كان متيناً متمسّكاً بمذهب أهل السنّة والجماعة على ما كان عليه والده وجدّه، ولم يكن على ما كانوا عليه من التيقّظ والهمّة، بل كان قليل المعرفة والتدبير والتيقّظ، نازل الهمّة، محبّاً للمال، مهملاً للأُمور، يتّكل فيها على غيره، ولو لم يكن فيه إلاّ ما فعله مع الملك الناصر داود في الوديعة لكفاه ذلك عاراً وشناراً، والله لو كان الناصر من الشعراء، وقد قصده وتردّد عليه على بعد المسافة ومدحه بعدّة قصائد، كان يتعيّن عليه أن ينعم عليه بقريب من قيمة وديعته من ماله، فقد كان في أجداد المستعصم بالله من استفاد منه آحاد الشعراء أكثر من ذلك.
[ كأنّما كانت عنده وديعة لشخص، وهذه الوديعة تصرّف فيها ولم يرجعها إلى صاحبها، يذكر هذه القضيّة، إلى غير ذلك من الأُمور التي كانت تصدر عنه، ممّا لا يناسب منصب الخلافة، ولم يتخلّق بها الخلفاء قبله ] .
فكانت هذه الأسباب كلّها مقدّمات لما أراد الله تعالى بالخليفة والعراق وأهله، وإذا أراد الله تعالى أمراً هيّأ أسبابه.
[ ولم يذكر سائر أعمال هذا الخليفة وأسلاف هذا الخليفة، من الخلاعة والمجون والاستهتار بالدين والسكر وشرب الخمر ومجالس اللهو واللعب، وإلى آخره، كلّ ذلك أسباب لانقراض الحكومة أيّ حكومة تكون ] .
قال: واختلفوا كيف كان قتله، قيل: إنّ هولاكو لمّا ملك بغداد أمر بخنقه، وقيل رفس إلى أن مات، وقيل كذا إلى آخره والله أعلم بحقيقة الحال. وكانت واقعة بغداد وقتل الخليفة من أعظم الوقائع(1).
ولم يذكر شيئاً يتعلّق بالخواجة نصيرالدين الطوسي أبداً.
الرجوع إلى الصفدي:
وإذا راجعتم كتاب الوافي بالوفيات للصفدي، هذا الرجل مولود في سنة 696 أي بعد
____________
1- فوات الوفيات 2/230.
يقول بترجمة الخليفة: كان حليماً كريماً، سليم الباطن، حسن الديانة، متمسّكاً بالسنّة، ولكنّه لم يكن كما كان عليه أبوه وجدّه، وكان الدوادار والشرابي لهم الأرض، جاء هولاكو البلاد في نحو مائتين ألف فارس، وطلب الخليفة وحده فطلع ومع القضاة والمدرّسون والأعيان نحو سبعمائة نفس، فلمّا وصلوا إلى الحريبة جاء الأمر بحضور الخليفة وحده، ومعه سبعة عشر نفساً، فساقوا مع الخليفة وأنزلوا من بقي من خيلهم وضربوا رقابهم، ووقع السيف في بغداد، وعمل القتل أربعين يوماً، وأنزلوا الخليفة في خيمة وحده والسبعة عشر في خيمة أخرى، ثمّ إنّ هولاكو أحضر الخليفة وجرت له معه ومع ابنه أبي بكر محاورات وأخرجا ورفسوهما إلى أنْ ماتا، وعفّي أثرهما(1).
الرجوع إلى ابن خلدون:
ننتقل إلى ابن خلدون، ابن خلدون متولّد في سنة 732، ووفاته سنة 808، يذكر في تاريخه خبر المستعصم آخر ملوك بني العبّاس ببغداد، فلم يصف الخليفة بما وصفه به غيره من الصفات الدنيئة الموجبة للعار والشنار، والمسببة لما وقع به وبأهل بغداد، بل وصفه بقوله: كان فقيهاً محدّثاً... ثمّ ذكر ما كان من السنّة ضدّ الشيعة في الكرخ بأمر من الخليفة وابنه أبي بكر وركن الدين الدوادار، ثمّ ذكر زحف هولاكو إلى العراق ودخول بغداد وقتل الخليفة وغيره.
وليس في شيء ممّا ذكر ذكراً لنصيرالدين الطوسي أبداً، فلاحظوا تاريخه(2).
الرجوع إلى السيوطي:
وذكر جلال الدين السيوطي في تاريخه تاريخ الخلفاء، السيوطي وفاته سنة 911،
____________
1- الوافي بالوفيات 17/641.
2- تاريخ ابن خلدون 6/1104.
فأين ما ذكره ابن تيميّة حول نصيرالدين الطوسي رحمه الله فيما يتعلّق بقضيّة بغداد.
الرجوع إلى أصحاب ابن تيمية:
حينئذ ننتقل إلى أصحاب ابن تيميّة والمقرّبين منه، وهم ثلاثة: الذهبي، وابن كثير، وابن القيّم.
الذهبي ذكرنا عبارته، ووجدناه لا يشير لا من قريب ولا من بعيد إلى ما ذكره ابن تيميّة، وكذا بترجمة المستعصم إذا راجعتم سير أعلام النبلاء حيث ذكر الواقعة ناقلاً شرحها عن جمال الدين سليمان بن رطنين الحنبلي، والظهير الكازروني، وغيرهما، وليس في ذلك ذكراً لنصيرالدين الطوسي أبداً(2).
أمّا ابن كثير، ابن كثير ولادته سنة 700 أي بعد الواقعة حدود الخمسين سنة ووفاته سنة 774، ترجم لنصيرالدين الطوسي، ولم ينسبه إلى شيء أو لم ينسب شيئاً ممّا ذكر ابن تيميّة إلى الخواجة نصيرالدين، من الإخلال بالصلوات وشرب الخمر وارتكاب الفواحش، لم يذكر شيئاً من هذه أبداً، وإنّما ذكر ما نسب إليه من الإشارة على هولاكو بقتل الخليفة، بعبارة ظاهرة جدّاً في التشكيك في ذلك، وإليكم نصّ ما قاله ابن كثير في تاريخه في هذه القضية:
يقول: ومن الناس من يزعم أنّه ـ الخواجه نصيرالدين ـ أشار على هولاكو خان بقتل الخليفة، فالله أعلم.
لا يقول أكثر من هذا، ومن الناس من يزعم، والله أعلم.
____________
1- تاريخ الخلفاء: 467 ـ 477.
2- سير أعلام النبلاء 23/181.
ثمّ يقول بعد أن يذكر ذلك عن بعض الناس: وعندي أنّ هذا لا يصدر من عاقل ولا فاضل، وقد ذكره بعض البغاددة [ أي أهالي بغداد ] فأثنى عليه وقال: كان عاقلاً فاضلاً كريم الأخلاق، ودفن في مشهد موسى بن جعفر، في سرداب كان قد أُعدّ للخليفة الناصر لدين الله(1).
وهذا من جملة المواضع التي لا يوافق فيها ابن كثير شيخه ابن تيميّة.
يبقى ابن قيّم الجوزيّة، ابن قيّم الجوزيّة لم يتبع ابن تيميّة فقط، بل زاد على ما قال شيخه أشياء أُخرى أيضاً، لاحظوا عبارته بالنص عندما يذكر نصيرالدين الطوسي يقول:
نصير الشرك والكفر والإلحاد، وزير الملاحدة النصير الطوسي، وزير هولاكو، شفى نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه، فعرضهم على السيف حتّى شفى إخوانه من الملاحدة واشتفى هو، فقتل الخليفة المستعصم والقضاة والفقهاء والمحدّثين.
[ كلمة " المحدثين " مادام هي بالنصب، لابد أنْ تقرأ الكلمة: قَتَلَ، أي قتل نصيرالدين المستعصمَ والقضاةَ والفقهاء والمحدّثين. اللّهمّ إلاّ أنْ نرجع الضمير إلى هولاكو، لكن بأمر الخواجة نصير الدين ] .
واستبقى الفلاسفة والمنجّمين والطبايعيين والسحرة، ونقل أوقاف المدارس والمساجد والربط إليهم، وجعلهم خاصته وأولياءه، ونصَرَ في كتبه قدم العالم وبطلان المعاد وإنكار صفات الربّ جلّ جلاله من علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره، واتّخذ للملاحدة مدارس، ورام جعل إشارات إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن، فلم يقدر على ذلك فقال: هي قرآن الخواص وذلك قرآن العوام، ورام تغيير الصلاة وجعلها صلاتين، فلم يتم له الأمر، وتعلّم السحر في آخر الأمر فكان ساحراً يعبد الأصنام، انتهى.
ابن تيميّة قال: في آخر الأمر تاب نصيرالدين الطوسي، قرأنا عبارته في أنّه في آخر
____________
1- البداية والنهاية 13/267.
وهذا يقول: تعلّم السحر في آخر الأمر، فكان ساحراً يعبد الأصنام!!
وإلى هنا تبيّن أنّ ما ينسب سابقاً ولاحقاً إلى الخواجة نصيرالدين الطوسي ليس له سبب، سوى أنّ هذا الرجل العظيم استفاد من تلك الظروف لِصالح هذا المذهب المظلوم، وتمكّن من تأليف كتابه تجريد الإعتقاد، وأصبح هذا الكتاب هو الكتاب الذي يدرّس في الأوساط العلميّة، وطرحت أفكار الإماميّة في الأوساط العلميّة، بعد أن لم تكن لأفكار هذه الطائفة أيّة فرصة، ولم يكن لآراء هذه الطائفة أيّ مجال لأن يذكر شيء منها في المدارس العلميّة والأوساط العلميّة، حينئذ أصبح الآخرون عيالاً على الخواجة نصيرالدين الطوسي في علم الكلام والعقائد، وبتبع كتاب التجريد أُلّفت كتبهم في العقائد، وهذا ممّا يغتاظ منه القوم، فهذا كان هو السبب العمدة لأنْ ينسب ما سمعتم إلى هذا الرجل العظيم.
وقد ثبت أنّ كلّ ما ينسب إليه باطل، ولا أساس له من الصحّة، إستناداً إلى كلمات المؤرّخين من أهل السنّة أنفسهم، من ابن الفوطي الذي عاصر القضيّة وكان من الأسرى في الواقعة، ثمّ ابن الطقطقي، ثمّ ابن كثير، ثمّ الذهبي، والصفدي، وابن شاكر الكتبي، وغيرهم، وهؤلاء كلّهم من أهل السنّة، وهكذا أبوالفداء، ولم ننقل شيئاً لتبرئة ساحة هذا الشيخ العظيم عن أحد من علماء الشيعة.
الثناء على الشيخ نصير الدين الطوسي
والآن، لا بأس أن أذكر لكم بعض النصوص في الثناء الجميل على هذا الشيخ العظيم من كتب القوم.
لاحظوا عبارة ابن كثير يقول: النصير الطوسي محمّد بن عبدالله [ لكن والده محمّد فهو محمّد بن محمّد ] كان يقال له المولى نصير الدين، ويقال الخواجة نصير الدين، اشتغل في شبيبته، وحصّل علم الأوائل جيّداً، وصنّف في ذلك في علم الكلام، وشرح الإشارات لابن سينا، ووزر لأصحاب قلاع الألموت من الإسماعيليّة، ثمّ وزر لهولاكو، وكان معهم في واقعة بغداد، ومن الناس من يزعم أنّه أشار على هولاكو بقتل الخليفة، فالله أعلم، وعندي أنّ هذا لا يصدر من عاقل ولا فاضل... إلى آخر ما قرأناه سابقاً.
قال: وهو الذي كان قد بنى الرصد في مراغة، ورتّب فيه الحكماء من الفلاسفة والمتكلّمين والفقهاء والمحدّثين والأطبّاء، وغيرهم من الفضلاء، وبنى له فيه قبّة عظيمة، وجعل فيه كتباً كثيرةً جدّاً، توفي في بغداد في الثاني عشر من ذي الحجة من هذه السنة، وله خمس وسبعون سنة، وله شعر جيّد قويّ، وأصل اشتغاله على المعين سالم بن بدران بن علي المصري المعتزلي المتشيّع، فنزع فيه حروب كثيرة منه حتّى أفسد اعتقاده.
هذا كلّه ذكره في ترجمة نصيرالدين الطوسي، وفيه الثناء الجميل على علمه، إلاّ أنّه يعرّض به لأجل مذهبه(1).
____________
1- البداية والنهاية 13 / 276.
وقال أيضاً: خواجه نصير الدين الطوسي أبو عبدالله محمّد بن محمّد بن الحسن، مات في ذي الحجّة ببغداد، وقد نيّف على الثمانين، وكان رأساً في علم الأوائل، ذا منزلة من هولاكو(1).
وقال أبوالفداء: وفيها ـ أي في السنة المذكورة ـ في يوم الإثنين (18) ذي الحجة، توفي الشيخ العلاّمة نصير الدين الطوسي، واسمه محمّد بن محمّد الإمام المشهور، وكان يخدم صاحب الألموت، ثمّ خدم هولاكو، وحظي عنده، وعمل لهولاكو رصداً بمراغة وزيجاً وله مصنفات عديدة كلّها نفيسة، منها أقليدس يتضمّن اختلاط الأوضاع، وكتاب المجسطي، والتذكرة في الهيئة لم يصنّف في فنّها مثلها، وشرح الإشارات، وأجاب عن غالب إيرادات فخرالدين الرازي، وكانت ولادته في الحادي عشر جمادى الأُولى سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وكانت وفاته ببغداد، ودفن في مشهد موسى الجواد(2).
[ يعني موسى والجواد " الواو " هذه لابدّ منها ] .
وقال الصفدي: نصيرالدين الطوسي محمّد بن محمّد بن الحسن نصير الدين الطوسي، الفيلسوف، صاحب علم الرياضي، كان رأساً في علم الأوائل، لاسيّما في الأرصاد والمجسطي، فإنّه فاق الكبار، قرأ على المعين سالم بن بدران المعتزلي الرافضي وغيره، وكان ذا حرمة وافرة ومنزلة عالية عند هولاكو، وكان يطيع على ما يشير عليه، والأموال في تصريفه، وابتنى بمراغة قبّة ورصداً عظيماً، واتخذ في ذلك خزانة عظيمة، فسيحة الأرجاء وملأها من الكتب التي نهبت من بغداد والشام والجزيرة، حتّى تجمّع فيها زيادة على أربعمائة ألف مجلّد [ فأين تلك الكتب ] وأقرّ بالرصد المنجّمين والفلاسفة، وجعل لهم
____________
1- العبر في خبر من غبر 3 / 326، دول الاسلام.
2- المختصر في أخبار البشر 4 / 8.
حكي أنّه لمّا أراد العمل بالرصد رأى هولاكو ما يقدم عليه، فقال له: هذا العلم المتعلق بالنجوم ما فائدته، أيدفع ما قدّر أن يكون؟ فقال: أنا أضرب لك مثلاً، يأمر القان من يطلع إلى هذا المكان، ويرمي من أعلاه طشتاً نحاساً كبيراً من غير أن يعلم به أحد، ففعل ذلك، ولمّا وقع كان له وقعة عظيمة هائلة روّعت كلّ من هناك، وكاد بعضهم يصعق، فأمّا هو وهولاكو فإنّهما ما حصل لهما شيء لعلمهما بأنّ ذلك يقع، فقال له: هذا العلم النجومي له هذه الفائدة، يعلم المتحدّث فيه ما يحدث، فلا يحصل له من الروعة ما يحصل للذاهل الغافل عنه، فقال له: لا بأس بهذا، وأمره بالشروع فيه، إلى آخره.
ومن دهائه ما حكي: أنّه حصل لهولاكو غضب على علاء الدين الجويني صاحب الديوان، فأمر بقتله، فجاء أخوه إلى النصير وذكر له، فقال النصير... إلى آخره فسعى في خلاص هذا الشخص.
وممّا وقف له عليه أن ورقة حضرت إليه عن شخص من جملة ما فيها: يا كلب يابن الكلب، فكان الجواب منه أمّا قوله: يا كلب، فليس بصحيح، لأنّ الكلب من ذوات الأربع وهو نابح طويل الأظفار، وأمّا أنا فمنتصب القائمة بادي البشرة عريض الأظْفار ناطق ضاحك، فهذه الفصول والخواص غير تلك الفصول والخواص، وأطال في نقض كل ما قاله ذلك القائل.
هكذا ردّ عليه بحسن طوية وتأن غير منزعج، ولم يقل في الجواب كلمة قبيحة.
ثمّ ذكر تصانيفه، ثمّ ذكر بعض القضايا الأُخرى(1).
ولا أُريد أن أُطيل عليكم بقراءة كلّ ما في كتاب الوافي بالوفيات.
ولاحظوا هذه العبارة من كلامه، أقرؤها عليكم، يقول: وكان للمسلمين به نفع خصوصاً الشيعة والعلويين والحكماء وغيرهم، وكان يبرّهم ويقضي أشغالهم ويحمي
____________
1- الوافي بالوفيات 1 / 179.
وهل في هذا النص على طوله من نقص، من طعن؟! والوافي بالوفيات كتاب معتبر، ومؤلّفه من أهل السنّة المعروفين المشهورين المعتمدين.
وأقرأ لكم ما جاء في فوات الوفيات يقول: الخواجة نصير الدين الطوسي محمّد بن محمّد بن الحسن نصير الدين، كان رأساً في علم الأوائل، لاسيّما في الأرصاد والمجسطي، وكان يطيعه هولاكو فيما يشير عليه، والأموال في تصريفه.
[ هذه تقريباً عبارات الوافي بالوفيات وإلى أنْ يقول ] : وكان حسن الصورة سمحاً كريماً جواداً حليماً حسن العشرة غزير الفضائل جليل القدر داهية.
إلى أنْ ذكر تصانيفه وهي كثيرة جدّاً، وذكر كلمات بعض العلماء في حقّه قال: ودفن في مشهد الكاظم رحمه الله.
وكذا تجدون الثناء عليه في النجوم الزاهرة(1).
وكذا غير هؤلاء من المؤلفين والمؤرخين.
فأين ما ذكره ابن تيميّة أو ما زاد عليه تلميذه ابن قيّم الجوزيّة؟
والعمدة ما ذكرته لكم.
____________
1- النجوم الزاهرة في ملوك نصر والقاهرة 7 / 245.
خاتمة البحث
والعجيب أنّكم لو قرأتم كتب علمائنا في التراجم وسير العلماء وفي التواريخ، لن تجدوا لفظة واحدة من هذه الألفاظ التي تصدر من بعض هؤلاء في حقّ علماء الشيعة، لن تجدوا لفظةً منها فى حقّ علماء السنة، فإن ذكروا شيئاً عن بعض علماء أهل السنّة، فإنّما يذكرونه بأدب ومتانة، فكيف وأن ينسبوا إلى أحد منهم ما ليس فيه، وما لا يجوز نسبته إليه، لاحظوا الكتب، قارنوا بين كتبنا وكتبهم، قارنوا بين أساليب علمائنا وأساليب شيخ إسلامهم، لتعرفوا الحقّ وتكونوا من أتباع الحق.
إذا عرفتم الحقّ تعرفون أهله، وإذا عرفتم الحق تتّبعونه بلا تردّد.
إذن، عرفنا في هذا البحث أموراً، وكان لهذا البحث فوائد عديدة، ولا حاجة إلى الإطالة بأكثر ممّا ذكرته لكم.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.
ابن تيميّة
وإمامة علي (عليه السلام)
تمهيد:
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأوّلين والآخرين.
بحثنا حول عقائد ابن تيميّة ومواقفه من الشيعة الإماميّة وأئمّتهم وعقائدهم.
حول ابن تيميّة وعقائده وأفكاره كتب ألّفها علماء وكتّاب من الشيعة والسنّة، منذ قديم الأيّام، وإذا أردنا أن نتكلّم عمّا في كتبه وعمّا في كتب القوم حول هذا الرجل، فلابدّ وأن يكون بحثنا في ثلاثة فصول:
الفصل الأوّل: في عقائده.
الفصل الثاني: في علمه وحدود معلوماته.
والفصل الثالث: في عدالة هذا الرجل.
ولابدّ في كلّ شخصيّة يراد الاستفادة منها، ويراد الاقتداء بها، وأخذ معالم الدين ومعارف الشريعة من تلك الشخصية، لابدّ وأن تتوفّر فيها هذه الجهات الثلاث:
أن لا يكون منحرفاً في عقائده.
وأن يكون عالماً حقّاً.
وأن يكون عادلاً في سلوكه، أي في أقواله وأفعاله وكتاباته وأحكامه وإلى آخره.
فالمنحرف فكرياً لا يصلح لأن يكون هادياً.
والفاسق لا يصلح لأن يقبل كلامه ويرتّب الأثر على أقواله.
والبحث حول هذه الشخصيّة من هذه الجهات كلّها، يستغرق وقتاً كثيراً، وقد خصّصت ليلة واحدة فقط للبحث عن ابن تيميّة، فرأيت من الأنسب والأرجح أن أتعرّض لما في كتابه منهاج السنّة من التعريض بأمير المؤمنين (عليه السلام) وأكتفي بهذا المقدار، لأنّ كتابه منهاج السنّة مشحون بالتعريض والتعرّض لأمير المؤمنين، وللزهراء البتول، وللأئمّة الأطهار، وللمهدي عجّل الله فرجه، ولشيعتهم وأنصارهم، بصورة مفصّلة، وحتّى أنّه في كتاب منهاج السنّة يدافع بكثرة وبشدّة عن بني أُميّة، وعن أعداء أمير المؤمنين بصورة عامّة، وحتّى أنّه يدافع عن ابن ملجم المرادي أشقى الآخرين، ويسبّ شيعة أهل البيت سبّاً فظيعاً.
بغض ابن تيمية لأمير المؤمنين (عليه السلام)
وأبدأ بحثي بكلمة لابن حجر العسقلاني الحافظ بترجمته من كتاب الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، حيث يذكر قضايا مفصلة بترجمة ابن تيميّة وحوادث كلّها قابلة للذكر، إلاّ أنّي أكتفي بنقل مايلي:
يقول الحافظ: وقال ابن تيميّة في حقّ علي: أخطأ في سبعة عشر شيئاً، ثمّ خالف فيها نصّ الكتاب....
ويقول الحافظ ابن حجر: وافترق الناس فيه ـ أي في ابن تيميّة ـ شيعاً، فمنهم من نسبه إلى التجسيم، لما ذكر في العقيدة الحمويّة والواسطيّة وغيرهما من ذلك كقوله: إنّ اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقيّة لله، وأنّه مستو على العرش بذاته....
إلى أن يقول: ومنهم من ينسبه إلى الزندقة، لقوله: النبيّ (صلى الله عليه وسلم)لا يستغاث به، وأنّ في ذلك تنقيصاً ومنعاً من تعظيم النبي (صلى الله عليه وسلم)....
إلى أن يقول: ومنهم من ينسبه إلى النفاق، لقوله في علي ما تقدّم ـ أي قضيّة أنّه أخطأ في سبعة عشر شيئاً ـ ولقوله: إنّه ـ أي علي ـ كان مخذولاً حيثما توجّه، وأنّه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها، وإنّما قاتل للرئاسة لا للديانة، ولقوله: إنّه كان يحبّ الرئاسة، ولقوله: أسلم أبوبكر شيخاً يدري ما يقول، وعلي أسلم صبيّاً، والصبي لا يصحّ إسلامه، وبكلامه في قصّة خطبة بنت أبي جهل، وأنّ عليّاً مات وما نسيها.
فإنّه شنّع في ذلك، فألزموه بالنفاق، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ولا يبغضك إلاّ منافق.
والآن أذكر لكم الشواهد التفصيليّة لما نسب ابن تيميّة إليه من النفاق.
إنّه يناقش في إسلام أمير المؤمنين، وفي جهاده بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلى أن يقول في موضع من كلامه، أقرأ لكم هذا المقطع وأنتقل إلى بحث آخر، يقول:
قبل أنْ يبعث الله محمّداً (صلى الله عليه وسلم) لم يكن أحد مؤمناً من قريش [ لاحظوا بدقّة كلمات هذا الرجل ] لا رجل، ولا صبيّ، ولا امرأة، ولا الثلاثة، ولا علي. وإذا قيل عن الرجال: إنّهم كانوا يعبدون الأصنام، فالصبيان كذلك: علي وغيره. [ فعلي كان يعبد الصنم في صغره!! ] وإن قيل: كفر الصبي ليس مثل كفر البالغ. قيل: ولا إيمان الصبي مثل إيمان البالغ. فأولئك يثبت لهم حكم الإيمان والكفر وهم بالغون، وعلي يثبت له حكم الكفر والإيمان وهو دون البلوغ، والصبي المولود بين أبوين كافرين يجري عليه حكم الكفر في الدنيا باتّفاق المسلمين(2).
|
ويقول:
إنّ الرافضة تعجز عن إثبات إيمان علي وعدالته... فإنْ احتجّوا بما تواتر من إسلامه وهجرته وجهاده، فقد تواتر إسلام معاوية ويزيد وخلفاء بني أُميّة وبني العباس، وصلاتهم وصيامهم وجهادهم(3).
|
____________
1- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 1/154 ـ 155.
2- منهاج السنّة 8 / 285.
3- منهاج السنّة 2 / 62.
لم يعرف أنّ عليّاً كان يبغضه الكفّار والمنافقون(1).
|
كلّ ما جاء في مواقفه في الغزوات كلّ ذلك كذب.
|
قد ذكر في هذه من الأكاذيب العظام التي لا تنفق إلاّ على من لم يعرف الإسلام، وكأنّه يخاطب بهذه الخرافات من لا يعرف ما جرى في الغزوات(2).
|
إنّه حديث موضوع باتّفاق أهل العلم(4).
|
1 ـ تفسير الطبري.
2 ـ مسند البزّار.
3 ـ مسند سعيد بن منصور.
4 ـ تفسير ابن أبي حاتم.
5 ـ تفسير ابن المنذر.
6 ـ تفسير ابن مردويه.
7 ـ تفسير الفخر الرازي.
8 ـ تفسير الزمخشري.
____________
1- منهاج السنّة 7 / 461.
2- منهاج السنّة 8 / 97.
3- الحاقة: 12.
4- منهاج السنّة 7 / 522.
10 ـ تفسير السيوطي.
ورواه من المحدّثين:
1 ـ أبو نعيم.
2 ـ الضياء المقدسي.
3 ـ ابن عساكر.
4 ـ الهيثمي، في مجمع الزوائد.
أكتفي بهذا المقدار(1).
حديث: " أنا مدينة العلم وعلي بابها " يقول فيه:
وحديث " أنا مدينة العلم وعلي بابها " أضعف وأوهى، ولهذا إنّما يعدّ في الموضوعات(2).
|
1 ـ يحيى بن معين.
2 ـ أحمد بن حنبل.
3 ـ الترمذي.
4 ـ البزّار.
5 ـ ابن جرير الطبري.
6 ـ الطبراني.
7 ـ أبو الشيخ.
8 ـ ابن بطّة.
____________
1- الآية في سورة الرعد، فلاحظ التفاسير، ومجمع الزوائد 1 / 131، وحلية الأولياء 1 / 67.
2- منهاج السنّة 7 / 515.
10 ـ ابن مردويه.
11 ـ أبو نعيم.
12 ـ أبو مظفّر السمعاني.
13 ـ البيهقي.
14 ـ ابن الأثير.
15 ـ النووي.
16 ـ العلائي.
17 ـ المزّي.
18 ـ ابن حجر العسقلاني.
19 ـ السخاوي.
20 ـ السيوطي.
21 ـ السمهودي.
22 ـ ابن حجر المكّي.
23 ـ القاري.
24 ـ المنّاوي.
25 ـ الزرقاني.
وقد صحّحه غير واحد من هؤلاء الأئمّة.
وحول حديث أقضاكم علي، يقول:
فهذا الحديث لم يثبت، وليس له إسناد تقوم به الحجّة... لم يروه أحد في السنن المشهورة، ولا المساند المعروفة، لا بإسناد |
صحيح ولا ضعيف، وإنّما يروى من طريق من هو معروف بالكذب(1).
|
يقول:
وقوله: ابن عباس تلميذ عليّ كلام باطل (4).
|
إلى أن قال: حتّى قال ابن عباس: ما أخذت من تفسيره فعن علي(5).
ويقول أيضاً:
وأما قوله: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " أقضاكم علي " والقضاء يستلزم العلم والدين، فهذا الحديث لم يثبت، وليس له إسناد تقوم به الحجة، وقوله: " أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل " أقوى اسناداً منه، والعلم بالحلال والحرام ينتظم القضاء أعظم مما ينتظم |
____________
1- منهاج السنّة 7 / 512.
2- البقرة: 106.
3- الطبقات الكبرى ج2 ق2 ص102.
4- منهاج السنّة 7 / 536.
5- فيض القدير في شرح الجامع الصغير 4/357.