الصفحة 101

وهكذا حين يقرأ الطالب السنّي الذي يعيش وسط ملايين من الشيعة، قول الدكتور عبد اللّه محمد الغريب بأنّ الشيعة تعتقد بأنّ نكاح الأمّ هو من البرّ بالوالدين، وأنّه عندهم من أعظم القربات(1)، فيعلم يقيناً بأنّه ليس في هذا المؤلّف أثر من الديانة والتقوى.

أيّها الأخ العزيز، هل يسمح أمثال جنابكم، إذا قرأنا ما نسب إلى الخطابيّة والحدثيّة (وهما فرقتان من أهل السنّة المعتزلة) من أنّهم يذهبون إلى إثبات حكم من الأحكام الإلهيّة في المسيح موافقة للنصارى وإلى التناسخ(2). و...الخ، ثمّ نقول: إنّ ذلك إذن هو معتقد جميع أهل السنّة؟!

وهل من الإنصاف أنّ من قرأ عن أبي حنيفة، أنّه يقول: "لا يجب الحدّ بوطء من استأجر امرأة ليزني بها"(3) ثمّ ينسب ذلك إلى جميع أهل السنّة؟

وقد روى الخطيب بإسناده عن أبي بكر بن عيّاش، أنّه قال لحفيد أبي حنيفة: "كم من فرج حرام أباحه جدّك" ؟(4) ونقل ابن حبّان عن هدبة بن عبد الوهاب أنه كان يقول:


فكم من فرج محصنة عفيفهأحلّ حرامها بأبي حنيفة

____________

(1) وجاء دور المجوس: 222.

(2) الملل والنحل: ج1 ص60. عند ذكر عقائد الخطابيّة والحدثيّة.

(3) البحر الرائق لابن نجيم المصري: ج5 ص30، والمغني، ابن قدامه: ج10 ص194. مستدلاً: بأنّ ملكه لمنفعتها شبهة دارئة للحدّ.

(4) تاريخ بغداد: ج13 ص410.

(5) المجروحين، ابن حبان: ج3 ص72 والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد لابن الدمياطي: ج2 ص84.


الصفحة 102

وهنا أستلطف نظركم السامي إلى آراء بعض علماء الأزهر الشريف حول الشيعة الإماميّة التي صدرت بعد قراءة كتبهم:

يقول الأستاذ عبد الهادي مسعود الأبياري(1): "ليس من شكّ في أنّ المذهب الشيعي وهو فرع من أهمّ فروع المذاهب الإسلاميّة العامّة والذي يدين به أكثر من مائة مليون مسلم في أنحاء الهند وإيران والعراق.

ولقد تابعت كثيراً كتب الشيعة وتابعت مختلف الآراء التي قيل بأنّها تختلف عمّا يتّجه إليه أهل السنّة، فوجدته خلافاً على شكليّات لا أصل لها من جوهر الأمور"(2).

ويقول الدكتور أبو الوفاء التفتازاني(3): "وقع كثير من الباحثين سواء في الشرق أو في الغرب قديماً وحديثاً في أحكام كثيرة خاطئة عن الشيعة لا تستند إلى أدلّة أو شواهد نقليّة جديرة بالثقة، وتداول بعض الناس هذه الأحكام فيما بينهم دون أن يسألوا أنفسهم عن صحّتها وخطئها ... وممّا لا شكّ فيه أنّ أيّ باحث يتصدّى للبحث عن تاريخ الشيعة أو عقائدهم أو فقههم لابدّ له من الاعتماد أوّلاً وقبل كلّ شي على تراث الشيعة أنفسهم في هذه المجالات ... وكان من بين العوامل التي أدّت إلى عدم إنصاف الشيعة أيضاً، أنّ الاستعمار الغربي أراد في عصرنا هذا أن يوسّع هوّة الخلاف بين السنّة والشيعة، وبذلك تصاب الأمّة الإسلاميّة بداء الفرقة والانقسام، فأوحى إلى بعض المستشرقين من رجاله بتوخّي هذا الفنّ باسم البحث الأكاديمي الحرّ، وممّا يؤسف له أشدّ التأسّف أنّ بعض الباحثين من المسلمين في العصر الحاضر تابع أولئك المستشرقين في آرائهم دون أن يتفطّن إلى مراميهم".

____________

(1) هو معاون إدارة الثقافة والإرشاد الإسلامي القومي ومدير المكتبات العامّة بدار الكتب المصريّة.

(2) عصمة القرآن من الزيادة والنقصان: ص261، للأستاذ السيدّ مرتضى الرضوي عضو رابطة الأدب والحديث بالقاهرة.

(3) هو أستاذ الفلسفة الإسلاميّة بجامعة القاهرة.


الصفحة 103

إلى أن قال: "إنّ مدى الخلاف الموجود بين السنّة والشيعة ليس فيما يبدو لنا بأبعد ممّا هو موجود مثلا بين مذهبي الإمام مالك وأتباعه من أهل الرأي والقياس"(1).

ثانياً: غرابة الموضوع بحاجة إلى دليل ساطع

إذا كان المدّعى أمراً غريباً على العقول، فإثباته يحتاج إلى دليل ساطع مقنع، مثلاً إذا ادّعى القائل بأنّه كان في جانب البحر عدد كثير يتجاوز الآلاف من الناس، وتمكّن أحدهم من السير على وجه الماء دون الآخرين، فهذا أمر ممكن، ولكنّه من الغرابة بمكان، لا يحصل الإيمان به إلاّ بدليل قويّ، وما أشبه هذا المثال بنظريّة عدالة الصحابة; فإنّ كلّ من رأى النبيّ (صلى الله عليه وآله) ساعة أو يوماً أو أسبوعاً أو شهراً صار عادلاً، فهو وإن كان أمراً ممكناً غير محال، ولكنّه من الغرابة بمكان، إذ لم يتّفق ذلك لأحد من الأنبياء والمصلحين، ومن المعلوم أنّ عدد الصحابة يتجاوز مائة ألف(2) وإن كان عدد من سجلّت أسماؤهم أقلّ من عشرة آلاف(3)، فالقول بعدالتهم من أوّلهم إلى آخرهم وأنّهم رجال مثاليّون، من أغرب الغرائب الممكنة التي لا تثبت إلاّ بدليل قويّ يقطع جميع الشبهات حول عدالتهم.

____________

(1) مع رجال الفكر في القاهرة، الأستاذ السيّد مرتضى الرضوي: ج1 ص221،.

(2) كما قال أبو زرعة: قبض رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) عن مائة ألف وأربعة عشر ألفاً من الصحابة ممّن روى عنه وسمع منه، نقله السيوطي ثمّ ناقش فيه إلى أن قال: وروى الساجي في المناقب بسند جيّد عن الرافعي قال: قبض رسول اللّه (صلى الله عليه و سلم) والمسلمون ستّون ألفاً، ثلاثون ألفاً في المدينة وثلاثون ألفاً في قبائل العرب وغير ذلك، ومع هذا فجميع من صنّف في الصحابة لم يبلغ مجموع ما في تصانيفهم عشرة آلاف، مع كونهم يذكرون من توفّي في حياته ومن عاصره أو أدركه صغيراً. تدريب الراوي: ج2 ص220.

(3) كما صرّح محمد سعيد مبيّض في كتابه "موسوعة حياة الصحابة" ج1 ص6 بقوله: تكون موسوعتنا قد ضمّت أكبر عدد ممكن من الصحابة; لأنّ بعض المؤلّفين يذكر أسماء لا يعتبرها الآخرون من أصحابه، فجمعنا ما سجّل في كافّة هذه المراجع فبلغ عددهم (9333) تسعة آلاف وثلاثمائة وثلاث وثلاثون صحابيّاً.


الصفحة 104

ثالثاً: الصحبة ونفي البعد الإعجازي

إنّ الصحابة اختلفت مقدار صحبتهم للنبي (صلى الله عليه وآله)، فبعضهم صحب النبيّ (صلى الله عليه وآله) من أوّل ساعة من ساعات البعثة إلى آخر لحظة من لحظات حياته، وبعضهم أسلم بعد البعثة وقبل الهجرة، وكثير منهم أسلموا بعد الهجرة، وبعضهم أدركوا من الصحبة سنة أو شهراً أو أيّاماً أو ساعات.

فهل يصحّ أن يقال: إنّ صحبة ساعات أو أيّام، قلعت ما في نفوسهم من جذور غير صالحة، وملكات رديئة، وكوّنت منهم شخصيّات ممتازة تجعلهم أعلى وأجلّ من أن يقعوا في إطار التعديل والجرح؟

إنّ تأثير الصحبة عند من يعتقد بعدالة الصحابة كلّهم أشبه شيء بمادّة كيمياويّة تستعمل في تحويل عنصر كالنحاس إلى عنصر آخر كالذهب، فكأنّ الصحبة قلبت كلّ مصاحب ولو في مدّة ساعات، إلى إنسان مثاليّ يتحلّى بالعدالة، وهذا ممّا لا يقبله البرهان والعقل السليم؛ لأنّ الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)لم يقم بتربية الناس وتعليمهم عن طريق الإعجاز، قال تعالى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لأمَنَ مَن في الاَْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا}(1) و{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَــالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}(2)، بل قام بإرشاد الناس ودعوتهم إلى الحق مستعيناً بالأساليب المتعارفة، كتلاوة القرآن الكريم وبعث رسله ودعاة دينه إلى الأقطار، ونحو ذلك. والدعوة القائمة على هذا الأساس يختلف أثرها في النفوس حسب اختلاف استعدادها وقابليّاتها فلا يصحّ لنا أن نزن الجميع بكيل واحد.

____________

(1) الأنعام: 149.

(2) الأنعام: 149.


الصفحة 105

القرآن يمدح صنفاًً من الأصحاب كما يذم الآخر منهم

فلهذا نرى أن القرآن يقسّم الأصحاب إلى أصناف يمدح صنفاً منهم كما يذمّ الصنف الآخر، أمّا الممدوحون فهم كما ذكرتم: فالسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار، والمبايعون تحت الشجرة وأصحاب الفتح و....

فالناظر المتجرّد عن كلّ رأي مسبق والبريء قلبه من كلّ مرض، يجد في نفسه تكريماً لهؤلاء الصحابة، غير أنّ الرأي الحاسم في عامّة الصحابة يستوجب النظر إلى كلّ الآيات القرآنيّة الواردة في حقّهم. حيث إنّ في القرآن الحكيم آيات، تدلّ بوضوح على وجود مجموعات من الصحابة تضادّ الأصناف السابقة في الخلقيّات والملكات والسلوك والعمل، كالمنافقين الذين جرّعوا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) الغصص طيلة مدّة حياته.

فلو كان المنافقون جماعة قليلة غير مؤثّرة، لما رأيت هذه العناية البالغة في القرآن الكريم، وهناك ثلّة من المحقّقين كتبوا حول النفاق والمنافقين رسائل وكتباً، وقد قام بعضهم بإحصاء ما يرجع إليهم، فبلغ مقداراً يقرب من عشر القرآن الكريم(1)، وهذا يدلّ على كثرة أصحاب النفاق وتأثيرهم يوم ذاك في المجتمع الإسلامي. ونشير إلى ما ورد فيهم في القرآن الحكيم:

____________

(1) النفاق والمنافقون، إبراهيم علي سالم المصري.


الصفحة 106

الآيات الواردة في المنافقين

أولاً: الآيات الواردة في حقّ المنافقين بحيث تعرب بوضوح عن وجود جماعة من المنافقين المعروفين بالنفاق بين الصحابة آنذاك، وكان لهم شأن ودور في المجتمع الإسلامي، بحيث نزلت في حقّهم سورة مستقلّة.

ثانياً: الآيات الدالّة على وجود المنافقين المحتفين حول المدينة ومن أهل المدينة جماعة مردوا على النفاق، وكان النبيّ الأعظم لا يعرف بعضهم:

{وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّـنَ الاَْعْرَابِ مُنَـافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}(1).

قال ابن كثير: "يخبر تعالى رسوله صلوات اللّه وسلامه عليه أن في أحياء العرب ممّن حول المدينة هم منافقون وفي أهل المدينة أيضا منافقون "مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ" أي: مرنوا واستمرّوا عليه"(2).

لقد بذل القرآن الكريم عناية خاصّة بعصبة المنافقين وأعرب عن نواياهم وندّد بهم في السور المتعدّدة، الدالّة على أنّ المنافقين كانوا جماعة هائلة في المجتمع الإسلامي، بين معروف عرف بسمة النفاق، وغير معروف بذلك، مقنّع بقناع التظاهر بالإيمان والحبّ للنبيّ (صلى الله عليه وآله)، بحيث كان كلّ من حول النبيّ (صلى الله عليه وآله) يخاف على نفسه أن تنزل فيه آية تفضحه بمرأى المسلمين ومسمعهم.

كما قال ابن الجوزي في زاد المسير: "قال عمر بن الخطاب(رضي الله عنه)ما فرغ من تنزيل براءة حتّى ظننّا أن لن يبقى منّا أحد إلاّ ينزل فيه شي"(3).

____________

(1) التوبة: 100.

(2) تفسير ابن كثير: ج2 ص398.

(3) زاد المسير: ج3 ص316.


الصفحة 107

قال السيوطي: "وأخرج أبو عوانة وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي اللّه عنهما "أنّ عمر(رضي الله عنه)قيل له: سورة التوبة، قال: هي إلى العذاب أقرب! ما أقلعت عن الناس حتّى ما كادت تدع منهم أحداً"(1).

هنا عدة وقفات وأسئلة!!

أ: أين ذهب هؤلاء المنافقون بعد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وقد جرّعوه الغصص مدّة حياته؟

ب: كيف انقطع الكلام فيهم بمجرّد انقطاع الوحي ولحوق النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالرفيق الأعلى؟

ج: هل كانت حياته سبباً في نفاق المنافقين؟! وموته سبباً في إيمانهم وعدالتهم وصيرورتهم أفضل الخلق بعد الأنبياء؟!

د: كيف انقلبت حقائقهم بعد وفاته (صلى الله عليه وآله) فأصبحوا - بعد ذلك النفاق - بمثابة من الفضل، لا يقدح فيها شيء على رغم ما ارتكبوه من الجرائم والعظائم؟

هـ: ما الدليل على هذه الدعاوى، من كتاب، أو سنّة، أو عقل، أو إجماع، أو قياس؟

و: هل انقطع أمر النفاق وانقرض المنافقون؟! أو صلح بالهم ببركة خلفاء الرسول؟! أو استمرّ أمرهم بأشدّ ممّا كان في عصر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وتبدلّ السرّ بالجهر!!! كما في صحيح البخاري عن حذيفة بن اليمان، قال: "إنّ المنافقين اليوم شرّ منهم على عهد النبيّ، كانوا يومئذ يسرّون، واليوم يجهرون".

____________

(1) الدر المنثور: ج3 ص208.


الصفحة 108

أو تبدّل نفاقهم بالكفر كما في المصدر نفسه عن حذيفة، بأنّه قال: "إنّما كان النفاق على عهد النبيّ، فأمّا اليوم فإنّما هو الكفر بعد الإيمان"(1).

ز: وبعد ذلك كلّه ماذا نقول بما ورد بأنّ عمر بن الخطاب لم يكن يصلّي على أحد مات، إلاّ بعد شهادة حذيفة بأنّه لم يكن من المنافقين؟!!

كما قال ابن كثير: "وذكر لنا أن عمر بن الخطاب(رضي الله عنه)كان إذا مات رجل ممّن يرى أنه منهم، نظر إلى حذيفة فإن صلّى عليه وإلاّ تركه"(2).

وكيف نجيب الطالب إذا استفسر عن مدلول ما ورد من أنّ أمر النفاق وعدم تغلغل الوعي الإيماني في نفوس الصحابة بلغ إلى درجة يشكّ الخليفة عمر بن الخطاب هل هو منهم أم لا؟

كما ذكر ذلك ابن كثير والطبري: "وذكر لنا أنّ عمر قال لحذيفة: أنشدك اللّه أمنهم أنا؟ قال: لا، ولا أومن منها أحداً بعدك"(3).

ح: هل نقبل بأن يقال: إنّ المنافقين كانوا معروفين فلا نخلّطهم بالصحابة؟ ثمّ كيف نبرّر ونؤّل ما ورد في صحيح البخاري عن عمر بن الخطّاب، حين قام وقال: "يا رسول اللّه دعني أضرب عنق هذا المنافق. (أراد عبد اللّه بن أبيّ)، فقال النبيّ: دعه لا يتحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه"(4).

____________

(1) صحيح البخاري: ج8 ص100، كتاب الفتن، باب إذا قال عند قوم شيئا ثم خرج فقال بخلافه.

(2) تفسير ابن كثير: ج2 ص399.

(3) تفسير ابن كثير: ج2 ص399، جامع البيان للطبري: ج11 ص16.

(4) صحيح البخاري: ج6 ص66 - 67، تفسير سورة المنافقين، وصحيح مسلم: ج8 ص19، باب نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً، وسنن الترمذي: ج5 ص90، ومسند أحمد بن حنبل: ج3 ص393.


الصفحة 109

وهكذا في قضيّة (ذو الخويصرة) فأجاب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): "معاذ اللّه أن يتحدّث الناس أنّي أقتل أصحابي، إنّ هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية"(1).

وفي قصّة حاطب، قال: "دعني أضرب عنق هذا المنافق؟"(2).

وهاهنا وقفة أخرى: كيف يطلق عمر على صحابي رسول اللّه بأنّه منافق ويطلب ضرب عنقه، وهو جائز لا طعن فيه!! ولكن من قال فيه بأنّه صحابيّ غير عادل، فيحكم عليه بالزندقة؟!!!

ط: وإذا كان الأصحاب كلّهم عدول بلا استثناء، فما معنى الحدود الشرعيّة التي أقامها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي(عليه السلام) بحق الزناة والسرّاق وشاربي الخمر من الصحابة؟

ي: ما هو المراد من الاجتهاد والتأويل الذي يبرّر صاحبه فيما يرتكب من المخالفات للكتاب أو السنّة؟ كما في قضيّة خالد بن الوليد في قتل مالك بن نويرة، وأبي الغادية في قتل عمّار و...؟

وهل يصحّ تبرير الصحابة تحت ظلّ الاجتهاد في كلّ ما صدر عنهم من مخالفة الأحكام القطعيّة؟ وأنّهم مرخصون في ارتكاب كلّ حرام وترك كلّ واجب، حتّى في الخروج على إمام زمانهم، وإزهاق أرواح كثيرة، وسفك دماء غزيرة، ولم يعدّ ذلك ذنباً لهم; بل إنّهم مثابون ولهم أجر في جميع ذلك أيضاً؟!! لأنّهم كل ما فعلوه إنما كان بالاجتهاد، والعمل به واجب، ولا تفسيق بواجب(3).

____________

(1) صحيح مسلم: ج3 ص109 باب ذكر الخوارج.

(2) مسند أبي يعلى: ج1 ص321، يراجع أيضاً: سبل السلام لابن حجر العسقلاني: ج4 ص188، وتاريخ ابن خلدون: ق2 ج2 ص42.

(3) فواتح الرحموت في شرح مسلم الثبوت: ج2 ص158 و156، وسلّم الوصول (مطبوع مع نهاية السؤل): ج3 ص176 و177، والسنة قبل التدوين: ص404 ـ 405.


الصفحة 110

وهل هذا الاجتهاد يختصّ ببعضهم أو يعمّهم ويشمل من يأتي من بعدهم، اقتداءً بسيرتهم وعملاً بقول النبيّ (صلى الله عليه وآله): "أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم".

الآيات النازلة في مرضى القلوب وذوي الإثارة للفتنة

الثالث: الآيات القرآنيّة الواردة في حقّ مرضى القلوب الذين يتلون المنافقين في الروحيّات والملكات، قال سبحانه بحقّهم:

{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَـافِقُونَ وَالَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا}(1).

فكيف يمكن أن يوصف الذين ينسبون خلف الوعد إلى اللّه سبحانه وإلى الرسول (صلى الله عليه وآله) بالتقوى والعدالة؟

الرابع: الآيات الواردة في ذوي التشكيك والإثارة للفتنة والسمّاعين لهم: {إِنَّمَا يَسْتَـأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأَْخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ في رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ *وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأََعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَـاعِدِينَ *لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأََوْضَعُواْ خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيم بِالظَّـالمِينَ}(2).

____________

(1) الأحزاب: 12.

(2) التوبة: 45، 46، 47.


الصفحة 111

الذين يؤذون النبيّ (صلى الله عليه وآله)

الخامس: الآيات النازلة في الذين يؤذون رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ويستحقّون بذلك عذاباً أليماً: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النبيّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْر لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(1).

هل يحكم العقل السليم بعدالة من أوعده اللّه بالعذاب ولعنه، حيث قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا والاَْخِرَةِ وأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا}(2).

الذين يظنون باللّه الظنون الكاذبة

السادس: الآيات التي تدلّ على أنّ جمعاً من الصحابة كانوا يظنّون باللّه الظنون الكاذبة، ظنّ الجاهليّة من أهل الشرك باللّه، شكّاً في أمر اللّه، وتكذيباً لنبيّه (صلى الله عليه وآله)، وظنّاً منهم أنّ اللّه خاذل نبيّه، ومعلٍ عليه أهل الكفر(3). وقد عرّفهم الحق سبحانه بقوله: {وَطَـائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَـاهِلِيَّةِ}(4).

هل يمكن أن يعدّ الذين هم أهل الشكّ والريب في اللّه عزّ وجل(5) من العدول الثقات؟

____________

(1) التوبة: 61.

(2) الأحزاب: 57.

(3) كما في جامع البيان للطبري: ج4 ص189.

(4) آل عمران: 154.

(5) راجع: تفسير ابن كثير: ج1 ص427.


الصفحة 112

فحصيلة ما يلاحظ في هذه الآيات أنّ في الأصحاب عدولاً وثقات من غير شكّ وريب، ومنهم أيضاً غير عدول وضعاف.

رابعاً: مقام الصحابة لم يكن أكثر امتيازاً من أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله) ولا أرفع من مقامهن

إنّ التشرّف بصحبة النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يكن أكثر امتيازاً وتأثيراً من التشرف بالزواج من النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وقد قال سبحانه في شأن أزواجه: {يَا نسَآءَ النبيّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَة مُّبَيِّنَة يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}(1).

وصحبة الصحابة لم تكن بأكثر ولا أقوى من صحبة امرأة نوح وامرأة لوط فما أغنت الصحبة عنهما من اللّه شيئاً، قال سبحانه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَةَ نُوح وَامْرَأَةَ لُوط كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}(2).

ونقرأ لك يا أخي ما ورد عن أكابر علماء السنّة في تفسير هذه الآية الشريفة:

قال ابن الجوزي: قوله عزّ وجلّ {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي: فلم يدفعا عنهما من عذاب اللّه شيئاً، وهذه الآية تقطع طمع من ركب المعصية ورجا أن ينفعه صلاح غيره، ثمّ أخبر أنّ معصية الغير لا تضرّ المطيع، بقوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} وهي آسية بنت مزاحم رضي اللّه عنها، وقال يحيى بن سلام: ضرب اللّه المثل الأوّل يحذر به عائشة وحفصة رضي اللّه عنهما، ثمّ ضرب لهما هذا المثل يرغبهما في التمسّك بالطاعة وكانت آسية قد آمنت بموسى"(3).

____________

(1) الأحزاب: 30.

(2) تحريم: 10.

(3) زاد المسير لابن الجوزي: ج8 ص56.


الصفحة 113

قال الطبري بعد نقله الآية الشريفة: "لم يغن صلاح هذين عن هاتين شيئاً، وامرأة فرعون لم يضرّها كفر فرعون. ثمّ روى عن بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَةَ نُوح وَامْرَأَةَ لُوط..} الآية، هاتان زوجتا نبي اللّه لمّا عصتا ربّهما، لم يغن أزواجهما عنهما من اللّه شيئاً"(1).

وقريب منه عن القرطبي في تفسيره(2).

قال ابن قيّم الجوزية: "ثمّ في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة فإنّها سيقت في ذكر أزواج النبيّوالتحذير من تظاهرهنّ عليه وأنهنّ إن لم يطعن اللّه ورسوله ويردن الدار الآخرة، لم ينفعهنّ اتصالهنّ برسول اللّه، كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتّصالهما بهما، ولهذا ضرب لهما في هذه السورة مثل اتّصال النكاح دون القرابة.

قال يحيى بن سلام: ضرب اللّه المثل الأوّل يحذّر عائشة وحفصة، ثمّ ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسّك بالطاعة"(3).

وأوضح منه ما أورده الشوكاني بقوله: "وما أحسن من قال: فإن ذكر امرأتي النبيّين بعد ذكر قصّتهما ومظاهرتهما على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يرشد أتمّ إرشاد ويلوح أبلغ تلويح إلى أنّ المراد تخويفهما مع سائر أمّهات المؤمنين وبيان أنّهما وإن كانتا تحت عصمة خير خلق اللّه وخاتم رسله; فإنّ ذلك لا يغني عنهما من اللّه شيئاً..."(4).

____________

(1) جامع البيان: ج82 ص217.

(2) تفسير القرطبي: ج81 ص201.

(3) الأمثال في القرآن: ص57.

(4) فتح القدير: ج5 ص255.


الصفحة 114

خامساً: أقوال علماء أهل السنّة في عدالة الصحابة

وقد كتبت في رسالتك الكريمة: "والذين اتّبعوهم هم أهل السنّة وليسوا الشيعة لأنّ الشيعة ما بين مكفّر لهم وذامّ لهم ـ أعني الشيعة الإماميّة المتأخّرين بدون استثناء".

أقول: أيّها الأخ العزيز لقد كنت عزيزاً عندي كثيراً؛ لما شاهدت منك من الإنصاف الجميل والأخلاق الحسنة، ولكن لا ينقضي تعجّبي من صدور هذه العبارة من مثل جنابكم، بحيث كلمّا قرأتها ازدادت حيرتي وتعجبي!! كيف خفي عليك كلام القوم من السنّة والشيعة في عدالة الصحابة(1).

فلئن حكم ابن حزم بأنّ الصحابة كلّهم من أهل الجنّة قطعاً (2) وقال ابن الأثير: "كلّهم عدول لا يتطرّق إليهم الجرح"(3). وادّعى بعضهم الإجماع على ذلك، كما صرّح ابن حجر العسقلاني بقوله: "اتّفق أهل السنّة على أنّ الجميع عدول"(4). وقال ابن عبد البر: "ثبتت عدالة جميعهم، لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة"(5).

ولكن ذهب غيرهم كابن الحاجب إلى عدم وقوع الإجماع على ذلك; بل إن القول بعدالة الجميع هو قول الأكثر لا الجميع، كما صرّح بقوله:

"الأكثر على عدالة الصحابة، وقيل: كغيرهم، وقيل: إلى حين الفتن، فلا يقبل الداخلون، لأنّ الفاسق غير معيّن، وقالت المعتزلة: عدول إلاّ من قاتل عليّاً"(6).

____________

(1) فلم يكن جميع أهل السنة قد قالوا بعدالة جميع الصحابة ولم يخل الأمر من ذم بعضهم عندهم.

(2) الإصابة في معرفة الصحابة: ج1 ص19.

(3) أسد الغابة في معرفة الصحابة: ج1 ص3.

(4) الإصابة في معرفة الصحابة ج1 ص17 - 18.

(5) الاستيعاب في معرفة الأصحاب: ج1 ص8. وفي الطبعة الحديثة، بتحقيق الشيخ على محمد عوض وأحمد عادل عبد الموجود: ج1 ص129.

(6) المختصر في الأصول: ج2 ص67 وكذا في شرحه.


الصفحة 115

وكذا في جمع الجوامع وشرحه، حيث قال: "والأكثر على عدالة الصحابة لا يبحث عنها في رواية ولا شهادة"، ثمّ نقل الأقوال الأخرى(1).

ثمّ ذهب بعض الأعلام كالتفتازاني، بأنّ بعض الأصحاب قد حادّ عن طريق الحقّ، وبلغ حدّ الظلم والفسق(2)، وسوف يأتي نصّ كلامه آنفاً.

وهذا أبو حامد الغزالي (المتوفّى 55): بعد أن قال "إنّ عدالتهم معلومة بتعديل اللّه عزّ وجل إيّاهم وثنائه عليهم في كتابه، فهو معتقدنا فيهم" قد نقل اختلاف العلماء في حكم الصحابة بقوله: "وقد زعم قوم أنّ حالهم كحال غيرهم في لزوم البحث، وقال قوم: حالهم العدالة في بداية الأمر إلى ظهور الحرب والخصومات، ثمّ تغيّر الحال وسفكت الدماء، فلابدّ من البحث، وقال جماهير المعتزلة: عائشة وطلحة والزبير وجميع أهل العراق والشام فسّاق بقتال الإمام الحق.

وقال قوم من سلف القدريّة: يجب ردّ شهادة عليّ وطلحة والزبير مجتمعين ومفترقين، لأنّ فيهم فاسقاً لا نعرفه بعينه.

وقال قوم: نقبل شهادة كلّ واحد إذا انفرد؛ لأنّه لم يتعيّن فسقه، أمّا إذا كان مع مخالفه فشهدا ردّا; إذ نعلم أنّ أحدهما فاسق، وشكّ بعضهم في فسق عثمان وقتلته..."(3).

____________

(1) النصائح الكافية: 160.

(2) شرح المقاصد: ج5 ص310، ملّخصاً.

(3) المستصفى: 130، الباب الثالث في الجرح والتعديل، الفصل الرابع في عدالة الصحابة.


الصفحة 116

في الصحابة العدول وغير العدول

فقد صرّح جماعة من أكابر علماء أهل السنّة من المتقدّمين والمتأخّرين بأنّ الصحابة غير معصومين، وفيهم العدول وغير العدول، وإليك نصّ كلمات بعضهم:

هذا ابن حزم (المتوفى 456)(1) يقول: "فمن المحال أن يأمر النبيّ باتّباع كلّ قائل من الصحابة رضي اللّه عنهم، وفيهم من يحلّل الشيء وغيره منهم يحرّمه ـ إلى أن قال ـ: وقد كان الصحابة يقولون بآرائهم في عصره (صلى الله عليه وآله) فيبلغه ذلك فيصوب المصيب ويخطئ المخطئ، فذلك بعد موته أفشى وأكثر، ثمّ ذكر موارد متعدّدة ممّا أفتى به الصحابة فأنكره رسول اللّه"(2).

وقال بعد صفحات: وأمّا قولهم: إنّ الصحابة رضي اللّه عنهم شهدوا الوحي فهم أعلم به، فإنّه يلزمهم على هذا إنّ التابعين شهدوا الصحابة، فهم أعلم بهم، فيجب تقليد التابعين. وهكذا قرناً فقرناً، حتّى يبلغ الأمر إلينا فيجب تقليدنا، وهذه صفة دين النصارى في اتّباعهم أساقفتهم، وليست صفة ديننا والحمد للّه ربّ العالمين"(3).

____________

(1) قد وثّقه الذهبي قائلا: ابن حزم، الإمام الأوحد، البحر، ذو الفنون والمعارف... ورزق ذكاء مفرطاً، وذهناً سيّالاً، وكتباً نفيسة كثيرة... فإنّه رأس في علوم الإسلام، متبحّر في النقل، عديم النظير. سير أعلام النبلاء: ج18 ص184.

وشهد له بالصدق والأمانة والديانة والحشمة والسؤدد كما في العبر: ج3 ص239.

قال الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام: وكان أحد المجتهدين، ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل المحلّى لابن حزم، قال الذهبي بعد نقله هذا: لقد صدق الشيخ عز الدين. سير أعلام النبلاء: ج18 ص193. وقريب من هذا عن السيوطي في طبقات الحفّاظ: 436.

قال الزركلي: ابن حزم: عالم الأندلس في عصره، وأحد أئمّة الإسلام، كان في الأندلس خلق كثير ينتسبون إلى مذهبه، يقال لهم "الحزمّية". الأعلام: ج4 ص254.

(2) الإحكام في أصول الأحكام، بتحقيق أحمد شاكر: ج6 ص810 وراجع أيضاً: ج5 ص642، وج6 ص806، و813، و816.

(3) الإحكام في أصول الأحكام: ج6 ص816، بتحقيق أحمد شاكر، وطبعة دار الجيل، بتحقيق لجنة من العلماء: ج6 ص250، من المجلد الثاني.


الصفحة 117

وهذا المازري (المتوفّى53)(1)، يقول في "شرح البرهان": "لسنا نعني بقولنا: الصحابة عدول، كلّ من رآه صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وسلم يوماً ما، أو زاره لمّاً ما، أو اجتمع به لغرض وانصرف عن كتب، وإنّما نعني به الذين لازموه، وعزّروه ونصروه، واتّبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون"(2).

قال ابن عقيل ـ بعد نقل كلام المازري ـ: "قال السيّد الآلوسي وإلى نحو هذا ذهب ابن العماد الحنبلي(3) في شذرات الذهب"(4).

وقال الذهبي: "ولو فتحنا هذا الباب (الجرح والتعديل) على نفوسنا لدخل فيه عدّة من الصحابة والتابعين والأئمّة، فبعض الصحابة كفّر بعضهم بعضاً بتأويل ما!! واللّه يرضى عن الكلّ ويغفر لهم!! فما هم بمعصومين، وما اختلافهم ومحاربتهم بالتي تلينهم عندنا".

ثمّ قال: "وأمّا الصحابة رضي اللّه عنهم فبساطهم مطويّ، وإن جرى ما جرى، وإن غلطوا كما غلط غيرهم من الثقات!! فما يكاد يسلم أحد من الغلط ولكنّه غلط نادر لا يضرّ أبداً! إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوا العمل، وبه ندين اللّه تعالى" (5).

____________

(1) قال الذهبي: وكان أحد الأذكياء الموصوفين، والأئمة المتبحّرين... وكان بصيراً بعلم الحديث. سير أعلام النبلاء: ج20 ص105.

قال الزركلي: محدّث، من فقهاء المالكيّة... له (المعلم بفوائد مسلم) في الحديث، وهو ما علّق به على صحيح مسلم، حين قراءته عليه سنة 499، وقيّده تلاميذه. الأعلام: ج6 ص277. قال عمر رضا كحالة: يعرف بالإمام محدّث، حافظ، فقيه، أصولي، متكلّم، أديب. معجم المؤلفين: ج11 ص32.

(2) الإصابة: ج1 ص163، والنصائح الكافية: 167.

(3) قال خير الدين الزركلي: عبد الحيّ بن أحمد بن محمد بن العماد العكري الحنبلي، أبو الفلاح: مؤرّخ، فقيه، عالم بالأدب... له شذرات الذهب في أخبار من ذهب... الأعلام: ج3 ص290، وهكذا في معجم المؤلّفين لعمر كحالة: ج5 ص107.

(4) النصائح الكافية: 168.

(5) أضواء على السنّة المحمدية: 342 عن الذهبي في رسالته التي ألّفها في الرواة الثقات: 3 - 21.

نقله في فتح الملك العلى ـ لأحمد بن الصديق المغربي: 147 عن لسان الميزان 1: 6 - 8، وإرغام المبتدع الغبي للسقاف: 38 عن مقدمة رسالة الذهبي " في الرواة الثقات المتكلّم فيهم، بما لا يوجب ردّهم".


الصفحة 118

المشاجرات التي بلغت حد الظلم والفسق

وقال سعد الدين التفتازاني(1) المتوفّى سنة 791 هـ: "إنّ ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ، والمذكور على ألسنة الثقات، يدلّ بظاهره على أنّ بعضهم قد حادّ عن طريق الحقّ، وبلغ حدّ الظلم والفسق، وكان الباعث له الحقد والعناد، والحسد واللداد، وطلب الملك والرئاسة"(2).

ثمّ يقول: "ليس كلّ من لقي النبيّ بالخير موسوماً، إلاّ أنّ العلماء لحسن ظنّهم بأصحاب رسول اللّه، ذكروا لها محامل، وتأويلات بها تليق، وذهبوا إلى أنّهم محدودون عمّا يوجب التضليل والتفسيق، صوناً لعقائد المسلمين عن الزلل والضلالة في حقّ كبار الصحابة، سيّما المهاجرين منهم والأنصار، والمبشّرين بالثواب في دار القرار"(3).

____________

(1) قال ابن حجر: تقدّم في الفنون واشتهر بذلك، وطار صيته وانتفع الناس بتصانيفه... وانتهت إليه معرفة العلوم بالمشرق، مات بسمرقند سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة: ج2 ص285، والدرر الكامنة: ج4 ص350. راجع: شذرات الذهب: ج6 ص319، والبدر الطالع: ج2 ص303.

قال اليان سركيس: كان من محاسن الزمان، لم تر العيون مثله في الأعلام والأعيان. وهو الأستاذ على الإطلاق. والمشار إليه بالاتّفاق. اشتهرت تصانيفه في الأرض، وأتت بالطول والعرض... وقد انتهت إليه رئاسة الحنفيّة بزمانه. (ملخّصاً عن الفوائد البهيّة). معجم المطبوعات العربية: ج1 ص635.

(2) شرح المقاصد: ج5 ص310.

(3) شرح المقاصد: ج5 ص310.


الصفحة 119

أقول: ويؤيّده ما ورد عن أبي بكر خطاباً للمهاجرين: "بأنّكم تريدون الدنيا، وستور الحرير، ونضائد الديباج، وتريدون الرئاسة، وكلّكم يريدها لنفسه، وكلّكم ورم أنفه"(1).

وقال ابن خلدون المتوفّى سنة 88 هـ: "إنّ الصحابة كلّهم لم يكونوا أهل فتيا، ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم، وإنّما كان ذلك مختصّاً بالحاملين للقرآن، العارفين بناسخه ومنسوخه، ومتشابهه ومحكمه، وسائر دلالته بما تلقّوه من النبيّ (صلى الله عليه وآله)"(2).

يقول الدكتور طه حسين المتوفى سنة 1393 هـ(3): "ولا نرى في أصحاب النبيّ ما لم يكونوا يرون في أنفسهم، فهم كانوا يرون أنّهم بشر فيتعرّضون لما يتعرّض له غيرهم من الخطايا والآثام، وهم تقاذفوا التهم الخطيرة، وكان منهم فريق تراموا بالكفر والفسوق... والذين ناصروا عثمان من أصحاب النبيّ كانوا يرون أنّ خصومهم قد خرجوا على الدين وخالفوا عن أمره، وهم جميعاً من أجل ذلك قد استحلّوا أن يقاتل بعضهم بعضاً، وقاتل بعضهم بعضاً بالفعل يوم الجمل ويوم صفّين... وإذا دفع أصحاب النبيّ أنفسهم إلى هذا الخلاف، وتراموا بالكبائر وقاتل بعضهم بعضاً في سبيل اللّه، فما ينبغي أن يكون رأينا فيهم أحسن من رأيهم في أنفسهم، وما ينبغي أن نذهب مذهب الذين يكذّبون أكثر الأخبار التي نقلت إلينا ما كان بينهم من فتنة واختلاف.

____________

(1) مجمع الزوائد: ج5 ص202؛ المعجم الكبير للطبراني: ج1 ص62؛ تاريخ الطبري: ج2 ص619؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج03 ص418؛ أسد الغابة: ج4 ص70؛ ميزان الاعتدال للذهبي: ج3 ص108؛ لسان الميزان: ج4 ص188.

(2) تاريخ ابن خلدون: ج1 ص446.

(3) قال الزركلي فيه: من كبار المحاضرين، جدّد مناهج، وأحدث ضجّة في عالم الأدب العربي. الأعلام: ج3 ص231.


الصفحة 120

فنحن إن فعلنا ذلك لم نزد عن أن نكذّب التاريخ الإسلامي كلّه، منذ بعث النبيّ، لأنّ الذين رووا أخبار هذه الفتن، هم أنفسهم الذين رووا أخبار الفتح وأخبار المغازي وسيرة النبيّ والخلفاء، فما ينبغي أن نصدّقهم حين يروون ما يروقنا، وأن نكذّبهم حين يروون ما لا يعجبنا، وما ينبغي أن نصدّق بعض التاريخ ونكذّب بعضه الآخر، لا لشيء إلا لأنّ بعضه يرضينا وبعضه يؤذينا"(1).

الصحابة يلعن بعضهم بعضاًً

قال الدكتور أحمد أمين المتوفى سنة 1373 هـ (2): "إنّا رأينا الصحابة أنفسهم ينقد بعضهم بعضاً، بل يلعن بعضهم بعضاً، ولو كانت الصحابة عند نفسها بالمنزلة التي لا يصحّ فيها نقد، ولا لعن، لعلمت ذلك من حال نفسها، لأنّهم أعرف بمحلّهم من عوام أهل دهرنا، وهذا طلحة والزبير وعائشة ومن كان معهم وفي جانبهم، لم يروا أن يمسكوا عن عليّ، وهذا معاوية وعمرو بن العاص لم يقصرا دون ضربه وضرب أصحابه بالسيف، وكالذي روى عن عمر من أنّه طعن في رواية أبي هريرة وشتم خالد بن الوليد وحكم بفسقه... وقلّ أن يكون في الصحابة من سلم من لسانه أو يده، إلى كثير من أمثال ذلك ممّا رواه التاريخ.

____________

(1) الفتنة الكبرى (عثمان): 170 - 173.

(2) قال الزركلي فيه: عالم بالأدب، غزير الاطّلاع على التاريخ، من كبار الكتاب... وكان من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق، ومجمع اللغة بالقاهرة، والمجمع العلمي العراقي ببغداد، ومنحته جامعة القاهرة (سنة 48) لقب (دكتور) فخري، وهو من أكثر كتّاب مصر تصنيفاً وإفاضة. ومن أعماله: إشرافه على لجنة التأليف والترجمة والنشر، مدّة ثلاثين سنة وكان رئيساً لها. ومن تآليفه: فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظهر الإسلام، ويوم الإسلام، وزعماء الإصلاح في العصر الحديث. الأعلام: ج1 ص101. وراجع أيضاً: معجم المؤلفين: ج1 ص168.


الصفحة 121

وكان التابعون يسلكون بالصحابة هذا المسلك ويقولون في العصاة منهم هذا القول، وإنّما اتّخذهم العامّة أرباباً بعد ذلك.

والصحابة قوم من الناس، لهم ما للناس وعليهم ما عليهم. من أساء ذمّمناه، ومن أحسن منهم حمدناه، وليس لهم على غيرهم كبير فضل إلاّ بمشاهدة الرسول ومعاصرته لا غير; بل ربما كانت ذنوبهم أفحش من ذنوب غيرهم، لأنّهم شاهدوا الأعلام والمعجزات، فمعاصينا أخفّ لأنّنا أعذر"(1).

قال ابن عقيل المتوفى سنة 135 هـ (2): "وأمّا تعديلهم كلّ من سمّوه بذلك الاصطلاح، صحابيّاً وإن فعل ما فعل من الكبائر، ووجوب تأويلها له فغير مسلّم; إذ الصحبة مع الإسلام لا تقتضي العصمة اتّفاقاً حتّى يثبت التعديل، ويجب التأويل على أنّهم اختلفوا في ذلك التعديل اختلافاً كثيراً والجمهور هم القائلون بالعدالة"(3).

____________

(1) ضحى الإسلام: ج3 ص75.

(2) قال الزركلي: ابن عقيل (1279 - 1350هـ ـ 1863 - 1931 م) محمد بن عقيل بن عبداللّه بن عمر، من آل يحيى، العلوي الحسيني الحضرمي، رحّالة، من بيت علم بحضرموت. الأعلام: ج6 ص269.

قال عمر رضا كحّالة: محمد بن عقيل بن عبد اللّه بن عمر العلوي الصادقي الحسيني الحضرمي، فاضل، مشارك في بعض العلوم. ولد ببلدة مسيلة آل شيخ قرب تريم من بلاد حضرموت ليومين بقيا من شعبان، ورحل إلى سنغافورة واشتغل بالتجارة، وترأّس فيها المجلس الإسلامي الاستشاري، وأسّس فيها جمعيّة إسلاميّة ومجلّة وجريدة عربيّتين ومدرسة عربيّة دينيّة... من مؤلّفاته: النصائح الكافية لمن تولّى معاوية، تقوية الإيمان، فصل الحاكم في النزاع والتخاصم فيما بين بني أميّة وبني هاشم، العتب الجميل على علماء الجرح والتعديل، وثمرات المطالعة. معجم المؤلفين: ج10 ص296.

(3) النصائح الكافية لمحمد بن عقيل: 166.


الصفحة 122

وقال محمد ناصر الدين الألباني المعاصر: "كيف يسوغ لنا أن نتصوّر أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يجيز لنا أن نقتدي بكلّ رجل من الصحابة، مع أنّ فيهم العالم والمتوسّط في العلم ومن هو دون ذلك وكان فيهم مثلاً من يرى أنّ البَرد لا يفطر الصائم بأكله"(1).

وقريب من ذلك عن الشوكاني المتوفى سنة 1255 هـ(2) والشيخ محمود أبو ريّة المتوفى سنة 137 هـ(3) والشيخ محمد عبده(4) المتوفى سنة 1323 هـ، والسيّد محمد رشيد رضا المتوفى سنة 1354(5) والرافعي المتوفى سنة 1356 هـ(6).

وهذا بعينه هو رأي الشيعة الإماميّة.

____________

(1) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة: ج1 ص82.

(2) إرشاد الفحول: 158. قال الزركلي: محمد بن على بن محمد الشوكاني: فقيه، مجتهد، من كبار علماء اليمن، من أهل صنعاء، ولد بهجرة شوكان، من بلاد خولان باليمن، ونشأ بصنعاء وولي قضاءها سنة 1229 ومات حاكماً بها، وكان يرى تحريم التقليد، له 114 مؤلّفاً، منها: نيل الأوطار، والبدر الطالع ... وفتح القدير في التفسير، والسيل الجرّار.... الأعلام: ج6 ص298.

(3) أضواء على السنّة المحمديّة: 356 ـ359 ط دار المعارف بمصر.

(4) قال الزركلي: الشيخ محمد عبده بن حسن خير اللّه مفتى الديار المصريّة، ومن كبار رجال الإصلاح والتجديد في الإسلام... له تفسير القرآن الكريم... وشرح نهج البلاغة. الأعلام: ج6 ص252.

قال عمر رضا كحّالة: فقيه، مفسّر، متكلم، حكيم، أديب، كاتب، صحافي، سياسي. معجم المؤلفين: ج10 ص273.

(5) تفسير المنار: ج10ص375.

قال الزركلي: صاحب مجلّة المنار، وأحد رجال الإصلاح الإسلامي من الكتّاب، العلماء بالحديث والأدب والتاريخ والتفسير... رحل إلى مصر سنة 1315، فلازم الشيخ محمد عبده وتتلمذ له... وأصبح مرجع الفتيا في التأليف، بين الشرعة والأوضاع العصريّة الجديدة.... الأعلام: ج6 ص126.

(6) إعجاز القرآن: 141.

هو مصطفى صادق الرافعي، قال الزركلي: عالم بالأدب، شاعر، من كبار الكتّاب، أصله من طرابلس الشام. الأعلام: ج7 ص235. وقال عمر رضا كحالة: بأنّه انتخب عضواً بالمجمع العلمي العربي بدمشق. معجم المؤلّفين: ج12 ص256.


الصفحة 123

القول بأفضلية بعض التابعين من الصحابة

ذهب بعض إلى أنّ من يأتي بعد الصحابة يكون أفضل منهم، كما قال القرطبي: "وذهب أبو عمر بن عبد البرّ(1) [المتوفى 463 ] إلى أنّه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممّن كان في جملة الصحابة، وإنّ قوله(عليه السلام): (خير الناس قرني) ليس على عمومه، بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول، وقد جمع قرنه جماعة من المنافقين المظهرين للإيمان وأهل الكبائر الذين أقام عليهم أو على بعضهم الحدود..."(2).

وهكذا نقل النووي عن القاضي عياض، عن ابن عبد البرّ(3). والمناوي في فيض القدير، والمباركفوري في تحفة الأحوذي، وابن حجر في فتح الباري، ثمّ ناقش فيه(4).

الصحابة أبصر بحالهم من غيرهم

لا شكّ أنّ من سبر تاريخ الصحابة بعد رحيل الرسول (صلى الله عليه وآله) يجد فيه صفحات مليئة بألوان الصراع والنزاع بينهم، حافلة بتبادل السبّ والشتم; بل تجاوز الأمر بهم إلى التقاتل وسفك الدماء، فكم من بدري وأحديّ انتهكت حرمته، أو أريق دمه بيد صحابيّ آخر، وهذا ممّا لا يختلف فيه اثنان.

____________

(1) قال الذهبي: ابن عبد البر الإمام العلاّمة، حافظ المغرب، شيخ الإسلام، أبو عمر، يوسف بن عبد اللّه... المالكي، صاحب التصانيف الفائقة... وأدرك الكبار، وطال عمره، وعلا سنده، وتكاثر عليه الطلبة، وجمع وصنّف، ووثّق وضعّف، وسارت بتصانيفه الركبان، وخضع لعلمه علماء الزمان. سير أعلام النبلاء: ج18 ص153.

قال الزركلي: ابن عبد البر... من كبار حفاظ الحديث، مؤرّخ، أديب، بحّاثة. يقال له حافظ المغرب.... الأعلام: ج8 ص240.

(2) تفسير القرطبي: ج4 ص171.

(3) شرح صحيح مسلم للنووي: ج3 ص138.

(4) فيض القدير: ج4 ص368، تحفة الأحوذي: ج8 ص337، وفتح الباري: ج7 ص6.


الصفحة 124

فإذا كان الصحابي يعتقد أنّ خصمه الصحابي الآخر منحرف عن الحقّ، ومجانب شريعة الله ورسوله، وأنّه جهنميّ يستحقّ القتل، وهو على هذا الأساس يبيح سلّ السيف عليه وقتله، فكيف يجوز لنا أن نحكم بعدالتهم ونزاهتهم جميعاً والحال أنّ الصحابة أعرف منّا بنوازع أنفسهم وبنفسيّات أبناء جيلهم؟ وهل سمعت ظئراً أعطف بالطفل من أمِّه؟

وقال ابن عقيل أيضاً: "إنّ الصحابة أنفسهم لا يدعون لأنفسهم هذه المنزلة التي ادّعاها بعض المحدّثين لهم من العدالة العامّة فيهم، وهم أعرف بأنفسهم وبمن عاصروه وعاشروه من هؤلاء الذين كادوا يتّخذون الصحابة أنبياء معصومين، كيف وقد نقل عنهم وشاع وانتشر ردّ بعض منهم روايات البعض الآخر واتّهامه في النقل وعدم قبول ما جاء به إلاّ بعد تثبّت شديد، وتحرّ عظيم؟

وقد صحّ عن عليّ كرم اللّه وجهه أنّه يقول: ما حدّثني أحد بحديث عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) إلاّ استحلفته، وما استثنى أحداً من المسلمين إلاّ أبا بكر"(1).

عدالة جميع الصحابة أبعد من قول الشيعة بعصمة أئمتهم

قال ابن عقيل: "إنّنا أهل السنّة قد أنكرنا على الشيعة دعواهم العصمة للأئمّة الإثني عشر(عليهم السلام)، وجاهرناهم بصيحات النكير، وسفّهنا بذلك أحلامهم، ورددنا أدلّتهم بما رددنا، أفبعد ذلك يجمل بنا أن ندّعي أنّ مائة وعشرين ألفاً حاضرهم، وباديهم، وعالمهم وجاهلهم، وذكرهم وأنثاهم، كلّهم معصومون. أو كما نقول: محفوظون من الكذب والفسق، ونجزم بعدالتهم أجمعين، فنأخذ رواية كلّ فرد منهم قضيّة مسلّمة، نضلّل من نازع في صحّتها ونفسّقه ونتصامم عن كلّ ما ثبت وصح عندنا.

____________

(1) النصائح الكافية: 172.


الصفحة 125

بل وما تواتر من ارتكاب بعضهم ما يخرم العدالة وينافيها من البغي، والكذب، والقتل بغير حق، وشرب الخمر، وغير ذلك مع الإصرار عليه، لا أدري كيف تحلّ هذه المعضلة ولا أعرف تفسير هذه المشكلة"(1).

الاتهام بالزندقة لمن ينتقص أحداًً من الصحابة

ومع هذا كلّه نرى أنّ بعضهم يتّهم من ينتقد الصحابة بالزندقة والخروج من الدين والإلحاد، كما قال السرخسي: "من طعن فيهم فهو ملحد، منابذ للإسلام، دواؤه السيف، إن لم يتب"(2).

وروى الخطيب البغدادي بإسناده عن أحمد بن محمد بن سليمان التستري، يقول: "سمعت أبا زرعة يقول: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول اللّهفاعلم أنّه زنديق، وذلك أنّ الرسولعندنا حقّ، والقرآن حقّ، وإنّما أدّى إلينا هذا القرآن والسنن، أصحاب رسول اللّهوإنّما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنّة والجرح بهم أولى وهم زنادقة"(3).

ثمّ قال ابن حجر بعد نقل هذا من أدلّتها على المقصود: "ما رواه الترمذي وابن حبّان في صحيحه من حديث عبد اللّه بن مغفل قال: قال رسول اللّه: اللّه اللّه في أصحابي، لا تتّخذوهم غرضاً، فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللّه، ومن آذى اللّه فيوشك أن يأخذه"(4).

____________

(1) النصائح الكافية: 174.

(2) أصول السرخسي: ج2 ص134.

(3) الكفاية في علم الرواية: 67.

(4) الإصابة في معرفة الصحابة: ج1 ص10.