الصفحة 71

____________

<=

لَهُمْ عَذَابٌ أليم)، وقوله تعالى: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عظيم)، وتعني العمى الذي أصابه. راجع سير أعلام النبلاء 2: 512 ـ 517، ترجمة 106.

مسطح بن أثاثة، حيث شارك في قصة الافك، وكان أبو بكر ينفق عليه وقطع النفقة بعد الحادثة.. وقد ذكر ذلك البخاري في صحيحه 3: 157 كتاب الشهادات، حديث الافك. راجع ترجمته في سير أعلام النبلاء 1: 187، ترجمة 20. بل إنّ أهل السنّة هم الّذين رووا في كتبهم ما يدلّ على الطعن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وزوجاته، فقد رووا عن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: "أرسلني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غداة باردة، فأتيته وهو مع بعض نسائه في لحافه، فأدخلني في اللحاف، فصرنا ثلاثة" مستدرك الحاكم 3: 410، وصحّحه، ووافقه الذهبي في تلخيص المستدرك، السنة لابن أبي عاصم 2: 597.

ومع ذلك يحكم عثمان وأمثاله بعدالة هؤلاء، ويرمي الشيعة بتهم رخيصة تبرأ منها براءة أخي يوسف من السرقة.

2ـ "يروون أنّ عمر بن الخطاب كان مصاباً بداء في دبره..." ونسب ذلك إلى كتاب "الأنوار النعمانية".

وهذا جهل من عثمان الخميس وتدليس على القارئ; لأنّ صاحب "الأنوار النعمانية" نقل هذا الكلام عن مصدر سنّي إذ قال: (وأمّا أفعاله ـ يعني عمر ـ الجميلة فقد نقل منها متابعوه ما لم ينقله أعداؤه، منها ما نقله صاحب الاستيعاب...ومنها: ما قاله المحقّق جلال الدين السيوطي في حواشي القاموس عند تصحيح لغة (الأبْنَة)، وقال هناك: "وكانت في جماعة في الجاهلية، أحدهم سيّدنا عمر".

وأقبح منه ما قاله الفاضل وابن الأثير، وهما من أجلاّء علمائهم قال: "زعمت الروافض أنّ سيّدنا عمر كان مخنّثاً، ولكن كان به داء دواؤه ماء الرجال".

وغير ذلك ممّا يستقبح نقله، وقد قصّروا في إضاعة مثل هذا السرّ المكنون المخزون، ولم أرَ في كتب الرافضة مثل هذا.. وقد نقلت أهل السنّة ها هنا عن

=>


الصفحة 72
الذي ما عرف الإسلام يوماً إلى قلبه سبيلا.

وكما عرفنا نفسية الأب، فها هو الابن يعبّر بنفس التعبير، ولكن على طريقته في الدّهاء والنّفاق.

فقد روى الزبير بن بكار، عن مطوف بن المغيرة بن شعبة الثقفي قال: دخلت مع أبي على معاوية، فكان أبي يأتيه يتحدّث عنده ثمّ ينصرف إلىّ

____________

<=

إمامهم ما هو أقبح من هذا، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم" الأنوار النعمانية 1: 63.

3ـ "كان عثمان ممّن يلعب به..."، وهذا من خيانة النقل والتقول على الآخرين بما لم يذكروه، فإنّ المؤلّف نقل هذا الكلام عن الكلبي في كتابه مثالب العرب، فذكر فيه مثالب قريش ومنهم عثمان (الصراط المستقيم 2: 334).

ومسألة اللعب بعثمان لا كما فهمه عثمان الخميس حيث فسّر اللعب بما ذكره الطبرى في تاريخه: "قال علي: عياذ الله ياللمسلمين اني قعدت في بيتي قال لي عثمان: (تركتني وقرابتي وحقي)، وأنّي إن تكلّمت فجاء ما يريد يلعب به مروان، فصار سيّقه له يسوقه حيث شاء بعد كبر سنه.." تاريخ الطبري 3: 390.

فاللعب به: يعني عليه فيما يصدره ويفعله في خلافته من أوامر وأحكام وتصرّفات. وأمّا لفظ (المخنث) فلم يذكر في مصدر شيعي أو سنّي وهو من افتراءات عثمان الخميس وتقولاته الفاسدة.

وهذه الأُمور التي ذكرها عثمان والأُمور الأُخرى كلّها لا تؤمن بها الشيعة ولا تعتقد، بها، بل هي تنزّه ألسنتها عن نسبة التهم بالفحشاء إلى الآخرين، مضافاً إلى أنّ ما ذكره من أمثلة كلّها واردة في كتب لا تعتّد الشيعة بمؤلّفيها أو بالكتاب الذي نقل هذه المسائل عن مصادر أهل السنّة.

وأمّا هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان فقد ذكرنا المصادر السنّية التي ذكرت هذا الأمر في حقّها، وأمّا كلامها التي ردّت فيه على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقولها: (أو تزني الحرّة)، فهذا لا يدلّ على عدم ركوبها لهذا الفعل، إذ كيف يستدلّ بكلامها على نفي الفعل عنها؟ إذ من الواضح أنّ الإنسان لا يفشي سرّه ولا يبيّنه للآخرين، وهل يطلب عثمان الخميس من هند أن تقرّ بالزنا وتعترف به أمام الناس؟!.


الصفحة 73
فيذكر معاوية وعقله، ويعجب ممّا يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء فرأيته مغتمّاً، فانتظرته ساعة وظننتُ أنّه لشيء حدث فينا أو في عملنا، فقلتُ له: ما لي أراك مُغتمّاً منذ الليلة؟

قال: يا بني إنّي جئتُ من عند أخبث الناس، قلتُ له: وما ذاك، قال: قلتُ لمعاوية وقد خلوتُ به: إنّك قد بلغتَ مُناك يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلا، وبسطت خيراً، فإنّك قد كبرتَ، ولو نظرتَ إلى إخوتك من بني هاشم فوصلتَ أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه، وإنّ ذلك ممّا يبقى لك ذكره وثوابه.

فقال لي: هيهات هيهات! أيّ ذكر أرجو بقاءه؟ ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فما غدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل: أبو بكر، ثمّ ملك أخو عدي فاجتهد وشمّر عشر سنين، فوالله ما غدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل: عمر، ثمّ ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه، فعمل ما عمل وعُمل به، فوالله ما غدا أن هلك فهلك ذكره وذكر ما فُعل به، وإن أخا هاشم يصرخ به في كلّ يوم خمس مرّات: أشهد أنّ محمّداً رسول الله، فأيّ عمل وأي ذكر يبقى مع هذا لا أمّ لك؟ والله إلاّ دفناً دفناً(1).

خسئتَ وَخبتَ وأخزاك الله يا من أردت دفنَ ذكر رسول الله بكلّ جهودك، وأنفقت في سبيل ذلك كلّ ما تملكه، ولكنّ جهودك كلّها باءتْ بالفشل، لأنّ الله سبحانه لك بالمرصاد، وهو القائل لرسوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 5: 130، مروج الذهب 3: 454 في نداء المأمون بسب معاوية.


الصفحة 74
ذِكْرَكَ}(1).

فلستَ أنت بقادر على دفن ذكره الذي رفعه ربّ العزّة والجلالة، فكدْ كيدك، واجمع جمعك، فأنت غير قادر على إطفاء نور الله بفيك، والله متمّ نوره رغم نفاقك، فها قد مَلكْتَ الأرض شرقاً وغرباً، وما إن هلكْتَ حتّى هلك ذكرك، إلاّ أن يذكرك ذاكر بأفعالك الشنيعة التي أردْتَ بها هدم الإسلام، كما جاء ذلك على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(2).

وبقي ذكر محمّد بن عبد الله بن هاشم عبر القرون والأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كلّما ذكره ذاكر إلاّ صلّى عليه وعلى آله وسلّم رغم أنفك، وأُنوف بني أُميّة الذين حاولوا بقيادتك وزعامتك القضاء عليهم وعلى فضائلهم، فما زادهم ذلك إلاّ رفعة وسمّواً، وسوف تلقون الله يوم القيامة غاضباً عليكم لما أحدثتموه في شريعته، فيجزيكم بما تستحقّون.

وإذا ما أضفنا إلى هؤلاء فرخهم يزيد بن معاوية الماجن الفاسق، شارب الخمور، والمجاهر بالفسق والفجور، فسوف نجده هو الآخر يحمل نفس العقيدة التي ورثها عن أبيه معاوية وجدّه أبي سفيان، كما ورث عنهم الخسّة والدناءة، وشرب الخمر، ومعاقرة العاهرات، ولعب القمار.

ولو لم يرث كلّ هذه الصفات البشعة لما أورثه أبوهُ معاوية الخلافة، وسلّطه على رقاب المسلمين، وكلّهم يعرفوه حقّ معرفته، وفيهم فضلاء الصحابة كالحسين بن علي سيّد شباب أهل الجنة. ولا أشكّ في أنّ معاوية

____________

1- الشرح: الآية 4.

2- كتاب صفين: 44.


الصفحة 75
قضى حياته، وأنفق ماله الذي اكتسبه من حرام في سبيل القضاء على الإسلام والمسلمين الحقيقيين.

ولقد رأينا كيف كان يريد دفن ذكر محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وما قدر على ذلك، فأشعلها حرباً على ابن عمّه علي وصىّ النّبي، حتى إذا ما قضى عليه ووصل للخلافة بالقهر والغش والنفاق سنَّ سُنّته المشؤومة، وأمر عمّاله في كلّ الأقطار بلعن علي وأهل البيت النّبوي على كلّ المنابر وفي كلّ صلاة، وهو بذلك يريد سبّ ولعن رسول الله(1)، ولما أعيته الحيل، وأدركه الأجل، ولم

____________

1- أخرج ابن عبد ربّه في العقد الفريد 5: 114 في أخبار معاوية، قال: إن معاوية لعن علياً على المنبر وكتب إلى عمّاله أن يلعنوه على المنابر ففعلوا، فكتبت أمّ سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) إلى معاوية: إنّكم تلعنون اللّه ورسوله على منابركم. وذلك أنّكم تلعنون علي بن أبي طالب ومن أحبّه، وأنا أشهد أنّ اللّه أحبّه ورسوله، فلم يلتفت معاوية إلى كلامها. (المؤلّف).

وفي سنن ابن ماجة 1: 56، ح121 قال: "حدّثنا علي بن محمّد، حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا موسى بن مسلم، عن ابن سابط ـ وهو عبد الرحمن ـ عن سعد بن أبي وقّاص قال: لما قدم معاوية في بعض حجاته فدخل عليه، فذكروا علياً، فنال منه، فغضب سعد وقال: تقول هذا لرجل سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) يقول: "من كنت مولاه فعلي مولاه"، وسمعته يقول: "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي"، وسمعته يقول: "لأعطين الراية اليوم رجلا يحب اللّه ورسوله". وصحح الحديث الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 1: 72 ح120، وعلّق عليه بقول: "قوله: فنال منه، أي نال معاوية من علي وتكلّم فيه".

وفي عون المعبود بشرح سنن أبي داود 12: 312 ح4636: "حدّثنا ابن العلاء عن ابن ادريس، أنبأنا حصين عن هلال بن يساف.. عن عبد اللّه بن ظالم

=>


الصفحة 76
يصل إلى مأربه، إنتدب ابنه وولاّه على الأُمة ليواصل ذلك المخطط الذي رسمه هو وأبوه أبو سفيان، ألا وهو القضاء على الإسلام وإعادة الأمر إلى الجاهلية.

فاستلم ذلك الماجن الفاسق الخلافة، وشمّر سواعده للقضاء على الإسلام حسب رغبة أبيه، فبدأ باستباحة مدينة الرسُول (صلى الله عليه وآله وسلم) لجيشه الكافر، ففعل فيها ما فعل طيلة ثلاثة أيّام، وقتل فيها عشرة آلاف من خيرة الصحابة، بعد أن قتل سيّد شباب أهل الجنة وريحانة النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وكلّ أهل البيت النّبوي، وهم أقمار الأمّة، حتّى أخذت حرائر أهل البيت سبايا،

____________

<=

المازني قال: ذكر سفيان رجلا فيما بينه وبين عبد اللّه بن ظالم المازني قال: سمعت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قال: لمّا قدم فلان إلى الكوفة أقام فلان خطيباً، فأخذ بيدي سعيد بن زيد فقال: ألا ترى إلى هذا الظالم، فاشهد على التسعة أنّهم في الجنّة..".

قال العظيم آبادي في شرح الحديث: (لمّا قدم فلان إلى الكوفة أقام فلان خطيباً)، قال في فتح الودود: "ولقد أحسن أبو داوود في الكناية عن اسم معاوية والمغيرة بفلان ستراً عليهما في مثل هذا المحل.. قال بعض العلماء: كان في الخطبة تعريضاً بسبّ علي (رضي الله عنه)..").

وقد صحّح الحديث الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 3: 130 ح4648، وفي صحيحته 2: 531 ح875.

فمعاوية مؤسّس الدولة الأموية من أوّل يوم لدولته وتشكيلته الحكومية باشر هذا الفعل، وهو سبّ علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وإخفاء فضائل أهل البيت (عليهم السلام)، وإعطاء الأموال لإضفاء فضائل مزيفة له، والتحديث بتنقيص علي وآل علي، وهذا أمرٌ واضح من سيرة معاوية، ومن سيرة ولاته الذين نصبهم على البلاد والعباد، ومن يدافع عن بني أُمية ومعاوية ما هو إلاّ متبع لهوىً أو متعصب لدين الأجداد والآباء.


الصفحة 77
فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولو أنّ الله لم يقصف عمره لتمكّن ذلك الوغد اللئيم من القضاء على الإسلام والمسلمين. والذي يهمّنا في هذا البحث هو الكشف عن عقيدته هو الآخر، كما كشفنا عن عقيدة أبيه وجدّه.

فقد حدّث المؤرخون أنّه بعد وقعة الحرّة المشؤومة، وقتل عشرة آلاف من خيرة المسلمين سوى النساء والصبيان، وأفتضّ فيها نحو ألف بكر، وحبلتْ ألف امرأة في تلك الأيام من غير زوج، ثمّ بايع من بقيَ من النّاس على أنّهم عبيد ليزيد ومن امتنع قتل، ولمّا بلغ يزيد خبر تلك الجرائم والمآسي التي يندى لها الجبين، ولم يشهد لها التاريخ مثيلا حتى عند المغول والتتار وحتى عند الإسرائيليين فرح بذلك وأظهر الشماتة بنبىّ الإسلام، وتمثّل بقول ابن الزبعّرى الّذي أنشده بعد موقعة أحد قائلا:


ليتَ أشياخي ببدر شهدواجزع الخزرج من وقع الأسلْ
لأهلّوا واستهلّوا فرحاًثمّ قالوا: يا يزيد لا تشلْ
قد قتلنا القرم من ساداتهموعدلنا ميل بدر فاعتدلْ
لست من خندف إن لم أنتقممن بني أحمد ما كان فعلْ
لعبت هاشم بالملك فلاخبرٌ جاء ولا وحىٌ نزلْ(1)

____________

1- أنظر: تاريخ الطبري 8: 187، الأخبار الطوال للدينوري: 267، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 178، وقال ابن كثير في البداية 8: 155: "ثم أباح مسلم بن عقبة الذي يقول فيه السلف مسرف بن عقبة ـ قبّحه الله من شيخ سوء ما أجهله ـ المدينة ثلاثة أيام كما أمره يزيد ـ لا جزاه الله خيراً ـ، وقتل خلقاً من

=>


الصفحة 78

____________

<=

أشرافها وقرّائها، وانتهب أموالا كثيرة منها، ووقع شرّ عظيم وفساد عريض... ووقعوا على النساء، حتى قيل: إنّه حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زوج".

وقال ابن حجر العسقلاني في الإصابة 6: 232 رقم 8434: "مسلم بن عقبة بن أسعد.. المري أبو عقبة، الأمير من قبل يزيد بن معاوية على الجيش الذين غزوا المدينة يوم الحرة، ذكره ابن عساكر وقال: أدرك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وشهد صفين مع معاوية.. وقد أفحش مسلم القول والفعل بأهل المدينة، وأسرف في قتل الكبير والصغير حتى سمّوه مسرفاً، وأباح المدينة ثلاثة أيام لذلك العسكر، ينهبون ويقتلون ويفجرون، ثمّ رفع القتل وبايع من بقي على أنهم عبيد ليزيد بن معاوية، وتوجّه بالعسكر إلى مكة ليحارب ابن الزبير لتخلّفه".

وقال النووي في شرحه لحديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (ولا يريد أحدٌ أهل المدينة بسوء إلاّ أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء)، "قال: لمن أرادها في الدنيا فلا يمهله الله ولا يمكن له سلطان، بل يذهبه عن قرب، كما انقضى شأن من حاربها أيام بني أُمية مثل مسلم بن عقبة، فإنّه هلك في منصرفه عنها، ثمّ هلك يزيد بن معاوية مرسلة على ذلك" شرح مسلم، النووي 9: 138.

وراجع ذلك أيضاً في المصادر التالية: سير أعلام النبلاء للذهبي 3: 322، المستدرك للحاكم النيسابوري 3: 550، الثقات لابن حبان 2: 312، أُسد الغابة لابن الأثير 4: 397، فتح الباري لابن حجر 8: 245 و499 و13: 60، الديباج على مسلم للسيوطي 3: 407، فيض القدير في شرح الجامع الصغير 1: 57، الطبقات الكبرى لابن سعد 5: 39، تاريخ خليفة بن الخياط 147، تهذيب التهذيب لابن حجر 11: 316.

وغيرها من المصادر الكثيرة المتعرضة لهذه الواقعة المفجعة التي قتل خلق كثير فيها من الصحابة والتابعين، واستبيحت فيها نساؤهم وبناتهم وولدن الكثير من السفاح، حتى أنّ من صار منهم يسمّون أولاد الحرّة لعدم معرفة آبائهم، وأنّ

=>


الصفحة 79
فإذا كان الجدّ أبو سفيان العدوّ الأوّل لله ورسوله يقول صراحة:

"تلقّفوها يا بني أُمية تلقّف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان فما من جنّة ولا نار".

وإذا كان الأب معاوية العدوّ الثاني لله ورسوله يقول صراحة، عندما يسمع المؤذن يشهد أنّ محمّداً رسول الله: "أيّ عمل وأيّ ذكر يبقى مع هذا لا أمَّ لك؟ والله إلاّ دفناً دفناً".

وإذا كان الابن يزيد العدوّ الثالث لله ورسوله يقول صراحة:


لعبت هاشم بالملك فلاخبرٌ جاء ولا وحىٌ نزلْ

وإذا ما نحنُ عرفنا عقيدة هؤلاء في الله ورسوله وفي الإسلام، وإذا ما نحن عرفنا أعمالهم الشنيعة التي أرادوا بها هدم أركان الإسلام، والإساءة إلى نبي الإسلام، والتي لم نذكر منها إلاّ النزر اليسير روماً للاختصار، ولو أردنا التوسّع لملأنا مجلداً ضخماً في أعمال معاوية وحده التي بقيت عليه عاراً وشناراً وفضيحة مدى الدهر، ولو تجنّد لتغطيتها وسترها بعض علماء السّوء الذين كان لبني أُمية عليهم أيادي وعطايا أعمت عيونهم، فباعوا

____________

<=

الرجل بعد وقعة الحرّة كان يزّوج ابنته من دون أن يضمن بكارتها.

والملفت للنظر في هذا الأمر أنّ قائد الجيش الذي فعل هذه الأفعال الشنيعة في المدينة ـ وهو مسلم بن عقبة المري ـ ذكره بعضهم كابن حجر العسقلاني وغيره أنّه صحابي كما تقدّم، فعند ذلك يقع تضارب واضح بين من يؤمن بعدالة جميع الصحابة وأنّهم في الجنّة وبين الحديث المتقدّم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "ولا يريد أحدٌ أهل المدنية..." مع أفعال هذا الصحابي الشنيعة، فهل هذا عادل؟! وهل هو في الجنّة، لأنّه صحابي ولا يضّره ما فعل؟!


الصفحة 80
آخرتهم بدنياهم وألبسوا الحقّ بالباطل وهم يعلمون، وبقي أغلب المسلمين ضحية هذا الدسّ والتزوير، ولو علم هؤلاء الضحايا الحقيقة، لما ذكروا أبا سفيان ومعاوية ويزيد إلاّ باللّعن والبراءة.

[إذا ما عرفنا كلّ ذلك عرفنا منزلة هؤلاء، وعرفنا أنّهم لا يستحقّون إلاّ الذمّ والتبرّي منهم ومن أعمالهم، لا اتّباعهم وتبرير أفعالهم](1).

ولكن الذي يهمّنا في هذا البحث الوجيز هو التوصّل إلى مدى تأثير هؤلاء وأشياعهم وأتباعُهم الذين حكموا المسلمين طيلة مائة عام، ولمّا يزل في خطواته الأولى.

ولا شكّ في أنّ تأثير هؤلاء المنافقين كان كبيراً على المسلمين، فغيّر عقيدتهم، وغيّر سلوكهم، وأخلاقهم، ومعاملاتهم، وحتى عباداتهم، وإلاّ كيف يمكن لنا تفسير قعود الأُمة عن نصرة الحقّ وخذلان أولياء الله والوقوف مع أعداء الله، ورسوله؟!

وكيف يمكن لنا أن نفسِّر وصول معاوية الطّليق ابن الطّليق واللّعين ابن اللّعين إلى الخلافة التي تمثّل مرتبة وخلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! وفي الوقت الذي يموّه علينا المؤرّخون بأنّ النّاس كانوا يقولون لعمر بن الخطاب: "لو رأينا فيك إعوجاجاً لقوّمناك بسيوفنا" نراهم يتحدّثون عن معاوية وهو يعتلي منصّة الخلافة بالقهر والقوة، وأوّل خطبة يقولها في جميع الصّحابة: "إنّي ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولكن لأتأمّر عليكم، وها أنا ذا أميرٌ

____________

1- أضيفت لعدم استقامة الجملة بدونها.


الصفحة 81
عليكم"(1)فلا يحرّك منهم أحدٌ ساكناً ولا يعارضوه، بل يَجْرُوا في ركابه حتى يسمّوا ذلك العام الذي استولى فيه معاوية على الخلافة بعام الجماعة، في حين أنّه كان بحقّ عام الفرقة.

ثمّ نراهم بعد ذلك يقبلون منه أن يولّي عليهم ابنه الفاسق يزيد المعروف لديهم جميعاً، فلا يثورون ولا يتحرّكون إلاّ ما كان من بعض الصلحاء الذين قتلهم يزيد في وقعة الحرّة، وأخذ ممّن بقي منهم البيعة على أنّهم له عبيد، فكيف لنا تفسير كلّ ذلك؟! على أننا نجدُ بعد ذلك أنّه وصل للخلافة باسم إمارة المؤمنين الفسّاق من بني أميّة كالوزغ مروان بن الحكم، والوليد بن عقبة وغيرهم.

ووصل الأمر بأمراء المؤمنين أن يستبيحوا مدينة رسول الله، ويفعلوا فيها الأفاعيل، وتُهتكُ فيها الحرمات، بل ويحرقوا بيت الله الحرام، ويقتلوا في الحرم خيار الصحابة!! ووصل الأمر بأمراء المؤمنين أن يسفكوا دماء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك بقتلهم ريحانة رسول الله وذريته، ويستبيحوا سبي بناته، فلا يحرّك أحدٌ من الأُمة ساكناً، ولا يجد سيّد شباب أهل الجنة ناصراً!!

ووصل الأمر بأُمراء المؤمنين أن يمزّقوا كتاب الله، ويقولون له:


إذا لقيت ربّك يوم حشرفقل يا رب مزّقني الوليد

كما فعل الوليد الأموي.

ووصل الأمر بأمراء المؤمنين أن يلعنوا على المنابر علي بن أبي

____________

1- راجع: تاريخ دمشق 59: 150، سير أعلام النبلاء 3: 147، البداية والنهاية 8: 140.


الصفحة 82
طالب (عليه السلام)، ويأمروا الناس بلعنه في كلّ الأقطار(1)، وهم لا يقصدون بذلك غير لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(2)، فلا يحرّك منهم أحدٌ ساكناً، ومن امتنع قُتِلَ وصُلب ومُثّل به.

ووصل الأمر بأُمراء المؤمنين أن يتجاهروا بشرب الخمر، والزنا، واللهو بالطرب والغناء، والرقص و.. و.. وحدّث ولا حرج!

فإذا كان أمرُ الأُمّة الإسلاميّة قد وصل إلى هذا الحدّ من الانحطاط في الأخلاق والذلّ والاستكانة، فلا بدّ أنّ هناك عوامل أثّرتْ في عقيدتها، وهذا ما يهمّنا في هذا البحث; لأنّه يتعلّق بموضوع العصمة وشخصية الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).

وأوّل ما يُلفتُ انتباهنا هنا هو أنّ الخلفاء الثّلاثة أبو بكر وعمر وعثمان منعوا كتابة حديث النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بل وحتى التحدّث به.

فهذا أبو بكر يجمع النّاس في خلافته ويقول لهم: "إنّكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والنّاس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه"(3).

كما أنّ عمر بن الخطاب هو الآخر منع أن يتحدّثْ الناس بحديث الرسول، قال قرظة بن كعب: لما سيّرنا عمر بن الخطاب إلى العراق مشى

____________

1- سير أعلام النبلاء للذهبي 3: 31 ترجمة المغيرة بن شعبة الذي كان والياً لمعاوية على الكوفة، وكان ينال في خطبته من علي، وأقام خطباء ينالون منه.

2- راجع ما تقدّم من حديث أُم سلمة الذي نقلناه آنفاً.

3- تذكرة الحفاظ للذهبي 1: 2 و3.


الصفحة 83
معنا وقال: أتدرون لما شيعتكم؟ قالوا: تكرمة لنا، قال: ومع ذلك إنّكم تأتون أهل قرية لهم دويّ بالقرآن كدويّ النّحل، فلا تصدّوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جوّدوا القرآن، وأقلّوا الرواية عن رسول الله، وأنا شريككم.

يقول هذا الراوي: فلم أنقل حديثاً قط بعد كلام عمر، ولمّا قدم العراق هرع النّاس إليه يسألونه عن الحديث، فقال لهم قرظة: نهانا عن ذلك عمر(1).

كما أنّ عبد الرحمن بن عوف قال بأنّ عمر بن الخطّاب جمع الصّحابة من الآفاق لمنعهم من التحدّث بأحاديث رسول الله في النّاس وقال لهم: أقيموا عندي ولا تفارقوني ما عشتُ، فما فارقوه حتى مات(2).

كما يذكر الخطيب البغدادي والذهبي في تذكرة الحفاظ بأنّ عمر بن الخطّاب حبس في المدينة ثلاثة من الصّحابة، وهم أبو الدرداء، وابن مسعود، وأبو مسعود الأنصاري بذنب الإكثار من نقل الحديث(3). كما أنّ عمر أمر الصّحابة أن يحضروا ما في أيديهم من كتب الحديث، فظنّوا أنّه يريد أن يُقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بكتبهم فأحرقها كلّها في النّار(4).

ثمّ أتى بعده عثمان فواصل المشوار، وأعلن للنّاس كافة أنّه "لا يحل

____________

1- راجع: السنن لابن ماجة 1: 12، المعجم الأوسط 6: 164، تذكرة الحفاظ للذهبي 1: 7، المستدرك للحاكم 1: 203 كتاب العلم، بألفاظ مختلفة، ووافقه الذهبي في تلخيص المستدرك.

2- تاريخ دمشق 40: 500، كنز العمال 10: 293 ح29479.

3- تذكرة الحفاظ 1: 12.

4- تقييد العلم: 52، القسم الثاني، باختلاف.


الصفحة 84
لأحد أن يروي حديثاً لم يسمع به على عهد أبي بكر ولا عهد عمر"(1).

ثمّ بعد هؤلاء جاء دور معاوية بن أبي سفيان، لمّا اعتلى منصّة الخلافة صعد على المنبر وقال: "أيّها الناس إيّاكم والحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ حديثاً يذكر على عهد عمر"(2).

فلا بدّ أنّ هناك سرّاً لمنع الأحاديث التي قالها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتي لا تتماشى وما جرت عليه المقادير في ذلك العصر، وإلاّ لماذا يبقى حديث الرّسول ممنوعاً طوال هذه المدّة الطويلة، ولا يُسمح بكتابته إلاّ في زمن عمر بن عبد العزيز؟!!.

ولنا أن نستنتج طبقاً لما سبق من الأبحاث بخصوص النصوص الصريحة في الخلافة، والّتي أعلنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على رؤوس الأشهاد بأنّ أبا بكر وعمر منعا من الرواية والحديث عن النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) خوفاً أن تَسْرِيَ تلك النّصوص في الأقطار أو حتى في القرى المجاورة، فتكشف للنّاس بأنّ خلافته وخلافة صاحبه ليست شرعية، وإنّما هي اغتصاب من صاحبها الشرعي علي بن أبي طالب. وقد تكلّمنا في هذا الموضوع، وكشفنا عن هذه الحقيقة في كتابنا "لأكون مع الصّادقين" فليراجع لمزيد الاطمئنان.

والعجيب في أمر عمر بن الخطاب هو مواقفه المتناقضة بالخصوص في كلّ ما يتعلّق بأمر الخلافة; ففي حين نجده هو الذي ثبّت بيعة أبي بكر، وحملَ الناس عليها قهراً، يحكم عليها بأنّها فلتةً وقى الله شرّها(3). وفي

____________

1- الطبقات الكبرى 2: 336، كنز العمال 10: 295 ح29490.

2- المعجم الكبير للطبراني 19: 370.

3- صحيح البخاري 8: 26 كتاب المحاربين، باب رجم الحبلى.