(المحاضرة الثانية)
بعد البسملة والحمد والصلاة:
لقد ورد في الحديث الشريف المعروف بحديث المعراج: «يا أحمد، لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا عليّ لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما»(1).
فالحديث عن المعاني السامية والمضامين العميقة في هذا الخبر الشريف إنّما يحتاج إلى مقدّمات حتّى يتبيّن من خلالها معنى هذا الكلام الأقدس، ويتبيّن أيضاً مدى تطابقه مع الدليل العقلي فضلا عن الدليل النقلي.
ومثل هذا الحديث قد يثير التساؤلات الكثيرة في نفوس الذين لا يستطيعون هضم هذه المعاني.
فلذلك نصح بعض الأعلام أن لا تطرح مثل هذه العناوين، ولكنّي ذكرت له من الحجج التي تدفعني إلى التعريف بمقامات أهل البيت (عليهم السلام) ولا بدّ من معرفتهم بمعرفة جمالية، وفي هذا يتمّ لنا بيان ما لدينا من عقائد حقّة مبنيّة على الأدلّة العقلية والنقلية، ولا يهمّنا الردود السلبية التي تصدر من البعض فإنّها لا تشكّل
____________
1- فاطمة الزهراء (عليها السلام) ليلة القدر، بقلم سيّدنا الاُستاذ دامت إفاضاته.
وعلى كلّ حال لا اُريد أن أشغلكم بهذا، فإنّه من المسلّم أنّ من يزداد معرفةً يزداد كمالا وخضوعاً وأدباً، فلو دخل علينا رجل كبير السنّ فإنّه نحترمه ونوقّره من باب (وقّروا كباركم)، وإذا عرفنا أنّ هذا الرجل الكهل هو أحد مراجع التقليد فإنّه بلا شكّ يزداد احترامنا وتوقيرنا له ومحبّتنا فيه وإطاعتنا إيّاه، ومن هذا المنطلق من عرف النبيّ والأئمة الأطهار (عليهم السلام) بمعرفة جمالية، فإنّه يزداد مودّةً وتعظيماً وإطاعة، فيفوز بسعادة الدارين.
فاليوم نتكلّم عن سيّدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وهذا من وحي المناسبة(2) ولأنّ محبّيها يعيشون أحزان ذكرى شهادتها فنقول:
ثبت في محلّه أنّ الله سبحانه حكيم وعليم وقادر وجواد وحيّ، وله الأسماء الحسنى والصفات العليا، وإنّه الكمال المطلق، فلكلّ هذا خلق خلقاً، وخلق أرضاً وسماءً وما فيهما وما بينهما عن حكمة وعلم، فلم يكن خلقه لهذا الكون الكبير عبثاً.
فإذن لا بدّ أن نعرف سرّ هذه الخلقة، ونوجز هذا القول بكلمات قصيرة فنقول:
____________
1- مراد السيّد الاُستاذ أنّ هذه الردود لا تمنعنا لأنّها لم تكن موانع أو نواهي قال بها الشرع المقدّس، وإلاّ لو كانت كذلك لكان حرام علينا مخالفتها.
2- اختلفت الروايات والأقوال في يوم شهادة الزهراء (عليها السلام)، فقيل: أربعون يوماً بعد رحلة الرسول الأعظم، وقيل: خمسة وسبعين يوماً، وقيل: خمسة وتعسين يوماً، وإحياءً لأمرهم (عليهم السلام) يقام العزاء الفاطمي لمدّة ثلاثة أيّام أو اُسبوع على الأقوال الثلاثة، وكانت محاضرات سيّدنا الاُستاذ دام ظلّه في سوريا على القول الأوّل.
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ}(1).
ثمّ بيّن سرّ خلقة الإنسان بقوله عزّ من قائل:
{وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِـيَعْبُدُونِ}(2).
أي ليعرفون.
فإذن لا بدّ لنا من عبادة المنعم لنتكامل بهذه العبادة، إلاّ أنّ هذه العبادة على أقسام فمنها عبادة الأحرار ومنها عبادة التجّار ومنها عبادة العبيد(3)، ولكن كلّها تؤدّي إلى كمال الإنسان، فالإنسان يتكامل وكلّ شيء في عالم الوجود ما سوى الله تعالى في سير تكاملي، فالنواة تتكامل حتّى تصير شجرة مثمرة والنطفة تتكامل، فكلّ ما في الطبيعة يتكامل، إلاّ أنّ كماله محدود ببداية ونهاية، إلاّ الإنسان فإنّ له بداية ولا نهاية لكماله، لأنّ منتهاه هو الله ومقام الفناء فيه سبحانه
____________
1- الجاثية: 13.
2- الذاريات: 56.
3- هذه إشارة إلى الحديث الشريف عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنّ العباد ثلاثة: قوم عبدوا الله عزّ وجلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الاُجراء، وقوم عبدوا الله عزّ وجلّ حبّاً له فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة» اُصول الكافي 2: 89، وهناك حديث مثله لأمير المؤمنين يذكر فيه كلمة (تجّار)، ولا فرق لأنّ المعنى واحد.
{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}(1).
{وَأنَّ إلَى رَبِّكَ المُـنْـتَهَى}(2).
فالإنسان باعتبار جسده وأنّه من الطبيعة ومن التراب فهو محدود، ولكن باعتبار روحه وأنّه من السماء:
{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}(3).
فهو بلا نهاية.
فالروح تتكامل، وهي من الله تعالى وإليه ترجع.
{إنَّا للهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ}(4).
سؤال:
ما هو كمال الإنسان وبأيّ شيء يتكامل؟
يأتي الجواب من الإمامين الصادقين (عليهما السلام): «الكمال كلّ الكمال التفقّه في الدين، والصبر على النائبة، والتقدير في المعيشة»(5)، ولازم هذا الكمال الحركة أي أنّ كلّ شيء يتحرّك في ذاته كما يتحرّك في الخارج بحركة وضعيّة أو انتقالية فهذه الحركة الذاتية تسمّى بالحركة الجوهرية كما حقّق ذلك الفيلسوف الإسلامي صدر المتألّهين.
____________
1- طه: 114.
2- النجم: 42.
3- الحجر: 29.
4- البقرة: 156.
5- قصار الجمل ; للمشكيني 2: 55.
____________
1- هذه المراتب ذكرت في كتب الأخلاق، فكان أوّل هذه المراتب مرتبة علم اليقين وهو اعتقاد ثابت جازم مطابق للواقع كيقينك بوجود النار من مشاهدة الدخان، والمرتبة الثانية: عين اليقين، وهو مشاهدة المطلوب ورؤيته بعين البصيرة والباطن ومثاله التيقّن بوجود النار عند رؤيتها عياناً، وأمّا المرتبة الثالثة وهي حقّ اليقين وهو أن تحصل وحدة معنوية بين العاقل والمعقول ومثاله الحسّي اليقين بوجود النار بالدخول فيها من غير احتراق.
2- وتكون الدنيا متجراً لأولياء الله تعالى عندما يتّخذوها قنطرة للعبور إلى الجنّة وعندما يتّخذوها مزرعة للآخرة، بل إنّ العمل الصالح لا يكون إلاّ في الدنيا لأنّها دار التكليف، وبالعمل الصالح يكون الدخول إلى الجنّة أو الخلاص من النار أو الارتزاق بلقاء الله تعالى، وهذا ما تؤكّده الآية الكريمة: (هَلْ أدُ لُّـكُمْ عَلَى تِجَارَة تُـنجِيكُمْ مِنْ عَذَاب ألِيم * تُـؤْمِنُونَ بِاللهِ) (الصفّ: 10 ـ 11)، وورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إذا كنت في تجارتك وحضرت الصلاة فلا يشغلنّك عنها متجرك» والمتجر هو مكان التجارة، أي عليك أن تعمل في المتجر الحقيقي وأن تعمل بالتجارة الحقيقية الرابحة وإلاّ لو كان متجر الدنيا وتجارة الدنيا هي الحقّ لما أمرنا الإمام (عليه السلام) بعدم الانشغال في متجر الدنيا. وهناك كلام كثير لو أردنا أن نؤلّف فيه فصلا لتمّ لنا ذلك.
____________
1- العلم النافع: 158، وجاء عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة، ومفتاح كلّ سيّئة، وسبب إحباط كلّ حسنة»، إرشاد القلوب: 21.
2- الخصال للشيخ الصدوق والمواعظ العددية باب العشرين.
3- ورد حديث شريف يبيّن أنّ الدنيا والآخرة ضرّتان كما في قصار الكلمات ـ نهج البلاغة. ومراد سيّدنا الاُستاذ بأنّ حالة التنافس لا تحصل ولا يكون هناك نزاع بين الضرّتين إلاّ إذا فضّل صاحب الضرّتين إحداهما على الاُخرى، أي تعامل مع إحداهما بشيء من الاستقلال والميل بحيث يؤدّي إلى الإضرار بالاُخرى، ويؤيّد هذا الكلام قول النبيّ (صلى الله عليه وآله): «من أحبّ دنياه أضرّ بآخرته» الوسائل الباب61، الحديث 50 / عن قصار الجمل للمشكيني 1: 132.
فهناك أيّها الإخوة من يعيش الآخرة وهو في هذه الدنيا وهذا ما حصل لأمير المؤمنين (عليه السلام)، فلذلك يقول: «جلوسي في المسجد أحبّ إليّ من جلوسي في الجنّة»، ولمّا سئل: لماذا؟ قال: لأنّ الجلوس في المسجد رضا ربّي، والجلوس في الجنّة رضا نفسي، ورضا ربّي أولى من رضا نفسي، فعلى هذا يكون المسجد جنّة أمير المؤمنين (عليه السلام)، ودخوله فيه يعني دخوله في جنّته. وهناك روضات من الجنّة في الدنيا والداخل إليها داخل إلى الجنّة، كما جاء في الخبر: إنّ قبر الإمام الرضا (عليه السلام) روضة من رياض الجنّة، وكذلك ما بين منبر النبيّ (صلى الله عليه وآله)وداره، فهذه روضات حقيقية لا مجازية، كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام)(1).
سؤال في محلّه:
ذكر الحديث عن الإمامين (عليهما السلام) يوحي بوجود ترابط بين التفقّه بالدين والصبر على النائبة والتقدير في المعيشة، فما وجه هذا الترابط؟
الجواب:
الكمال يبدأ بالحركة الاقتصادية، لأنّها العون في تحقّق الحركة العلمية
____________
1- جاء في الحديث الشريف عن الإمام الرضا (عليه السلام): «قال: إنّ في خراسان بقعة سيأتي عليها زمان تكون مختلف الملائكة لا تزال تهبط فيها فوج من الملائكة وتصعد فوح... إلى أن يقول: وإنّها والله روضة من رياض الجنّة من زارني فيها كان كمن لو زار رسول الله (صلى الله عليه وآله)» مفاتيح الجنان: 496، وأمّا الحديث عن أنّ ما بين منبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) وقبره أو داره روضة من رياض الجنّة فهذا أشهر من أن نكتب عنه شيئاً، وهذه الروضات روضات حقيقية أي لا يكون الجالس فيها كأنّها في روضة بل هو في روضة حقيقية، وكما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) عندما سأله السائل: هل هذه روضة حقيقية؟ أجابه: لو كشف لك لرأيت ذلك.
والتفقّه في الدين يعني العلم الإلهي الذي فيه نفع الدنيا والآخرة، ولكن لهذا الفقه ولهذه الحركة العلمية مقدّمات دينية ودنيوية، فإذا أردت التكامل لا بدّ من زيادة علمك حتّى تنال السعادة التي ستُغبط عليها من قبل الآخرين، كما ورد في الحديث الشريف: «فمن كان يومه خيرٌ من أمسه فهو مغبوط، ومن كان أمسه خيرٌ من يومه فهو ملعون»، أي مطرود من رحمة الله تعالى.
فعليك بملازمة العلماء والحضور في مجالسهم، وإلاّ سينالك الخذلان كما ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعاء أبي حمزة الثمالي: «أو لعلّك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني»(1)، وهذا الخذلان يصيب الفرد البعيد عن مجالس العلماء، وكذلك يصيب المجتمع الذي استهان بالعلم والعلماء فيصاب عندها بالتخلّف والأمراض الاجتماعية.
____________
1- مفاتيح الجنان: 191.
(المحاضرة الثالثة)
بعد البسملة والحمد والصلاة:
لا زلنا وإيّاكم في رحاب سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام) لنتمّ الحديث عن كونها سرّ الوجود، بل هي سرّ السرّ، وإنّها جمال الله وعصمته الكبرى، وعلى معرفتها دارت القرون الاُولى.
لقد مرّ علينا في الأبحاث السابقة أنّ فلسفة الحياة وسرّ الخلقة والوجود سيّما خلقة الإنسان هو التكامل ونيل الرتبة التي وضعت لهذا الموجود الأشرف، كما ذكرنا أنّ الكمال كلّ الكمال هو التفقّه في الدين، وعبّرنا عن ذلك بالحركة العلمية ثمّ يتلوه الكمال الآخر وهو الصبر على النائبة وعبّرنا عنه بالحركة الأخلاقية، باعتبار أنّ الصبر أساس الأخلاق، وآخره الاقتصاد في المعيشة، وعبّرنا عن الأخير بالحركة الاقتصادية.
ولو أردنا تسليط الضوء على الحركة الثانية التي هي الحركة الأخلاقية فلا بدّ من القول بأنّ الصبر أساس الأخلاق وبه يتمّ طيّ المراحل الأخلاقية الثلاثة التي هي التخلية والتحلية والتجلية ـ كما عند علماء الأخلاق والسير والسلوك ـ، ليصل المرء إلى تهذيب النفس وكمالها، فلا بدّ من تخلية الروح والقلب من
{وَلاَُغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ * إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ}(1).
فإذن أبدى الشيطان استعداده لإغواء الجميع حتّى طبقة المخلِصين، ولكنّه عبّر عن عجزه من أن ينال الطبقة الرفيعة التي هي طبقة المخلَصين(2).
فلا بدّ من الوصول إلى تلك الرتبة الأخلاقية العالية وذلك بطوي مراحل الإخلاص التي لا تتمّ إلاّ باجتياز المراحل الأخلاقية الثلاثة التي أساسها الصبر، الذي يتجلّى في النوائب والمصائب، وإنّه من أكمل مصاديق الصبر.
ثمّ لو أردنا التحرّك في الحركة الثالثة التي هي الحركة الاقتصادية والتي عبّر عنها في الحديث الشريف «والتقدير في المعيشة» لا بدّ لنا من اتخاذ الحدّ الوسط في طريقة العيش لكي نبتعد عن الإفراط والتفريط، وهذا معنى الاقتصاد فإنّه لغة من القصد بمعنى الحدّ الوسط.
فهذه هي الحركات الثلاثة التي يحتاجها الإنسان للوصول إلى كماله الذي هو هدف وجوده وسرّ خلقته.
____________
1- الحجر: 39 ـ 40. (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَُغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ * إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ)(ص: 82 ـ 83).
2- طبقة المخلِصين ـ بكسر اللام (اسم فاعل) ـ: هم الذين أخلصوا لله تعالى قولا وفعلا ونيّةً، وطبقة المخلَصين ـ بفتح اللام (اسم مفعول) ـ هم الذين استخلصهم الله تعالى لنفسه بعد أن تحلّوا بالإخلاص وعلم منهم ثباتهم عليه طول حياتهم.
إنّ كمال الإنسان في الرتبة الاُولى هو تحصيل العلم، ومحور هذا العلم هو التفقّه في الدين الذي يبتني على اُصول خمسة كما هو معتقد الشيعة وفروع عشرة(1)، ومن هذه الاُصول الخمسة التي يجب الاهتمام بمعرفتها أصل الإمامة، وممّا يبحث في هذا الأصل هو الاعتقاد بأنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) سرّ الوجود.
والذي نبغيه من هذا البحث الولائي هو إثبات العقيدة الصحيحة بالبرهان العقلي والدليل النقلي ثمّ العمل على ضوء هذه العقيدة الصحيحة لأنّ الحياة عقيدة وجهاد، ولا يصحّ الجهاد من أجل عقيدة فاسدة، فلا بدّ من إثبات صحّة هذه العقيدة وتثبيتها، فما ذكرناه كان من المقدّمة للحديث عن فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين (عليها السلام).
فالحديث عن الخبر الشريف: «لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا عليّ لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما»، يحتاج إلى مقدّمة، فنقول:
إنّ الوجود أمر بديهي لا يحتاج إلى تعريف، وما ذكر له من تعاريف بأنّه
____________
1- اُصول الدين خمسة حسب ما يعتقده الشيعة، وهذا القول في قبال من يعتقد أنّها ثلاثة، فلذلك يذهب البعض من العلماء إلى تسميتها باُصول المذهب، والحقّ أنّها اُصول للمسلمين جميعاً، ولكن رفض بعض المسلمين أن تكون الإمامة من الاُصول وجعلها فرعاً من فروع الدين كما أنّه رفض تسمية العدل الإلهي أصلا لشبهة في أذهانهم، ولهذا صارت عندهم ثلاثة، وقد ذهب إلى هذا المعنى السيّد الاُستاذ في دروس اليقين في معرفة اُصول الدين ـ المجلّد الأوّل من موسوعته الكبرى (رسالات إسلامية)، فراجع.
فعندنا الموجود هو ذات، أو قل: ماهيّة ثبت لها الوجود، كالإنسان فإنّه ذات ثبت لها الوجود فيسمّى موجوداً.
فإذن هناك فرق بين الوجود وبين الموجود، ثمّ إنّ الله تعالى علّة العلل والعلّة الاُولى للكون، فهو الأوّل وهو الآخر، وهو الظاهر وهو الباطن، أزلي سرمدي. وساُوضح هذا لأنّ فيه شيئاً من الصعوبة لوجود هذه المصطلحات الغريبة على البعض، ولكن لا بدّ من الثقافة لأنّ المجتمع الشيعي هو الأجدر بمثل هذه الثقافة، فأقول: إنّ العلل على أربعة أقسام(3)، وقبل معرفة هذه الأقسام لا بدّ من معرفة العلّة، فالعلّة هي الشيء الذي يؤثّر في شيء آخر وهذا الشيء الآخر المتأثّر يسمّى المعلول، مثلا (النار والحرارة)، ولا ينفكّ المعلول عن علّته إلاّ
____________
1- توضيح هذا الكلام مفصّلا في بداية الحكمة للعلاّمة الطباطبائي في المرحلة الاُولى من الكتاب في الفصل الأوّل، الصفحة 10.
2- ورد في منظومة السبزواري عن مفهوم الوجود هذا البيت من الشعر:
مفهومه من أعرف الأشياءِ | وكنهه في غاية الخفاءِ |
الصفحة 4 من المنظومة.
3- تنقسم العلّة إلى أقسام متعدّدة بلحاظ جهات مختلفة، فمن تقسيماتها أنّها تنقسم إلى علل داخلية وتسمّى (علل القوام)، وهي المادّة والصورة المقوّمتان للمعلول، وإلى علل خارجية وتسمّى (علل الوجود) هي الفاعل والغاية، وربما سمّي الفاعل (ما به الوجود) والغاية (ما لأجله الوجود).
____________
1- العلّة التامّة هي التي يصدر عنها المعلول من دون أن يقلّ من العلّة شيئاً كشاعريّة الشاعر وتكلّم المتكلّم، فيصدر الكلام منه من دون أن ينقص من علّيته شيئاً، بخلاف العلّة الناقصة.
2- العلّة الفاعليّة: هي التي تفيض وجود المعلول وتفعله، العلّة الغائية: وهي الكمال الأخير الذي يتوجّه إلى الفاعل في فعله، العلّة الصوريّة: هي الصورة للشيء وهي تشترك في تركيب الشيء مع العلّة المادّية التي هي مادّة الشيء.
3- المجلّد الخامس من الموسوعة الكبرى (رسالات إسلاميّة)، وهذه الموسوعة عبارة عن أكثر من مئة وخمسين كتاباً ورسالة بقلم سيّدنا الاُستاذ في مئة مجلّد، طبع منها (12) مجلّداً، والموسوعة تضمّ علوم وفنون إسلامية مختلفة.
فالصادر الأوّل لله تعالى هو نور النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وببركته خلق هذا الكون، وهذا المعنى موجود في الفلسفة المشائية والإشراقية معاً، فإنّ المشّائين يقولون بالعقول العشرة أي أنّ العقل الأوّل باعتبار وجوده وماهيّته خلق العقل الثاني والفلك الأوّل، وهكذا حتّى يصلوا إلى العقل العاشر، وهو العقل الفعّال المدبّر لهذا الكون الطبيعي، كما أنّ الإشراقيين يقولون إنّ الله تعالى صدر منه العقل الأوّل ثمّ أرباب العقول لهذا الكون(1)، إذن هم يعتقدون بالعلّة والمعلول، ولا بدّ منهما في هذا الخلق لقاعدة الأشرف(2)، فإنّ الله تعالى خلق الكائنات ببركة النبيّ وأهل بيته (عليهم السلام) لأنّهم نور واحد كما ورد في الحديث: «أوّلنا محمّد وأوسطنا محمّد وآخرنا محمّد بل كلّنا محمّد»(3)، فهم نور واحد في الحقيقة المحمّدية والولاية الإلهية العظمى، وأمّا اختلافهم فهو في الشؤون، فكلّهم جواد، وكلّهم
____________
1- يقول المشّائون إنّ العقول عشرة والصادر الأوّل هو العقل الأوّل ثمّ هذا العقل الأوّل أوجد الفلك الأوّل والعقل الثاني، وإنّ العقل الثاني أوجد الفلك الثاني والعقل الثالث، وهكذا حتّى يصلوا إلى العقل العاشر الذي يسمّى بالعقل الفعّال، ويقول الإشراقيون إنّ في الوجود عقولا عرضية لا علّية ومعلولية بينها وهي تدبّر الأنواع المادية وتسمّى بـ (أرباب الأنواع)، و (المثل الأفلاطونية)، وفي هذا كلام مفصّل يؤخذ من مصادره الفلسفية.
2- مفاد قاعدة إمكان الأشرف: أنّ الممكن الأشرف يجب أن يكون أقدم في مراتب الوجود من الممكن الأخسّ، فلا بدّ أن يكون الممكن الذي هو أشرف منه قد وجد قبله، وهذا مرتبط بوجود العلّة التي هي أشرف من المعلول فتكون قبله من حيث الوجود.
3- بحار الأنوار.
____________
1- اُصول الكافي 2: 5، باب طينة المؤمن والكافر.
____________
1- مراده حفظه الله تعالى في المسؤولية ليس هي الخلافة الحكومية بل مراده إيصال الناس إلى المطلوب، وهذا لا يتمّ إلاّ للمعصوم، علماً أنّ الخلافة شأن من شؤون الإمامة، والإمام إمام مسؤول نائب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) سواءٌ كان خليفة أم لم يكن لأنّ الإمامة غير الحكومة واستلام المنصب.
2- قاعدة السنخية: مفادها أن يكون بين العلّة والمعلول رابطة تكوينية وذاتية غير موجودة بين تلك العلّة ومعلول آخر أو بين ذلك المعلول وعلّة اُخرى، وإذا لم تكن هذه الرابطة يلزم أن يصدر كلّ شيء من كلّ شي.
مثال ذلك: (النار علّة لوجود الحرارة للسنخية بينهما ولولا السنخية لجاز أن تصدر البرودة من النار، وهذا محال)، والسنخية علّة الانضمام.
ومن هذا المنطلق يقال: السنخية علّة الانضمام.
____________
1- آل عمران: 61.