المقدّمة
الحمد لله الذي لا يبلغ حمده الحامدون ولا يعدّ نعمه العادّون، والصلاة على من كان قاب قوسين أو أدنى من ربّه الأعلى، وعلى من هو نفسه، ومن هي روحه التي بين جنبيه، وعلى سبطيه، وخلفائه أئمة الإسلام بالحقّ، وسلّم تسليماً كثيراً.
لله تعالى في كلّ آن يدٌ علينا، ومن أياديه وآلائه أن وفّقنا لكتابة محاضرات قيّمة ألقاها سيّدنا الفقيه الاُستاذ السيّد عادل العلوي حفظه الله تعالى في بلاد الشام وفي جوار سيّدة الحرائر بعد اُمّها، وعقيلة الطالبيين، وشريكة الإمام الثائر، وصاحبة النور الزاهر، السيّدة زينب الكبرى عليها صلوات المصلّين وتحيّات العارفين، وكان مضمون هذه المحاضرات يقطر حبّاً لفاطمة الشهيدة سلام الله عليها ما بقي الليل والنهار، ويفوح عطراً بذكر اسمها الشريف حيث توفّق السيّد الاُستاذ دام توفيقه للحديث عن سيّدة نساء العالمين وبيّن فيه حجّيتها ومدى قربها من خالقها، فقال عنها وأحسن القول بأنّها سرّ الوجود وجامعة النورين والعلّة الغائية لعالم الإمكان، وغاص في بحر معرفتها حتّى خشينا عليه الغرق بين أمواج بحرها المتلاطم، إلاّ أنّه أثبت للحاضرين أهليّته، ودلّهم على أنّه من أهل هذا الفنّ الذي عجز عنه كثير ممّن يدّعون العلم والمعرفة، فكان عميقاً في
ولا يفوتني أن اُثني وليس لثنائي قيمة إزاء أجر الله تعالى على الفريق الذي جنّد كلّ طاقاته ليظهر حبّه للزهراء (عليها السلام) من خلال ما قدّمه من خدمات تلو الخدمات للمحاضر والحاضرين، وأعني بذلك الإخوة المخلصين في مكتب آية الله العظمى الميرزا جواد التبريزي (دام ظلّه)، فللّه الحمد كلّ الحمد على هذه النعمة التي أحاط بها المحاضر والحاضر والعامل على راحتهم واُصلّي واُسلّم على المصطفى وأخيه وبضعته وبنيه تسليماً كثيراً.
الشيخ علي الفتلاوي
دمشق ـ السيّدة زينب
1421 هـ
(المحاضرة الاُولى)
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمّد وآله الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم ومنكري فضائلهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
بعد أن توفّقنا للحديث عن عصمة زينب الكبرى حبانا الله سبحانه بلطف آخر حيث يسّر لنا الحديث عن الصدّيقة الكبرى وسيّدة النساء فاطمة الزهراء سلام الله عليها، من أجل إحياء امرها بإقامة العزاء عليها في أيّام شهادتها (عليها السلام)، وهذا التيسير ينمّ عن وجود يد غيبيّة أرادت ذلك، وكما تمّ لنا معرفة الله تعالى ورسوله والأئمة الأطهار وعقيلتهم اُمّ المصائب زينب صلوات الله عليهم أجمعين، بمعرفة جمالية آن الأوان لمعرفة سرّ الوجود ومجمع النورين النبوي والعلوي(1)،
____________
1- فاطمة الزهراء هي التي جمعت بين نور النبوّة ونور الإمامة، أي أنّها المرأة الوحيدة التي لها المكانة الاُولى في قلب النبيّ (صلى الله عليه وآله) ولا يدانيها أحد في ذلك لا لأنّها ابنته فحسب، بل لأنّها سيّدة نساء العالمين والعلّة الغائيّة للوجود، وهي التي أزهرت السماوات والأرض بنورها الذي هو من نور عظمة الله تعالى، فلا كفؤ لها من الرجال من آدم فما دون إلاّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فزوّجها الله تعالى في السماوات وقال لرسوله (صلى الله عليه وآله): إنّي زوّجت النور من النور وأمره بتزويجها عليها (عليه السلام) فصارت بذلك تحمل نور النبوّة ونور الإمامة.
من الأسئلة التي يطرحها جميع البشر تبعاً لما في فطرتهم من حبّ الاطلاع، ولأنّ الإنسان متكوّن من بُعد مادّي وآخر مجرّد نجده يتساءل عن سرّ خلقته وفلسفة وجوده، فيسأل نفسه أوّلا لماذا خُلقنا؟ وقبل الخوض في جواب هذا السؤال نريد أن نقول: إنّ الروحانية المجرّدة التي يحملها الإنسان تدعوه أن يهتمّ بما وراء الطبيعة، أي بما وراء المادّة والتي تسمّى باصطلاح الفلاسفة (الميتافيزيقيا) فتميل به إلى معرفة سرّ الوجود وفلسفة الخلقة ويذهب متسائلا: هل إنّ علاقتي بالمادّة وقوانينها فحسب أم أنّ هناك ارتباطاً يتجاوز هذه الحدود البلهاء والمادّة الصمّاء؟ أي هل إنّ لي ربّاً وإلهاً وراء المادّة أم لا؟ فيأتي الجواب من صميم الفطرة التي جُبل عليها، نعم إنّ لك إلهاً وخالقاً لا شريك له في إيجادك، ولا ندّ له في الوجود، فيشترك بهذا الجواب الفطري المؤمن والكافر على حدّ سواء وهذا لا خلاف فيه وإن تظاهر الكافر بإنكاره، فإنّه كما في قوله تعالى:
{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أنْفُسُهُمْ}(2).
فهو جاحد لما استيقن ومنكر لما ثبت في الوجدان. فالسؤال الفطري الذي
____________
1- هذه إشارة إلى الحديث الشريف الوارد في كتب الفريقين، فلقد جاء في (اُسد الغابة 5: 520) من كتب الجمهور في ترجمة فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: وكانت فاطمة تكنّى اُمّ أبيها اعترافاً بالحديث الوارد في حقّها بأنّها اُمّ أبيها سلام الله عليها، كما ورد في أحاديث أصحابنا.
2- النمل: 14.
ولو بحثنا في كتاب الله الكريم الذي نزل مهيمناً على غيره من الكتب التي سبقته، لوجدنا فيه آيات تبيّن فلسفة الخلقة وسرّ الوجود، ففي آية يبيّن سبب خلق الكون فيقول عزّ من قائل:
{وَخَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُـظْلَمُونَ}(1).
فسخّر لنا ما في السماوات والأرض لكي نصل إلى كمالنا، وكأنّ هذا الوجود خلق لأجل مخلوق فيه ألا وهو الإنسان(2)، فكان العالم التكويني هو الإنسان الكبير كما كان الإنسان هو العالم الأكبر، وهذا المخلوق هو أكرم من في الوجود وأشرف المخلوقات، فلذا امتدح الخالق نفسه عندما خلق هذا الإنسان، فقال تعالى:
____________
1- الجاثية: 22، وفي هذه الآية يصرّح فيقول سبحانه: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً) (البقرة: 29).
2- إشارة إلى الآية الكريمة: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ) (الجاثية: 13).
فهذا يدلّ على عظمة الإنسان وكرامته على الله تعالى، حتّى صرّح في كتابه الكريم بهذه الكرامة، فقال سبحانه:
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}(2).
فبترتيب هذه الآيات الكريمة التي هي كلام الحقّ سبحانه وتعالى يظهر لنا أنّ سرّ وجود الكون هو خدمة الإنسان، وإنّما استحقّ هذه الخدمة لأنّه أشرف المخلوقات وأكرمها، ولكن ما هي الحكمة من صيرورة الإنسان أشرف وأكرم من في الوجود؟ فيأتي الجواب قرآنياً في آية صريحة تبيّن سرّ وجود الإنسان وفلسفة خلقته فيقول أحسن الخالقين:
{وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِـيَعْبُدُونِ}(3).
فاتّضح بهذه الآية الكريمة سرّ الوجود جميعه وفلسفة الخلقة لهذا الخلق العجيب.
إذن وجد الإنسان ليعبد الله سبحانه، ولازم عبادة الله أن يكفر بالطاغوت، ولازم العبادة المعرفة، فقوله تعالى: {لِـيَعْبُدُونِ} أي ليعرفون، كما ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام)، فالمقصود من خلق الإنسان هو أن يعرف ويتكامل ويصل إلى قاب قوسين أو أدنى من ربّه(4)، لأنّه محبوب لربّه، وهذا ما أشار إليه الحديث
____________
1- المؤمنون: 14.
2- الإسراء: 70.
3- الذاريات: 56.
4- إشارة إلى الآيتين القرآنيتين الكريمتين: (دَنَا فَـتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنَى)(النجم: 8 ـ 9).
وإنّ ذكر الله تعالى يبدأ بذكر الموت الذي هو الطريق إلى لقاء الله سبحانه، فلا ننسى هادم اللذّات(1)، ولا نفرّ من ذكره لأنّ في ذكره حياة القلوب والخروج من الغفلة واليقظة من النوم فلذا نجد الآيات القرآنية الكريمة تؤكّد هذا المعنى في أكثر من موضع في الكتاب الكريم كقوله تعالى:
{إنَّا للهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ}(2).
ففيها إشارة إلى نهاية المطاف، فالله تعالى هو الغاية بعد أن كانت منه البداية، فهذه الآيات الصريحة في ظاهرها والعميقة في باطنها لا تنفكّ عن ذكر المنتهى ولا تقصر في بيان السلوك إلى الله تعالى، فآية تتكلّم عن المنتهى فتقول:
{وَأنَّ إلَى رَبِّكَ المُـنْـتَهَى}(3).
وآية تبيّن حركة وسير الإنسان فتقول:
{إنَّكَ كَادِ حٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}(4).
____________
1- إشارة إلى الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، يقول: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كثيراً ما يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول: أكثروا ذكر الموت فإنّه هادم اللذّات، حائل بينكم وبين الشهوات (القلب السليم: 63).
2- البقرة: 156.
3- (النجم: 42)، وآية تقول: (ألا إلَى اللهِ تَصِيرُ الاُمُورُ) (الشورى: 53)، وهناك آية اُخرى تقول: (وَإلَى اللهِ المَصِيرُ) (آل عمران: 28، النور: 42، فاطر: 18).
4- الانشقاق: 6.
____________
1- ولذلك نجد الإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول في دعائه: «أستجير يا ذا العفو والرضوان من الظلم والعدون ـ إلى أن يقول: ـ ومن انقضاء المدّة قبل التأهّب والعدّة» (مفاتيح الجنان: 23).
2- هذه إشارة إلى قوله تعالى: {يَا أيَّـتُهَا النَّـفْسُ المُطْمَـئِـنَّةُ * ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} (الفجر: 27 ـ 28).
3- وورد في حبّهم عن عليّ بن الحسين عن أبيه عن جدّه أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) «أخذ بيد حسن وحسين وقال: من أحبّني وأحبّ هذين وأباهما واُمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة» (كشف الغمّة 1: 89)، عن مسند أحمد بن حنبل 1: 7.
فعندما نقف امام آيات القرآن الكريم نجد آية تتكلّم عن التسخير أي عن الرحمة الإلهية، وآية اُخرى تتكلّم عن تحصيل العلم:
{اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَات وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَـنَزَّلُ الأمْرُ بَـيْـنَهُنَّ لِـتَعْلَمُوا أنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ وَأنَّ اللهَ قَدْ أحَاطَ بِكُلِّ شَيْء عِلْماً}(2).
وآية اُخرى تتكلّم عن عبادة الله سبحانه، ففي هذه الآيات الثلاثة تتبيّن فلسفة الخلقة الكونية، ولكنّ العبادة التي ذكرت في الآية: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِـيَعْبُدُونِ}(3)، المراد منها المعرفة لأنّ المعرفة تدلّ الإنسان على العمل وتدعوه إلى أنواع العبادات والتي على رأسها الدعاء، فلذا يذكرون أنّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان رجلا دعّاءً(4)، لأنّ الدعاء مخّ العبادة(5)،
____________
1- وحديث آخر في معناه عن الإمام الصادق (عليه السلام): «ما أحبّ الله من عصاه» قصار الجمل 2: 40.
2- الطلاق: 12.
3- الذاريات: 56.
4- إشارة إلى الحديث الشريف عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) رجلا دعّاءً» اُصول الكافي 2: 457.
5- هذه إشارة إلى الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «الدعاء مخّ العبادة» الوسائل 2: 1087.
____________
1- نهج البلاغة ـ قصار الجمل.
2- قصار الجمل ; للمشكيني 2: 59.
3- أي أنّه تعالى هو الكمال الحقّ الذي لا نهاية له ولا حدّ ولا مقيّد بقيد، كما أنّ له كلّ الكمال، وكلّ كامل غيره ناقص.
____________
1- دعاء عرفة للإمام الحسين (عليه السلام)، مفاتيح الجنان: أعمال يوم عرفة.
2- هناك معرفتان: معرفة للعلّة من خلال المعلول ويسمّى هذا بالبرهان اللمّي، ومعرفة المعلول بالعلّة ويسمّى بالبرهان الإنّي.
فالشجرة المحمّدية(2) والدوحة العلوية هي التي تستحقّ الفيض الإلهي ومن يسير عل نهجهم، وباقي الناس كالحشيش يطئه المارّة بأقدامهم (عليّ الدرّ والذهب المصفّى وباقي الناس كلّهم تراب)، فالذي يستظلّ بهذه الشجرة هو الذي فكّر وعرف الحقّ، وصار تفكيره في ساعة خير من عبادة سبعين عاماً، فبالتفكّر تفتح الآفاق الجديدة، وبالتأمّل تذهب الغفلة، وبالتعقّل يذكر الإنسان ربّه.
____________
1- الأسفار 7: 148.
2- هذه إشارة إلى الحديث الذي صدر عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) وقد ذكره الشهيد نور الله التستري في الجزء الخامس، الصفحة 256، وذكر الحديث عن كتب العامّة كما في المستدرك للحاكم النيسابوري والخطيب البغدادي فليراجع إلى إحقاق الحقّ 5: 256.
ونصّ الحديث «عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول لعليّ: يا عليّ، الناس من شجر شتّى وأنا وأنت من شجرة واحدة...».