تطبيق عمر لفكرة الشورى
بعد أن أعلن عمر عن هذه الفكرة، لابدّ وأنْ يطبّقها، إلاّ أنّه يريد عثمان من أوّل الأمر، وقد بنى على أن يكون من بعده عثمان، غير أنّه من أجل التغلّب على الآخرين ومنعهم من تنفيذ مشروعهم، طرح فكرة الشورى وهدّدهم بالقتل لو بايعوا من يريدونه ولا يريد عمر.
إذن لا بدّ في مقام التطبيق من أن يطبّق الشورى، بحيث تنتهي إلى مقصده، وهي مع ذلك شورى!
فجعل الشورى بين ستّة عيّنهم هو، لا يزيدون ولا ينقصون، على أن يكون الخليفة المنتخب واحداً من هؤلاء فقط، ولو اتّفق أكثرهم على واحد منهم وعارضت الأقليّة ضربت أعناقهم، ولو اتّفق ثلاثة منهم على رجل وثلاثة على آخر كانت الكلمة لمن؟ لعبد الرحمن بن عوف، ومن خالف قتل، ومدّة المشاورة ثلاثة أيّام، فإن مضت ولم يعيّنوا أحداً قتلوهم عن آخرهم، وصهيب الرومي هو الرقيب عليهم، وهناك خمسون رجل واقفون بأسيافهم، ينتظرون أن يخالف أحدهم فيضربوا عنقه بأمر من عبد الرحمن بن عوف.
وفي التواريخ والمصادر كالطبقات وغير الطبقات، جعل الأمر بيد عبد الرحمن بن عوف، لكن عبد الرحمن بن عوف لابدّ وأن يدبّر القضيّة بحيث تطبّق كما يريد عمر بن الخطّاب وكما اتفق معه عليه، إنّه يعلم رأي علي في خلافة الشيخين، ويعلم مخالفة علي لسيرة الشيخين، فجاء مع علمه بهذا، واقترح على علي أن يكون خليفة على أن يسير
فقال علي لعبد الرحمن: أنت مجتهد أن تزوي هذا الأمر عنّي.
فبايع عبد الرحمن عثمان.
فقال علي لعبد الرحمن: والله ما ولّيت عثمان إلاّ ليردّ الأمر إليك أو عليك.
فقال له: بايع وإلاّ ضربت عنقك.
فخرج علي من الدار.
فلحقه القوم وأرجعوه حتّى ألجأوه على البيعة.
وهكذا تمّت البيعة لعثمان طبق القرار، ولكن هل بقي عثمان على قراره مع عبد الرحمن؟ إنّه أرادها لبني أُميّة، يتلقّفونها تلقّف الكرة، فثار ضدّ عثمان كلّ أُولئك الّذين كانوا في منى وعلى رأسهم طلحة والزبير، اللذين كانت لهما اليد الواسعة الكبيرة العالية في مقتل عثمان، لأنّهما أيضاً كانا يريدان الأمر، وقد قرأنا في بعض المصادر أنّ بعض القائلين قالوا لو مات عمر لبايعنا طلحة، وطلحة يريدها وعائشة أيضاً تريدها لطلحة، ولذا ساهمت في الثورة ضدّ عثمان.
أمّا عبد الرحمن بن عوف، فهجر عثمان وماتا متهاجرين، أي لا يكلّم أحدهما الآخر حتّى الموت، لأنّ عثمان خالف القرار، وقد تعب له عبد الرحمن بأكثر ما أمكنه من التعب، وراجعوا المعارف لابن قتيبة، فيه عنوان المتهاجرون، أي الذين انقطعت بينهم الصلة وحدث بينهم الزَعَل بتعبيرنا، ومات عبد الرحمن بن عوف وهو مهاجر لعثمان.
وهكذا كانت الشورى، فكرة لحذف علي.
كما أنّ معاوية طالب بالشورى عند خلافة علي ومبايعة المهاجرين والأنصار معه، طالب بالشورى، لماذا؟ لحذف علي، أراد أن يدخل من نفس الباب الذي دخل منه عمر،
وكلّ من يطرح فكرة الشورى، يريد حذف النص، كلّ من يطرح الشورى في كتاب، في بحث، في مقالة، في خطابة، يريد حذف علي، لا أكثر ولا أقل.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.
الصحابة
تمهيد:
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأوّلين والآخرين.
موضوع بحثنا مسألة الصحابة.
لا خلاف في أنّ لأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)دوراً في تقدّم الإسلام، وأنّ الصحابة قد ضحّوا في سبيل هذا الدين، ونصروا هذا الدين بمواقفهم في الحروب والغزوات وغير ذلك من المخاطر التي توجّهت إلى هذا الدين، وإلى شخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولا خلاف أيضاً في أنّ كثيراً من تعاليم هذا الدين وأحكام هذه الشريعة، إنّما وصلت إلى سائر المسلمين بواسطة هؤلاء الأصحاب.
إنّما الكلام في أنّنا هل يجب علينا أن ننظر إلى كلّ واحد واحد منهم بعين الاحترام؟ وأن نقول بعدالتهم واحداً واحداً؟ بحيث يكون الصحابي فوق قواعد الجرح والتعديل، ولا تناله يد الجرح والتعديل أصلاً وأبداً، أو أنّهم مع كلّ ما قاموا به من جهود في سبيل هذا الدين، وبالرغم من مواقفهم المشرّفة، أفراد مكلّفون كسائر الأفراد في هذه الأُمّة؟
الحقيقة: إنّنا ننظر إلى الصحابة على أساس التقسيم التالي، فإنّ الصحابة ينقسمون إلى قسمين:
قسم منهم: الذين ماتوا في حياة رسول الله، بحتف الأنف، أو استشهدوا في بعض
القسم الثاني منهم: من بقي بعد رسول الله، وهؤلاء الذين بقوا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ينقسمون أيضاً إلى قسمين:
فمنهم: من عمل بوصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأخذ بسنّته، وطبّق أوامره.
ومنهم: من خالف وصيّته، ولم يطعه في أوامره ونواهيه (صلى الله عليه وآله وسلم)وانقلب على عقبيه.
أمّا الّذين عملوا بوصيّته، فنحن نحترمهم، ونقتدي بهم.
وأمّا الذين لم يعملوا بوصيّته، وخالفوه في أوامره ونواهيه، فنحن لا نحترمهم.
هذا هو التقسيم.
فإنْ سئلنا عن تلك الوصيّة التي كانت المعيار والملاك في هذا الحب وعدم الحب، فالوصية هي: حديث الثقلين، إذ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث المتّفق عليه: " إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي... " إلى آخر الحديث(1).
هذه خلاصة عقيدتنا، ونتيجة بحثنا عن عدالة الصحابة.
وأمّا البحث التفصيلي:
____________
1- تقدّم الكلام عن هذا الحديث.
تعريف الصحابي
الصحابي لغة:
الصحابي في اللغة هو: الملازم، هو المعاشر للإنسان، يقال: فلان صاحب فلان، أي معاشره وملازمه وصديقه مثلاً.
وقال بعض اللغويين: إنّ الصاحب لا يقال إلاّ لمن كثرت ملازمته ومعاشرته، وإلاّ فلو جالس الشخص أحداً مرّةً أو مرّتين، لا يقال إنّه صاحَبَه أو تصاحبا، وهكذا كلمات اللغويين، راجعوا: لسان العرب، والقاموس، والمفردات للراغب الإصفهاني، والمصباح المنير للفيّومي، في مادة " صحب ".
الصحابي اصطلاحاً:
إنّما الكلام في المعنى الاصطلاحي والمفهوم المصطلح عليه بين العلماء للفظ الصحابي، هل إذا أطلقوا كلمة الصحابي وقالوا: فلان صحابي، يريدون نفس المعنى اللغوي، أو أنّهم جعلوا هذا اللفظ لمعنىً خاص يريدونه، فيكون مصطلحاً عندهم؟
بالمعنى اللغوي لا فرق بين أنْ يكون الصاحب مسلماً أو غير مسلم، بين أن يكون عادلاً أو فاسقاً، بين أن يكون برّاً أو فاجراً، يقال: فلان صاحب فلان.
لكن في المعنى الاصطلاحي بين العلماء من الشيعة والسنّة، هناك قيد الإسلام بالنسبة لصحابي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إنْ لم يكن الشخص مسلماً، فلا يُعترف بصحابيّته، وبكونه من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهذا القيد متفق عليه ومفروغ منه.
لعلّ خير كلمة وقفت عليها ما ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني في مقدمة كتابه الإصابة في معرفة الصحابة.
يقول الحافظ ابن حجر في تعريف الصحابي: وأصحّ ما وقفت عليه من ذلك: أنّ الصحابي من لقي النبي صلّى الله عليه وسلّم مؤمناً به ومات على الإسلام(1).
يظهر أنّ التعريف الأصح عند الحافظ ابن حجر، ليس فيه فرق مع المعنى اللغوي إلاّ في قيد الإسلام، إنّه من لقي النبي مؤمناً به ومات على الإسلام.
في هذا التعريف الذي هو أصح، يكون المنافق من الصحابة، إذن، يكون المنافق صحابيّاً، ويؤيّدون هذا التعريف بما يروونه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أنّه قال في حقّ عبدالله بن أُبي المنافق المعروف: " فلعمري لنحسننّ صحبته مادام بين أظهرنا "، فيكون هذا المنافق صحابيّاً، وهذا موجود في الطبقات لابن سعد وغيره من الكتب(2).
فإذن، يكون التعريف الأصح عامّاً، يعمُّ المنافق والمؤمن بالمعنى الأخص، يعمّ البرّ والفاجر، يعمّ من روى عن رسول الله ومن لم يرو عن رسول الله، يعمّ من عاشر رسول الله ولازمه ومن لم يعاشره ولم يلازمه، لأنّ المراد والمقصود والمطلوب هو مجرّد الإلتقاء برسول الله، ولذا يقولون بأنّ مجرَّد رؤية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) محققة للصحبة، مجرّد الرؤية!
يقول الحافظ ابن حجر: وهذا التعريف مبني على الأصح المختار عند المحققين، كالبخاري وشيخه أحمد بن حنبل ومن تبعهما، ووراء ذلك أقوال أُخرى شاذة.
فيكون هذا القول هو القول المشهور المعروف بينهم.
ثمّ يقول ابن حجر في الطريق إلى معرفة كون الشخص صحابيّاً: يعرف كون الشخص صحابياً لرسول الله بأشياء، أوّلها: أن يثبت بطريق التواتر أنّه صحابي، ثمّ
____________
1- الاصابة في معرفة الصحابة 1 / 10.
2- الطبقات الكبرى 2 / 65، السيرة النبويّة لابن هشام 3 / 305، وغيرهما.
وهذا طريق معرفة كون الشخص صحابيّاً لرسول الله، التواتر ثمّ الشهرة والاستفاضة، ثمّ قول أحد الصحابة، ثمّ دعوى نفس الشخص ـ بشرط أنْ يكون عادلاً وبشرط المعاصرة ـ أن يقول: أنا صحابي.
وحينئذ، يبحثون: هل الملائكة من جملة صحابة رسول الله؟ هل الجنّ من جملة صحابة رسول الله؟ هل الذي رأى رسول الله ميّتاً ـ أي رأى جنازة رسول الله ولو لحظةً ـ هو صحابي أو لا؟
فمن كان مسلماً ورأى رسول الله ومات على الإسلام فهو صحابي.
والإسلام ماذا؟ شهادة أنْ لا إله إلاّ الله، وشهادة أنّ محمّداً رسول الله.
فكلّ من شهد الشهادتين، ورأى رسول الله ولو لحظةً، ومات على الشهادتين، فهو صحابي.
فلاحظوا، كيف يكون قولهم بعدالة الصحابة أجمعين، كأنّهم سيقولون بعدالة كلّ من كان يسكن مكة، وكلّ سكّان المدينة المنورة، وكلّ من جاء إلى المدينة أو إلى مكّة والتقى برسول الله ولو لحظة، رأى رسول الله ورجع إلى بلاده، فهو صحابي، وإذا كان صحابيّاً فهو عادل.
ولذا يبحثون عن عدد الصحابة، وينقلون عن بعض كبارهم أنّ عدد الصحابة ممّن رآه وسمع منه زيادة على مائة ألف إنسان من رجل وامرأة.
وهنا يعلّق بعضهم ويقول: بأنّ أبا زرعة الرازي الذي قال هذا الكلام قاله في من رآه وسمع منه، أمّا الذي رآه ولم يسمع فأكثر وأكثر من هذا العدد بكثير.
توفّي النبي ومن رآه وسمع منه زيادة على مائة ألف إنسان، من رجل وامرأة، قاله أبو زرعة.
فقال ابن فتحون في ذيل الاستيعاب: أجاب أبو زرعة بهذا سؤال من سأله عن الرواة
إذن، عرفنا سعة دائرة مفهوم الصحبة والصحابي، وعرفنا أنّ مصاديق هذا المفهوم لا يعدّون كثرةً، ومع ذلك نراهم يقولون بعدالة الصحابة أجمعين، وهذا هو القول المشهور بينهم، وربما أُدّعي الإجماع على هذا القول كما سيأتي.
____________
1- الاصابة في معرفة الصحابة 1 / 3.
الأقوال في عدالة الصحابة
في الحقيقة، الأقوال في عدالة الصحابة هي:
أوّلاً: عدالة الصحابة جميعاً.
ثانياً: كفر الصحابة جميعاً.
ثالثاً: أقوال بين التكفير والتعديل.
أمّا كفرهم جميعاً، فقول طائفة أو طائفتين من المسلمين، ذكر هذا القول عنهم السيّد شرف الدين في كتاب أجوبة مسائل جار الله(1)، وهذا القول لا نتعرض له، ولا نعتني به، لأنّه قول اتفق المسلمون ـ أي الفرق كلهم ـ على بطلانه، فيبقى هناك قولان.
____________
1- أجوبة مسائل جار الله: 12.
القول بعدالة جميع الصحابة
ادعاء الإجماع على عدالة جميع الصحابة:
يقول ابن حجر العسقلاني: اتفق أهل السنّة على أنّ الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلاّ شذوذ من المبتدعة(1).
لاحظوا هذه الكلمة: لم يخالف في ذلك إلاّ شذوذ من المبتدعة.
ويقول الحافظ ابن حزم: الصحابة كلّهم من أهل الجنّة قطعاً(2).
ويقول الحافظ ابن عبد البر: ثبتت عدالة جميعهم...، لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنّة والجماعة(3).
لاحظوا هنا، أهل العلم يعلمون بأنّ الحافظ ابن عبد البر صاحب الاستيعاب متّهم بينهم بالتشيّع، وممّن يتّهمه بهذا ابن تيميّة في منهاج السنّة، لاحظوا ماذا يقول: لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنّة والجماعة، فيظهر أنّ الإتّهام بالتشيّع متى يكون، يكون حيث يروي ابن عبد البر روايةً تنفع الشيعة، يروي منقبة لأمير المؤمنين ربّما لا يرتضيها ذلك الشخص، فيتّهم ابن عبد البر بالتشيّع، وإلاّ فهو يقول: لاجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنّة والجماعة على أنّهم كلّهم عدول.
____________
1- الاصابة في معرفة الصحابة 1 / 17 ـ 18.
2- الاصابة في معرفة الصحابة 1 / 19.
3- الاستيعاب في معرفة الاصحاب 1 / 8.
في هذه النصوص أمران:
الأمر الأوّل: هو القول بعدالة الصحابة كلّهم.
الأمر الثاني: دعوى الإجماع على عدالة الصحابة كلّهم.
مناقشة الإجماع:
في مقابل هذا القول نجد النصوص التالية:
يقول ابن الحاجب في مختصر الأُصول: الأكثر على عدالة الصحابة. والحال قال ابن حجر: إنّ القول بعدالتهم كلّهم مجمع عليه وما خالف إلاّ شذوذ من المبتدعة.
يقول ابن الحاجب: الأكثر على عدالة الصحابة، وقيل: هم كغيرهم، وقيل قول ثالث: إلى حين الفتن، فلا يقبل الداخلون، لأنّ الفاسق غير معيّن، قول رابع: وقالت المعتزلة: عدول إلاّ من قاتل علياً(2).
إذن، أصبح الفارق بين المعتزلة وغيرهم من قاتل علياً.
يقول أهل الحق وهم أهل السنة والجماعة: إنّ من قاتل عليّاً عادل!
ويقول المعتزلة: الذين قاتلوا عليّاً ليسوا بعدول.
هذه عبارة مختصر الأُصول لابن الحاجب.
وراجعوا أيضاً غير هذا الكتاب من كتب علم الأُصول.
ثمّ إذا دقّقتم النظر، لرأيتم التصريح بفسق كثير من الصحابة، من كثير من أعلام القوم، أقرأ لكم نصّاً واحداً.
يقول سعد الدين التفتازاني، وهذا نصّ كلامه، ولاحظوا عبارته بدقّة: إنّ ما وقع بين
____________
1- أُسد الغابة في معرفة الصحابة 1 / 3.
2- مختصر الأُصول 2 / 67.
وكما قرأنا في الليلة الماضية، خاطب أبوبكر معشر المهاجرين: بأنّكم تريدون الدنيا، وستور الحرير، ونضائد الديباج، وتريدون الرئاسة، وكلّكم يريدها لنفسه، وكلّكم ورم أنفه.
يقول التفتازاني: وكان الباعث له الحقد والعناد والحسد واللداد، وطلب الملك والرئاسة، والميل إلى اللذّات والشهوات.
يقول: إذ ليس كلّ صحابي معصوماً، ولا كلّ من لقي النبي بالخير موسوماً.
وكان موضوع تعريف ابن حجر العسقلاني: من لقي النبي.
يقول سعد الدين: ليس كلّ من لقي النبي بالخير موسوماً، إلاّ أنّ العلماء لحسن ظنّهم بأصحاب رسول الله، ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق، وذهبوا إلى أنّهم محدودون عمّا يوجب التضليل والتفسيق، صوناً لعقائد المسلمين عن الزلل والضلالة في حقّ كبار الصحابة، سيّما المهاجرين منهم والأنصار، والمبشّرين بالثواب في دار القرار(2).
ففي هذا النص اعتراف بفسق كثير من الصحابة، واعتراف بأنّهم حادوا عن الحق، بأنّهم ظلموا، بأنّهم كانوا طلاّب الملك والدنيا، وبأنّهم وبأنّهم، إلاّ أنّه لابدّ من تأويل ما فعلوا، لحسن الظنّ بهم!!
فظهر أنّ الإجماع المدّعى على عدالة الصحابة كلّهم، هذا الإجماع في غير محلّه وباطل ومردود، ولاسيّما وأنّ مثل سعد الدين التفتازاني وغيره الذين يصرّحون بمثل
____________
1- شرح المقاصد 5 / 310.
2- شرح المقاصد 1 / 310.
حينئذ يأتي دور البحث عن أدلّة القول بعدالة الصحابة أجمعين، أي أدلّة القول الأوّل.
الاستدلال بالكتاب والسنّة على عدالة جميع الصحابة:
استدلّ القائلون بهذا القول، بآيات من القرآن الكريم، وبأحاديث، وبأمر اعتباري، فتكون وجوه الاستدلال لهذا القول، ثلاثة وجوه: الكتاب، السنّة، والأمر الاعتباري.
لنقرأ نصّ عبارة الحافظ ابن حجر، عن الحافظ الخطيب البغدادي، في مقام الاستدلال على هذه الدعوى.
يقول الحافظ ابن حجر: أنّ الخطيب في الكفاية ـ في كتابه الكفاية في علم الدراية ـ أفرد فصلاً نفيساً في ذلك فقال:
عدالة الصحابة ثابتة معلومة، بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم، فمن ذلك قوله تعالى:
الآية الأُولى: ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ )(1).
الآية الثانية: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً )(2).
الآية الثالثة: ( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ )(3).
الآية الرابعة: ( السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالاَْنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم
____________
1- سورة آل عمران: 110.
2- سورة البقرة: 143.
3- سورة الفتح: 18.
الآية الخامسة: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )(2).
ثمّ الآية الأُخرى: ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً وَينْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) إلى قوله تعالى: ( إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ )(3)، في آيات يطول ذكرها.
ثمّ أحاديث شهيرة، يكثر تعدادها، وجميع ذلك يقتضي القطع بتعديلهم، ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله له إلى تعديل أحد من الخلق(4).
إذن، تمّ الاستدلال بالكتاب والسنّة.
وامّا الإستدلال الاعتباري، لاحظوا هذا الاستدلال أنّه يقول:
على أنّهم لو لم يرد من الله ورسوله فيهم شيء ممّا ذكرناه، لأوجبت الحال التي كانوا عليها، من الهجرة والجهاد ونصرة الإسلام وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأبناء، والمناصحة في الدين وقوّة الإيمان واليقين، أوجب كلّ ذلك القطع على تعديلهم، والإعتقاد بنزاهتهم، وأنّهم كافّةً أفضل من جميع الخالفين بعدهم، والمعدّلين الذين يجيؤون من بعدهم، هذا مذهب كافّة العلماء ومن يعتمد قوله.
ثمّ روى الخطيب البغدادي بسنده إلى أبي زرعة الرازي قال: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاعلم أنّه زنديق، وذلك أنّ الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنّما أدّى إلينا ذلك كلّه الصحابة، وهؤلاء يريدون أنْ يجرحوا شهودنا، ليبطلوا الكتاب والسنّة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة(5).
____________
1- سورة التوبة: 100.
2- سورة الأنفال: 64.
3- سورة الحشر: 8 ـ 10.
4- الاصابة في معرفة الصحابة 1 / 6 عن الكفاية في علم الرواية: 46.
5- الكفاية في علم الرواية: 46.
نصّ العبارة ينقلها الحافظ ابن حجر ويعتمد عليها، ثمّ يضيف الحافظ ابن حجر بعد هذا النص، يقول: والأحاديث الواردة في تفضيل الصحابة كثيرة.
وفرق بين هذه العبارة، وبين المدعى، كان المدّعى عدالة الصحابة كلهم، لكنْ تبدّل العنوان، وأصبح المدّعى: الأحاديث الواردة في تفضيل الصحابة كثيرة.
ثم قال ابن حجر: من أدلّها على المقصود: ما رواه الترمذي وابن حبّان في صحيحه من حديث عبدالله بن مغفل قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " الله الله في أصحابي، لا تتّخذوهم غرضاً، فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أنْ يأخذه "(1).
فهذا حديث من تلك الأحاديث التي أشار إليها الخطيب البغدادي، ولم يذكر شيئاً منها، إلاّ أنّ أدلّها وأحسنها في نظر ابن حجر العسقلاني هذا الحديث الذي ذكره.
مناقشة الاستدلال:
فنحن إذن لابدّ وأنْ نبحث عن هذه الأدلّة، لنعرف الحقّ من غيره في مثل هذه المسألة المهمّة.
قبل الورود في البحث عن هذه الأدلّة، أُضيف أنّهم على أساس هذه الأدلّة يقولون بحجيّة سنّة الصحابة، ويقولون بحجيّة مذهب الصحابي، ويستدلّون بهذه الأدلّة من الآيات والأحاديث، مضافاً إلى حديث يعتمد عليه بعضهم في الكتب الأُصوليّة، وإنْ كان باطلا من حيث السند عندهم كما سنقرأ، وهو: " أصحابي كالنجوم فبأيّهم اقتديتم اهتديتم ".
يدلّ هذا الحديث على أنّ كلّ واحد واحد من الصحابة يمكن أن يُقتدى به، وأن
____________
1- الاصابة في معرفة الصحابة 1 / 10.
وبهذا الحديث ـ أي حديث أصحابي كالنجوم ـ تجدون الاستدلال في كتاب المنهاج للقاضي البيضاوي، وفي التحرير لابن الهمام وفي مسلّم الثبوت وإرشاد الفحول وغير ذلك من الكتب الأُصوليّة، حيث يبحثون عن سنّة الصحابة وعن حجية مذهب الصحابي، والصحابي كما عرفناه: كلّ من لقي رسول الله ورآه ولو مرّةً واحدةً وهو يشهد الشهادتين.
بل استدلّ الزمخشري بحديث أصحابي كالنجوم في تفسيره الكشّاف، يقول: فإنْ قلت: كيف كان القرآن تبياناً لكلّ شيء [ لأنّ الله سبحانه وتعالى يصف القرآن بأنّه تبيان لكلّ شيء، فإذا كان القرآن تبياناً لكلّ شيء، فلابدّ وأنْ يكون فيه كلّ شيء، والحال ليس فيه كثير من الأحكام، ليس فيه أحكام كثير من الأشياء فيجيب عن هذا السؤال: ] قلت: المعنى: إنّه بيّن كلّ شيء من أُمور الدين، حيث كان نصّاً على بعضها، وإحالة على السنّة حيث أمر باتّباع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)وطاعته وقال: ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى )(1)، وحثّاً على الإجماع في قوله: (وَيَتّبِع غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ )(2)، وقد رضي رسول الله لاُمّته اتّباع أصحابه والاقتداء بآثاره في قوله: " أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم "، فمن ثمّ كان القرآن تبياناً لكلّ شيء(3).
وأمّا التحقيق في الأدلّة التي ذكرها الخطيب البغدادي، وارتضاها ابن حجر العسقلاني، وحديث أصحابي كالنجوم، فيكون على الترتيب التالي:
الآية الأُولى: قوله تعالى: ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
____________
1- سورة النجم: 3.
2- سورة النساء: 115.
3- الكشاف في تفسير القرآن 2 / 628.
أولا: الاستدلال بهذه الآية لعِدالة الصحابة أجمعين موقوف على أنْ تكون الآية خاصة بهم، والحال أنّ كثيراً من مفسّريهم يقولون بأنّ الآية عامّة لجميع المسلمين.
لاحظوا عبارة ابن كثير يقول: والصحيح أنّ هذه الآية عامّة في جميع الأُمّة(2).
ثانياً: قوله تعالى: ( تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) في ذيل الآية المباركة حكمه حكم الشرط، أي إنْ كنتم، أي ما دمتم، وهذا شيء واضح يفهمه كلّ عربي يتلو القرآن الكريم، ونصّ عليه المفسّرون، لاحظوا كلام القرطبي: ( تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) مدحٌ لهذه الأُمّة ما أقاموا على ذلك واتّصفوا به، فإذا تركوا التغيير ـ أي تغيير الباطل ـ وتواطؤوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سبباً لهلاكهم(3).
وقال الفخر الرازي والنظام النيسابوري: وهذا يقتضي كونهم آمرين بكلّ معروف وناهين عن كلّ منكر، والمقصود به بيان علّة تلك الخيريّة(4).
وحينئذ نقول: كلّ من اتّصف بهذه الأوصاف، فيكون خير الأُمّة، ونحن أيضاً نقتدي بهم، وتعالوا أثبتوا لنا مَن المتصف بهذه الصفات لنقتدي به، فيكون البحث حينئذ صغروياً، ويكون البحث في المصداق، ولا نزاع في الكبرى، أي لا يوجد أي نزاع فيها.
الآية الثانية: قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً )(5).
هذه الآية مفادها ـ كما في كثير من تفاسير الفريقين(6) ـ أنّ الله سبحانه وتعالى جعل
____________
1- سورة آل عمران: 110.
2- تفسير ابن كثير 1 / 399.
3- تفسير القرطبي 4 / 173.
4- تفسير الفخر الرازي، تفسير النيسابوري 2 / 232.
5- سورة البقرة: 143.
6- مجمع البيان 1 / 244، الكشاف 1 / 318، القرطبي 2 / 154، النيسابوري 1/421، وغيرها.
إذن، لا علاقة للآية المباركة بالأفراد، وإنّما المقصود من الآية مجموع الأُمّة من حيث المجموع.
الآية الثالثة: ( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً )(1).
أوّلاً: هذه الآية مختصة بأهل بيعة الرضوان، بيعة الشجرة، ولا علاقة لها بسائر الصحابة، فيكون الدليل أخص من المدّعى.
ثانياً: في الآية المباركة قيود، في الآية رضا الله سبحانه وتعالى عن المؤمنين، الذين بايعوا ( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الْشَّجَرَةِ )، ثمّ إنّ هناك شرطاً آخر وهو موجود في القرآن الكريم ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ... ) إلى آخر الآية(2).
قال المفسرون كابن كثير والزمخشري وغيرهما: إنّ رضوان الله وسكينته مشروطة بالوفاء بالعهد وعدم نكث العهد(3).
فحينئذ، كلّ من بقي على عهده مع رسول الله فنحن أيضاً نعاهده على أنْ نقتدي به،
____________
1- سورة الفتح: 18.
2- سورة الفتح: 10.
3- الكشاف 3 / 543، ابن كثير 4 / 199.
الآية الرابعة: قوله تعالى: ( واَلسَّابِقُونَ الاَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالاَْنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَان رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّات تَجْرِي تَحْتَهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً )(1).
والاستدلال بهذه الآية لعدالة عموم الصحابة في غير محلّه، لأنّ موضوع الآية ( السَّابِقُونَ الاَْوَّلُونَ )، وأيّ علاقة بعموم الصحابة؟ تريدون من هذه الآية أنْ تثبتوا عدالة مائة ألف شخص بالأقل، وهي تقول ( السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ ).
حينئذ من المراد من السابقين الأوّلين؟ قيل: أهل بدر، وقيل: الذين صلّوا القبلتين، وقيل: الذين شهدوا بيعة الشجرة.
كما اختلفوا أيضاً في معنى التابعين ( وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَان ) على أقوال عديدة موجودة في تفاسيرهم(2).
وأخرج البخاري عن البراء بن عازب قيل له: طوبى لك، صحبت النبي وبايعته تحت الشجرة، قال: إنّك لا تدري ما أحدثنا بعده(3).
وإقرار العقلاء على أنفسهم حجة!!
وليس المقرّ بذلك هو البراء وحده، بل هذا وارد عن جمع من الصحابة وفيهم عائشة، ولا يخفى اشتمال اعترافهم على الإحداث، وهو اللفظ الذي جاء في الصحاح عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أحاديث الحوض الآتية.
الآية الخامسة: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )(4).
هذه الآية لو راجعتم التفاسير لرأيتموها نازلةً في واقعة بدر بالإتفاق، وفي معنى
____________
1- سورة التوبة: 100.
2- الدر المنثور 4 / 269، القرطبي 8 / 236، الكشاف 2 / 210، ابن كثير 2 / 398.
3- صحيح البخاري 5 / 160.
4- سورة الأنفال: 64.