّاً غليظاً، لو قد ملكنا كان أفظ وأغلظ، فماذا تقول لربّك إذا لقيته ولقد استخلفت علينا عمر؟ قال: أتخوّفوني ربّي! أقول: اللهمّ أمّرت خير أهلك.

هذا النصّ يفيدنا أمرين:

الأمر الأوّل: إنّ إمامة عمر بعد أبي بكر لم تكن بشورى، ولا بنص، ولم تكن باختيار، وأقصد من النص النص عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

إذن، لم يكن لإمامة عمر نص من رسول الله، ولم تكن شورى من المسلمين، وإنّما يدّعي أبو بكر الأفضليّة لعمر، يقول للمعترضين: أقول: اللهمّ أمّرت خير أهلك، والأفضليّة طريق ثبوت الإمام، فهذا النص الذي قرأناه لا دلالة فيه على تحقّق الشورى فحسب، بل يدلّ على مخالفة الناس ومعارضتهم لهذا الذي فعله أبو بكر، وهو الأمر الثاني.

وهذا النص بعينه موجود في: المصنَّف لابن أبي شيبة، وفي الطبقات الكبرى(2)، وغيرهما(3).

____________

1- كتاب الخراج: 11.

2- الطبقات لابن سعد 3 / 199، 274.

3- تاريخ الطبري 2 / 617 ـ 620، الرياض النضرة في مناقب العشرة المبشرة 1 / 237.


الصفحة 534
أمّا لو راجعنا المصادر لوجدنا في بعضها بدل كلمة: الناس، جملة: معشر المهاجرين.

ففي كتاب إعجاز القرآن للباقلاني، وكتاب الفائق في غريب الحديث للزمخشري، وكذا في غيرهما: عن عبد الرحمن بن عوف قال: دخلت على أبي بكر في علّته التي مات فيها، فقلت: أراك بارئاً يا خليفة رسول الله؟ فقال: أمّا إنّي على ذلك لشديد الوجع، وما لقيتُ منكم يا معشر المهاجرين أشدّ عَلَيّ من وجعي! إنّي ولّيت أُموركم خيركم في نفسي، فكلّكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه، والله لتتخذنّ نضائد الديباج وستور الحرير... إلى آخر الخبر(1).

أي إنّكم يا معاشر المهاجرين تريدون الخلافة، وكلّ منكم يريدها لنفسه، لأجل الدنيا، ويخاطب بهذا أبو بكر المهاجرين، بدل كلمة الناس في النص السابق.

فقال له عبد الرحمن: خفّض عليك يا خليفة رسول الله، ولقد تخلّيت بالأمر وحدك، فما رأيت إلاّ خيراً.

من هذا الكلام نفهم أمرين أيضاً:

الأمر الأوّل: إنّه كان هذا الشيء من أبي بكر وحده، فقد تخلّيت بالأمر وحدك.

الأمر الثاني: أنّ عبدالرحمن بن عوف موافق لما فعله أبو بكر.

ثمّ جاء في بعض الروايات اسم علي وطلحة بالخصوص، لاحظوا: قالت عائشة: لمّا حضرت أبا بكر الوفاة، استخلف عمر، فدخل عليه علي وطلحة فقالا: من استخلفت؟ قال: عمر، قالا: فماذا أنت قائل لربّك؟ قال: أقول استخلفت عليهم خير أهلك.

ففي نصّ كلمة: الناس، وفي نصّ كلمة: معشر المهاجرين، وفي نصّ: علي وطلحة،

____________

1- إعجاز القرآن للباقلاني ـ هامش الإتقان ـ: 184، الفائق في غريب الحديث 1 / 45، أساس البلاغة، النهاية في غريب الحديث، لسان العرب، في مادة " ورم ".


الصفحة 535
هذا النص في الطبقات(1).

لكن بعضهم ينقل نفس الخبر ويحذف الاسمين، ويضع بدلهما فلان وفلان، والخبر أيضاً بسند آخر في الطبقات.

وفي رواية أُخرى: سمع بعض أصحاب النبي بدخول عبد الرحمن وعثمان على أبي بكر وخلوتهما به، فدخلوا على أبي بكر فقال قائل منهم... إلى آخر الخبر.

ونفهم من هذا النص أمرين:

الأمر الأول: إنّ أبا بكر لم يشاور أحداً في هذا الأمر، ولم يعاونه أحد ولم يساعده ويوافقه أحد، إلاّ عبد الرحمن بن عوف وعثمان فقط.

الأمر الثاني: إنّ بعض الأصحاب ـ بدون اسم ـ دخلوا حين كان قد اختلا بهما ـ بعبد الرحمن وبعثمان ـ قال قائلهم له: ماذا تقول لربّك... إلى آخر الخبر.

فالمستفاد من هذه النصوص أُمور، من أهمّها أمران:

الأمر الأوّل: إنّه كان لعبد الرحمن بن عوف وعثمان ضلع في تعيين عمر بعد أبي بكر، وإنْ شئتم التفصيل فراجعوا تاريخ الطبري(2) حتّى تجدوا كيف أشار عبد الرحمن وعثمان على أبي بكر، وكيف كتب عثمان وصيّة أبي بكر لعمر بن الخطّاب.

الأمر الثاني المهم: إنّ خلافة عمر بعد أبي بكر لم تكن بنصّ من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا برضا من أعلام الصحابة، بل إنّهم أبدوا معارضتهم واستيائهم من ذلك، وإنّما كانت خلافته بوصيّة من أبي بكر فقط.

وإلى الآن، لم نجد ما يفيد طريقيّة الشورى لتعيين الإمام والإمامة، مع ذلك لو تراجعون بعض الكتب المؤلّفة أخيراً، من هؤلاء الذين يُصوّرون أنفسهم مفكّرين وعلماء ومحققين، وهكذا تصوّر في حقّهم بعض الناس والتبس عليهم أمرهم تجدون هذه الدعوى:

____________

1- الطبقات الكبرى 3/274.

2- تاريخ الطبري 2 / 617.


الصفحة 536
يقول أحدهم في كتاب فقه السيرة: فشاور أبو بكر قبيل وفاته طائفة من المتقدّمين، ذو النظر والمشورة من أصحاب رسول الله، فاتّفقت كلمتهم على أنْ يعهد بالخلافة إلى عمر بن الخطّاب.

وقد رأيتم من أهمّ مصادرهم، راجعوا طبقات ابن سعد، راجعوا تاريخ الطبري، وراجعوا سائر الكتب، لتروا أنْ لم يكن لأحد دخل ورأي في هذا الموضوع، بل الكل مخالفون، وإنّما عبد الرحمن بن عوف وعثمان.

وسنرى من خلال الأخبار ومجريات الحوادث أنّ هناك تواطئاً وتفاهماً على أن يكون عثمان بعد عمر، وعلى أن يكون عبد الرحمن بعد عثمان، ويؤكّد هذا الذي قلته النص التالي، فلاحظوا:

إنّ سعيد بن العاص أتى عمر يستزيده [ سعيد بن العاص تعرفونه، هذا من بني أُميّة، ومن أقرباء عثمان القريبين، الذي ولاّه على بعض القضايا، وصدر منه بعض الأشياء ] في داره التي بالبلاط، وخطّط أعمامه مع رسول الله، فقال عمر: صلّ معي الغداة وغبّش، ثمّ أذكرني حاجتك، قال: ففعلت، حتّى إذا هو انصرف، قلت: يا أمير المؤمنين الحاجة التي أمرتني أن أذكرها لك، قال: فوثب معي ثمّ قال: امض نحو دارك حتّى انتهيت إليها، فزادني وخطّ لي برجله، فقلت: يا أمير المؤمنين، زدني، فإنّه نبتت لي نابتة من ولد وأهل، فقال: حسبك وخبّئ عندك أن سيلي الأمر بعدي من يصل رحمك ويقضي حاجتك، قال: فمكثت خلافة عمر بن الخطّاب، حتّى استخلف عثمان، فوصلني وأحسن وأقضى حاجتي وأشركني في إمامته... إلى آخر النصّ.

وهذا أيضاً في الطبقات(1). يقول عمر لسعيد بن العاص أن انتظر سيعطيك ما تريد الذي سيلي الأمر من بعدي، واختبئ عندك هذا الخبر، فليكن عندك السر.

____________

1- طبقات الكبرى 5/31.


الصفحة 537

متى طرحت فكرة الشورى

إذن، متى جاء ذكر الشورى؟ ومتى طرحت هذه الفكرة؟ في أيّ تاريخ؟ ولماذا؟ وحتّى عمر أيضاً لم تكن عنده هذه الفكرة، وإنّه كان مخالفاً لهذه الفكرة، وإنّما كان قائلاً بالنص:

منها: قوله: لو كان أبو عبيدة حياً لولّيته(1).

ومنها: قوله: لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولّيته(2).

ومنها: قوله: لو كان معاذ بن جبل حيّاً لولّيته(3).

إذن، ما الذي حدث؟ ولماذا طرحت هذه الفكرة فكرة الشورى؟

هذه الفكرة طرحت وحدثت بسبب، سأقرؤه الآن عليكم من صحيح البخاري، وهو أيضاً في: سيرة ابن هشام، وأيضاً في تاريخ الطبري، وأيضاً في مصارد اُخرى، وهناك فوارق بين العبارات، والنص تجدونه قد تلاعبوا به، لا أتعرّض لتلك الناحية، ولا أبحث عن التلاعب الذي حدث منهم في نقل القصة، وإنّما أقرأ لكم النص في صحيح البخاري، لتروا كيف طرحت فكرة الشورى من قبل عمر في سنة 23 هـ، وأرجوكم أن تنتظروا إلى آخر النص، لأن النص طويل، وتأمّلوا في ألفاظه وسأقرؤه بهدوء وسكينة:

حدّثنا عبد العزيز بن عبدالله، حدّثني إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب

____________

1- مسند أحمد 1 / 18، سير أعلام النبلاء: الجزء الأول، وغيرهما.

2- الطبقات الكبرى 3 / 343.

3- مسند أحمد، الطبقات، سير أعلام النبلاء: بترجمة معاذ.


الصفحة 538
[ وهو الزهري ] عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس قال: كنت [ ابن عباس يقول، والقضية أيضاً فيها عبد الرحمن بن عوف كما سترون ] أُقرىء رجالاً من المهاجرين [ اُقرؤهم يعني القرآن ] منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى [ القضيّة في الحج، وفي منى بالذات، وفي سنة 23 من الهجرة ] وهو عند عمر بن الخطاب [ أي: عبد الرحمن بن عوف كان عند عمر بن الخطاب ] في آخر حجّة حجّها، إذ رجع إليّ عبد الرحمن فقال: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلاّ فلته فتمّت، فغضب عمر ثمّ قال: إنّي إنْ شاء الله لقائم العشيّة في الناس، فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أُمورهم.

[ لاحظوا القضيّة: عبد الرحمن كان عند عمر بن الخطاب في منى، فجاء رجل وأخبر عمر أنّ بعض الناس كانوا مجتمعين وتحدّثوا، فقال أحدهم: لو قد مات عمر لبايعنا فلاناً فو الله ما كانت بيعة أبي بكر إلاّ فلتة، في البخاري فلان، وسأذكر لكم الإسم، وهذا دأبهم، يضعون كلمة فلان في مكان الأسماء الصريحة، فقال قائل من القوم: والله لو قد مات عمر لبايعت فلاناً. القائل من؟ وفلان الذي سيبايعه من؟ لبايعت فلاناً، يقول هذا القائل: إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمّت، لكن سننتظر موت عمر، لنبايع فلاناً، لمّا سمع عمر هذا المعنى غضب، وأراد أن يقوم ويخطب ] .

قال عبد الرحمن فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل، فإنّ الموسم يجمع رعاء الناس وغوغائهم، فإنّهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيّرها عنك كلّ مطيّر، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتّى تقدم المدينة، فإنّها دار الهجرة والسنّة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكّناً، فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها، فقال عمر: أما والله إنْ شاء الله لأقومنّ بذلك أوّل مقام أقومه بالمدينة.

[ فتفاهما على أن تبقى القضيّة إلى أن يرجعوا إلى المدينة المنوّرة ] .


الصفحة 539
قال ابن عباس: فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجّة، فلمّا كان يوم الجمعة عجّلنا الرواح حين زاغت الشمس، حتّى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالساً إلى ركن المنبر، فجلست حوله تمسّ ركبتي ركبته، فلم أنشب أنْ خرج عمر بن الخطّاب، فلمّا رأيته مقبلاً قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ليقولنّ العشيّة مقالة لم يقلها منذ استخلف، فأنكر عَلَيّ ـ سعيد بن زيد ـ وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله؟ فجلس عمر على المنبر، فلمّا سكت المؤذّنون قام فأثنى على الله بما هو أهله ثمّ قال:

أمّا بعد، فإنّي قائل لكم مقالة، قد قدّر لي أن أقولها، لا أدري لعلّها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدّث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أُحلّ لأحد أنْ يكذب عَلَيّ، إنّ الله بعث محمّداً (صلى الله عليه وسلم) بالحقّ، وأنزل عليه الكتاب، فكان ممّا أنزل آية الرّجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، فلذا رجم رسول الله ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضل بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حقّ على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البيّنة، أو كان الحبل أو الاعتراف. ثمّ إنّا كنّا نقرأ في ما نقرأ من كتاب الله: أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أنْ ترغبوا عن آبائكم [ هذا كان يقرؤه في كتاب الله عمر بن الخطّاب، وهذا ليس الآن في القرآن المجيد، فيكون دليلاً من أدلّة تحريف القرآن ونقصانه، إلاّ أنْ يحمل على بعض المحامل، وعليكم أن تراجعوا كتاب التحقيق في نفي التحريف ] ثمّ يقول عمر بن الخطّاب: ثمّ إنّ رسول الله قال: لا تطروني كما أُطري عيسى بن مريم، وقولوا عبد الله ورسوله.

ثمّ إنّه بلغني أنّ قائلاً منكم يقول: والله لو مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترنّ امرؤ أن يقول: إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت، ألا وإنّها قد كانت كذلك ولكنّ الله وقى شرّها، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر. من بايع رجلاً [ اسمعوا هذه الكلمة ] من غير مشورة من المسلمين، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرّة أنْ يقتلا.

وإنّه قد كان من خبرنا حين توفّى الله نبيّه (صلى الله عليه وسلم) أنّ الأنصار خالفونا، واجتمعوا بأسرهم في

الصفحة 540
سقيفة بني ساعدة، وخالف علينا علي والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم، فلمّا دنونا منهم، لقينا منهم رجلان صالحان، فذكرا ما تمالأ عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم أخذوا أمركم، فقلت: والله لنأتينّهم، فانطلقنا حتّى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمّل بين ظهرانيهم، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا: يوعك، فلمّا جلسنا قليلاً تشهد خطيبهم، فأثنى على الله بما هو أهله، ثمّ قال:

أمّا بعد، فنحن أنصار الله، وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفّت دافّة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلها، وأن يحضوننا من الأمر.

فلمّا سكت أردت أن أتكلّم، وكنت زوّرت مقالة أعجبتني أُريد أنْ أُقدّمها بين يدي أبي بكر، وكنت أُداري منه بعض الحد، فلمّا أردت أن أتكلّم قال أبو بكر: على رسلك، فكرهت أن أُغضبه، فتكلّم أبو بكر، فكان هو أحلم منّي وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزوير إلاّ قال في بديهته مثلها أو أفضل منها، حتّى سكت، فقال:

ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلاّ لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين [ يعني أبو عبيدة وعمر ] فبايعوا أيّهما شئتم، فأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا، فلم أكره ممّا قال غيرها، كان والله لأن أُقدم فتضرب عنقي لا يقرّبني ذلك من إثم أحب إليّ من أن أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر، اللهمّ إلاّ أن تسوّل إليّ نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن.

فقال قائل من الأنصار: أنا جذيله المحكك وعذيقها المرجّب، منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، فكثر اللّغط وارتفعت الأصوات، حتّى فرقت من الاختلاف.

فقلت: أُبسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، فبايعته وبايعه المهاجرون، ثمّ بايعته

الصفحة 541
الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة، فقلت: قتل الله سعد بن عبادة.

قال عمر: وإنّا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا، فإمّا بايعناهم على ما لا نرضى، وإمّا نخالفهم فيكون فساد.

فمن بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا.

هذه خطبة عمر بن الخطاب التي أراد أن يخطب بها في منى، فمنعه عبد الرحمن بن عوف، فوصل إلى المدينة، وفي أوّل جمعة خطبها، ولماذا في أوائل الخطبة تعرّض إلى قضيّة الرجم؟ هذا غير واضح عندي الآن، أمّا فيما يتعلّق ببحثنا، فالتهديد بالقتل للمبايع والمبايع له مكرّر، فقد جاء في أوّل الخطبة وفي آخرها بكلّ صراحة ووضوح: من بايع بغير مشورة من المسلمين هو والذي بايعه يقتلان كلاهما.

أمّا من فلان المبايع؟ وفلان المبايع له؟ وما الذي دعا عمر بن الخطّاب أن يطرح فكرة الشورى، وقد كان قد قرّر أن يكون من بعده عثمان كما قرأنا؟

الحقيقة: إنّ أمير المؤمنين وطلحة والزبير وعمّار وجماعة معهم كانوا في منى، وكانوا مجتمعين فيما بينهم يتداولون الحديث، وهناك طرحت هذه الفكرة أن لو مات عمر لبايعنا فلاناً، ينتظرون موت عمر حتّى يبايعوا فلاناً، اصبروا حتّى نعرف من فلان؟ ثمّ أضافوا أنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة، فأولئك الجالسون هناك، الذين كانوا يتداولون الحديث فيما بينهم قالوا: إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتةً، يريدون أنّ تلك الفرصة مضت، وإنّا قد ضيّعنا تلك الفرصة، وخرج الأمر من أيدينا، لكن ننتظر فرصة موت عمر فنبايع فلاناً، قالوا هذا الكلام وفي المجلس من يسمعه، فأبلغ الكلام إلى عمر، وغضب عمر وأراد أن يقوم هناك ويخطب، فمنعه عبد الرحمن بن عوف.

وفي المدينة اضطرّ الرجل إلى أن يذكر لنا بعض وقائع داخل السقيفة، وإلاّ فمن أين

الصفحة 542
كنّا نقف على ما وقع في داخل السقيفة، وهم جماعة من الأنصار وأربعة أو ثلاثة من المهاجرين، ولابد أن يحكي لنا ما وقع في داخل السقيفة أحد الحاضرين، والله سبحانه وتعالى أجرى على لسان عمر، وجاء في صحيح البخاري بعض ما وقع في قضيّة السقيفة، وإلاّ فمن كان يحدّثنا عمّا وقع؟.

يقول عمر: إرتفعت الأصوات، كثر اللّغط، حتّى نزونا على سعد بن عبادة، هذا بمقدار الذي أفصح عنه عمر، أمّا ما كان أكثر من هذا، فالله أعلم به، ما عندنا طريق لمعرفة كلّ ما وقع في داخل السقيفة، والقضية قبل قرون وقرون، ومن يبلّغنا ويحدّثنا، لكن الخبر بهذا القدر أيضاً لو لم يكن في صحيح البخاري فلابدّ وأنّهم كانوا يكذّبون القضيّة.

ثمّ إنّ عمر أيّد قول القائلين إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة، وهذا أيضاً أيّدهم فيه، لكنْ يريد الأمر لمن؟ يريده لعثمان من بعده، فهل يتركهم أن يبايعوا بمجرّد موته غير عثمان، فلابدّ وأن يهدّد، فهدّدهم وجاءت الكلمة: فلان وفلان، وليس هناك تصريح في الاسم كما في كثير من المواضع.


الصفحة 543

بعض جزئيات طرح فكرة الشورى

فلنراجع إلى المصادر ـ كما هو دأبنا ـ ونحاول أن نعثر على جزئيات القضايا وخصوصياتها، من الشروح والحواشي، وإلاّ فهم لا يذكرون، فبعد قرون يأتي محدّث، يأتي مورّخ، ويفتح لنا بعض الألغاز، ويكشف لنا بعض الحقائق وبعض الأسرار.

هذا الخبر في صحيح البخاري، في كتاب الحدود، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردّة، في باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت.

والعجيب أن يوضع هذا الخبر تحت هذا العنوان، صحيح أنّ في مقدّمة الخبر ذكر عمر قضيّة رجم الحبلى، ولم أعرف إلى الآن ـ على اليقين ـ وجه ذكر هذه القضيّة أو هذا الحكم أو هذه الآية من القرآن التي ليست موجودةً الآن في القرآن الكريم، إلاّ أنّ الخبر كان يقتضي أن يعنونه البخاري بعنوان خاص، أن يجعل له عنواناً بارزاً يخصّه ويجلب النظر إلى القضيّة، وأمّا أنّ هذا الخبر يأتي تحت هذا العنوان فمن الذي يطلع عليه؟ وهذا أيضاً من جملة ما يفعله المحدّثون(1).

هذا في الصفحة 585 إلى 588 من الجزء الثامن من طبعة البخاري، هذه الطبعة التي

____________

1- نعم، هذا من جملة أساليبهم، إذا حاولوا عدم اطلاع الناس وعدم انتشار الخبر، أمّا لو أرادوا إذاعته فإنّهم يكرّرون ذكره تحت عناوين مختلفة، وهذا موجود عند البخاري خاصّة في موارد، منها هذا المورد، فقارنوا بين كيفية إيراده في كتابه وبين كيفية إيراده ـ مثلا ـ خبر خطبة أمير المؤمنين بنت أبي جهل الموضوع المكذوب، ليظهر لكم جانب آخر من جوانب ظلمهم لأهل البيت وتصرفاتهم في السنة النبوية وحقائق الدين وتاريخ الإسلام.


الصفحة 544
هي بشرح وتحقيق الشيخ قاسم الشمّاعي الرفاعي، هذه الطبعة الموجودة عندي والله أعلم.

لنرجع إلى الشروح، فما السبب الذي دعا عمر لأنْ يطرح فكرة الشورى ـ ولا أستبعد أن يكون لعبد الرحمن بن عوف ضلع في أصل الفكرة، كما كان في كيفيّة طرحها كما في صريح الخبر ـ وهذه الفكرة لم تكن لا في الكتاب، ولا في السنّة، ولا في سيرة رسول الله، ولا في سيرة أبي بكر، وحتّى في سيرة عمر نفسه، وحتّى سنة 23 هـ، إلى قضيّة منى، نريد أن نعرف من هؤلاء القائلون؟

لاحظوا، هذا كتاب مقدمة فتح الباري، فابن حجر العسقلاني له مقدمة لشرحه فتح الباري، في مجلَّد ضخم، في هذه المقدّمة أبواب وفصول، أحد فصولها لتعيين المبهمات، يعني الموارد التي فيها كلمة فلان وفلان، يحاول ابن حجر العسقلاني أن يعيّن مَن فلان، فاستمعوا إليه يقول:

لم يُسمّ القائل [ فقال قائل منهم ] ولا الناقل [ لاحظوا نصّ العبارة: ] ثمّ وجدته في الأنساب للبلاذري، بإسناد قوي، من رواية هشام بن يوسف، عن معمَر، عن الزهري بالإسناد المذكور في الأصل [ أي في البخاري نفسه ] ولفظه قال عمر: بلغني أنّ الزبير قال: لو قد مات عمر بايعنا عليّاً.

هذا الزبير نفسه الذي كان في قضيّة السقيفة في بيت الزهراء، وخرج مصلتاً سيفه، وأحاطوا به، وأخذوا السيف من يده، ينتظر الفرصة، فهو لم يتمكّن في ذلك الوقت أن يفعل شيئاً لصالح أمير المؤمنين وما يزال ينتظر الفرصة.

لاحظوا، هنا أقوال أُخرى في المراد من فلان وفلان، لكن السند القوي الذي وافق عليه ابن حجر العسقلاني وأيّده هذا، لكن لاحظوا، هناك أقوال أُخرى، وأنا أيضاً لا أنفي الأقوال الأُخرى، لأنّ الزبير وعليّاً لم يكونا وحدهما في منى، وإنّما كانت هناك جلسة، وهؤلاء مجتمعون، فكان مع الزبير ومع علي غيرهما من عيون الصحابة وأعيان الأصحاب.


الصفحة 545
لاحظوا الأقوال الأُخرى أقرأ لكم نصّ العبارة، يقول ابن حجر العسقلاني:

وقد كرّر في هذا الفصل حديث ابن عباس عن عمر في قصّة السقيفة فيه، فقال عبد الرحمن بن عوف: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين فقال يا أمير المؤمنين هل لك [ إذن، عندنا كلمة: رجلاً ] ثمّ هل لك في فلان [ هذا صار اثنين ] يقول: لو قد مات عمر لبايعت فلاناً.

صار ثلاثة: رجل، فلان، فلان. من هم؟

يقول: في مسند البزّار، والجعديات، بإسناد ضعيف أنّ المراد بالذي يبايع له طلحة بن عبيدالله.

إذن، طلحة أيضاً بحسب هذه الرواية كان ممّن ينتظر فرصة موت عمر لأن يبايع له.

لاحظوا كلام ابن حجر: ولم يسمّ القائل ولا الناقل، ثمّ وجدته بالإسناد المذكور في الأصل ولفظه قال عمر: بلغني أنّ الزبير قال لو قد مات عمر بايعنا عليّاً... يقول: فهذا أصح.

وفيه: فلمّا دنونا منهم لقينا رجلان صالحان، هما عوين بن ساعدة ومعد بن عدي، سمّاهما المصنّف ـ أي البخاري ـ في غزوة بدر، وكذا رواه البزّار في مسند عمر، وفيه ردّ على من زعم كذا.

ثمّ يقول: وأمّا القائل: قتلتم سعداً فقيل أو قال قائل: قتلتم سعداً، فلم أعرفه، لم أعرف من القائل قتلتم سعداً.

هذا في مقدمة فتح الباري في شرح صحيح البخاري(1).

وفي بعض المصادر: أنّ القائل عمّار بدل الزبير، هذا راجعوا فيه الطبري وابن الأثير.

أمّا ابن حجر نفسه، ففي شرح البخاري، في فتح الباري، الجزء الثاني عشر، حيث يشرح الحديث ـ تلك كانت المقدمة أمّا حيث يشرح الحديث ـ لا يصرّح بما ذكره في

____________

1- مقدمة فتح الباري: 337.


الصفحة 546
المقدّمة، ولا أعلم ما السبب؟ لماذا لم يصرّح البخاري في المتن وفي أصل الكتاب، ولا ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث، بما صرّح به في المقدّمة.

ثمّ إنّه يشرح جملة: هل لك في فلان، يقول: لم أقف على اسمه أيضاً، ووقع في رواية ابن إسحاق أنّ من قال ذلك كان أكثر من واحد.

وهذا ما ذكرته لكم من أنّ القول ليس قول شخص واحد، بل أكثر من واحد، لأنّهم كانوا جماعة جالسين جلسةً فيما بينهم، وطرحت هذه النظريّة والفكرة في تلك الجلسة، ولذا غضب عمر.

قوله لقد بايعت فلاناً هو طلحة بن عبيدالله أخرجه البزّار من طريق أبي معشر عن زيد بن أسلم عن أبيه. إنتهى.

أمّا خبر البلاذري الذي هو أصحّ وقد روي بسند قوي، فلا يذكره في شرح الحديث، فراجعوا(1).

لكن عندما نراجع القسطلاني في شرح الحديث، نجده يذكر ما ذكره ابن حجر في المقدمة في شرح الحديث، في الجزء العاشر من إرشاد الساري، لاحظوا هناك يقول: لو قد مات عمر لبايعت فلاناً: قال في المقدمة يعني قال ابن حجر العسقلاني في مقدمة فتح الباري: في مسند البزّار والجعديات بإسناد ضعيف: إنّ المراد... قال ثمّ وجدته في الأنساب للبلاذري بإسناد قوي من رواية هشام ابن يوسف عن معمَر عن الزهري بالإسناد المذكور في الأصل ولفظه: قال عمر بلغني إنّ الزبير قال: لو قد مات عمر لبايعنا عليّاً... الحديث، وهذا أصحّ(2).

ويقول القسطلاني: وقال في الشرح قوله: لقد بايعت فلاناً هو طلحة بن عبيدالله، أخرجه البزّار، قرأنا هذا من شرح البخاري لابن حجر، ثمّ ذكر قال بعض الناس لو قد مات

____________

1- فتح الباري في شرح البخاري 12 / 121.

2- إرشاد الساري شرح صحيح البخاري 10 / 19.


الصفحة 547
أمير المؤمنين أقمنا فلاناً، يعنون طلحة بن عبيدالله، ونقل ابن بطّال عن المهلّب أنّ الذي عنوا أنّهم يبايعونه رجل من الأنصار، ولم يذكر مستنده وهذه إضافة في شرح القسطلاني.

وأمّا إذا راجعتم شرح الكرماني، فلم يتعرّض لشيء من هذه القضايا أصلاً، وإنّما ذكر أنّ كلمة " لو " حرف يجب أن تدخل على فعل فلماذا دخلت لو على حرف آخر " لو قد مات "، لماذا كلمة " لو " التي هي حرف دخلت على " قد " التي هي حرف؟ " لو " يجب أن تدخل على فعل، فلماذا دخلت على حرف؟ هذا ما ذكره الكرماني في شرح الحديث، وكأنّه ليس هناك شيء أبداً.

وأمّا صاحبنا العيني ـ هذا العيني دائماً يتعقّب ابن حجر العسقلاني، لأنّ العسقلاني شافعي، والعيني حنفي، وبين الشوافع والحنفيّة خاصّةً في المسائل الفقهيّة خلاف شديد ونزاعات كثيرة ـ يتعقّب العيني دائماً ابن حجر العسقلاني، ولكن ليس هنا أيّ تعقيب، وحتّى أنّه لم يتعرّض للحديث الذي ذكره ابن حجر العسقلاني، وإنّما ذكر رأي غيره فلم يذكر شيئاً عن ابن حجر العسقلاني أصلاً، وإنّما جاء في شرح العيني: قوله: لو قد مات عمر، كلمة قد مقحمة، لأنّ لو يدخل على الفعل، وقيل قد في تقدير الفعل، ومعناه لو تحقّق موت عمر. قوله لقد بايعت فلاناً، يعني طلحة بن عبيدالله، وقال الكرماني: هو رجل من الأنصار، كذا نقله ابن بطّال عن المهلّب، لكن لم يذكر مستنده في ذلك. وهذا غاية ما ذكره العيني في شرح البخاري.

فإلى الآن، عرفنا لماذا طرحت فكرة الشورى؟ وكيف طرحت؟ طرحت مع التهديد بالقتل، بقتل المبايع والمبايَع، وللكلام بقيّة.