الصفحة 326

ويضاف إلى ذلك أنكم اعتمدتم في مصادركم على أسانيد وطرق تضمنت رجالاً ورواة عرفوا بالنصب والعداء لأهل البيت(عليهم السلام) كالخوارج وغيرهم، ووصفتموهم بأنهم أصدق لهجة وأكثر تصلّباً وتمسّكاً بالسنة، حتى عدّ عمران بن حطان(1) وحريز بن عثمان الشامي(2) والحصين بن نمير(3) وأترابهم من رجال الصحيح، ويستبعد في الوقت ذاته مثل الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام)، بل يغمز فيه، بينما يطعن في الراوي ويترك حديثه إذا كان متهماً بالتشيع ومحبة أهل البيت(عليه السلام)، حتى عدّ ذلك من ألفاظ الجرح وأسبابه عندكم، وهذا ما يعطينا الحق في أن نعرض عما سطرته كتبكم من أحاديث وروايات على أنها سنة رسول الله(صلى الله عليه وآله).

ثم إننا لا ندعي أن كل ما ورد في كتبكم فهو كذلك، أي باطل ولم يصدر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، إلا أننا نعتقد أنها فقدت آلية التمييز والتمحيص الصحيحة، بعد أن ابتليت موازينكم من الجرح والتعديل بما ذكرناه.

وليس غرضنا مما بيناه أن نحمل في سرائرنا حقداً أو ضغينة على الصحابة أو رواة الحديث، وإنما العقيدة الحقّة تملي علينا أن لا نحابي أحداً مهما أحيط بهالات التقديس والتبجيل.

وأما ما نسبتموه إلى الشيعة من أنهم يكفِّرون ويفسِّقون الصحابة إلا أربعة، فقد استندتم فيه إلى بعض الروايات الواردة في كتبنا والتي أسأتم فهمها(4)، وسيأتي بيانها لاحقاً.

____________

(1) روى له البخاري في لبس الحرير، صحيح البخاري: كتاب اللباس، رقم 5387.

(2) روى له البخاري في كتاب المناقب، رقم 3247 - 3287.

(3) روى له البخاري في كتاب الأنبياء وفي كتاب الطب.

(4) وقد وجد هذا المضمون في المصادر المعتمدة من كتب أهل السنة، روى المزّي والذهبي وابن حجر وغيرهم عن عمرو بن ثابت، قال: >لما مات النبي(صلى الله عليه وآله) كفر الناس إلاّ خمسة<. تهذيب الكمال: ج21 ص557، تهذيب التهذيب: ج8 ص9، سؤالات الآجري لأبي داود سليمان بن الأشعث: ج1 ص341، البداية والنهاية: ج6 ص91.


الصفحة 327

فقهيات شاذة في المذهب السنّي

قلتم في ص56 تحت عنوان (فقهيات شاذة عند الشيعة) في مقام استعراض فتوى أبي حنيفة التي تنصّ على نفي الحد عمن استأجر امرأة ليزني بها:

"وهذه الفتوى الغريبة من أبي حنيفة ليست بأغرب من كثير من الفتاوى الشيعية والتي أطلقها علماء الشيعة قديماً وحديثاً في المتعة وغيرها".

ثم نقلتم من الفتاوى القديمة روايتين في تحليل المالك جاريته للآخرين، واستعرضتم من الفتاوى الحديثة كلاماً غريباً ومستنكراً عن المدعو حسين الموسوي، والذي لا يعدو كونه قصة مفتعلة من شخصية مصطنعة أو مجهولة الحال في الوسط الشيعي، وليس لها أثر ولا عين في المجالات العلمية، وقد تناهى إلى أسماعنا أخيراً أن المسمى بالموسوي كان من الشخصيات السنية المتعصبة والمدسوسة، والتي كان غرضها النيل من مذهب الشيعة وعلمائهم، كما سمعنا أيضاً أنه قد اعترف بفعلته وأعلن توبته وندمه، واهتدى إلى مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، وألّف كتاباً في الرد على ما ذكره من أراجيف ضد الشيعة.

ثم إنكم أوردتم تحت العنوان ذاته فتويين عن الإمام الخميني والسيد الخوئي (رحمهما الله) في مسألة فقهية اجتهادية لم تخل منها كتبكم الفقهية والروائية، كما سيتبين من خلال استعراضنا لبعض الفتاوى الشاذة في مذاهبكم.


الصفحة 328

ثم أوحيتم إلى القارئ أن الفتاوى الشاذة في مذهبكم منحصرة بأبي حنيفة، مع أننا أوردنا فتاواه الشاذة على سبيل المثال، وسنذكر بعض النماذج الفقهية الشاذة عن أبي حنيفة وغيره من أئمة وعلماء المذاهب السنية، ولكثرة ما ورد في هذا المجال نقتصر على ذكر بعض تلك الفتاوى ضمن العناوين التالية:

أولاً: الفتاوى الغريبة والشاذة عند أئمة المذاهب السنية

نحاول فيما يلي الإشارة إلى أمثلة في هذا المجال:

1ـ ذهب أحمد بن حنبل إلى أن أقصى مدة الحمل أربع سنين، فلو طلق الرجل امرأته أو مات عنها، فلم تنكح زوجاً آخر، ثم جاءت بولد بعد أربع سنين من الوفاة أو الطلاق، لحقه الولد، وانقضت العدة به(1).

كما قال أيضاً ابن قدامة في المغني: "ظاهر المذهب إن أقصى مدة الحمل أربع سنين، به قال الشافعي، وهو المشهور عن مالك، وروي عن أحمد أن أقصى مدته سنتان، وروي ذلك عن عائشة، وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة... وقد وجد ذلك، فإن الضحاك بن مزاحم وهرم بن حيان، حملت أم كل واحد منهما به سنتين، وقال الليث: أقصاه ثلاث سنين، حملت مولاة لعمر بن عبد الله ثلاث سنين، وقال عباد بن العوام: خمس سنين، وعن الزهري قال: قد تحمل المرأة ست سنين وسبع سنين، وقال أبو عبيد: ليس لأقصاه وقت يوقف عليه، ولنا أن مالا نص فيه يرجع فيه إلى الوجود وقد وجد الحمل لأربع سنين، فروى الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس: حديث جميلة بنت سعد عن عائشة لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل،

____________

(1) النووي، المجموع: ج18 ص194، دار الفكر ـ بيروت.


الصفحة 329

قال مالك: سبحان الله من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين قبل أن تلد، وقال الشافعي: بقي محمد بن عجلان في بطن أمه أربع سنين، وقال أحمد: نساء بني عجلان يحملن أربع سنين وامرأة عجلان حملت ثلاث بطون كل دفعة أربع سنين، وبقي محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي في بطن أمه أربع سنين، وهكذا إبراهيم بن نجيح العقيلي حكى ذلك أبو الخطاب، وإذا تقرر وجوده وجب أن يحكم به ولا يزاد عليه؛ لأنه ما وجد"(1).

وفي المحلى لابن حزم: "قالت طائفة: يكون الحمل سبع سنين ولا يكون أكثر، وهو قول الزهري ومالك، واحتج مقلدوه بأن مالكاً ولد لثلاثة أعوام"(2).

ولا شك إن أدنى ما يمكن أن يترتب على مثل هذه الآراء والفتاوى الخرافية ـ المخالفة للواقع والوجدان وبديهيات الطب ـ من المفاسد الاجتماعية والحقوقية، أنها تفتح باباً واسعاً لانتشار الزنا وشرعنة البغاء، وذلك بإضفاء الغطاء الشرعي وإعطاء الحماية القانونية لكل مومسة لم تستطع التخلص من لقيطها، من خلال ما تزعمه من نسبة الجنين الذي في بطنها إلى زوجها الذي فارقها أو مات عنها قبل أربع سنين أو أكثر من دون أن يعلم عنها الزوج السابق شيئاً.

كما أن ذلك يوجب اختلاط المياه وضياع الأنساب والمواريث، ويفرغ الحكم بحرمة الزنا عن معناه.

____________

(1) ابن قدامة، المغني: ج9 ص116- 117، دار الكتاب العربي ـ بيروت.

(2) ابن حزم، المحلي: ج10 ص317، دار الفكر ـ بيروت.


الصفحة 330

2ـ في مذهب أحمد بن حنبل: "إذا ادعى اثنان ولداً فإن لم يكن لأحدهما بينة، أو كان لكل منهما بينة تعارض الأخرى، فهنا يعرض على القافة، فإن ألحقه القافة بأحدهما لحق به، وإن ألحقوه بالاثنين لحق بهما، فيرثانه جميعاً ميراث أب واحد، ويرثهما ميراث ابن"(1).

وتعقيباً على هذه الفتوى الغريبة نتساءل: هل سوف يُمنح الوليد بطاقتين شخصيتين؟ وكم هو سعيد الحظ إذا كان أبواه من بلدين مختلفين؟!

3ـ أفتى مالك بن أنس بطهارة الكلاب والخنازير، وسؤرهما طاهر يتوضأ به ويشرب، وإن ولغا في طعام لم يحرم أكله، وعنده أن الأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب فيه مجرد تعبد(2).

وأفتى أيضاً بجواز أكل الحشرات، كالديدان والصراصير والخنافس والفئران والجراذين والحرباء والعضاء، والحية حلال إذا ذكيت(3).

وإنه ليتبادر إلى ذهني سعادة الدكتور عند قراءة مثل هذه الفتاوى أنها تفيد سواح المسلمين الذين يرتادون المطاعم الصينية!

كما أفتى مالك أيضاً بحلية زواج الرجل من بنته التي أولدها من الزنا، ومن أخته وبنت ابنه، وبنت بنته، وبنت أخيه وأخته من الزنا أيضاً، مستدلاً بأنها أجنبية عنه، ولا تنتسب إليه شرعاً، ولا يجري التوارث بينهما، ولا تعتق عليه إذا ملكها، ولا تلزمه نفقتها، فلا يحرم عليه نكاحها كسائر الأجانب(4).

4ـ أفتى الشافعي بحلية الزواج من بنته من الزنا، ومن أخته وبنت ابنه، وبنت بنته، وبنت أخيه وأخته من الزنا(5).

____________

(1) النووي، المجموع: ج17 ص410.

(2) ابن قدامة، المغني: ج1 ص41.

(3) المصدر السابق نفسه: ج7 ص64.

(4) المصدر نفسه: ج7 ص485.

(5) المصدر نفسه: ج7 ص485.


الصفحة 331

وإلى ذلك أشار الزمخشري في أبياته المعروفة قائلاً:

فإن شافعياً قلت قالوا بأنني

أبيح نكاح البنت والبنت تحرم(1)

وأفتى أيضاً بحلية الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها؛ لأن التسمية مستحبة عنده غير واجبة، لا في عمد ولا في سهو، وهذا القول مروي أيضاً عن أحمد بن حنبل(2)، مع أن الله تعالى يقول: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}(3).

كما أخرج الشافعي في كتابه (الأم) عن قبيصة بن ذؤيب: "أن رجلاً سأل عثمان بن عفان عن الأختين من ملك اليمين هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان: أحلتهما آية وحرمتهما آية، وأما أنا فلا أحب أن أصنع ذلك، قال: فخرج من عنده فلقي رجلاً من أصحاب النبي "صلى الله عليه وسلم"، فقال: لو كان لي من الأمر شيء، ثم وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالاً.

قال مالك: قال ابن شهاب: أراه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه"(4).

5ـ وعن أبي حنيفة أن الرجل لو تزوج في المشرق بامرأة في المغرب، ثم مضت ستة أشهر، وأتت بولد، فإنه يلحق به؛ لأن الولد إنما يلحقه بالعقد ومضي مدة الحمل، وإن علم أنه لم يحصل منه الوطء، وأفتى بأنه لو تزوج رجلان امرأتين، فغلط بهما عند الدخول، فزفت كل واحدة إلى زوج الأخرى، فوطأها وحملت منه، لحق الولد بالزوج لا بالواطئ؛ لأن الولد للفراش(5).

____________

(1) نقلاً عن مقدمة الكشاف للزمخشري: ج1 ص4.

(2) النووي، المجموع: ج8 ص409.

(3) الأنعام: 121.

(4) المصدر نفسه: ج5 ص3.

(5) ابن قدامة، المغني، ج9 ص54.


الصفحة 332

هذا وقد عقد ابن أبي شيبة في كتابه (المصنف) باباً لمخالفات أبي حنيفة للأحاديث المروية عن النبي(صلى الله عليه وآله)، أسماه: كتاب الرد على أبي حنيفة، وقال: "هذا ما خالف به أبو حنيفة الأثر الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". وذكر فيه 125 مورداً، فراجعه(1).

وروى ابن عبد البر في كتاب الانتقاء عن وكيع بن الجراح قال: "وجدت أبا حنيفة خالف مائتي حديث عن رسول(صلى الله عليه وآله)"(2).

وروى الخطيب البغدادي عن يوسف بن أسباط، أنه قال: "رد أبو حنيفة على رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أربعمائة حديث أو أكثر"(3).

ولأجل ما نقلناه من فتاوى أئمة المذاهب السنية قال الزمخشري في أبياته المعروفة:

إذا سألوا عن مذهبي لم أبح به

فإن حنفياً قلت قالوا بأنني

وإن مالكياً قلت قالوا بأنني

وإن شافعيا قلت قالوا بأنني

وإن حنبليا قلت قالوا بأنني

وإن قلت من أهل الحديث وحزبه

وأكتمه كتمانه لي أسلم

أبيح الطلا وهو الشراب المحرم

أبيح لهم أكل الكلاب وهم هم

أبيح نكاح البنت والبنت تحرم

ثقيل حلولي بغيض مجسم

يقولون تيس ليس يدري ويفهم(4).

____________

(1) ابن أبي شيبة الكوفي، المصنف: ج8 ص363.

(2) ابن عبد البر، الانتقاء: ص151، دار الكتب العلمية ـ بيروت.

(3) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد: ج13 ص390، دار الكتب العلمية ـ بيروت.

(4) نقلاً عن مقدمة الكشاف للزمخشري: ج1 ص4.


الصفحة 333

ثانياً: فتاوى شاذة وعجيبة لجملة من الفقهاء

بالإضافة إلى ما ذكرناه من الشذوذ والغرابة في فتاوى أئمة المذاهب السنية، نجد أن فقهاءهم الآخرين ساروا على المنهج ذاته، ولم تخلُ فتاواهم من الغرائب:

1ـ أفتى ابن حزم وغيره بأنّ الرجل الكبير البالغ له أن يرتضع من امرأة فيكون ابنها من الرضاعة، فيحل له بعد ذلك ما يحل لابنها من الرضاعة، وهذا الحكم يثبت له وإن كان المرتضع شيخاً(1).

وهذا هو مذهب عائشة، ففي كتاب الأم للشافعي قال: "فأخذت عائشة بذلك فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال، فكانت تأمر أختها أم كلثوم وبنات أخيها يرضعن لها من أحبت أن يدخل عليها من الرجال والنساء، وأبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس"(2).

ونحن نترك التعليق والحكم على هذه الطامات والدواهي إلى كل مسلم غيور على دينه وعرضه وعلى حرمات المسلمين.

2ـ وأفتى المالكيون بحلية أكل لحوم السباع، ومن ضمنها الكلاب والسنانير.

قال ابن حزم في معرض الرد عليهم: "ثم قد شهدوا على أنفسهم بإضاعة المال والمعصية في ذلك، إذ تركوا الكلاب والسنانير تموت على المزابل وفي الدور، ولا يذبحونها فيأكلونها، إذ هي حلال، ولو أن امرءاً فعل هذا بغنمه وبقره لكان عاصياً لله تعالى بإضاعة ماله"(3).

____________

(1) ابن حزم، المحلي: ج10 ص17.

(2) الشافعي، الأم: ج5 ص29 ـ30، دار الفكر ـ بيروت.

(3) المصدر نفسه: ج7 ص401.


الصفحة 334

3ـ وأفتى عطاء ومجاهد ومكحول والأوزاعي والليث وغيرهم، بأنّه لو ذبح النصارى لكنائسهم أو ذبحوا على اسم المسيح أو الصليب، أو أسماء من مضى من أحبارهم ورهبانهم فذبيحتهم لا يحرم الأكل منها(1).

علماً إن الوهابيين في عصرنا الحاضر ـ الذين يدّعون انتسابهم إلى ذلك السلف ـ قد حكموا بكفر وارتداد أتباع مذهب أهل البيت(عليهم السلام) وحرمة الأكل من ذبائحهم، وإن ذكروا اسم الله عليها(2).

4ـ وقال ابن عابدين: "قال في الملتقط: الغلام إذا بلغ مبلغ الرجال ولم يكن صبيحاً فحكمه حكم الرجال، وإن كان صبيحاً فحكمه حكم النساء، وهو عورة من فرقه إلى قدمه"(3).

وعلى طبق هذه الفتوى فلا تستغرب إذا رأيت شاباً وسيماً قد ارتدى ملابس النساء وتجلبب بالخمار وتقنّع بالنقاب!!

5ـ ما اشتهر عن ابن باز من تكفيره من قال بكروية الأرض، وأن من قال بالدوران فهو كافر، ضال، مضل، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً.

وقد خلص في أحد كتبه التي ألفها بهذا الخصوص إلى أن: "القائل بدوران الأرض ضال قد كفر وأضل، كذَّب القرآن والسنة، وأنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً، ويكون ماله فيئاً لبيت مال المسلمين".

____________

(1) النووي، المجموع: ج9 ص78.

(2) فتاوى اللجنة الدائمة، قسم العقيدة: ج2 ص264، الفتوى رقم1661، مكتبة المعارف بالرياض.

(3) حاشية رد المحتار، ابن عابدين: ج1 ص438.


الصفحة 335

ومن أدلته على ذلك قوله: "ولو كانت الأرض تدور كما يزعمون لكانت البلدان والجبال و الأشجار و الأنهار والبحار لا قرار لها، ولشاهد الناس البلدان المغربية في المشرق والمشرقية في المغرب، ولتغيرت القبلة على الناس حتى لا يقرّ لها قرار"(1).

وقد صار ابن باز بفتواه هذه سخرية العالم وأضحوكة العصر، وقد أحرج المراكز العلمية والأكاديمية؛ بل وحتى السياسية في المملكة.

ثالثاً: فتاوى جنسية شاذة

إنّ فتاوى الجنس الشاذة والغريبة في الكتب السنية كثيرة نقتصر على ذكر نماذج منها:

1ـ أفتى ابن حزم بجواز الاستمناء، ونقل الفتوى بذلك عن الحسن البصري وعمرو بن دينار وزياد بن أبي العلاء ومجاهد، وفي المجموع للنووي: "وأحمد بن حنبل على ورعه يجوزه بأنّه إخراج فضلة من البدن، فجاز عند الحاجة"(2).

وفي المحلى لابن حزم: "فلو عرضت فرجها شيئاً دون أن تدخله حتى ينزل فيكره هذا ولا إثم فيه، وكذلك الاستمناء للرجال سواء سواء؛ لأن مس الرجل ذكره بشماله مباح، ومس المرأة فرجها كذلك مباح بإجماع الأمة كلِّها"(3).

وقال ابن القيّم الجوزية: "وإن كانت امرأة لا زوج لها واشتدت غلمتها، فقال بعض أصحابنا يجوز لها اتخاذ الاكرنبج، وهو شيء يعمل من جلود على صورة الذكر، فتستدخله المرأة، أو ما أشبه ذلك من قثاء وقرع صغار".

____________

(1) ابن باز، الأدلة النقلية و الحسية على جريان الشمس وسكون الأرض و إمكان الصعود إلى الكواكب، من مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة سنة 1395 هجرية.

(2) النووي، المجموع: ج20 ص33، دار الفكر ـ بيروت.

(3) ابن حزم: المحلى: ج11 ص392، دار الفكر ـ بيروت.


الصفحة 336

وقال أيضاً: "وإن قوّر بطيخة أو عجيناً أو أديماً أو نجشاً في صنم إليه فأولج فيه، فعلى ما قدمنا من التفصيل، قلت: وهو أسهل من استمنائه بيده"(1).

ومن الواضح إن إباحة مثل هذه الأمور وتفشيها في المجتمع ـ مع منافاتها للفطرة والعقل والذوق السليم ـ تؤدي في أكثر الأحيان إلى إشاعة الفواحش وإثارة الغرائز، واكتفاء الرجال بالبطيخ والأصنام، والنساء بالقرع والاكرنبج، وعزوف الشباب عن فكرة الزواج وتكوين الأسر الإسلامية الصالحة.

2ـ قال الدسوقي في الحاشية: "فلو دخل الشخص بتمامه في الفرج فلا نص عندنا. وقالت الشافعية: إن بدأ في الدخول بذكره اغتسل وإلاّ فلا، كأنهم رأوه كالتغييب في الهواء"(2).

3ـ قال الشرواني في حواشيه: "لو شق ذكره نصفين فأدخل أحدهما في زوجة، والآخر في زوجة أخرى، وجب عليه الغسل دونهم.

لو أدخل أحدهما في قبلها، والأخرى في دبرها، وجب الغسل"(3).

رابعاً: تحليل الأمة والاستمتاع بالصغيرة

إنّ ما ذكره الدكتور في كتابه من الفتاوى القديمة والحديثة، والتي جعلها غرضاً للسخرية والاستهزاء، استخفافاً بعقول القرّاء، إنما هي مسائل فقهية لا تخرج عن إطارها العلمي والاجتهادي العام، مع أن لها نظائر كثيرة في كتبكم الفقهية ومجامعكم الروائية، ونشير فيما يلي إلى نموذجين عما ذكره من تحليل الأمة والاستمتاع بالصغيرة في كتب الطائفة السنية:

____________

(1) ابن القيم الجوزية، بدائع الفوائد: ج4 ص905، مكتبة الباز ـ مكة المكرمة.

(2) حاشية الدسوقي، الدسوقي: ج1 ص129.

(3) الشرواني، حواشي الشرواني على تحفة المحتاج: ج1 ص260، دار إحياء التراث.


الصفحة 337

1ـ تحليل الأمة لغير المالك في كتب السنة:

قال ابن حزم في المحلّى تحت عنوان (من أحل فرج أمته لغيره): "قال ابن عباس: إذا أحلت امرأة الرجل، أو ابنته، أو أخته له جاريتها فليصبها وهي لها، فليجعل به بين وركيها، قال ابن جريج: وأخبرني ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يرى به بأساً، وقال: هو حلال فإن ولدت فولدها حرّ، والأمة لامرأته ولا يغرم الزوج شيئاً، قال ابن جريج: وأخبرني إبراهيم بن أبي بكر عن عبد الرحمن بن زادويه عن طاوس أنه قال: هو أحل من الطعام، فإن ولدت فولدها للذي أحلّت له وهي لسيدها الأول، قال ابن جريج: وأخبرني عطاء بن أبي رباح، قال: كان يفعل، يحل الرجل وليدته لغلامه وابنه وأخيه وتحلها المرأة لزوجها، قال عطاء: وما أحب أن يفعل، وما بلغني عن ثبت قال: وقد بلغني أن الرجل كان يرسل بوليدته إلى ضيفه، قال أبو محمد رحمه الله: فهذا قول وبه يقول سفيان الثوري، وقال مالك وأصحابه: لا حدّ في ذلك أصلاً، ثم اختلف قوله في الحكم في ذلك، فمرة قال: هي لمالكها المبيح ما لم تحمل، فإن حملت قوّمت على الذي أبيحت له، ومرة قال: تقام بأول وطئه على الذي أبيحت له، حملت أو لم تحمل"(1).

2ـ الاستمتاع بالصغيرة في كتب السنة:

____________

(1) ابن حزم، المحلى: ج11 ص257 ـ 258.


الصفحة 338

قال ابن القيم الجوزية في بدائع الفوائد: "وفي الفصول روى عن أحمد في رجل خاف أن تنشق مثانته من الشبق أو تنشق أنثياه لحبس الماء في زمن رمضان يستخرج الماء، ولم يذكر بأي شيء يستخرجه، قال: وعندي أنه يستخرجه بما لا يفسد صوم غيره، كاستمنائه بيده أو ببدن زوجته أو أمته غير الصائمة، فإن كان له أمة طفلة أو صغيرة استمنى بيدها وكذلك الكافرة ويجوز وطؤها فيما دون الفرج، فإن أراد الوطء في الفرج مع إمكان إخراج الماء بغيره فعندي أنه لا يجوز"(1).

وجاء في كتاب المغني لابن قدامة: "فأما الصغيرة التي لا يوطأ مثلها فظاهر كلام الخرقي تحريم قبلتها ومباشرتها لشهوة قبل استبرائها، وهو ظاهر كلام أحمد، وفي أكثر الروايات عنه قال: تستبرأ وإن كانت في المهد"(2)، وهذا يعني جواز تقبيل الصغيرة ومباشرتها بشهوة بعد استبرائها وإن كانت في المهد، وهذا هو رأي الخرقي وظاهر كلام أحمد.

وجاء أيضاً في أحد مراكز الإفتاء السني، بإشراف د. عبدالله الفقيه تحت عنوان (حدود الاستمتاع بالزوجة الصغيرة):

"السؤال: أهلي زوجوني من الصغر صغيرة، وقد حذروني من الاقتراب منها، ماهو حكم الشرع بالنسبة لي مع زوجتي هذه، وما هي حدود قضائي للشهوة منها وشكراً لكم؟

الفتوى: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإذا كانت هذه الفتاة لا تحتمل الوطء لصغرها، فلا يجوز وطؤها؛ لأنه بذلك يضرها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" رواه أحمد وصححه الألباني.

وله أن يباشرها، ويضمها ويقبلها، وينزل بين فخذيها، ويجتنب الدبر؛ لأن الوطء فيه حرام، وفاعله ملعون، ولمزيد الفائدة تراجع الفتوى رقم 13190 والفتوى رقم 3907، والله أعلم.

____________

(1) ابن القيم الجوزية، بدائع الفوائد: ج4 ص906.

(2) ابن قدامة، المغني: ج9 ص159.


الصفحة 339

المفتي: مركز الفتوى، بإشراف د.عبدالله الفقيه، تاريخ الفتوى: 6 / شعبان/ 1423 فتوى رقم: 23672"(1).

اتهام الشيعة بالكفر والخروج عن الإسلام

قلتم في ص59: وكتب الشيعة الأصول مملوءة بما يقرر عدة عقائد، كل واحدة منها كافية لجعل الشيعة مذهباً خارجاً في نظر السنة عن الإسلام، ثم زعمتم أن كتبنا بعد أن قررت إمامة علي(عليه السلام) نصت على كفر الصحابة بتركها.

قلت:

أولاً: الفهم السلفي الخاطئ للعقيدة الشيعية

إنّ الكثير من الإشكالات والشبهات التي أثرتموها وأثارها بعض المدافعين عن الفرقة الوهابية، ناشئة من القصور والجهل بمخطط البناء الفكري والمنظومة العقدية لأصول المذهب الشيعي الإمامي الاثني عشري، فنراكم تستغربون بعض الأمور وتستوحشونها، بل وتسخرون وتستهزئون بها، للجهل بأنها مبتنية ومرتكزة على أسس وقواعد محكمة معتمدة على الأدلة الواضحة، فتؤخذ مبتورة ومجتزأة عن محيطها وسياقها العام، فعندما تطبق على تلك الفكرة المقطوعة من محلّها وفق الموازين التي أسسها الوهابيون لأنفسهم تبدوا غريبة وهجينة، وهذا ما وقعتم فيه في كثير من مباحث كتابكم (حوار هادئ)، ومن أهم تلك المباحث هو: معتقد الإمامة، تلك العقيدة الأصيلة في الإسلام، والتي تستند على ركائز رصينة لا يمكن فهمها واستيعابها خارج إطارها الصحيح.

____________

(1) للاطلاع على مضمون الفتوى أكثر راجع على الانترنت الرابط التالي:

http://islamweb.net/pls/iweb/Fatwa.SearchFatByNo?FatwaId=23672&thelang=A


الصفحة 340

فإنّ الإمامة عند الشيعة سفارة إلهية وامتداد طبيعي للنبوة والرسالة الخاتمة، فهي السبيل الذي تتكفل بحفظ الشريعة وتجسيد مبادئها وهي قيادة معصومة للأمة توصلهم إلى سبيل الحق والعدل الذي بعثت من أجله الأنبياء والرسل، مستندين في ذلك كله إلى أدلة عقلية ونقلية مستقاة من الكتاب والسنة النبوية المباركة، فمن الطبيعي أن تأخذ هذه العقيدة بذلك الحجم وتلك الخطورة دوراً واسعاً في مبادئ الرسالة الخاتمة، وتكون ركيزة من ركائز الإيمان، ويفقد منكرها درجة من درجات الإيمان وهذا ما يقابله درجة من درجات الكفر والإنكار أيضاً.

ثانياً: الشيعة لا يكفرون مسلماً

لقد أجمع المسلمون بما فيهم الشيعة الإمامية على أنه لا يحكم بكفر أحد إلا إذا أنكر أحد أصول الإسلام الرئيسية كالتوحيد والنبوة والمعاد، أو أنكر ضرورياً من ضروريات الإسلام، فيما إذا استلزم ذلك تكذيب النبي(صلى الله عليه وآله) وإنكار رسالته، إلا من شذ من المسلمين من أتباع الفرقة الوهابية الذين كفّروا المسلمين لتوسلهم بالأنبياء والأولياء وزيارة قبورهم الشريفة أو غير ذلك مما لا ينسجم مع منهجهم التكفيري.


الصفحة 341

وأمّا الإمامة فهي عند الشيعة الإمامية من أصول الإيمان وأركان المذهب، فإنكارها وعدم الإيمان بها لا يخرج الشخص عن الإسلام، ولا عن الإيمان الذي يرادف المعنى المراد من الإسلام، كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}(1)، وإنما يخرج الشخص بإنكاره عقيدة الإمامة عن الإيمان الذي يوازي مرتبة ومقام الطاعة والتسليم والانقياد إلى أئمة الدين وقادته الإلهيين، كما في قوله تعالى في حق المسلمين من الصحابة: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(2)، كما خاطب الله تعالى المؤمنين على لسان نبيه الأكرم(صلى الله عليه وآله) قائلاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ}(3)، فهذه الآية الكريمة تطالب المؤمنين بدرجة خاصة من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيل الله تعالى، وهي درجة الطاعة والانقياد والتسليم.

فالذي ينكر ويعرض عن هذه الدرجة القرآنية من الإيمان وإن بقي على إسلامه والإيمان الموازي له في المعنى يكون كافراً بتلك الدرجة من الإيمان، فإن الكفر قد يطلق في القرآن والسنة النبوية الشريفة على الإنكار والجحود القلبي لبعض الحقائق الدينية أو المبادئ والفروع التفصيلية بما يشمل إتيان الذنوب وترك الواجبات ونكران النعم، وإن لم يكن كافراً بحسب الاصطلاح والحكم الفقهي، وذلك كما في قوله تعالى:

____________

(1) النساء: 94.

(2) النساء: 65.

(3) الصف: 10ـ 11.


الصفحة 342

{لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(1)، وكقوله تعالى أيضاً: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}(2)، وكذا ما حكاه الله تعالى عن قول سليمان(عليه السلام): {هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}(3)، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس، قال: "قال النبي(صلى الله عليه وآله): أريت النار؟ فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن، قيل: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن بالعشير ويكفرن الإحسان"(4)، كما جاء في صحيح مسلم: "أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم"(5)، وهذا هو المعنى المراد من الكفر في الروايات الشريفة التي أوردتموها في كتابكم عن كتاب الكافي، فإن جاحد الولاية والإمامة والخلافة ومقام الطاعة لله والرسول وأولي الأمر فاقد لرتبة الإيمان وكافر بتلك الدرجة، وإن كان مسلماً من المسلمين بحسب الاصطلاح الشرعي والفقهي.

ثالثاً: روايات التفسير والتأويل للقرآن الكريم

إنّ ما أوردتموه من الروايات التي جاءت بصدد تفسير وتأويل بعض الآيات القرآنية المباركة بمقام الإمامة والولاية، والتي ضاق بها صدرك، فهي ترمي إلى بيان بعض المعاني العميقة للقرآن الكريم والذي هو تأويل القران وباطنه، فإن للقرآن ظاهراً وباطناً إلى سبعة بطون أو أكثر، وذلك لما صح عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنه قال: "أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل آية منها ظهر

____________

(1) إبراهيم: 7.

(2) البقرة: 152.

(3) النمل: 40.

(4) البخاري، الصحيح الجامع: ج1 ص78، كتاب العلم بـ21.

(5) مسلم، صحيح مسلم: ج1 ص83، كتاب الإيمان بـ 31.


الصفحة 343

وبطن"(1)، فمن الحقائق المهمة على صعيد المعارف القرآنية هي أن كل آية من الآيات تتضمن معان متعددة أعمق وأدق وأشمل بحسب المصاديق والتطبيقات من المعنى الظاهر والمتيسر لعامة الناس، وهذا التعدد والتدرج في المعاني القرآنية يتناسب مع اختلاف العقول وتدرج الأفهام، ولذا نجد أن العلماء والمفسرين يستنبطون من الآيات القرآنية في مجال العقائد والأحكام ما لا يدركه القارئ العادي.

وقد نص على هذه الظاهرة القرآنية جملة من مفسري وأعلام الطائفة السنية.

قال المناوي في شرحه لما أورده السيوطي في الجامع الصغير: "أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل حرف منها ظهر وبطن، فظهره ما ظهر تأويله وعرف معناه وبطنه ما خفي تفسيره وأشكل فحواه"(2).

وقال ابن تيمية:

"فإن الباطن إذا لم يخالف الظاهر لم يعلم بطلانه من جهة مخالفته للظاهر المعلوم، فإن علم أنه حق قبل وإن علم أنه باطل ردّ"(3).

فالباطن والتأويل الذي ينسجم مع المعنى الظاهر ولا يعارضه من المداليل القرآنية التي أقرها العلماء والمفسرون، وعقيدتنا في الروايات التي

____________

(1) ابن حبان، صحيح ابن حبان: ج1 ص276، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، وقد حكم بحسن الحديث، كما أخرج الحديث أبو يعلى في سنده؛ والطبراني في معجمه الكبير والصغير، وقد وثق رجاله الهيثمي في مجمع الزوائد: ج7 ص316.

(2) المناوي، فيض القدير: ج3 ص71، دار الكتب العلمية ـ بيروت.

(3) ابن تيمية، مجموع الفتاوى الكبرى: ج13 ص236.


الصفحة 344

أوردتموها عن كتاب (الكافي) أنها جاءت للإشارة إلى تأويل القرآن وباطنه الذي لا يتقاطع مع ظاهره، والدليل على ذلك أنك لو رجعت إلى تفسير تلك الآيات المذكورة في ضمن الروايات المؤولة لها في مجامع تفاسيرنا المشهورة لوجدت لها معان أخرى تعبر عن المعنى الظاهر بما قد يتوافق مع جملة من تفاسيركم(1).

رابعاً: تكفير منكر الخلافة

إنّ الشيعة الإمامية بعد أن اعتقدوا بأن الإمامة من أصول الدين وأركان الإيمان فلا ضير أن يعتقدوا بأن من أنكرها سينطبق عليه الكفر المقابل لدرجة من درجات الإيمان، مع أنهم اعتقدوا أيضاً بأن المنكر للإمامة لا يخرج عن دائرة الإسلام، ولكن الفرقة الوهابية وعلماءها آمنوا وصرحوا بكفر الكثير من المسلمين، فكل من أنكر خلافة أبي بكر (رض) وعمر (رض) أو ردّ بعض فضائلهم أو فضائل بعض الصحابة، فقد رمي بالكفر والزندقة وأخرج من ربقة الإسلام مع أن الدليل قاده إلى ما ذهب إليه.

والشواهد على ذلك كثيرة:

منها: ما في البحر الرائق عن ابن نجيم المصري، قال: "والرافضي إن فضل علياً على غيره فهو مبتدع وإن أنكر خلافة الصديق فهو كافر"(2).

وفي الصواعق: "فمذهب أبي حنيفة أن من أنكر خلافة الصديق أو عمر فهو

____________

(1) لاحظ: التبيان للشيخ الطوسي؛ ومجمع البيان للشيخ الطبرسي في تفسيرهما للآية.

(2) ابن نجيم، البحر الرائق: ج1 ص611، دار الكتب العلمية ـ بيروت.


الصفحة 345

كافر"(1).

ومنها: تكفير من قال بخلق القرآن، وهو ما اشتهرت به الحنابلة، فقد حكم أحمد بن حنبل بكفر جملة وافرة من علماء المسلمين ورواتهم بسبب قولهم بأن القرآن مخلوق.

قال أحمد بن حنبل: "ومن زعم أن ألفاظنا به وتلاوتنا له مخلوقة، والقرآن كلام الله فهو جهمي، ومن لم يكفّر هؤلاء القوم فهو مثلهم"(2).

وقال أيضاً: "من قال القرآن مخلوق فهو كافر ومن شكّ في كفره فهو كافر"(3).

وهذا ما يوجب تكفير جملة من فرق الطائفة السنية ومنهم الأشاعرة والمعتزلة والأحناف، وفي مقدمتهم أبو حنيفة، حيث اتهمه بالكفر رؤساء الحنابلة.

ومنها: تكفير من لم يعتقد برؤية الله تعالى البصرية يوم القيامة، قال ابن تيمية: "والذي عليه جمهور السلف أن من جحد رؤية الله في الدار الآخرة فهو كافر"(4)، ويقصد من الرؤية في الدار الآخرة الرؤية البصرية، مع أن هذا يلزم منه تكفير عائشة التي أنكرت مطلق الرؤية كما في البخاري(5)، وكذا تكفير قتادة ومجاهد والسدي(6) وغيرهم ممن أنكر الرؤية البصرية يوم القيامة.

خامساً: إن ما ذكرته من أن مسألة ارتداد الصحابة إلا ثلاثة أو أربعة بعد

____________

(1) ابن حجر الهيتمي، الصواعق المحرقة: ص138، مؤسسة الرسالة ـ بيروت.

(2) أحمد بن حنبل، العقيدة: ص30.

(3) أبو يعلى الفراء، طبقات الحنابلة: ج1 ص461 رقم: 231، مكتبة العبيكان ـ مكة المكرّمة.

(4) ابن تيمية، مجموع الفتاوى: ج6 ص486.

(5) البخاري، الجامع الصحيح: ج3 ص276 ح4855، كتاب التفسير.

(6) الطبري، تفسير الطبري: ج7 ص299 و ج29 ص193.


الصفحة 346

وفاة النبي(صلى الله عليه وآله) وكفرهم بالإمامة والولاية، سيأتي الحديث فيها والجواب عنها في الأبحاث اللاحقة.

التكفير المتبادل بين الجماعات السنية

قلتم في ص59: "نحن نحب أن لا يكون بيننا وبين الشيعة خلاف ونتمنى أن ينحصر الخلاف فيما بيننا وبينهم، ليكون مثل ما بين المالكية والأحناف أو أي مذهبين من مذاهب السنة".

ثم قلتم في الصفحة ذاتها: "والمطلع على كتب الشيعة القديمة يرى أن هناك فرقاً كبيراً بين الشيعة وأهل السنة، بل يرى اتجاهين لا يلتقيان أبداً.

وكتب الشيعة الأصول مملوءة بما يقرر عدة عقائد كل واحدة كافية لجعل الشيعة مذهباً خارجاً في نظر السنة عن الإسلام".

قلت: إنّ شعار (أهل السنّة والجماعة) الذي رفعتموه وجعلتموه ذريعة تلمزون به الشيعة وتخرجون أتباع أهل البيت(عليهم السلام) عن ربقة الإسلام، ما هو إلا خدعة كاذبة قد تنطلي على البسطاء من الناس، ممن ليس له نصيب من المعرفة الكافية في مجال البحوث الدينية والعقدية.

ولكن الذي يتابع ويطالع كتب الفرق والملل والمذاهب والمجامع الحديثية سرعان ما ينكشف زيف ذلك الشعار المهلهل، وتسفر الحقيقة عن واقع التشرذم والتمزق الذي يسود الطوائف السنية، وقد تجاوزت فرق السنة حدّ العدّ والإحصاء، ووقع بينها صراعات مريرة واختلافات واسعة تناولت معظم مسائل الدين والعقيدة بما في ذلك مباحث التوحيد، حتى صار ذلك سبباً ومدعاة للتراشق فيما بينها بعبارات التكفير والتبديع


الصفحة 347

والتضليل، فأصبحت كل فرقة تدعي أنها (أهل السنّة والجماعة) وغيرها خارج عن ذلك العنوان، والأمثلة في هذا المجال كثيرة نشير إلى بعضها على سبيل الإشارة والاختصار:

1ـ تكفير غير الأشاعرة من المسلمين

قال أبو إسحاق الشيرازي إمام الشافعية في عصره: "فمن اعتقد غير ما أشرنا إليه من اعتقاد أهل الحق المنتسبين إلى الإمام أبي الحسن الأشعري ـ رضي الله عنه ـ فهو كافر"(1).

2ـ تكفير غير الحنابلة من المسلمين

أورد الذهبي في التذكرة عن أبي حاتم بن خاموش الحافظ بالري والذي كان مقدّم أهل السنة فيها، قوله: "فكل من لم يكن حنبلياً فليس بمسلم"(2).

3ـ تكفير الشافعية للحنابلة

قال ابن عساكر: "إن جماعة من الحشوية والأوباش الرعاع المتوسمين بالحنبلية أظهروا ببغداد من البدع الفضيعة والمخازي الشنيعة ما لم يتسمح به ملحد فضلاً عن موحد"(3).

4 ـ تكفير أبي حنيفة وأتباعه

عن سفيان الثوري قال: "استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين"(4)، وفي الانتقاء

____________

(1) أبو إسحاق الشيرازي، شرح اللمع: ج1 ص111.

(2) الذهبي، تذكرة الحفاظ: ج3 ص1187، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.

(3) ابن عساكر، تبيين كذب المفتري: ص310، دار الكتاب العربي ـ بيروت.

(4) عبد الله بن أحمد بن حنبل، كتاب السنة: ص72، دار البصيرة ـ مصر.


الصفحة 348

لابن عبد البر: "وقال نعيم عن الفزاري: كنت عند سفيان بن عيينة، فجاء نعي أبي حنيفة، فقال: لعنه الله كان يهدم الإسلام عروة عروة، وما ولد في الإسلام مولود أشر منه"(1).

وروى الخطيب البغدادي بإسناده عن الحنيني، قال: "سمعت مالكاً يقول: ما ولد في الإسلام مولود أشأم من أبي حنيفة"(2).

روى الخطيب البغدادي بسنده عن أبي بكر السجستاني يقول لأصحابه: "ما تقولون في مسألة اتفق عليها مالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه، والأوزاعي وأصحابه، والحسن بن صالح وأصحابه، وسفيان الثوري وأصحابه، وأحمد بن حنبل وأصحابه؟ فقالوا له: يا أبا بكر، لا تكون مسألة أصح من هذه، فقال: هؤلاء كلهم اتفقوا على تضليل أبي حنيفة"(3).

وفي كتاب السنة عن سفيان أنه ذكر أبا حنيفة، فقال: "استتيب أصحابه من الكفر غير مرة"(4)،

وعن شريك كان يقول: "لأن يكون في كل حي من الأحياء خمّار خير من أن يكون فيه رجل من أصحاب أبي حنيفة"(5).

ومسألة تكفير أبي حنيفة وأتباعه وتضليلهم وتبديعهم مما امتلأت بها كتب الرجال والدراية والمجامع الحديثية.

____________

(1) ابن عبد البر، الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء: ص149، دار الكتب العلمية ـ بيروت.

(2) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد: ج13 ص401، دار الكتب العلمية ـ بيروت.

(3) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد: ج13 ص382.

(4) عبد الله بن أحمد بن حنبل، كتاب السنة: ص72.

(5) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد: ج13 ص397.


الصفحة 349

الصراع بين المذاهب السنية:

مضافاً إلى ما وقع بين تلك الفرق والمذاهب من الصراع والاقتتال واستباحة الأموال والأعراض، وهذا مما امتلأت به الكتب التاريخية(1)، ونشير فيما يلي إلى نماذج في هذا المجال:

1ـ القتل الواقع بين الحنفيّة والشافعية

قال السبكي: >وقد وقعت فتنة بين الحنفية والشافعية في نيسابور ذهب تحت هياجها خلق كثير، وأحرقت الأسواق والمدارس وكثر القتل في الشافعية، فانتصروا بعد ذلك على الحنفية وأسرفوا في أخذ الثار منهم في سنة 554 هـ.

ووقعت حوادث وفتن مشابهة بين الشافعية والحنابلة، واضطرت السلطات إلى التدخل بالقوة لحسم النزاع في سنة 716، وكثر القتل وأحرقت المساكن والأسواق في إصبهان. ووقعت حوادث مشابهة بين أصحاب هذه المذاهب وأشياعها في بغداد ودمشق، وذهب كل واحد منها إلى تكفير الآخر، فهذا يقول من لم يكن حنبلياً فليس بمسلم، وذاك يضرب الجهلة بالطرف الآخر، فتقع منهم المساءة على العلماء والفضلاء منهم وتقع الجرائم الفضيعة(2).

2ـ ضرب الشافعي حتى يموت

قال ابن الأثير في الكامل في حوادث سنة 323هـ في بغداد: >وفيها عظم أمر الحنابلة، وقويت شوكتهم... وكانوا إذا مرّ بهم شافعي المذهب أغروا به العميان،

____________

(1) راجع البداية والنهاية لابن كثير: ج14 ص86؛ وطبقات الشافعية: ج3 ص109.

(2) السبكي، طبقات الشافعية: ج3 ص109، وانظر ابن كثير، البداية والنهاية: ج14 ص76 واليافعي: مرآة الجنان: ج3 ص343، وغيرها من المصادر.


الصفحة 350

فيضربونه بعصيهم حتى يكاد يموت(1).

3 ـ أخذ الجزية من الشافعي

ذكر ابن كثير في ترجمة محمد بن موسى بن عبد اللّه الحنفي، فقال: >ولي قضاء دمشق، وكان غالياً في مذهب أبي حنيفة، وكان يقول: لو كانت لي الولاية لأخذت من أصحاب الشافعي الجزية، وكان مبغضاً لأصحاب مالك أيضاً(2).

4 ـ أخذ الجزية عن الحنابلة

وذكر الذهبي في العبر أن الفقيه الشافعي أبا حامد محمد بن محمد البروي الطوسي صاحب التعليقة المشهورة في الخلاف كان بارعاً في معرفة مذهب الأشعري، قدم بغداد وشغب على الحنابلة، وأثار الفتنة، وقيل: إن البروي قال: لو كان لي أمر لوضعت على الحنابلة الجزية(3).

وقد كان للسلطات والحكومات المتعاقبة دور كبير في تأجيج تلك الفتن وتغذيتها، فإن كان الحاكم يتبنى فكراً أو عقيدة أو مذهباً لنيل بعض المكاسب السياسية، نجد أن ذلك الفكر أو المذهب ينتشر وتكون له سطوة وهيمنة على بقية الفرق الأخرى، فيستعمل شتى الوسائل المشروعة وغير المشروعة في توسيع رقعة التمذهب من قبل عامة الناس.

ولذا قال ابن تيمية بشأن السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي الذي سار على منوال القادر العباسي، حيث دعا إلى المذهب الحنبلي وقمع

____________

(1) الكامل في التاريخ: ج8 ص307.

(2) البداية والنهاية: ج12 ص187، لسان الميزان: ج5 ص402.

(3) العبر في خبر من غبر: ج3 ص52، شذرات الذهب: ج4 ص224.