القول الأول: أي يكفيك الله والمؤمنون المتّبعون لك.
القول الثاني: إنّ الله يكفيك ويكفي المؤمنين بعدك أو معك.
وكأنّ الاستدلال ـ أي استدلال الخطيب البغدادي ـ يقوم على أساس التفسير الأوّل، وإذا كان كذلك، فلابدّ وأنْ يؤخذ الإيمان والإتّباع والبقاء على المتابعة لرسول الله بعين الاعتبار، ونحن أيضاً موافقون على هذه الكبرى، وإنّما البحث سيكون بحثاً في المصاديق.
الآية السادسة: ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِين أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِين تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةً وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالاِْيْمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ )(1).
هذه كلّ الآيات.
واستدلّ الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني بهذه الآيات المباركة، وفيها قيود وصفات وشروط وحالات، فكلّ من اجتمعت فيه هذه الصفات والحالات فنحن نقتدي به، لكن لابدّ وأنْ تكون الآية ناظرة إلى عموم الأُمّة الإسلاميّة، وإلاّ فكلّ فرد فرد من الأُمّة، وحتّى من الصحابة، يكون قد اجتمعت فيه هذه الصفات والحالات؟ هذا لا يدّعيه أحد، حتى المستدل لا يدّعيه.
بقي الكلام في الحديث الذي استدلّ به ابن حجر العسقلاني، لأنّ الخطيب لم يذكر
____________
1- سورة الحشر: 8 ـ 10.
الحديث الأول: " الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً، فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله فيوشك أن يأخذه ".
قال الشاطبي حيث استدلّ بهذا الحديث: من كان بهذه المثابة حقيق أنْ يتَّخذ قدوة وتجعل سيرته قبلة(1).
ونحن أيضاً نقول: من كان بهذه المثابة، حقيق أن يتّخذ قدوة وتجعل سيرته قبلة.
وهل كلّ فرد فرد من الأصحاب يكون الإنسان إذا أحبّه فقد أحبّ رسول الله، وإذا أبغضه فقد أبغض رسول الله: " فبحبّي أحبّهم... فببغضي أبغضهم "؟ كلّ فرد فرد هكذا؟ لا أظنّ الخطيب البغدادي، ولا ابن حجر العسقلاني، ولا أيّ عاقل من عقلائهم يدّعي هذه الدعوى.
الحديث الثاني: " أصحابي كالنجوم فبأيّهم اقتديتم اهتديتم ".
وقد أشرت إلى من استدلّ بهذا الحديث، بالتفسير وعلم الأُصول، وحتى في الموارد الأُخرى، وحتّى الكتب الأخلاقيّة أيضاً، وحتّى في الفقه يستدلّون بهذا الحديث، ولكن مع الأسف، هذا الحديث ليس بصحيح عندهم، لاحظوا العبارات:
في شروح التحرير ; قال أحمد بن حنبل: لا يصح(2).
وفي جامع بيان العلم لابن عبد البر ; قال أبو بكر البزّار: لا يصح(3).
وقال ابن حجر في تخريج الكشّاف: أورده الدارقطني في غرائب مالك(4).
وقال ابن حزم في رسالته في إبطال القياس: هذا خبر مذكوب موضوع باطل لم
____________
1- الموافقات 4 / 79.
2- التقرير والتحبير في شرح التحرير، التيسير في شرح التحرير 3 / 243.
3- جامع بيان العلم 2 / 90، إعلام المواقعين 2 / 223، البحر المحيط 5 / 528.
4- الكاف الشاف في تخريج احاديث الكشاف (هامش الكشاف) 2 / 628.
وقال ابن حجر في تخريج الكشّاف: ضعّفه البيهقي(2).
وقال ابن عبد البر في جامع بيان العلم: إسناده لا يصح(3).
وذكر المنّاوي أنّ ابن عساكر ضعّف هذا الحديث(4).
وأورده ابن الجوزي في كتاب العلل المتناهية في الأحاديث الواهية.
وبيّن أبو حيّان الأندلسي ضعف هذا الحديث في تفسيره(5).
وأورد الذهبي هذا الحديث في أكثر من موضع في ميزان الاعتدال ونصّ على بطلانه(6).
وأبطل هذا الحديث ابن قيّم الجوزيّة في إعلام الموقعين(7)، وابن حجر العسقلاني في تخريج الكشّاف المطبوع في هامش الكشّاف(8).
وذكر السخاوي هذا الحديث في المقاصد الحسنة وضعّفه(9).
ووضع السيوطي علامة الضعف على هذا الحديث في كتاب الجامع الصغير(10).
وضعّفه أيضاً القاري في شرح المشكاة(11).
____________
1- انظر: البحر المحيط في تفسير القرآن لابي حيّان 5 / 528.
2- الكاف الشاف 2 / 628.
3- جامع بيان العلم وفضله 2 / 90.
4- فيض القدير في شرح الجامع الصغير 4 / 76.
5- البحر المحيط 5 / 528.
6- ميزان الاعتدال في نقد الرجال 1 / 413، 2 / 102.
7- إعلام المواقعين 2 / 223.
8- الكاف الشاف 2 / 628.
9- المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة: 26 ـ 27.
10- الجامع الصغير بشرح المناوي 4 / 76.
11- المرقاة في شرح المشكاة 5 / 523.
وفوق ذلك كلّه، فإنّ شيخ الإسلام!! ابن تيميّة ينصّ على ضعف هذا الحديث في كتاب منهاج السنّة(2).
ويبقى الدليل الاعتباري، إنّه إذا لم نوافق على عدالة كلّ فرد فرد من الصحابة، فقد أبطلنا القرآن، فقد أبطلنا السنّة النبويّة، فقد بطل الدين!!
والحال إنّنا أبطلنا عدالة الصحابة، ولم يبطل الدين، والدين باق على حاله، والحمد لله ربّ العالمين.
يقولون هذا وكأنّ الطريق منحصر بالصحابة؟! إنّ الطريق الصحيح منحصر بأهل البيت (عليهم السلام)، وأهل البيت أدرى بما في البيت، أهل البيت هم القادة بعد الرسول.
____________
1- فيض القدير في شرح الجامع الصغير 4 / 76.
2- منهاج السنة 7 / 142.
الرأي الحقّ في مسألة عدالة الصحابة
وأمّا الرأي الحق في المسألة، بعد أن بطلت أدلة القول الأوّل الذي ادعي عليه الإجماع، فهو أنْ ننظر إلى الكتاب وإلى السنّة نظرة أُخرى، فنجد في القرآن الكريم أنّ الذين كانوا حول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ثلاثة أقسام:
إمّا مؤمنون، وهذا واضح.
وإمّا منافقون، وهذا واضح.
وإمّا في قلوبهم مرض، وهذا أيضاً واضح.
هؤلاء طوائف كانوا حول رسول الله.
فإذن، ليس كلّ من كان مع رسول الله كان مؤمناً، المؤمنون طائفة منهم، المنافقون طائفة أُخرى، والذين في قلوبهم مرض طائفة ثالثة.
ومن الجدير بالذكر ـ وعلى الباحثين أن يتأمّلوا فيما أقول ـ أنّ في سورة المدّثر وهي ـ على قول ـ أوّلُ ما نزل من القرآن الكريم في مكّة المكرّمة، ولو لم تكن أوّل ما نزل فلعلّها السورة الثانية، أو السورة الثالثة، في أوائل البعثة النبويّة والدعوة المحمّديّة نزلت هذه السورة المباركة، في هذه السورة نجد أنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) لاحظوا بدقّة ( لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) هذه طائفة من أهل مكّة ( وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً )إذنْ، في مكّة عند نزول الآية أُناس كانوا أهل كتاب واُناس مؤمنين ( وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً )(1).
____________
1- سورة المدثر: 31.
الكافرون معلوم، وهم المشركون، وأهل الكتاب أيضاً معلوم، يبقى المؤمنون وهم الذين آمنوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
أمّا الذين في قلوبهم مرض، فمن هم؟ ففي مكة، المسلمون الذين كانوا حول رسول الله عددهم معيّن محصور، وأفراد معدودون جدّاً، يمكننا معرفة المؤمن منهم من الذي في قلبه مرض، نحن الآن لسنا بصدد تعيين الصغرى، لسنا بصدد تعيين المصداق، لكنّا عرفنا على ضوء هذه الآية المباركة أنّ الناس في مكّة في بدء الدعوة المحمديّة كانوا على أربعة أقسام: أُناس مشركون كافرون وهذا واضح، في الناس أيضاً أهل كتاب وهذا واضح، وفي الناس آمن برسول الله وهذا واضح، الذين في قلوبهم مرض، هؤلاء ليسوا من الذين آمنوا، وليسوا من المشركين والكافرين، وليسوا من أهل الكتاب، فمن هم؟ فيظهر، أنّ هناك في مكة المكرمة وفي بدء الدعوة المحمديّة أُناساً عنوانهم عند الله وفي القرآن الكريم: ( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ).
ولو راجعتم التفاسير لرأيتم القوم متحيّرين في تفسير هذه الآية وحلّ هذه المشكلة، ولن يتمكّنوا إلاّ أنْ يفصحوا بالحق وإلاّ أنْ يقولوا الواقع، فما دام لا يريدون الواقع تراهم متحيّرين مضطربين.
يقول الفخر الرازي بتفسير الآية(1) ـ لاحظوا بدقّة ـ: جمهور المفسّرين قالوا في تفسير قوله: ( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) إنّهم الكافرون، والحال أنّ في قلوبهم مرض قسيم وقسمٌ في مقابل الكافرين، هذا رأي جمهور المفسّرين.
ثمّ يقول ـ لاحظوا بدقّة ـ: وذكر الحسين بن الفضل البجلي: أنّ هذه السورة مكيّة، ولم يكن بمكّة نفاق، فالمرض في هذه الآية ليس بمعنى النفاق.
____________
1- تفسير الرازي 30 / 207.
يقول الفخر الرازي وهو يريد أنْ يدافع عن قول جمهور المفسّرين، لاحظوا بدقة قوله: قول المفسّرين حق، وذلك لأنّه كان في معلوم الله تعالى أنّ النفاق سيحدث، أي في المدينة المنوّرة، فأخبر عمّا سيكون، وعلى هذا تصير هذه الآية معجزة، لأنّه إخبار عن غيب سيقع، وقد وقع على وفق الخبر، فيكون معجزاً!!
كان ذكر الذين انحصر في قلوبهم مرض هنا معجزة، لكن لن يرتضي الفخر الرازي أيضاً هذا التوجيه مع ذكره له.
والعجيب من الفخر الرازي حيث يقول: جمهور المفسّرين قالوا إنّهم الكافرون، وهو يدافع عن قولهم ويقول: هو حق، ثمّ يحمل الآية على أنّه إخبار عن النفاق الذي سيقع.
فإذا كان قول المفسّرين حقّاً، فقد فسّروا بأنّهم الكافرون، وأنت تقول: بأنّ هذا إخبار عن النفاق الذي سيقع في المدينة المنوّرة، فكيف كان قول المفسّرين حقّاً؟ وهذا يكشف عن تحيّرهم واضطرابهم في القضية.
وممّا يزيد في وضوح الاضطراب قوله بعد ذلك: ـ أرجو الملاحظة بدقة ـ: ويجوز أنْ يراد بالمرض الشك.
أي: الذين في قلوبهم شك، لكنْ يعود الإشكال، فمن الذين في قلوبهم شك، في بدء الدعوة في مكة، في مقابل الذين آمنوا، والذين كفروا، وأهل الكتاب؟
فيعلّل كلامه قائلاً: لأنّ أهل مكّة كان أكثرهم شاكّين.
فنقول: من المراد هنا من أهل مكة؟ هل المراد أهل الكتاب؟ هل المراد الكفّار والمشركون؟ من هؤلاء الذين أكثرهم مشركون؟
وقد زاد في الطين بلّةً فقال: وبعضهم كانوا قاطعين بالكذب؟
وهذا عجيب من مثل الفخر الرازي، عجيب والله، وليس إلاّ الاضطراب والحيرة!!
هذا، والفخر الرازي في مثل هذه المواضع يأخذ من الزمخشري ولا يذكر اسم
ويأتي أحدهم فيأخذ كلام الفخر الرازي والزمخشري حرفيّاً، ويحذف من كلام الفخر الرازي قول الحسين بن الفضل والبحث الذي طرحه الفخر الرازي، وهذا هو الخازن في تفسيره، فراجعوا(2).
ثمّ جاء المتأخرون وجوّزوا أنْ يكون المراد النفاق، وأن يكون المراد الشك، وتعود المشكلة، وكثير منهم يقولون المراد الشك أو النفاق، لاحظوا ابن كثير(3) ولاحظوا غيره من المفسّرين، فهؤلاء يفسّرون المرض بالشك، يفسّرون المرض بالنفاق ويسكتون، أي يسلّمون بالإشكال أو السؤال.
كان في مكّة المكرّمة نفاق، وأنتم تعلمون دائماً أنّ النفاق إنّما يكون حيث يخاف الإنسان على ماله، أو يخاف على دمه ونفسه، فيتظاهر بالإسلام وهو غير معتقد، وهذا في الحقيقة إنّما يحصل في المدينة المنوّرة، لقوّة الإسلام، لتقدّم الدين، ولقدرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذا كلّه صحيح.
أمّا في مكّة، حيث الإسلام ضعيف، وحيث أنّ النبي مطارد، وحيث أنّه يؤذى صباحاً ومساءً، فأيّ ضرورة للنفاق، وأيّ معنى للنفاق حينئذ؟ والله سبحانه وتعالى لم يعبّر بالنفاق، وإنّما عبّر بالمرض في القلب، وفيه نكتة.
إذن، كان في أصحاب رسول الله منذ مكّة من في قلبه مرض، ومن كان منافقاً، وأيضاً كان حواليه مؤمنون، فكيف نقول إنّهم عدول أجمعون؟ وهذا على ضوء هذه الآية.
____________
1- الكشاف في تفسير القرآن 4 / 650.
2- تفسير الخازن 4 / 330.
3- تفسير ابن كثير 4 / 388.
وأمّا السنّة، فيكفينا من السنّة حديث الحوض، وأنتم كلّكم مطّلعون على هذا الحديث وألفاظه، وهو في الصحيحين، وفي المسانيد وفي المعاجم، وهو من أصحّ الأحاديث المعتبرة المقبولة:
" ليردنّ عليّ الحوض رجال ممّن صحبني ورآني، حتّى إذا رفعوا إليّ رأيتهم اختلجوا دوني، فلأقولنّ: يا ربّ أصحابي أصحابي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ".
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنّكم تحشرون إلى الله تعالى، ثمّ يؤخذ بقوم منكم ذات الشمال، فأقول: يا ربّ أصحابي، فيقال لي: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم ـ إشارة إلى قوله تعالى: ( أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُم وَمَنْ يَنْقَلِب عَلى عَقِبيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً )(1) ـ فأقول كما قال العبد الصالح: ( كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ إنْ تُعذِّبْهُمْ فَإنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )(2) ".
قال رسول الله: " بينما أنا قائم إذا زمرة، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلمّ، فقلت: أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثمّ إذا زمرة، حتّى إذا عرفتهم قال: إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراهم يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم، فأقول: أصحابي أصحابي، فقيل: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: بعداً بعداً، أو سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي "(3).
____________
1- سورة آل عمران: 144.
2- سورة المائدة: 117 ـ 118.
3- مسند أحمد 1 / 389، 2 / 35، 6 / 33، صحيح البخاري 6 / 69، 8 / 148، 151، 9 / 58، صحيح مسلم 4 / 180، الموطّأ 2 / 462، المستدرك 4 / 74 ـ 75.
وهذه الأدلّة التي أشرنا إليها تكون قرينة على خروج المنافقين والذين في قلوبهم مرض عن تحت تلك العمومات، إمّا تخصّصاً أو تخصيصاً.
حينئذ لا يمكن التمسك بإطلاق أو عموم تلك الآيات أو الروايات على فرض تمامية الاستدلال بها، وعلى فرض تمامية ظهورها في العموم أو الإطلاق.
وهذا المقدار يكفينا لأنْ نعرف حكم الله سبحانه وتعالى في المسألة، ولأن نعرف أنّهم يحاولون المستحيل، وغاية ما هناك إنّهم حاولوا أنْ يسدّوا باب أهل البيت، وباب الرواية عن أهل بيت العصمة والطهارة، وأرادوا أن يروّجوا لغيرهم، وعندما يواجهون مثل هذه القضايا وهذه المشاكل يضطربون ويتحيّرون، ولا يدرون ماذا يقولون، وهذا واقع الأمر.
ونحن ليس عندنا أيّ نزاع شخصي مع أحد من الصحابة، ليس عندنا أي خصومة خاصّة مع واحد منهم، إنّما نريد أنْ نعرف ماذا يريده الله سبحانه وتعالى منّا، ونريد أنْ نعرف الذي يريد الله سبحانه وتعالى أنْ يكون قدوةً لنا، وأُسوة لنا، وواسطة بيننا وبينه في الدنيا والآخرة.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.
عدم تحريف القرآن
تمهيد:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله خير الخلق أجمعين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأوّلين والآخرين.
موضوع تحريف القرآن لا يكفيه مجلس واحد ولا مجلسان ولا ثلاثة مجالس إذا أردتم أن نستوعب البحث ونستقصي جوانبه المتعددة المختلفة، أمّا إذا أردتم الإفتاء أو نقل الفتاوى عن الآخرين من كبار علمائنا السابقين والمعاصرين، فأنقل لكم الفتاوى، ولكنّكم تريدون الأدلّة بشيء من التفصيل.
فإليكم الآن صورةً مفيدة عن هذا الموضوع، وبالله التوفيق.
سلامة القرآن من التحريف
لا ريب ولا خلاف في أنّ القرآن المجيد الموجود الآن بين أيدي المسلمين هو كلام الله المنزل على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو المعجزة الخالدة له، وهو الذي أوصى أُمّته بالرجوع إليه، والتحاكم إليه، وأفاد في حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين أنّ القرآن والعترة هما الثقلان اللذان تركهما في أُمّته لئلاّ تضلّ ما دامت متمسّكة بهذين الثقلين.
هذا الحديث مروي بهذه الصورة التي أنتم تعلمونها، وفي أحد ألفاظه: " إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عَلَيّ الحوض ".
إلاّ أنّ بعض العامة يروون هذا الحديث بلفظ: " إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وسنّتي "، وقد أفردنا رسالة خاصة بهذا الحديث، وهي رسالة مطبوعة منتشرة في تحقيق هذا الحديث سنداً، ودلالةً، إلاّ أنّي ذكرته هنا لغرض ما.
أئمّتنا صلوات الله عليهم اهتمّوا بهذا القرآن بأنواع الاهتمامات، فأمير المؤمنين أوّل من جمع القرآن، أو من أوائل الذين جمعوا القرآن، وهو والأئمّة من بعده كلّهم كانوا يحثّون الأُمّة على الرجوع إلى القرآن، وتلاوة القرآن، وحفظ القرآن، والتحاكم إلى القرآن، وتعلّم القرآن، إلى آخره.
وهكذا كان شيعتهم إلى يومنا هذا.
والقرآن الكريم هو المصدر الأوّل لاستنباط الأحكام الشرعية عند فقهائنا، يرجعون إلى القرآن في استنباط الأحكام الشرعية واستخراجها.
حسبنا كتاب الله:
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خلّف في أُمّته القرآن، وأمرهم بالتمسّك بالقرآن مع العترة، وعلى فرض صحّة الحديث الآخر، أمرهم بالتمسّك بالكتاب والسنّة، إلاّ أنّ من الأصحاب الذين يقتدي بهم العامّة من قال: حسبنا كتاب الله، ففرّق هذا القائل وأتباعه بين الكتاب والعترة، أو بين الكتاب والسنّة، وحرموا الأُمّة الانتفاع والاستفادة من العترة أو من السنّة، وقالوا: حسبنا كتاب الله، إلاّ أنّهم لم يحافظوا على هذا القرآن الكريم، هم الذين قالوا: حسبنا كتاب الله، تركوا تدوين الكتاب الكريم إلى زمن عثمان، يعني إلى عهد حكومة الأُمويين، فالقرآن الموجود الآن من جمع الأُمويين في عهد عثمان، كما أنّ السنّة الموجودة الآن بيد العامّة هي سنّة دوّنها الأُمويّون، ولسنا الآن بصدد الحديث عن هذا المطلب.
المهم أن نعلم أنّ الذين قالوا: حسبنا كتاب الله، لم يرووا القرآن، تركوا تدوينه وجمعه إلى زمن عثمان.
ولكن عثمان الذي جمع القرآن هو بنفسه قال: إنّ فيه لحناً، والذين جمعوا القرآن على عهد عثمان وتعاونوا معه في جمعه قالوا: إنّ فيه غلطاً، قالوا: إنّ فيه خطأ.
إلاّ أنّك لا تجد مثل هذه التعابير في كلمات أهل البيت (عليهم السلام)، لا تجد عن أئمّتنا كلمة
فالذين قالوا: حسبنا كتاب الله، وأرادوا أن يعزلوا الأُمّة عن العترة والسنّة، أو يعزلوا السنّة والعترة عن الأُمّة، هم لم يجمعوا القرآن، وتركوا جمعه إلى زمن عثمان، وعثمان قال: إنّ فيه لحناً. وقال آخر: إنّ فيه غلطاً. وقال آخر: إنّ فيه خطأ.(1) ثمّ جاء دور العلماء، دور الباحثين، دور المحدّثين، فمنذ اليوم الأوّل جعلوا يتّهمون الشيعة الإماميّة الإثني عشرية بأنّهم يقولون بتحريف القرآن.
____________
1- راجع: الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 2 / 47، تفسير الرازي 22 / 74، الإتقان في علوم القرآن 1 / 316، فتح الباري 8 / 301، معالم التنزيل.
معاني التحريف
إنّ للتحريف معاني عديدة:
التحريف بالترتيب:
هناك معنى للتحريف لا خلاف بين المسلمين في وقوعه في القرآن الكريم، يتّفق الكل على أنّ القرآن الموجود ليس تدوينه بحسب ما نزل، يختلف وضع الموجود عن تنزيله وترتيبه في النزول، وهذا ما ينصّ عليه علماء القرآن في كتبهم، فراجعوا إن شئتم كتاب الإتقان لجلال الدين السيوطي، ترونه يذكر أسامي السور، سور القرآن الكريم بحسب نزولها.
وأيّ غرض كان عندهم من هذا الذي فعلوا؟ لماذا فعلوا هكذا؟ هذا بحث يجب أن يطرح، فقد قلت لكم إنّ المجلس الواحد لا يكفي.
ترتيب السور وترتيب الآيات يختلف عمّا نزل عليه القرآن الكريم، ترون آية المودة مثلاً وضعت في غير موضعها، آية التطهير وضعت في غير موضعها، ترون آية (أكملت لكم دينكم) وضعت في غير موضعها، سورة المائدة التي هي بإجماع الفريقين آخر ما نزل من القرآن الكريم، ترونها ليست في آخر القرآن، بل في أوائل القرآن، ما الغرض من هذا؟ فهذا نوع من التحريف لا ريب في وقوعه، وقد اتفق الكلّ على وقوعه في القرآن.
التحريف بالزيادة:
وهناك معنى آخر من التحريف اتفقوا على عدم وقوعه في القرآن، ولا خلاف في ذلك، وهو التحريف بالزيادة، اتفق الكل وأجمعوا على أنّ القرآن الكريم لا زيادة فيه، أي ليس في القرآن الموجود شيء من كلام الآدميين وغير الآدميين، إنّه كلام الله سبحانه وتعالى فقط.
نعم ينقلون عن ابن مسعود الصحابي أنّه لم يكتب في مصحفه المعوّذتين(1)، قال: لأنّهما ليستا من القرآن.
إلاّ أنّ الكل خطّأه، حتّى في رواياتنا أيضاً خطّأه الأئمّة سلام الله عليهم.
فليس في القرآن زيادة، وهذا معنى آخر من التحريف.
التحريف بالنقصان:
المعنى الذي وقع فيه النزاع هو التحريف بمعنى النقصان: بأن يكون القرآن الكريم قد وقع فيه نقص، بأن يكون غير مشتمل أو غير جامع لجميع ما نزل من الله سبحانه وتعالى بعنوان القرآن على رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذا هو الأمر الذي يُتّهم الشيعة الإماميّة بالإعتقاد به.
____________
1- مسند أحمد 5 / 129، الإتقان في علوم القرآن 1 / 271.
تنبيهان
الأول: نفي قصد التغلب في البحث العلمي
قبل كلّ شيء، لابد من أن أُذكّركم بمطلب ينفعنا في هذا البحث وفي كلّ بحث من البحوث:
دائماً يجب أن يكون الذين يبحثون في موضوع من المواضيع العلمية، وبعبارة أُخرى: على كلّ مختلفين في مسألة، سواء كان هناك عالمان يختلفان في مسألة، أو فرقتان وطائفتان تختلفان في مسألة، يجب أن يكونوا ملتفتين وواعين إلى نقطة، وهي أن لا يكون القصد من البحث هو التغلّب على الطرف الآخر بأيّ ثمن، أن لا يحاولوا الغلبة على الخصم ولو على حساب الإسلام والقرآن، دائماً يجب أن يحدّد الموضوع الذي يبحث عنه، ويجب أن يكون الباحث ملتفتاً إلى الآثار المترتّبة على بحثه، أو على الإعلان عن وجهة نظره في تلك المسألة.
لاحظوا لو أنّ السنّيّ إتّهم الطائفة الشيعية كلّها بأنّهم يقولون بنقصان القرآن، فهذا خطأ إن لم يكن هناك تعصّب، إن لم يكن هناك عداء، إن لم يكن هناك أغراض أُخرى، هذا خطأ في البحث.
فيجب على الباحث أن يحدّد موضوع بحثه، فالتحريف بأيّ معنى؟ قلنا: للتحريف معاني متعددة، ثمّ إنّك تنسب إلى طائفة بأجمعها إنّهم يقولون بتحريف القرآن، هل تقصد الشيعة كلّها بجميع فرقها، أو تقصد الشيعة الإمامية الإثني عشرية.
لو قرأت كتاب منهاج السنة لرأيته يتهجّم على الطائفة الشيعية بأجمعها وبجميع
إذن، يجب أن يحدّد البحث، فتقول في الطائفة الشيعية الإثني عشرية من يقول بتحريف القرآن بمعنى نقصان القرآن، لا أن تقول إنّ الشيعة تقول بتحريف القرآن، التحريف بمعنى النقصان، ففي الشيعة من لا يقول بتحريف القرآن، في الشيعة من لا يقول بنقصان القرآن، في الشيعة من ينفي نقصان القرآن، فكيف تنسب إلى كلّهم هذا القول.
فلو أنّ شيعيّاً أيضاً بادر وانبرى للدفاع عن مذهبه، وعن عقائده، فاتّهم السنّة كلّهم بأنّهم يقولون بتحريف القرآن، وبنقصانه، إذن، وقع وفاق بين الجانبين من حيث لا يشعرون على أنّ القرآن محرّف وناقص، وهذا ممّا ينتفع به أعداء الإسلام وأعداء القرآن.
فلا يصحّ للشيعي أن ينسب إلى السنّي أو إلى السنّة كلّهم بأنّهم يقولون بتحريف القرآن ونقصانه، كما لا يصحّ للسنّي أن يطرح البحث هكذا.
الثاني: طرح البحث تارة على صعيد الروايات وتارة على صعيد الأقوال
في كلّ بحث، تارة يطرح البحث على صعيد الروايات، وتارة يطرح البحث على صعيد الأقوال، وهذا فيه فرق كثير، علينا أن ننتبه إلى أنّ الأقوال غير الروايات، والروايات غير الأقوال، فقد تكون هناك روايات وأصحاب المذهب الرواة لتلك الروايات لا يقولون بمضامينها ومداليلها، وقد يكون هناك قول وروايات الطائفة المتفق عليها تنافي وتخالف ذلك القول.
إذن، يجب دائماً أن يكون الإنسان على التفات بأنّه كيف يطرح البحث، وما هو بحثه، وما هي الخطوط العامّة للبحث، وما هو الموضوع الذي يبحث عنه، وكيف يريد البحث عن ذلك الموضوع، هذا كلّه إذا كان الغرض أن يكون البحث موضوعياً، أن يكون
فالنقطة التي أُؤكّد عليها دائماً هي: أنّ أبناء المذهب الواحد إذا اختلفوا في رأي، عليهم أن يطرحوا البحث فيما بينهم بحيث لا ينتهي إلى الإضرار بالمذهب، وأيضاً الطائفتان من المسلمين، إذا اختلفتا في رأي، في قضيّة، في مطلب، عليهما أن يبحثا عن ذلك الموضوع بحيث لا يضرّ بالإسلام كلّه، بحيث لا يضرّ القرآن كلّه.
أيصح أنّك إذا بحثت مع سنّي حول شيء من شؤون الخلافة مثلاً، وأراد أن يتغلّب عليك فيضطرّ إلى إنكار عصمة النبي مثلاً، هذا ليس أُسلوب البحث، هذا غرض من الباحث، وقد شاهدناه كثيراً في بحوث القوم، وهذا من جملة نقاط الضعف المهمّة الكبيرة عندهم، إنّهم إذا تورّطوا، وخافوا من الإفحام، نفوا شيئاً ممّا لا يجوز نفيه، أو أنكروا أصلا مسلّماً من أُصول الإسلام.
وعلى كلّ حال، فهذه أُمور أحببت أنْ أُذكّركم بها، لأنّها تفيد دائماً، وفي بحثنا أيضاً مفيدة جدّاً.
لا يمكن أن ننسب إلى السنّة كلّهم أنّهم يقولون بنقصان القرآن، هذا لا يجوز، كما لا يجوز للسنّي أن ينسب إلى الطائفة الشيعية الإثني عشرية أنّها تقول بنقصان القرآن، هذا لا يجوز.
ثمّ على كلّ باحث أن يفصل بين الروايات، وبين الأقوال، وهذا شيء مهم جدّاً، ففي مسألة تحريف القرآن بمعنى النقصان، تارة نبحث عن الموضوع على صعيد الروايات، وتارة نبحث عن الموضوع على صعيد الأقوال، والروايات والأقوال تارةً عند السنّة، وتارة عند الشيعة الإمامية الإثني عشرية.
التحريف بالنقصان حسب الروايات
إنّ الروايات الواردة في كتبنا نحن الإمامية، فيما يتعلّق بموضوع نقصان القرآن الكريم، يمكن تقسيمها إلى أقسام عديدة، وهذا التقسيم ينطبق في رأيي على روايات أهل السنة أيضاً، لأنّي أُريد أن أبحث عن المسألة بحثاً موضوعيّاً، ولست في مقام الدفاع أو الردّ:
القسم الأول: الحمل على اختلاف القراءات
إنّ كثيراً من الروايات الواردة في كتبنا وفي كتبهم قابلة للحمل على اختلاف القراءات، وهذا شيء موجود لا إنكار فيه، الإختلاف في القراءات شيء موجود، في كتبنا موجود، في رواياتنا، وفي روايات متعددة.
إذن، لو أنّ شيعيّاً أراد أن يتمسّك برواية قابلة للحمل على الإختلاف في القراءة ليفحم الخصم بأنّك تقول بتحريف القرآن، أو في رواياتكم ما يدلّ على تحريف القرآن، هذا غير صحيح، كما لا يصحّ للسنّي أن يتمسّك بهكذا روايات موجودة في كتبنا.
فهذا قسم من الروايات.
القسم الثاني: ما نزل لا بعنوان القرآن
نزل عن الله سبحانه وتعالى، ونزل بواسطة جبرئيل، لكن لا بعنوان القرآن، وقد وقع خلط كبير بين القسمين، ما نزل من الله سبحانه وتعالى على رسوله بعنوان القرآن، وما نزل من الله سبحانه وتعالى على رسوله لا بعنوان القرآن، وقع خلط كبير بين القسمين من
القسم الثالث: ما يصحّ حمله على نسخ التلاوة
وهذا البحث بحث أصولي، ولابدّ أنّكم درستم أو ستدرسون هذا الموضوع، مسألة النسخ كما في الكتب الأصوليّة.
فبناءً على نسخ التلاوة، ووجود نسخ التلاوة، وأن يكون هناك لفظ لا يتلى إلاّ أنّ حكمه موجود.
إذ النسخ ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
منسوخ اللفظ والحكم.
منسوخ الحكم دون اللفظ.
ومنسوخ اللفظ دون الحكم.
هذه ثلاثة أقسام في النسخ، يتعرضون لها في الكتب الأصوليّة، وفي علوم القرآن أيضاً يتعرضون لهذه البحوث.
فلو أنّا وافقنا على وجود نسخ التلاوة، فقسم من الروايات التي بظاهرها تدلّ على نقصان القرآن، هذه الروايات قابلة للحمل على نسخ التلاوة.
القسم الرابع: الروايات القابلة للحمل على الدعاء
فهناك بعض الروايات تحمل ألفاظاً توهّم أنّها من القرآن، والحال أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يدعو بها، هذه أيضاً موجودة في كتبهم وفي كتبنا.
وتبقى في النتيجة أعداد قليلة من الروايات، هي لا تقبل الحمل، لا على نسخ التلاوة بناءً على صحّته، ولا على الحديث القدسي، ولا على الاختلاف في القراءات، ولا على الدعاء، ولا على وجه آخر من الوجوه التي يمكن أن تحمل تلك الروايات عليها، فتبقى هذه الروايات واضحة الدلالة على نقصان القرآن.
البحث في سند الروايات:
حينئذ تصل النوبة إلى البحث عن سند تلك الروايات، لأنّ الرواية إنّما يصحّ الاستناد إليها في مسألة من المسائل، في أي باب من الأبواب، إنّما يصحّ التمسّك برواية إذا ما تمّ سندها، وتمّت دلالتها على المدعى.
فلو فرضنا أنّ الرواية لا تقبل الحمل على وجه من الوجوه المذكورة وغيرها من الوجوه، فحينئذ تبقى الرواية ظاهرة في الدلالة على نقصان القرآن، فتصل النوبة إلى البحث عن سندها.
هنا نقطة الخلاف بيننا وبين أهل السنّة، ومع الأسف فإنّنا وجدنا الروايات التي تدلّ دلالة واضحة على نقصان القرآن ولا تقبل الحمل على شيء من الوجوه الصحيحة أبداً، وجدنا تلك الروايات كثيرةً عدداً وصحيحة سنداً في كتب أهل السنّة.
اللهمّ، إلاّ أن نجد في المعاصرين ـ كما نجد مَن يقول بما نقول ـ بأنْ لا كتاب صحيح عند السنّة من أوّله إلى آخره أبداً، ونحن أيضاً منذ اليوم الأوّل قلنا بالنسبة إلى كتبهم: إنّهم تورّطوا عندما قالوا بصحّة الكتب الستة ولا سيّما الصحيحين، ولاسيّما البخاري، بناءاً على المشهور بينهم حيث قدّموه على كتاب مسلم، وقالوا بأنّه أصحّ الكتب بعد القرآن المجيد، تورّطوا في هذا.
نعم، نجد الآن في ثنايا كتب المعاصرين، وفي بعض المحاضرات التي تبلغنا عن بعضهم، أنّهم ينكرون أو ينفون القول بصحّة الكتابين أيضاً، وهذا يفتح باباً لهم، كما يفتح باباً لنا.
وأمّا بناءاً على المشهور بينهم من صحّة الصحيحين والكتب الأربعة الأُخرى، بالإضافة إلى كتب وإن لم تسمّ بالصحاح إلاّ أنّهم يرون صحّتها ككتاب المختارة للضياء المقدسي، الذي يرون صحّته، والمستدرك على الصحيحين، حيث الحاكم يراهُ صحيحاً، وغيره أيضاً، ومسند أحمد بن حنبل الذي يصرّ بعض علمائهم على صحّته من أوّله إلى
فماذا يفعلون مع هذه الروايات؟ وماذا يقولون؟ روايات لا ريب في دلالتها على التحريف، يعني كلّما حاولنا أن نحملها على بعض المحامل الصحيحة ونوجّهها التوجيه الصحيح، لا نتمكّن...
أمّا نحن، فقد تقرّر عندنا منذ اليوم الأوّل، أنْ لا كتاب صحيح من أوّله إلى آخره سوى القرآن، هذا أوّلاً.
وثانياً: تقرّر عندنا أنّ كلّ رواية خالفت القرآن الكريم فإنّها تطرح... نعم، كلّ خبر خالف الكتاب بالتباين فإنّه يطرح، إن لم يمكن تأويله، وفرضنا أنّ هذا القسم الأخير لا يمكن تأويله.
نعم في رواياتنا ـ ونحن لا ننكر ـ توجد روايات شاذة، قليلة جدّاً، هذه لا يمكن حملها على بعض المحامل.
لكن هذه الروايات أعرض عنها الأصحاب، السيّد المرتضى رحمة الله عليه المتوفى قبل ألف سنة تقريباً يدّعي الإجماع على عدم نقصان القرآن، مع وجود هذه الروايات الشاذة، يدّعي الإجماع على ذلك، فيدلّ على إعراضهم عن هذه الروايات وعدم الإعتناء بها، وكذلك الطبرسي في مجمع البيان، والشيخ الطوسي في التبيان، وهكذا كبار علمائنا(1).
والأهمّ من ذلك كلّه، لو أنّكم لاحظتم كتاب الإعتقادات للشيخ الصدوق(2)، فنصّ عبارته: ومن نسب إلينا أنّا نقول بأنّ القرآن أكثر من هذا الموجود بين أيدينا فهو كاذب علينا.
مع العلم بأنّ الصدوق نفسه يروي بعض الروايات الدالة على التحريف في بعض
____________
1- راجع: التبيان في تفسير القرآن 1 / 3، مجمع البيان في تفسير القرآن 1 / 15.
2- الشيخ الصدوق أولا: يلقّب برئيس المحدّثين، وثانياً: في كتابه الاعتقادات يذكر هذا المطلب، وثالثاً: الشيخ الصدوق من قدماء علمائنا.