الصفحة 277

الشخصية العلمية للكليني والبخاري

مقارنة موجزة

1ـ الشخصية العلمية للكليني

لقد اتفقت كلمة الشيعة وعلمائهم من الرجاليين وغيرهم على جلالة قدر ثقة الإسلام الكليني وعلو مقامه ومنزلته وامتيازه بأعلى درجات الوثاقة والحفظ والإتقان والضبط والفقاهة، وأنه كان متميزاً على أقرانه من العلماء، متضلّعاً في الحديث وأنقدهم له وأعرفهم به.

قال النجاشي في رجاله في ترجمة الكليني: "شيخ أصحابنا في وقته بالري ووجههم وكان أوثق الناس في الحديث وأثبتهم"(1).

وقال السيد رضي الدين بن طاووس: "الشيخ المتفق على ثقته وأمانته محمد بن يعقوب الكليني"(2).

وقال أيضاً: "محمد بن يعقوب أبلغ فيما يرويه وأصدق في الدراية"(3).

وقال الشيخ الجليل حسين البهائي: "شيخ عصره ووجه العلماء والنبلاء، كان أوثق الناس في الحديث وأنقدهم له وأعرفهم به"(4).

وقال الشيخ محمد تقي المجلسي الأول: "والحق أنه لم يكن مثله فيما رأينا من علمائنا"(5).

____________

(1) النجاشي، رجال النجاشي: ص377، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم.

(2) ابن طاووس، كشف المحجة: ص158، المطبعة الحيدرية ـ النجف الأشرف.

(3) ابن طاووس، فرج المهموم: ص90، منشورات الرضي ـ قم.

(4) الشيخ حسين البهائي، وصول الأخيار إلى أصول الأخبار: ص85، مجمع الذخائر الإسلامية.

(5) نقلاً عن مقدمة أصول الكافي، الكليني: ج1 ص18، دار التعارف ـ بيروت.


الصفحة 278

إلى غير ذلك من عبارات المدح والإطراء والتوثيق التي أجمع على ذكرها علماء الشيعة.

ثم إنه لم يقتصر مدحه وبيان منزلته وعلو مقامه على علمائنا فحسب، وإنما نص على تلك المنزلة العظيمة جملة من أعلام الطائفة السنية.

من ذلك ما ورد عن ابن الأثير الجزري في معرض شرحه لما جاء عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أنه قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"(1)، فإنه بعد أن استعرض العلماء والفقهاء الذين ينطبق عليهم ما جاء في الحديث من الوصف وأنهم يجددون للأمة دينها، قال:

"وأما من كان على رأس المائة الثالثة... وأبو جعفر محمد بن يعقوب الرازي من الإمامية"(2).

وقال في موضع آخر من كتابه جامع الأصول: "محمد بن يعقوب: هو أبو جعفر محمد بن يعقوب الرازي، الفقيه، الإمام على مذهب أهل البيت، عالم في مذهبهم، كبير وفاضل عندهم، مشهور، له ذكر فيمن كان على رأس المائة الثالثة"(3).

وقال الذهبي في تاريخ الإسلام: "محمد بن يعقوب أبو جعفر الكليني الرازي، شيخ فاضل شهير، من رؤوس الشيعة وفقهائهم"(4).

وقال أيضاً في سير أعلام النبلاء: "الكليني شيخ الشيعة وعالم الإمامية صاحب التصانيف، أبو جعفر محمد بن يعقوب الرازي الكليني"(5).

____________

(1) ابن الأثير الجزري، جامع الأصول: ج11 ص319ـ 320، دار الفكر ـ بيروت.

(2) ابن الأثير الجزري، جامع الأصول: ج11 ص323.

(3) ابن الأثير الجزري، جامع الأصول: ج13 ص895.

(4) الذهبي، تاريخ الإسلام، حوادث وفيات: ص321ـ 330، دار الكتاب العربي ـ بيروت.

(5) الذهبي، سير أعلام النبلاء: ج15 ص280، مؤسسة الرسالة ـ بيروت.


الصفحة 279

وقال ابن حجر في اللسان: "محمد بن يعقوب بن إسحاق أبو جعفر الكليني ـ بضم الكاف وإمالة اللام ثم ياء ونون ـ الرازي، سكن بغداد وحدث بها عن محمد بن أحمد بن عبد الجبار وعلي بن إبراهيم بن هاشم وغيرهما، وكان من فقهاء الشيعة والمصنفين على مذهبهم"(1).

وقال ابن عساكر: "محمد بن يعقوب... من شيوخ الرافضة قدم دمشق وحدث ببعلبك عن أبي الحسين محمد بن علي الجعفري السمرقندي.."(2).

وقال الزبيدي في تاج العروس: "أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني من فقهاء الشيعة ورؤوس فضلائهم في أيام المقتدر"(3).

ومن مجموع هذه الكلمات يتبين أن الكليني كان عظيم الشأن واسع الشهرة، طبقت شهرته الآفاق، وقد شهد على ذلك المؤالف والمخالف، لا يجد الباحث فيه مغمزاً أو طعناً في وثاقته وعلمه وعلو مقامه وفضله ورياسته وفقاهته، فهو من كبار الفقهاء والمحدثين والمجددين في عصره صاحب التصانيف المعروفة والمشهورة.

2ـ الشخصية العلمية للبخاري

وأما شخصية البخاري، فإنا نجد أن كثيراً من علمائكم ومحدثيكم والرجاليين من أهل التحقيق على مذهبكم طعنوا فيه وغمزوا من قناته في مجمل جوانب وأطراف شخصيته العلمية، كاعتقاده وفقاهته ومعرفته بالحديث وغير ذلك.

____________

(1) ابن حجر، لسان الميزان: ج5 ص433، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت.

(2) ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق: ج56 ص297، دار الفكر ـ بيروت.

(3) الزبيدي، تاج العروس: ج8 ص482، دار الفكر ـ بيروت.


الصفحة 280

ونشير فيما يلي إلى بعض تلك الجوانب:

أ ـ الطعن في عقيدته

من المسائل التي طعن بها أهل السنة على عقيدة البخاري رأيه في مسألة خلق القرآن، الذي خالف فيه المذهب العام للسنة وهو القول بقدم القرآن الكريم، وهو ما يعدّ من ضروريات مذهبهم ويكفرون كل من يخالفه.

فقد رماه شيخه الذهلي بأنه مبتدع واتهمه في دينه وعقيدته، قال التهانوي: "فهذا إمام المحدثين البخاري (ره) لم يسلم من الرمي بالبدعة أيضاً، فقد رماه الذهلي في مسألة القرآن بالقول بالخلق"(1).

وقال ابن أبي حاتم: "سمع منه أبي وأبو زرعة، ثم تركا حديثه عندما كتب إليهما محمد بن يحيى النيسابوري الذهلي، أنه أظهر عندهم أن لفظه بالقرآن مخلوق"(2).

وقال ابن حجر: "قال أبو حامد ابن الشرقي: سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق ومن زعم لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع ولا يجالس ولا يكلم، ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مذهبه، وقال الحاكم: ولما وقع بين البخاري وبين الذهلي في مسألة اللفظ انقطع الناس عن البخاري إلا مسلم بن الحجاج وأحمد بن سلمة، قال الذهلي: ألا من قال باللفظ فلا يحل له أن يحضر مجلسنا"(3).

____________

(1) التهانوي، قواعد في علوم الحديث: ص240، مكتبة المطبوعات الإسلامية ـ القاهرة.

(2) الرازي، الجرح والتعديل: ج7 ص109، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.

(3) ابن حجر، مقدمة فتح الباري: ص492، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.


الصفحة 281

ولأجل ذلك كله امتنع جملة من رواة الحديث عن الرواية عنه كما تقدم، وقال الذهبي في الميزان في ترجمة علي المديني شيخ البخاري: "علي بن عبد اللّه بن جعفر بن الحسن الحافظ، أحد الأعلام الأثبات، وحافظ العصر، ذكره العقيلي في كتاب الضعفاء فبئس ما صنع... وكذا امتنع مسلم عن الرواية عنه في صحيحه لهذا المعنى، كما امتنع أبو زرعة وأبو حاتم من الرواية عن تلميذه محمد(1) لأجل مسألة اللفظ"(2).

ب ـ وَهْنُه في الحديث والرجال

إنّ البخاري الذي يعدّه جملة من المتأخرين من أئمة الحديث والنقاد في الرجال، حتى قيل: إن من أخرج عنه البخاري في الصحيح فقد جاز القنطرة، سجلت عليه مؤاخذات كثيرة وسقطات كبيرة في هذا المجال، ذكرها جماعة من أرباب النظر والتحقيق، نشير فيما يلي إلى جانب منها:

أولاً: تدليس البخاري

إن تدليس البخاري من الأمور الواضحة والمشهورة، حتى عدّه ابن حجر في طبقات المدلّسين، قال ابن حجر: "محمد بن إسماعيل بن المغيرة البخاري الإمام، وصفه بذلك أبو عبد الله بن مندة في كلام له، فقال فيه: أخرج البخاري، قال: فلان، وقال: أخبرنا فلان، وهو تدليس"(3).

وأدرجه سبط بن العجمي في كتابه (أسماء المدلسين)(4).

____________

(1) محمد بن إسماعيل البخاري.

(2) الذهبي، ميزان الاعتدال: ج3 ص138.

(3) ابن حجر، طبقات المدلسين: ص24 رقم 23، مكتبة المنار ـ الأردن.

(4) سبط ابن العجمي، التبيين لأسماء المدلسين: ص177 رقم 64، دار الكتب العلمية ـ بيروت.


الصفحة 282

ومن أمثلة تدليس البخاري هو تدليسه في شيخه محمد بن يحيى الذهلي النيسابوري، الذي كان من أكثر المشنعين عليه كما تقدم، قال الذهبي في سير أعلام النبلاء عند ترجمته للذهلي: "روى عنه خلائق، منهم:... ومحمد بن إسماعيل البخاري ويدلسه كثيراً، لا يقول محمد بن يحيى، بل يقول محمد فقط، أو محمد بن خالد، أو محمد بن عبد الله وينسبه إلى الجد، ويعمي اسمه، لمكان الواقع بينهما، غفر الله لهما"(1)، وقال ابن حجر في ترجمته للذهلي أيضاً: "وعنه البخاري ويدلسه"(2)، وبنفس البيان ما نص عليه المباركفوري في تحفة الأحوذي(3)، وقال الذهبي أيضاً في ترجمة عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم الجهني المصري: "وقد روى عنه البخاري في الصحيح على الصحيح، ولكنه يدلسه، فيقول: حدثنا عبد الله لا ينسبه وهو هو"(4).

إذن اتضح من ذلك أن تدليس البخاري من قسم تدليس الشيوخ، وهو من أنواع التدليس المذمومة التي أوجبت جرح الكثير من الرواة وتضعيفهم عند الرجاليين.

قال ابن حجر: "وأما تدليس الشيوخ فهو أن يصف شيخه بما لم يشتهر به من اسم أو لقب أو كنية أو نسبة؛ إيهاماً للتكثير غالباً، وقد يفعل ذلك لضعف شيخه، وهو خيانة ممن تعمده، كما إذا وقع ذلك في تدليس الإسناد والله المستعان"(5)، وأخرج الخطيب البغدادي في الكفاية بسنده عن الشافعي،

____________

(1) الذهبي، سير أعلام النبلاء: ج12 ص275، مؤسسة الرسالة ـ بيروت.

(2) ابن حجر، لسان الميزان: ج7 ص507، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت.

(3) المباركفوري، تحفة الأحوذي: ج3 ص217، دار الكتب العلمية ـ بيروت.

(4) الذهبي، ميزان الاعتدال: ج2 ص442، دار المعرفة ـ بيروت.

(5) ابن حجر، طبقات المدلسين: ص16، مكتبة المنار ـ الأردن.


الصفحة 283

قال: "قال شعبة بن الحجاج: التدليس أخو الكذب... وقال غندر: سمعت شعبة يقول: التدليس في الحديث أشد من الزنا، ولأن أسقط من السماء أحب إلي من أن أدلس... المعافى يقول: سمعت شعبة يقول: لأن أزني أحب إلي من أن أدلس"، ونقل الخطيب البغدادي عبارات أخرى في التدليس كـ "خرّب الله بيوت المدلّسين، ما هم عندي إلا كذابون" و"التدليس كذب"(1).

ثانياً: ضعفه في الرجال

لقد استدرك جملة من العلماء على أحكام البخاري وتصحيحه وتضعيفه في الرجال، وقاموا بإحصاء أوهامه وأخطائه وعدم معرفته بالرجال واعتماده الضعاف وتخريجه لرجال في الصحيح ضعفهم في تاريخه، وألّفوا في هذا المجال كتباً، من قبيل (الإلزامات والتتبع) للدارقطني، و (بيان خطأ البخاري) لابن أبي حاتم الرازي، و(موضع الأوهام) للخطيب، مما يدل على أن البخاري لا خبرة له في الرجال، ونذكر فيما يلي جملة من تلك الأقوال والشواهد:

قال الذهبي: "والبخاري ليس بالخبير برجال الشام، وهذه من أوهامه"(2).

وقال ابن رجب الحنبلي: "وقد ذكر البخاري في تاريخه: إن يحيى بن أبي المطاع سمع من العرباض اعتماداً على هذه الرواية، إلا أن حفاظ أهل الشام أنكروا ذلك, وقالوا: يحيى بن المطاع لم يسمع من العرباض ولم يلقه، وهذه الرواية غلط، وممن ذكر ذلك زرعة الدمشقي، وحكاه عنه دحيم، وهؤلاء أعرف بشيوخهم من

____________

(1) الخطيب البغدادي، الكفاية في علم الرواية: ص395، دار الكتاب العربي ـ بيروت.

(2) الذهبي، تاريخ الإسلام: وفيات 101 ـ 120، دار الكتاب العربي ـ بيروت.


الصفحة 284

غيرهم، والبخاري (ره) يقع له في تاريخه أوهام في أخبار أهل الشام"(1).

وقد أخرج في صحيحه عن جماعة كبيرة من الرجال الذين ثبت ضعفهم في الكتب الرجالية لأهل التحقيق في هذا المجال، وقد أحصى ابن حجر في مقدمته أكثر من ثلاثمائة راوي ضعفهم الرجاليون(2).

وقال الخطيب في الكفاية: "فإن البخاري قد احتج بجماعة سبق من غيره الطعن فيهم والجرح لهم كعكرمة مولى بن عباس في التابعين وكإسماعيل بن أبي أويس وعاصم بن علي وعمرو بن مرزوق في المتأخرين"(3).

ومنهم على سبيل المثال مروان بن الحكم، فقد أخرج له 23 حديثاً في مختلف أبواب الفقه، وقال عنه الذهبي: "وله أعمال موبقة نسأل الله السلامة، رمى طلحة بسهم وفعل وفعل"(4).

وقال بدر العيني: "في الصحيح جماعة جرحهم بعض المتقدمين"(5).

وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في شرحه لألفية السيوطي: "وقد وقع في الصحيحين أحاديث كثيرة من رواية بعض المدلسين"(6).

نعم حاول ابن حجر جاهداً أن يدافع عن أولئك الضعفاء، ولكنه تعسف في الإجابة وابتعد عن روح التحقيق والإنصاف، واشتمل كلامه على المتناقضات في هذا المجال، فإنه عندما ذكر يحيى بن يعلى المحاربي مثلاً

____________

(1) ابن رجب، جامع العلوم والحكم: ص259، دار المعرفة ـ بيروت.

(2) ابن حجر، مقدمة فتح الباري: ص550ـ 650.

(3) الخطيب البغدادي، الكفاية في علم الرواية: ص136.

(4) الذهبي، ميزان الاعتدال: ج4 ص89.

(5) بدر العيني، عمدة القاري: ج1 ص8، دار إحياء التراث العربي _ بيروت.

(6) أحمد محمد شاكر، شرح ألفية السيوطي: ص36.


الصفحة 285

في شرحه على البخاري يقول: "هو كوفي ثقة من قدماء شيوخ البخاري"(1)، وإذا ذكره في طريق حديث في مناقب أهل البيت يقول: "هو واه"، كما ذكر ذلك في ترجمة زياد بن مطرف في حديث: "من أحب أن يحيى حياتي ويموت مماتي ويدخل الجنة التي وعدني ربي وهي جنة الخلد فليتول علياً وذريته من بعده، فإنهم لم يخرجوكم باب هدى ولن يدخلوكم باب ضلالة"، يقول بعد ذكر الحديث: "في إسناده يحيى بن يعلى المحاربي وهو واه"(2).

مضافاً إلى أن البخاري قد احتج بجماعة ضعفهم بنفسه وأوردهم في الضعفاء.

قال الذهبي في ترجمة صالح بن عائذ: "وكان من المرجئة، قاله البخاري وأورده في الضعفاء لإرجائه، والعجب من البخاري يغمزه وقد احتج به"(3).

وقال أيضاً في ترجمة محمد الكوفي: "ومع كون البخاري حدّث عنه في صحيحه ذكره في الضعفاء"(4).

ومقسم بن بجرة روى له البخاري في صحيحه في كتاب المغازي وتفسير القرآن، قال أبو زرعة العراقي: "ذكره البخاري في الضعفاء وأخرج له في الصحيح، وضعفه ابن حزم"(5)، وقال الذهبي: "والعجب أن البخاري أخرج له في صحيحه وذكره في كتاب الضعفاء"(6).

____________

(1) ابن حجر، الإصابة: ج2 ص485، دار الكتب العلمية ـ بيروت.

(2) ابن حجر، فتح الباري: ج7 ص346.

(3) الذهبي، ميزان الاعتدال: ج1 ص289.

(4) المصدر نفسه: ج1 ص366.

(5) أبو زرعة، البيان والتوضيح: ص271، دار الجنان ـ بيروت.

(6) الذهبي، ميزان الاعتدال: ج4 ص176 رقم 8745.


الصفحة 286

والشواهد في هذا المجال كثيرة جداً يجدها الباحث عند تتبعه لكتب البخاري.

وهناك مؤاخذات كثيرة في عقيدة البخاري، وجوانب في شخصيته من جهات أخرى ستتضح عند مقارنة كتابه مع الكافي.

ثالثاً: نقله الحديث بالمعنى

اشتهر لدى الباحثين أن البخاري يعتمد في الحديث على النقل بالمعنى ويتحرز عن اللفظ، ولذلك قالوا: إنه لا يكتب الحديث عند السماع من الشيخ.

قال ابن حجر في مقدمته: "قال محمد بن الأزهر السجستاني: كنت في مجلس سليمان بن حرب، والبخاري معنا يسمع ولا يكتب، فقيل لبعضهم: ماله لا يكتب؟ فقال: يرجع إلى بخارى ويكتب من حفظه"(1).

وأخرج الخطيب البغدادي بسنده عن أحيد بن أبي جعفر والي بخارى، قال: "قال محمد بن إسماعيل يوماً: ربَّ حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام، وربَّ حديث سمعته بالشام كتبته بمصر، قال: فقلت: يا أبا عبد الله بكماله؟ قال: فسكت"(2).

____________

(1) ابن حجر، مقدمة فتح الباري: ص479.

(2) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد: ج2 ص11، دار الكتب العلمية ـ بيروت.


الصفحة 287

وفي تدريب الراوي عن أبي عبد الله الأخرم، قال: "والذي يظهر لي من كلام أبي علي أنه قدم صحيح مسلم لمعنى آخر غير ما يرجع إلى ما نحن بصدده من الشرائط المطلوبة في العصمة، بل لأن مسلم صنف كتابه في بلده بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه، فكان يتحرز في الألفاظ ويتحرى في السياق، بخلاف البخاري، فربما كتب الحديث من حفظه ولم يميز ألفاظ رواته، ولهذا ربما يعرض له الشك"(1).

ثم إنه لا يخفى ما للنقل بالمعنى من آفات خطيرة على إيصال مضمون الحديث بصورة كاملة وبأمانة تامة ونزيهة، ويعتبر النقل بالمعنى ظاهرة غير سليمة ولا صحيحه عند نقاد الحديث، ولذا حاولوا أن يقننوا هذه الظاهرة ضمن ضوابط خاصة، كالقدرة الفائقة على الحفظ والإتقان والضبط وعدم الشك وإن طال الزمن وبعدت المسافات، وهذا ما افتقده البخاري بشهادة ما ذكرناه من أقوال العلماء فيه، فربما أخذ الحديث من البصرة وكتبه بالشام وهذه المسافة الشاسعة، مع ما تتطلبه من مدة زمنية طويلة لقطعها مع أهوال السفر ومتاعبه، مما يؤثر على ذاكرة الراوي وإن كان معروفاً بالإتقان والحفظ؛ لأن الإنسان مهما كان لا يخرج عن طبيعته الإنسانية، خصوصاً مع ملاحظة كثرة الروايات وتداخلها وتشعبها.

ومن منطلق ما ذكرناه يتضح السبب في جملة من المشاكل الآتية التي توفر عليها كتاب البخاري كالمكررات والمدرجات السندية والمتنية والزيادة أو النقيصة في كثير من الأحاديث بالمقارنة مع نظائرها في المصادر الحديثية المعتبرة الأخرى، وكذا إخراج الحديث في صحيحه تاماً بإسناد واحد بلفظين أو ذكر الحديث في غير بابه وعقد الباب في غير كتابه، إلى غير ذلك من المشاكل التي تضمنها صحيح البخاري بسبب نقله بالمعنى.

____________

(1) السيوطي، تدريب الراوي: ص70، دار الحديث ـ القاهرة.


الصفحة 288

وهذا على خلاف ما اشتهر عند الشيعة وغيرهم عن الكليني في الكافي من ضبطه وإتقانه، فمع أن عدد أحاديثه يبلغ ويناهز الستة عشر ألف حديث، في أكثر من ألفي باب، وهو أضعاف ما في صحيح البخاري، فلا ترى فيه حديثاً مذكوراً في غير بابه، أو أنه عقد باباً في غير كتابه، وقلّما يوجد فيه باب غفل عن ترجمته ولا ترى فيه خبراً من أصل واحد بسند واحد بلفظين.

وإنك إذا تتبعت كلمات العلماء وكتبهم لا تعثر على من ينسب إلى الكليني تصرفه في لفظ الحديث أو نقله بالمعنى أو أنه رواه عما حفظه.

رابعاً: ضعفه في الفقه وفتاواه العجيبة

ومما يكشف عن ضعف الشخصية العلمية للبخاري هو ضعفه في المسائل الفقهية، وقد نقلت عنه في هذا المجال فتاوى عجيبة خالفت إجماع الفقهاء والمشهور بينهم، مما أوجب الرد عليه من قبل العلماء وردعه عن ارتكاب تلك المخالفات الفاضحة، التي تكشف عن قصر نظره وباعه في هذا المجال، والشواهد على ذلك كثير ننقل منها ما يتناسب مع هذا المختصر:

ثبوت الحرمة بالرضاع من لبن البهائم

قال السرخسي في المبسوط: "ولو أن صبيين شربا من لبن شاة أو بقرة لم تثبت به حرمة الرضاع؛ لأن الرضاع معتبر بالنسب، وكما لا يتحقق النسب بين آدمي وبين البهائم فكذلك لا تثبت الرضاع بشرب لبن البهائم، وكان محمد بن إسماعيل البخاري صاحب التاريخ (رض) يقول: تثبت الحرمة، وهذه المسألة كانت سبب إخراجه من بخارى، فإنه قدم بخارى في زمن أبي حفص الكبير (ره) وجعل يفتي فنهاه أبو حفص، وقال: لست بأهل له، فلم ينته حتى سئل عن هذه المسألة فأفتى


الصفحة 289

بالحرمة فاجتمع الناس وأخرجوه"(1).

وقال قاضي القضاة الإسكندري: "وبلغني عن الإمام أبي الوليد الباجي أنه كان يقول: يسلّم للبخاري في علم الحديث ولا يسلّم له في علم الفقه، ويعلل ذلك بأن أدلته عن تراجمه متقاطعة، ويحمل الأمر على أن ذلك لقصور في فكرته وتجاوز عن حدّ فطرته، وربما يجدون الترجمة ومعها حديث يتكلف في مطابقته لها جدّاً ويجدون حديثاً في غيرها هو بالمطابقة أولى وأجدى، فيحملون الأمر على أنه كان يضع الترجمة ويفكر في حديث يطابقها فلا يعن له ذكر الجلي فيعدل إلى الخفي، إلى غير ذلك من التقادير التي فرضوها في التراجم التي انتقدوها فاعترضوها"(2).

عدم وجوب الغسل بالجماع

فقد أخرج البخاري في صحيحه في باب "غسل ما يصيب من فرج المرأة" رواية عثمان بن عفان، ينكر فيها وجوب الغسل مع الجماع وعدم الإمناء، وفتواه على ذلك، بينما الإجماع على خلاف ذلك، قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: "اعلم أن الأمة مجتمعة الآن على وجوب الغسل بالجماع وإن لم يكن معه إنزال وعلى وجوبه بالإنزال"(3)، وقال ابن حجر: "واستشكل ابن عربي كلام البخاري، فقال: إيجاب الغسل أطبقت عليه الصحابة ومن بعدهم، وما خالف فيه إلا داود ولا عبرة بخلافه، وإنما الأمر الصعب مخالفة البخاري وحكمه بأن الغسل مستحب"(4).

____________

(1) السرخسي، المبسوط: ج30، دار المعرفة ـ بيروت.

(2) ناصر الدين الإسكندري، المتواري على تراجم أبواب البخاري: ص36ـ 37، مكتبة المعلا ـ الكويت.

(3) النووي، شرح صحيح مسلم: ج4 ص36، دار الكتاب العربي ـ بيروت.

(4) ابن حجر، فتح الباري: ج1 ص340، دار المعرفة ـ بيروت.


الصفحة 290

المقارنة بين كتابي الكافي والبخاري

بعد أن انتهينا من استعراض مقارنة موجزة سلطنا فيها الضوء على الشخصية العلمية لكل من الكليني والبخاري، ننتقل إلى تسليط الضوء على بعض الجوانب العلمية لكتابي الكافي والبخاري والتي أغفلها الدكتور في مقارنته المختصرة.

1ـ وقفة مع كتاب الكافي

لقد وقف علماء الشيعة وفقهاؤهم من كتاب الكافي موقفاً يتسم بالعقلانية والاعتدال والابتعاد عن جانبي الإفراط والتفريط وبعيداً عن التقديس والإسراف في المغالاة، فتعاملوا مع الكتاب بحدود كونه روايات وأحاديث وآراء اجتهد الكليني في جمعها وتلقيها عن الرواة والمشايخ وتبويبها وتصحيحها بمقدار وسعه وقدرته البشرية في هذا المجال، فأدخلوه ضمن الآليات العلمية في قبول الحديث أو ردّه وتصحيحه أو تضعيفه، فحفظوا له حسناته وأشادوا بها وأكبروا فيه الدقة والأمانة وروح التحقيق العالية، ولم يمنعهم ذلك من تخطئته في بعض الموارد التي للاجتهاد فيها مجال واسع، وهذا ما يكشف عن حيوية المذهب الشيعي وتحرره وقدرته الكبيرة على كثرة العطاء والقابلية على الدوام والاستمرار.

ونشير فيما يلي إلى بعض الجوانب الوضاءة التي تضمنها كتاب الكافي:

أ ـ اهتمام الكتاب بمسائل العقيدة:


الصفحة 291

جعل الكليني كتابه الكافي مؤلفاً من قسمين أساسيين هما: أصول الدين وفروعه، مما يكشف عن نظرته الثاقبة والشمولية لمنظومة الشريعة الإسلامية، وقد أعطى مساحة واسعة للفكر والعقيدة وأفرد للأصول كتبه وأبوابه الخاصة، ثم عالج الكليني كثيراً من الأمور والمسائل الكلامية ذات العلاقة الوطيدة بالعقيدة الإسلامية، وذلك عبر رواياته المتضافرة في أصول الكافي، وهو لم يترك الروايات التي أخرجها في هذا المجال خالية عن التعليق والتعقيب، فكشف عن قدرة عالية في بيان آرائه الكلامية في مواطن متعددة من كتابه، كالأحاديث الواردة في صفات الذات وصفات الفعل، معقباً عليها بكلامه تحت عنوان: (جملة القول ما في صفات الذات وصفات الفعل) مبيناً الفرق بينهما باعتبار أن صفات الذات هي عين الذات الإلهية المقدسة، ولما كانت ذاته تعالى مما لا ضد لها فاستحال أن يوصف الله عز وجل بضدها كالعلم والقدرة والحياة والعزة والحكمة والحلم والعدل، مع إمكان اتصافه تعالى بأضداد صفات الفعل كالرضا وضده السخط، والحب وضده البغض، وهكذا في صفات الفعل الأخرى.

وحيث إن كل باحث لابد أن يؤسس لنظريته في المعرفة ويؤصل ويقعّد المبادئ التي ينطلق منها ويستند إليها في بنائه الفكري والمعرفي، ليقف على أرضية صلبة في معرفة التوحيد وباقي الأصول الأخرى، فلذا نجد أن الكليني قدّم في مبحث أصول الكافي كتاب العقل والجهل وكتاب العلم، ثم انطلق من الرؤية التي قدم بيانها وأسس بنيانها إلى المسائل العميقة والشريفة في علوم التوحيد من خلال عقد باب خاص في أحاديث توحيد الله تعالى أسماه بـ (كتاب التوحيد)، ثم أعقبه بما يقوم به على الناس الحجة لله تعالى وهم الأنبياء والرسل والأوصياء، فبين من خلال الأحاديث


الصفحة 292

عن أهل البيت(عليهم السلام) معالم النبوات وشرائع الرسل ومناهج الأوصياء(عليهم السلام)، ثم انتقل إلى بيان مبادئ الإيمان والإسلام والحدود التي تخرج الإنسان عن الدين أو تدخله فيه مع بيان صفات المؤمنين والمسلمين واختلافها عن صفات الفاسقين والمنافقين والكافرين، ثم ذكر بعد ذلك فضل القرآن وثواب قراءته وحمله وتعلّمه وختمه وشفاعة القرآن لأهله.

وختم أصوله بما يوطد عرى العلاقات الاجتماعية بين المؤمنين ويشيع ثقافة التعايش بين المسلمين، حيث أفرد لذلك كتاباً أسماه بـ (كتاب العشرة).

وهذا كلّه يدل على سعة الأفق الفكري للكافي والتسلسل العقلاني والمنطقي لأصول الدين في فكر الكليني.

ب ـ متانة أسناد الكافي:

لقد سلك الكليني في الكافي (أصولاً وفروعاً) في أسناد الأحاديث وطرقها ورجالها مسلكاً يكشف عن قابلية نادرة واطلاع واسع وعلم غزير في تتبع روايات أهل البيت(عليهم السلام) والالتزام التام في ذكر سلسلة السند كاملة في رواياته إلا ما ندر منها.

ومن منهجه في هذا المجال هو التتبع والتحري عن أكثر من طريق واحد للرواية، ولم يكتف بالمنهج السائد والمتبع وهو الالتزام في أغلب الأحيان بالطريق الواحد، فإذا ما توافر للكليني طريقان وكل منهما ينتهي إلى واحد من أئمة أهل البيت(عليهم السلام) ذكرهما معاً في السند، وذلك بعطف الثاني على الأول مع الإشارة إليهما بعبارة (جميعاً)، بل قد يتعدى الكليني إلى ذكر ثلاث طرق للرواية الواحدة.


الصفحة 293

ومن منهجه كذلك أن يروي عن أكثر من راو واحد في كل طبقة من طبقات السند، وأكثر ما يكون هذا التعدد في طبقة شيوخه أو الطبقة التي تروي عن الإمام من أهل البيت(عليهم السلام)، وفي هذا دليل على كثرة سماعه من الشيوخ ومصاحبته لهم، ولهذا المنهج فوائده الجمة، منها تلافي ضعف الرواية الناشئ من السند لأسباب مختلفة، كضعف أحد رواتها أو وجود عبارات مجهولة في السند، مثل (عمن حدثه) أو وجود مجهول لم تذكره كتب الرجال أو غير ذلك من أسباب التضعيف.

ولكل ما ذكرناه شواهده وأمثلته، أعرضنا عن ذكرها رعاية لجانب الاختصار.

كما أن للكليني دراية واسعة بأسماء الرجال وبلدانهم وألقابهم وكناهم، وتظهر هذه المعرفة جلية فيما ذكره عن رجال سنده في أحاديث الأصول والفروع من الكافي، حيث لا يقتصر فيها على أسمائهم، بل يضيف لهذه الأسماء ما تعرف به من كنية أو نسب أو لقب، كالنسبة إلى مدينة أو صنعة أو حرفة أو غير ذلك، كقوله: "عن الهيثم أبي روح صاحب الخان"(1)، وأمثلة ذلك كثيرة أيضاً.

وكل من تتبع أسانيد الكافي في نقل الحديث وروايته تظهر له أمانة الكليني في نقل الحديث وروايته، وذلك بالتزامه بألفاظ الحديث وألفاظ مشايخ السند واحداً عن آخر ونقلها كما هي، ولذا قال المحدث النوري في مستدركه في حديثه عن الكافي: "ويمتاز عمّا سواه من كتب الحديث بقرب عهده إلى الأصول المعول عليها والمأخوذ عنها وما فيه من دقة الضبط وجودة الترتيب وحسن التبويب وإيجاز العناوين، فلا ترى فيه حديثاً ذكر في غير بابه، كما أنه لم ينقل الحديث بالمعنى أصلاً، ولم يتصرف فيه، كما حدث للبخاري مرات ومرات.

____________

(1) الكليني، الكافي: ج7 ص154.


الصفحة 294

ومع جلالة قدره وعلو شأنه بين الأصحاب، لم يقل أحد بوجوب الاعتقاد بكل ما فيه ولم يسم صحيحاً كما سمي البخاري ومسلم"(1).

ج ـ الغزارة العلمية في أحاديث الكافي:

تمتاز متون أحاديث الكافي بتوسطها وتحلّيها بالآيات القرآنية الكريمة بنحو وافر جدّاً، وفي بعضها تكثيف واضح بالآيات، فهو بحكم موضوعه العقائدي والفقهي يتطلب مراعاة آيات العقيدة والأحكام والاستشهاد بها، مما يمكن اعتبار ذلك من المميزات المهمة لمتون روايات الكافي، وقد تضمنت الآيات الجانب الاستدلالي والتفسيري والتركيز على أسباب النزول، وهذا ما ينفع في تطبيق الآيات القرآنية وتفعيلها في جانب الأحكام والعقيدة.

د ـ تعقيب الأحاديث بالآراء والاجتهادات:

لقد تضمنت روايات الكافي آراءً واجتهادات كثيرة، هي غالباً ما تكون للكليني نفسه أو أحد الرواة المشهورين من أصحاب الأئمة، كابن أبي عمير وزرارة بن أعين والفضل بن شاذان ومعاوية بن عمار ويونس بن عبد الرحمن وأترابهم، وقد تأتي هذه التعقيبات ـ المستفادة من وحي الآيات والروايات ـ توضيحاً لمرامي النص وأهدافه، أو بياناً للموقف تجاه الروايات التي قد يظهر منها التعارض في بعض متونها وبيان وجوه الجمع فيما بينها أو غير ذلك.

____________

(1) الميرزا النوري، مستدرك الوسائل: ج1 ص28ـ29، مؤسسة آل البيت ـ قم.


الصفحة 295

وقد أبدى الكليني براعة فائقة في تعقيباته على المتون، والتي جاءت تذييلاً لما قد يعتري بعض النصوص من الغموض والتعقيد على الفهم العام، وذلك باتباع منهج الشرح والإيضاح، أو دفع إيهام التعارض في المرويات ورأيه واجتهاده في ذلك، وأمثلة هذا المنهج في الكافي واضحة لمن طالع الكتاب(1).

هـ أبواب الفروع وقوة الفقاهة:

تضمن الكافي بالإضافة إلى ما ذكرناه في تبويب الأصول أبواباً مفصلة في بيان الفروع من الأحكام الشرعية، وقد احتلت القسم الأكبر من الكتاب، حيث وزعها الكليني على ستة وعشرين كتاباً، تبدأ بكتاب الطهارة وتنتهي بكتاب الإيمان والنذور والكفارات، ثم قسم الكليني هذه الكتب إلى عدد كبير من الأبواب بلغ مجموعها التقريبي ألفاً وسبعمائة وستة وسبعين باباً، وقد روى في هذه الكتب بأبوابها (عشرة آلاف وتسعمائة وأحد عشر حديثاً) وهي مع الأصول ستة عشر ألفاً ومائة وتسع وتسعون حديثاً.

ولا يخفى أن هذا التبويب والترتيب لتلك المجموعة الكبيرة من الأحاديث جاء نتيجة لنظرة الكليني الفقهية الثاقبة باعتباره فقيهاً مجدداً في عصره، واستطاع بمهارته الفقهية أن يوفر بكثرة الأبواب الجهد لمن أراد الاطلاع على الأحكام الشرعية من خلال أحاديث الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام) بسهولة ويسر، وذلك باستنباطه عناوين الأبواب من مضامين أحاديثها والأحكام الواردة فيها.

____________

(1) لاحظ: الكافي: ج3 ص289ـ 290، وج6 ص134 وج7 ص290.


الصفحة 296

2ـ وقفة مع كتاب البخاري

انتهج أعلام الطائفة السنية في الأعم الأغلب منهجاً اتسم بالغلو والإفراط في تعاملهم مع كتاب البخاري، فأوصدوا بذلك آفاق الموضوعية والبحث العلمي والتحرر الفكري وجمّدوا حركة العلم وأوقفوا سفينته على أعتاب كتاب البخاري، مما اضطرهم إلى الولوج في سبل التأويل والترقيع والتمحلات والتوجيهات الباردة البعيدة عن المنطق والتي يمجها الذوق والعقل السليم، وتكفيك نظرة إجمالية لشروح البخاري لتخرج بتلك الفكرة وذلك الانطباع.

وفيما يلي لمحة عن مغالاة بعض أعلام السنة في كتاب البخاري:

أـ قال السيوطي في شرحه لعبارة النووي في التقريب: "وذكر الشيخ ـ يعني ابن الصلاح ـ إن ما روياه أو أحدهما فهو مقطوع بصحته والعلم القطعي حاصل فيه"(1)، وقد أفرط أبو الصلاح فشط بعيداً وذهب إلى عصمة البخاري عن الخطأ وأنه يفيد القطع والعلم اليقيني النظري، فإنه بعد أن ذكر ما نقلناه عنه، ذكر القول المخالف قائلاً: "خلافاً لقول من نفى ذلك محتجاً بأنه لا يفيد في أصله إلا الظن وإنما تلقته الأمة بالقبول؛ لأنه يجب عليهم العمل بالظن والظن قد يخطأ، وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قوياً، ثم بان لي أن المذهب الذي

____________

(1) السيوطي، تدريب الراوي: ص102، دار الحديث ـ القاهرة.


الصفحة 297

اخترناه أولاً هو الصحيح؛ لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ"(1).

وهكذا ترى يا سعادة الدكتور كيف أنكم بعد أن سلبتم العصمة المطلقة من الخطأ وغيره عن أصفياء وأولياء مرتبطين بالسماء وهم الأنبياء والرسل، نحلتم هذه الصفة إلى أناس عاديين وأعطيتموهم شعاراً عريضاً ووصفاً براقاً أسميتموه بـ (الأمة) لكي يكون له وقعاً في نفوس البسطاء من عموم المسلمين، وعندما نأتي للتعرف على مفهوم الأمة لا نجده يتجاوز فئات وأفراد وصفتموهم بأهل العلم أو أهل الحل والعقد، ثم سوّقتم هذا المبدأ وأخذ ينتشر انتشار النار في الهشيم في مجمل متبنياتكم الفكرية والعقيدية، وأصبح حلاً للكثير من المعضلات التي تواجهكم، ومن ذلك ما أوردناه عن ابن الصلاح، حيث بنى على عصمة كتاب البخاري لعصمة الأمة التي تلقته بالقبول.

بـ وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: "وقد قال إمام الحرمين: لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي(صلى الله عليه وآله) لما ألزمته الطلاق ولا حنّثته، لإجماع علماء المسلمين على صحتهما"(2).

وفي عقيدتي أن الحنث حاصل لا محالة، وأن إمام الحرمين سيغير فتواه لو اطلع على ما نقلناه وما سنذكره من مخالفات وهفوات واضحة وفاضحة عن البخاري وصحيحه.

____________

(1) ابن الصلاح، مقدمة ابن الصلاح: ص10، مكتبة الفارابي.

(2) النووي، شرح النووي على مسلم: ج1 ص19ـ 20، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.


الصفحة 298

جـ وعن أبي زيد المروزي قال: "كنت نائماً بين الركن والمقام فرأيت النبي(صلى الله عليه وآله) في المنام، فقال لي: يا أبا زيد، إلى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي، فقلت: يا رسول الله، وما كتابك؟ قال: جامع محمد بن إسماعيل"(1).

ولا أدري كيف يطلب رسول الله(صلى الله عليه وآله) من المروزي أن يترك كتاب الشافعي ويشتغل بصحيح البخاري، مع أنه قد اتفق لبعض أولياء الله تعالى ـ كما يزعم ـ: "أنه رأى ربه في المنام، فقال: يا رب، بأي المذاهب أشتغل؟ فقال له: مذهب الشافعي"(2)، فهل يعقل أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) يخالف أوامر ربه تبارك وتعالى؟!!

د ـ وقد ورد في مقدمة فتح الباري لابن حجر: "إن صحيح البخاري ما قرئ في شدة إلا فرجت، ولا ركب به في مركب فغرق"(3).

وكيف لنا أن نصدق بهكذا كرامات، مع أن كثيراً ممن نعرفهم بحسب علمنا من السنة والشيعة غرقت بهم السفن والمراكب وكانوا يحملون كتاب الله عز وجل، وهل أن كتاب البخاري أصح وأشرف وأعظم كرامة من كتاب الله تعالى؟!!

وسيتضح مما سنورده من مقتطفات حول هفوات وعثرات البخاري أن تلك الأقوال والرؤى مخالفة لواقع الكتاب، وقيمته العلمية.

____________

(1) ابن حجر، مقدمة فتح الباري: ص490، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.

(2) الشرواني، حواشي الشرواني: ج1 ص53، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.

(3) ابن حجر، مقدمة فتح الباري: ص11.


الصفحة 299

مؤاخذات على كتاب البخاري

أولاً: الجامع الصحيح لم يكتمل في حياة البخاري

من المعروف أن النسخة الرائجة والمتداولة بين الناس هي النسخة التي كانت على رواية محمد بن يوسف الفربري، والراوي عنه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد المستملي، والمستملي هذا يقول: "استنسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفربري، فرأيت فيه أشياء لم تتم وأشياء مبيضة، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئاً، ومنها أحاديث لم يترجم لها، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض، قال أبو الوليد الباجي: ومما يدل على صحة هذا القول أن رواية أبي إسحاق المستملي ورواية أبي محمد السرخسي ورواية أبي الهيثم الكشمهيني ورواية أبي زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير، مع أنهم انتسخوا من أصل واحد، وإنما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرّه أو رقعة مضافة أنه من موضع ما فأضافه إليه، ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينهما أحاديث"(1).

وهذا يعني أن كتاب الصحيح لم يكتمل في حياة مؤلفه وإنما أكمله الآخرون من النسّاخ وغيرهم، وهذا ما يلقي بظلاله على حجية الكتاب والشك في نسبته إلى مؤلفه، مما يفقده اعتباره ومكانته المزعومة، ولا أقل من إعمال الاجتهاد والتحقيق في تمحيص مطالبه دون التسليم والقطع بما فيه لتلقّي الناس له بالقبول.

____________

(1) ابن حجر، مقدمة فتح الباري: ص6.


الصفحة 300

ثانياً: العقائد الفاسدة في صحيح البخاري

1ـ عقيدة التجسيم:

إنّ الذي يطالع كتاب التوحيد في البخاري ـ والذي جعله آخر الكتب ـ يجده مليئاً وحافلاً بالروايات الصريحة في التجسيم وإثبات الصورة والساق وغير ذلك لله تعالى، وهذا يعني فيما يعنيه محدودية الذات الإلهية والنقص والاحتياج وغير ذلك من الأمور التي تنافي التوحيد الإسلامي الأصيل، ذلك الأمر الذي تصدى لإبطاله ـ وتنزيه الباري تعالى عن الاتصاف به ـ كل علماء الإمامية وكثير من علماء الطائفة السنية(1).

وفيما يلي بعض النصوص الصريحة في التجسيم من روايات البخاري:

أ ـ قوله: "فيأتي الله فيقول: أنا ربكم؟ فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم؟ فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه"(2).

فإن هذه الرواية صريحة في إثبات الصورة لله تعالى وتلوّنها بألوان مختلفة.

وفي لفظ آخر: "فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟، فيقولون: الساق فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن"(3).

ب ـ "يقال لجهنم هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها، فتقول: قط قط".

____________

(1) لاحظ: شرح المقاصد، التفتازاني: ج4 ص43ـ 44؛ تمهيد الأوائل، الباقلاني: ص223ـ 224.

(2) البخاري، الجامع الصحيح: ج4 ص429، كتاب التوحيد ح7437، مكتبة الإيمان ـ المنصورة.

(3) البخاري، الجامع الصحيح: ج4 ص431، كتاب التوحيد ح7439.