الصفحة 73

العصمة الفاطميّة


أشهد أنّ فاطمة عصمة الله

إنّ الله سبحانه وتعالى هو الحكيم العليم المختار، وقد اختار من خلقه صفوةً ليحملوا رسالاته السماوية، ويبلّغونها ويهدون الناس سواء السبيل وإلى الصراط المستقيم، فإنّه كتب على نفسه الرحمة، فهو اللطيف الخبير، ومن لطفه اختار الأنبياء والرسل للهداية وليقوموا الناس بالقسط، ثمّ اختار الأوصياء خلفاء، ثمّ وفّق العلماء ورثة الأنبياء.

وقد اشترط على الأنبياء الزهد في هذه الدنيا، فإنّ اختيار الله بالاختبار والامتحان والاصطفاء عن حكمة، من دون الوصول إلى حدّ الإلجاء، وإنّ لله الحجّة البالغة، فلا بدّ من اختبار لمن يقع عليه الاختيار ولغيره حتّى لا تكون فتنة، ويكون الدين كلّه لله.

فاختبر الأنبياء والأوصياء في عوالم تسبق هذا العالم الناسوتي، فشرط الله سبحانه عليهم الزهد، وعلم منهم الوفاء فقبلهم وقرّبهم وقدّم لهم الذكر العلي والثناء الجلي، كما جاء ذلك في دعاء الندبة(1).

____________

1- راجع آخر مفاتيح الجنان دعاء الندبة الذي يستحبّ قراءته في كلّ عيد وفي يوم الجمعة.


الصفحة 74
وإنّما اشترط عليهم الزهد، لأنّ حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة، والنبيّ والوصيّ لا بدّ أن يكون معصوماً بقاعدة اللطف وغيره من الأدلّة العقلية والنقلية.

فلا بدّ أن يزهد في دنياه، ويُعصم من الذنوب ومن كلّ ما يشينه مطلقاً، حتّى تطمئنّ النفس إليه، ويؤخذ بقوله وفعله وتقريره مطلقاً، فيكون الاُسوة والقدوة على الإطلاق.

وهذا الزهد من شؤون القيادة بصورة عامة المتمثّلة بالنبوّة والإمامة، ومن يحذو حذوهم ويسلك مسالكهم ومناهجهم من العلماء الصالحين.

فيشترط على العالم الرباني الزهد في هذه الدنيا أيضاً، حتّى يؤخذ بقوله ويتّبع أمره، وإذا رأيتم العالم زاهداً فادنوا منه فإنّه يلقى عليه الحكمة وإنّها تتفجّر من ينابيع قلبه، وإنّ الله يرفده ويضيّفه على موائد علمه وحكمته، وإذا رأيتم العالم مقبلا على دنياه، يخلط الحرام بالحلال، فاتّهموه في دينه، فإنّه لا يؤخذ منه العلم، فلينظر الإنسان إلى علمه ممّن يأخذه، فإنّه من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن تكلّم عن الله فقد عبد الله وإلاّ فلا، فمن ينطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان، وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم.

فمن أوّليات شؤون الإمامة والقيادة الروحية على الصعيدين الفردي والاجتماعي إنّما هو الزهد في درجات هذه الدنيا الدنيّة وزخرفها وزبرجها.

فعصمة الأنبياء الذاتية المطلقة تبتنى على العلم اللدني أوّلا ـ كما هو ثابت في محلّه ـ وعلى الزهد ثانياً.

وأمّا عصمة فاطمة الزهراء (عليها السلام):

فقد اختار الله من خلقه واختصّها لذاته واصطفاها لنفسه ليتجلّى فيها أسماؤه وصفاته، وتكون مظهراً لجماله، فإنّه لو كان الحُسن شخصاً لكان فاطمة

الصفحة 75
بل هي أعظم، فقدّم لها الذكر العليّ والثناء الجليّ، بعد أن اختبرها وامتحنها أيضاً. إلاّ أنّها امتحنها بالصبر، والصبر كما ذكرنا تكراراً هو اُمّ الأخلاق وأساسه، فإنّها بمراحلها الثلاثة ـ التخلية والتحلية والتجلية ـ مدعومة بالصبر، كما أنّه أساس الكمال.

وإنّما وقفنا على امتحانها بالصبر باعتبار ما ورد في زيارتها في يوم الأحد من كلّ اُسبوع، كما في مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمّي (قدس سره): «السلام عليكِ يا ممتحنة قد امتحنكِ الله قبل أن يخلقكِ بالصبر فوجدكِ لما امتحنكِ صابرة».

فتجلّت العصمة الإلهية في جمال فاطمة الزهراء إذ جمعت بين نوري النبوّة والإمامة، فعصمتها من العصمة بالمعنى الأخصّ، المختصّة بالأربعة عشر معصوم (عليهم السلام).

وممّا يدلّ على عصمتها:

1 ـ آية التطهير في قوله تعالى: {إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَـيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(1)، فالله الطاهر طهّر بإرادة تكوينية أهل البيت (عليهم السلام)ومنهم فاطمة (عليها السلام) وعصمهم بعصمة ذاتية ومطلقة واجبة عقلا ونقلا.

2 ـ إنّها عدل القرآن الكريم لحديث الثقلين المتّفق عليه عند الفريقين ـ السنّة والشيعة ـ ولمّا كان القرآن معصوماً فكذلك عدله أهل البيت عترة الرسول المصطفى (عليهم السلام).

3 ـ إنّها كفؤ عليّ ولولاه لما كان لها كفؤ آدم وما دونه، ولا يتزوّج المعصومة إلاّ المعصوم، فإنّ الرجال قوّامون على النساء، فلفاطمة ما لعليّ (عليهما السلام) إلاّ الإمامة.

____________

1- الأحزاب: 33.


الصفحة 76
فكلّ ما ثبت لعليّ (عليه السلام) بالمطابقة ثبت للزهراء (عليها السلام) بالالتزام، وكلّ شيء ثبت لفاطمة بالمطابقة ثبت بالدلالة الالتزاميّة لأمير المؤمنين عليّ (عليه السلام).

4 ـ إنّها حوريّة بصورة إنسية، والملائكة معصومون فكذلك فاطمة الحوريّة.

5 ـ وحدة الإرادة الإلهيّة والفاطميّة، فإنّ الله يرضى لرضاها ويغضب لغضبها، وإنّه لم يغضب ليونس صاحب الحوت، بل يغضب لغضبها، فوحدة الإرادة دليل على العصمة.

6 ـ إنّها سيّدة النساء في الدنيا والآخرة، وكيف تكون سيّدة الأوّلين والآخرين وهي غير معصومة.

7 ـ آية المباهلة، وقدّم النساء على الأنفس، ربما إشارة إلى أنّ النفوس فداها، «فداكِ أبوكِ» «فداها أبوها».

8 ـ إنّها العالم العلوي والعالم السفلي في قوسي الصعودي والنزولي.

9 ـ إنّها صدر النبيّ (صلى الله عليه وآله) وإنّ صدره يحمل القرآن دفعة واحدة وفي ليلة القدر، في ليلة القدر وهي فاطمة الزهراء (عليها السلام).

10 ـ لا يعرف قدرها إلاّ من قدّرها، ولا يعرف أسرارها إلاّ من خلقها، ومن أذن له الرحمن.

11 ـ إنّها مفروض الطاعة على الخلق مطلقاً، وكيف تكون مفروض الطاعة على الإطلاق وهي غير معصومة.

12 ـ هي حجّة الحجج واُسوتهم ـ كما ورد في الأخبار الشريفة ـ.

13 ـ مجمع النورين بحديث الأفلاك، فتحمل أسرار النبوّة والإمامة، وإنّها اُمّ أبيها.


الصفحة 77
14 ـ حبل الله الممدود، فلا بدّ أن يكون معصوماً، وإلاّ كيف يتمسّك على الإطلاق بما لم يكن معصوماً، «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): فاطمة بهجة قلبي وحبله الممدود بينه وبين خلقه، من اعتصم به نجا، ومن تخلّف عنه هوى»(1).

15 ـ امتحانها بالصبر وهو أساس الكمال والأخلاق الذي منها الزهد.

16 ـ علمها اللدنّي.

17 ـ الإجماع القطعي الدالّ على عصمتها، كما عند المشايخ الصدوق والمفيد والطوسي وغيرهم.

18 ـ الآيات والروايات الكثيرة الدالّة على فضلها وعظمتها، وتعلّقها بعالم الغيب.

19 ـ سيرتها وحياتها يفوح منها عطر العصمة الإلهيّة.

ووجوه اُخرى يقف عليها المحقّق والمتتبّع، ويعلم بيقين وقطع أنّه لا ريب ولا شكّ أنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) عصمة الله الكبرى.

____________

1- فرائد السمطين 2: 66.


الصفحة 78

الشرافة العنصريّة


الحوراء الإنسيّة

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لو كان الحسن شخصاً لكان فاطمة، بل هي أعظم، فإنّ فاطمة ابنتي خير أهل الأرض عنصراً وشرفاً وكرماً»(1).

فقوله: «لو كان الحسن شخصاً لكان فاطمة» يعني أنّها جمال الله وحسنه.

ثمّ خلق الله سبحانه آدم أبا البشر من ماء وتراب بيد ملائكته، فهو في خلقته العنصريّة من العناصر الأربعة المادّية، ولكن خلق فاطمة الزهراء (عليها السلام) في خلقتها العنصرية إنّما كان من شجرة طوبى في الجنّة التي غرسها الله بيده يد القدرة المطلقة، فهي من عنصر ملكوتي في صورة إنسان ناسوتي، فهي الحوراء الإنسيّة.

عن العيون وأمالي الشيخ بسندهما، قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): لما عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل فأدخلني الجنّة، فناولني من رطبها، فأكلت فتحوّل ذلك نطفة في صلبي، فلمّا هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة حوراء إنسيّة، فكلّما اشتقت إلى رائحة الجنّة شممت رائحة ابنتي فاطمة(2).

____________

1- فرائد السمطين 2: 68.

2- البحار 8: 119.


الصفحة 79
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يكثر تقبيل فاطمة عليها وعلى أبيها وبعلها وأولادها ألف ألف تحيّة وسلام، فأنكرت عائشة ذلك فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا عائشة، إنّي لمّا اُسري بي إلى السماء دخلت الجنّة فأدناني جبرئيل من شجرة طوبى وناولني من ثمارها فأكلته فحوّل الله ذلك ماءً في ظهري، فلمّا هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة، فما قبّلتها قطّ إلاّ وجدت رائحة شجرة طوبى منها(1).

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: شجرة طوبى شجرة يخرج من جنّة عدن غرسها ربّها بيده(2).

عن حارثة بن قُدامة قال: حدّثني سلمان قال: حدّثني عمّار وقال: اُخبرك عجباً؟ قلت: حدّثني يا عمّار؟ قال: نعم شهدت عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وقد ولج على فاطمة (عليه السلام) فلمّا أبصرت به نادت: اُدن لاُحدّثك بما كان وبما هو كائن وبما يكن إلى يوم القيامة حين تقوم الساعة. قال عمّار: فرأيت أمير المؤمنين (عليه السلام)يرجع القهقرى، فرجعت برجوعه إذ دخل على النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقال له: اُدن يا أبا الحسن، فدنا فلمّا اطمأنّ به المجلس قال له: تحدّثني أم اُحدّثك؟ قال: الحديث منك يا رسول الله، فقال: كأنّي بك قد دخلت على فاطمة وقالت لك كيت وكيت فرجعت، فقال عليّ (عليه السلام): نور فاطمة من نورنا؟ فقال (عليه السلام): أوَ لا تعلم؟ فسجد عليّ شكراً لله تعالى. قال عمّار: فخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) وخرجت بخروجه، فولج على فاطمة (عليها السلام) وولجت معه، فقالت: كأنّك رجعت إلى أبي (صلى الله عليه وآله)فأخبرته بما قلته لك؟ قال: كان كذلك يا فاطمة، فقالت: اعلم يا أبا الحسن إنّ الله

____________

1- المصدر: 120.

2- المصدر: 143، عن العيّاشي.


الصفحة 80
تعالى خلق نوري، وكان يسبّح الله جلّ جلاله، ثمّ أودعه شجرة من شجر الجنّة، فأضاءت، فلمّا دخل أبي الجنّة أوحى الله تعالى إليه إلهاماً أن اقتطف الثمرة من تلك الشجرة وأدرها في لهواتك، ففعل، فأودعني الله سبحانه صلب أبي (صلى الله عليه وآله) ثمّ أودعني خديجة بنت خويلد، فوضعتني، وأنا من ذلك النور، أعلم ما كان وما يكون وما لم يكن، يا أبا الحسن، المؤمن ينظر بنور الله تعالى(1).

عن زيد بن موسى بسنده عن عليّ (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّ فاطمة خُلقت حورية في صورة إنسيّة، وإنّ بنات الأنبياء لا يحضن(2).

ففاطمة الزهراء حوراء إنسيّة، اشتقّ اسمها من اسم الله ومسمّاها من شجرة غرسها الله بيده، فما أحلى اسمها ومعناها وجمالها وكمالها وجلالها.

«سبحان من فطم بفاطمة من أحبّها من النار»(3).

____________

1- بهجة قلب المصطفى: 287، عن عوالم المعارف 11: 6 ـ 7.

2- دلائل الإمامة: 52.

3- مصباح المتهجّد ; للشيخ الطوسي، في أعمال شهر رمضان: 575.