الفرق والمذاهب السنية الأخرى: "وزاد إليه بأن أمر بلعنة أهل البدع على المنابر، فلعنت الجهمية والرافضة والحرورية والمعتزلة والقدرية، ولعنت أيضاً الأشعرية، حتى جرى بسبب ذلك نزاع وفتنة بين الشافعية والحنفية وغيرهم، قوم يقولون: هم من أهل البدع فيلعنون، وقوم يقولون: ليسوا من أهل البدع فلا يلعنون"(1).
وهذا يعني أن للحكومة والسلطة دوراً فاعلاً في نشر المذهب الحنبلي مما يفسر اندثار الكثير من الفرق السنية وانحصارها بالمذاهب المعروفة.
ومن مجمل ما ذكرناه تبين أن جعل أهل السنة في خندق الإسلام في قبال الشيعة من الدعاوى التي تفتقد لأدنى درجة من درجات الإنصاف.
اختلاف الحديث في كتب السنة
ذكرتم في ص62 أن هناك تناقضاً كبيراً في تراث وروايات المذهب الشيعي، واستشهدتم على ذلك بعبارة الشيخ الطوسي في كتابه التهذيب حول اختلاف الأحاديث والروايات، واعتبرتم ذلك دليلاً على بطلان المذهب.
قلت: إنّ مسألة اختلاف الأحاديث وتضاد جملة من الروايات، اقتضتها الطبيعة البشرية غير المعصومة عن الخطأ والغفلة والنسيان، مضافاً إلى ما رافق عملية نقل الأحاديث وجمعها من ظروف سياسية، وأغراض نفسية واجتماعية، أملتها الأدوار الموضوعية التي واجهها الحديث عبر تأريخه الطويل، من صعوبة التدوين ومحدودية الانتشار، مما يجعله عرضة للضياع والاختلاف والتباين، وهذا ما نراه منتشراً بوضوح في مجامعكم الحديثية
____________
(1) ابن تيمية، تلبيس الجهمية: ج2 ص331ـ 332.
والروائية، وقد أدى ذلك الاختلاف في الأحاديث والروايات الواردة من طرقكم إلى استحداث علوم خاصة في هذا المجال كعلم الرجال والحديث والجرح والتعديل وعلوم مختلف الحديث ومشكل الآثار، حتى ألف الشافعي كتاباً في اختلاف الأحاديث، وقد اختصت بعض الكتب والتأليفات في استعراض الأحاديث المختلفة والمتباينة والمتعارضة، وقد أفرد علماء الأصول أبواباً موسّعة اختصت بمباحث تعارض الروايات واختلافها، وقد بدأ اختلاف الحديث عندكم بعد وفاة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) واستمر إلى يومنا الحاضر.
قال الشاطبي في الاعتصام: "إن الخلاف من زمن الصحابة إلى الآن واقع في المسائل الاجتهادية، وأول ما وقع الخلاف، في زمان الخلفاء الراشدين المهديين، ثم في سائر الصحابة، ثم التابعين ولم يعب أحد ذلك منهم، وبالصحابة اقتدى من بعدهم في توسيع الخلاف"(1).
وفي الانتقاء لابن عبد البر عن سعيد الإيلي قال: "سمعت ابن وهب وذكر اختلاف الأحاديث والروايات، فقال: لولا أن لقيت مالكاً لضللت"(2).
وأما ما نقلته عن الشيخ الطوسي في التهذيب إنما كان بصدد بيان السبب الداعي لتأليف الكتاب، ويتمثل في ضرورة تهذيب وترتيب وبيان الخاص والعام من الروايات والناسخ والمنسوخ، وهو ما يبحثه علماء الأصول؛ نظراً لوجود الكثير من الروايات المتعارضة والمختلفة التي تحتاج إلى دراسة وتمحيص، فلذلك قام الشيخ الطوسي وغيره من العلماء بهذا
____________
(1) الشاطبي، الاعتصام: ج1 ص459، دار المعرفة ـ بيروت. (2) ابن عبد البر، الانتقاء: ص28.
الجهد. فأشار إلى ذلك الاختلاف في مقدمة كتابه، ولو كان مجرد الاختلاف والتعارض في الروايات دليلاً على تناقض المذهب وبطلانه، لكانت المذاهب السنية أولى بالتناقض والبطلان.
هذا كلّه مع ملاحظة أن كتاب التهذيب للشيخ الطوسي كتاب فقهي مختص بفروع الدين وأحكامه، والتي عادة ما يكثر فيها الاختلاف بين العام والخاص والناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد، وليس كلام الشيخ في روايات وأحاديث أصول الدين، كي يقال تناقضها واختلافها دليل وشاهد على بطلان المذهب.
عقيدتي التقية والبداء عند الشيعة
قلتم في ص63: "يبدو أن هذا الحال الذي عليه المذهب من التناقضات هو سبب استحداث عقيدتي التقيّة والبداء على الله عز وجل".
قلت:
1ـ عقيدة التقية
أولاً: إن تنافي الروايات وتعارضها لا تكاد تجد طائفة من الطوائف الإسلامية تخلو منه أو تتنزه عنه خصوصاً الطائفة السنية، كما أشرنا.
فلو كان ذلك سبباً ومنشأً لاستحداث مبدأ التقيّة؛ لكانت الطائفة السنية أقرب إلى التقيّة من غيرها.
ثانياً: إن التقيّة من الأحكام العقلائية الفطرية، فكل إنسان عاقل يدرك بفطرته أن عليه حفظ حياته وكل ما يتعلق به من أموال أو عرض، وقد
كانت هذه الفطرة ولازالت سلاح المستضعفين والمظلومين لمواجهة الجبابرة والطغاة، وقد أكد الشرع الإسلامي هذه الفطرة الإنسانية من خلال الآيات والروايات؛ لأن الدين الإسلامي لم يأت للتعدي على مقتضيات الفطرة أو الوقوف أمام العقل ومدركاته، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}(1)، ولذا نجد أن الآيات والروايات متضافرة في التأكيد على مشروعية التقيّة وضرورتها في المجتمع الإسلامي، ونشير فيما يلي إلى نماذج على سبيل المثال:
التقيّة في الآيات القرآنية:
1ـ قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}(2).
فقد شدد الله تعالى في هذه الآية المباركة وفي غيرها على النهي عن تولي الكافرين وأنه على حدّ الكفر والشرك بالله، ولكن مع ذلك استثنى من هذا الأمر الخطير حالات التقيّة والخوف، فللمؤمنين أن يوالوا الكافرين ظاهراً بقدر ما يندفع به خوف الضرر، فالآية صريحة في مشروعية التقيّة كما نص على ذلك جملة من المفسرين:
قال ابن كثير في تفسير الآية: "أي: من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من
____________
(1) الروم: 30. (2) آل عمران: 28.
شرهم فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما قال البخاري عن أبي الدرداء، أنه قال: إنا لنكشّر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم"(1).
وقال ابن حجر: "ومعنى الآية: لا يتخذ المؤمن الكافر ولياً في الباطن ولا في الظاهر إلا للتقيّة في الظاهر، ويجوز أن يواليه إذا خافه، ويعاديه باطناً"(2).
2ـ قوله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(3).
إن الآية الكريمة صريحة في جواز إظهار كلمة الكفر كرهاً؛ مجاراة للكافرين، وأن من نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك وقلبه مطمئن بالإيمان ـ لا شارحاً بالكفر صدراً ـ لا يعد كافراً، بل هو معذور عند الله تعالى.
مع ملاحظة أن هذه الآية مكية نزلت قبل الهجرة باتفاق العلماء والمفسرين، مما يعني أن تشريع التقيّة كان في الصدر الأول في الإسلام ولم يكن من مستحدثات الشيعة، وما ذلك إلا لانسجام تلك العقيدة مع مرونة وسماحة الدين الإسلامي الحنيف.
وهذه الآية المباركة نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر، فوافقهم على ذلك تقيّة، وجاء معتذراً إلى النبي(صلى الله عليه وآله) فهدأه وطمأنه وأجاز له أن يعود لمثلها إن تعرضوا له ثانية(4).
____________
(1) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: ج1 ص365. (2) ابن حجر، فتح الباري: ج12 ص278. (3) النحل: 106. (4) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: ج2 ص609؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: ج10 ص108.
وقد حمل المحدثون والمفسرون الآية الكريمة على مبحث التقيّة، وقد أدرج البخاري هذه الآية مع الآية السابقة في باب واحد، وذكر فيه جواز التقيّة في حال الإكراه، كما أخرج أحاديث في هذا المجال(1).
التقيّة في الأحاديث النبوية:
1ـ أخرج البخاري عن عروة ابن الزبير أن عائشة أخبرته أن رجلاً استأذن للدخول إلى منزل النبي(صلى الله عليه وآله)، فقال: "ائذنوا له فبئس ابن العشيرة، أو بئس أخو العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام، فقلت: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له في القول؟! فقال: "أي عائشة إن شر الناس منزلة عند الله من تركه الناس أو ودعه اتقاء فحشه"(2).
ولا يخفى دلالة هذا الحديث على جواز التقيّة و المداراة مع عموم الناس حتى من قبل النبي(صلى الله عليه وآله)، إذ ليس فيها إخلال في الوصول إلى الحق، ولا تأثير على تبليغ أحكام الشريعة الإسلامية والدعوة إلى الله تعالى؛ لأنه لا تقيّة فيما يتعلق بأصل الدين والوحي الذي لا يعلم إلا بتبليغ النبي(صلى الله عليه وآله)، إذ أن التقيّة في هذا المجال يوجب الإغراء بالقبيح ولا يمكن صدوره عن المعصوم.
2ـ أخرج الحاكم في المستدرك عن أبي ذر، قال: "قال لي رسول الله(صلى الله عليه وآله): يا أبا ذر كيف أنت إذا كنت في حثالة، وشبك بين أصابعه، قلت: يا رسول الله، ما تأمرني، قال: اصبر اصبر اصبر، خالقوا الناس بأخلاقهم وخالفوهم في أعمالهم".
____________
(1) البخاري، الجامع الصحيح: ج8 ص55، كتاب الإكراه. (2) البخاري، صحيح البخاري: ج7 ص102.
قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"(1).
ولا ريب أن التخلق بأخلاق حثالة الناس ظاهراً ومخالفتهم في الخفاء عبارة أخرى عن التقيّة وجوهرها.
أقوال الصحابة والتابعين في التقيّة:
1ـ أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، قال: "حفظت عن رسول الله وعاءين فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم"(2)، فإن هذه حقيقة التقيّة وواقعها من أبي هريرة وإن عبّر عنها بألفاظ أخرى.
2ـ ما أخرجه البخاري أيضاً في صحيحه عن أبي الدرداء، قال: "إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم"(3)، وقد حمل شرّاح الحديث المكاشرة على المداراة مع الناس في القول والفعل(4).
3ـ وفي المصنف لابن أبي شيبة الكوفي بسند معتبر عن النزال بن سبرة، قال:
"دخل ابن مسعود وحذيفة على عثمان، فقال عثمان لحذيفة: بلغني أنك قلت كذا وكذا؟ قال: لا والله ما قلته، فما خرج، قال له عبد الله: مالك؟ فلم تقوله ما سمعتك تقول قال: إني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله"(5).
وذكر السرخسي في المبسوط "جعل حذيفة يحلف لعثمان على أشياء بالله ما
____________
(1) الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين: ج3 ص343. (2) البخاري، الجامع الصحيح: ج1 ص38، كتاب العلم، باب حفظ العلم. (3) المصدر نفسه: ج7 ص102، كتاب الأدب، باب المداراة. (4) ابن حجر، فتح الباري: ج10 ص438. (5) ابن أبي شيبة الكوفي، المصنف: ج7 ص643، دار الفكر ـ بيروت.
قالها، وقد سمعناه يقولها، فقلنا له: يا أبا عبد الله، سمعناك تحلف لعثمان على أشياء ما قلتها وقد سمعناك قلتها؟ فقال: إني اشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله"(1).
4ـ ما أخرجه الطبري في تفسيره لقوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} عن ابن عباس قال: "فالتقيّة باللسان: من حمل على أمر يتكلم به وهو معصية لله، فيتكلم به مخافة الناس وقلبه مطمئن بالإيمان فإن ذلك لا يضرّه، إنما التقيّة باللسان"(2).
5ـ ما أخرجه ابن حبان بسنده عن مكحول، قال: "ذلّ من لا تقيّة له"(3).
6ـ وفي صحيح البخاري: "وقال الحسن: التقيّة إلى يوم القيامة"(4).
التقيّة في أقوال العلماء
1ـ وفي شرح الأربعين للنووي ناقلاً عن نجم الدين الطوفي الحنبلي قوله: "اعلم أن النزاع الطويل بينهم استدلالاً وجواباً ذاهب هدراً، فإن محل الخلاف إنما هو مبايعة علي(عليه السلام) لأبي بكر، وأما التقيّة في غير ذلك فلا مبالاة بإثباتها وجوازها، وإنما يكره عامة الناس لفظها لكونها من مستندات الشيعة، وإلا فالعالم مجبول على استعمالها، بعضهم يسميها مداراة وبعضهم مصانعة وبعضهم عقلاً معيشياً ودلّ عليه دليل الشرع"(5).
2ـ قال الفخر الرازي في تفسيره لآية التقيّة المتقدمة، وبعد أن ذكر
____________
(1) السرخسي، المبسوط: ج30 ص214. (2) ابن جرير، جامع البيان: ج3 ص311. (3) ابن حبان، طبقات المحدثين: ج4 ص176، مؤسسة الرسالة ـ بيروت. (4) البخاري، الجامع الصحيح: ج8 ص55، كتاب الإكراه. (5) شرح الأربعين، النووي: ص85.
أحكاماً كثيرة حولها: "الحكم الخامس: التقيّة جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز؛ لقوله(صلى الله عليه وآله): حرمة مال المسلم كحرمة دمه، ولقوله(صلى الله عليه وآله): من قتل دون ماله فهو شهيد؛ ولأن الحاجة إلى المال شديدة"(1).
3ـ قال الزمخشري في تفسيره لآية التقيّة: "رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم، والمراد بتلك الموالاة مخالقة ومعاشرة ظاهرة، والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء، وانتظار زوال المانع من قشر العصا، كقول عيسى صلوات الله عليه: كن وسطاً وامش جانباً"(2).
4ـ قال القرطبي: "أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل إنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بحكم الكفر، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي"(3).
5ـ وقال جمال الدين القاسمي الشامي في محاسن التأويل: "ومن هذه الآية {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} استنبط الأئمة مشروعية التقيّة عند الخوف وقد نقل الإجماع على جوازها"(4).
التقيّة في سيرة المسلمين
إنّ سيرة المسلمين حافلة باستخدام التقيّة في مواطن الخطر، والخوف على النفس والمال والعرض، من دون اختصاص بالتقيّة مع الكافرين، بل فيما بين المسلين أنفسهم أيضاً، كالتقيّة من الحكام وسلاطين الجور
____________
(1) الفخر الرازي، التفسير الكبير: ج8 ص15. (2) الزمخشري، الكشاف: ج1 ص422. (3) القرطبي، تفسير القرطبي: ج10 ص182. (4) القاسمي، جمال الدين، محاسن التأويل: ج4 ص197.
والظلمة وولاتهم، وأمثلة ذلك كثيرة، فمضافاً إلى ما تقدم من تقيّة عمار بن ياسر وأبي هريرة، وحذيفة بن اليمان مع عثمان، نشير إلى جملة من الشواهد في هذا المجال:
1ـ تقيّة رجاء بن حيوة مع الوليد بن عبد الملك، وهو ما أخرجه القرطبي وغيره عن إدريس ابن يحيى، قال: "كان الوليد بن عبد الملك يأمر جواسيس يتجسسون الخلق ويأتونه بالأخبار... فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد، فرفع ذلك إليه.
فقال: يا رجاء أُذكر بالسوء في مجلسك ولم تُغيّر؟!
فقال: ما كان ذلك يا أمير المؤمنين.
فقال له الوليد: قل الله الذي لا إله إلا هو.
قال: الله الذي لا إله إلاّ الله.
فأمر الوليد بالجاسوس فضربه سبعين سوطاً، فكان يلقى رجاء فيقول: يا رجاء بك يستسقى المطر وسبعين سوطاً في ظهري!!
فيقول رجاء: سبعون سوطاً في ظهرك، خير لك من أن يقتل رجل مسلم"(1).
2ـ تقيّة واصل بن عطاء مع الخوارج، حيث أخرج ابن الجوزي وغيره عنه أنه خرج يريد سفراً في رهط، فاعترضهم جيش من الخوارج، فقال واصل: "لا ينطقنّ أحد ودعوني معهم، فقصدهم واصل، فلما قربوا بدأ الخوارج ليوقعوا، فقال: كيف تستحلّون هذا وما تدرون من نحن، ولا لأي شيء جئنا؟ فقالوا: نعم، من أنتم؟ قال: قوم من المشركين جئناكم لنسمع كلام الله، قال: فكفّوا عنهم،
____________
(1) القرطبي، تفسير القرطبي: ج10 ص190.
وبدأ رجل منهم يقرأ القرآن، فلما أمسك، قال واصل: قد سمعت كلام الله، فأبلغنا مأمننا حتى ننظر فيه وكيف ندخل في الدين، فقال: هذا واجب، سيروا، قال: فسرنا والخوارج ـ والله ـ معنا يحموننا فراسخ، حتى قربنا إلى بلد لا سلطان لهم عليه، فانصرفوا"(1).
3ـ تقيّة أبي حنيفة مع ابن أبي ليلى، حيث أخرج الخطيب البغدادي وغيره عن جابر قال: "بعث ابن أبي ليلى إلى أبي حنيفة، فسأله عن القرآن.
فقال: مخلوق.
فقال: تتوب، وإلاّ أقدمت عليك!
قال: فتابعه.
فقال: القرآن كلام الله.
فقال: فدار به في الخلق يخبرهم أنه قد تاب من قوله: القرآن مخلوق.
فقال أبي: فقلت لأبي حنيفة: كيف صرت إلى هذا وتابعته؟
قال: يا بني خفت أن يُقدم عليّ فأعطيته التقيّة"(2).
تقيّة علماء السنة في مسألة خلق القرآن
من الحوادث المهمة في تاريخ المذاهب السنية فتنة خلق القرآن، حيث بلغ الخلاف العقائدي فيها إلى درجة تكفير وقتل من يتبنى القول بقدم القرآن، فالتجأ الكثير من علماء السنة ومحدثيهم إلى التقيّة؛ لحماية أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، ومن أمثلة ذلك:
1ـ تقيّة سعدويه سعيد بن سليمان حول محنة خلق القرآن، حيث قال
____________
(1) ابن الجوزي، كتاب الأذكياء: ص136. (2) تاريخ بغداد: ج13 ص376ـ377.
الذهبي عند ترجمته لسعدويه: "وأما أحمد بن حنبل فكان يغض منه ولا يرى الكتابة عنه، لكونه أجاب في المحنة تقيّة ـ إلى أن قال ـ قيل لسعدويه بعدما انصرف من المحنة: ما فعلتم؟ قال: كفرنا ورجعنا"(1).
2ـ تقيّة أبي نصر التمّار، حيث أجاب في محنة خلق القرآن تقيّة أيضاً، فقال الذهبي في حقه: "أجاب تقيّة وخوفاً من النكال وهو ثقة بحاله ولله الحمد"(2).
3ـ تقيّة إبراهيم بن المنذر بن عبد الله في تلك المحنة، حيث قال السبكي في حقّه: "كان حصل عند الإمام أحمد منه شيء؛ لأنه قيل: خلط في مسألة القرآن كأنه مجمج في الجواب، قلت: وأرى ذلك منه تقيّة وخوفاً"(3).
4ـ تقيّة يحيى بن معين، أخرج الذهبي عن الحافظ أبي زرعة الرازي قوله: "كان أحمد بن حنبل لا يرى الكتابة عن أبي نصر التمّار، ولا عن يحيى بن معين ولا عن أحد ممن امتحن فأجاب" ثم يُعلّق الذهبي على ذلك قائلاً: "قلت: هذا أمر ضيق ولا حرج على من أجاب في المحنة، بل ولا على من أكره على صريح الكفر عملاً بالآية، وهذا هو الحق، وكان يحيى رحمه الله من أئمة السنة، فخاف من سطوة الدولة وأجاب تقيّة"(4).
5ـ تقيّة إسماعيل بن حمّاد في محنة القرآن، قال ابن حجر في لسان الميزان: "قال يوسف في المرآة: وكان إسماعيل بن حمّاد ثقة، صدوقاً لم يغمزه
____________
(1) الذهبي، سير أعلام النبلاء: ج10 ص482. (2) المصدر نفسه: ج10 ص573. (3) طبقات الشافعية: ج2 ص82 (نقلاً عن حاشية تهذيب الكلام للمزي بقلم الدكتور بشار عواد معروف) ج2 ص211. (4) سير أعلام النبلاء: ج11 ص87.
سوى الخطيب فذكر المقالة في القرآن، قال السبط: إنما قاله تقيّة كغيره"(1).
6ـ تقيّة الجمّ الغفير من العلماء وعامة الناس في محنة خلق القرآن, وتقدم بعض شواهدها, ومن هنا قال الذهبي في تلك المحنة: "من أجاب تقيّة فلا بأس عليه"(2).
7ـ ومن تلك المواقف أيضاً فتنة الأسود العنسي، حيث قال ابن كثير وغيره في تلك الفتنة: "واستوثقت اليمن بكاملها للأسود العنسي، وجعل أمره يستطير استطارة الشرارة... واشتد ملكه واستغلظ أمره، وارتد خلق من أهل اليمن, وعامله المسلمون الذين هناك بالتقيّة"(3).
تقيّة كثير من العلماء في بعض الأحكام الشرعية
ذكر القرطبي في تفسيره ثلاث مسائل في بيان قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} وقال في المسألة الثالثة: "قال ابن العربي: ولامتنان البارئ سبحانه وتعظيم المنّة في التين وأنه مقتات مدّخر, فلذلك قلنا بوجوب الزكاة فيه، وإنما فرّ كثير من العلماء من التصريح بوجوب الزكاة فيه تقيّة جور الولاة؛ فإنهم يتحاملون في الأموال الزكاتية فيأخذونها مغرماً"(4).
____________
(1) ابن حجر، لسان الميزان: ج1 ص399. (2) الذهبي، سير أعلام النبلاء: ج13 ص322. (3) البداية والنهاية: ج6 ص339؛ وتاريخ ابن خلدون: ج2 ق2 ص60. (4) تفسير القرطبي: ج20 ص112.
تقيّة علماء السنة من الشيعة
لقد استخدم العديد من علماء السنة مبدأ التقيّة مع الشيعة عندما قويت شوكتهم في بعض الأزمنة، مما يعني أن الشيعة كانت لهم مبرراتهم الموضوعية والواقعية في اتخاذهم عقيدة التقيّة شعاراً ودثاراً، فقد كان من المفروض أن تقع اللائمة والذم على الظلمة والطغاة الذين ما فتئوا على مرّ التاريخ يحاربون الشيعة بشتى الوسائل ويقتلونهم تحت كل حجر ومدر، وقد صودرت حرياتهم في الرأي والعقيدة من قبل الأمويين والعباسيين والعثمانيين وغيرهم، حتى أصبح التشيع ومودة أهل البيت(عليهم السلام) ذنب لا يغتفر.
ولكن المؤسف أن الأقلام توجهت بالنقد واللائمة نحو الشيعة, الذين استخدموا التقيّة وتسلّحوا بها كسلاح مشروع، شرّعه القرآن والسنة النبوية إلى مثل الظروف الصعبة والحرجة التي مرّ بها التشيع عبر التاريخ.
ومن نماذج تقيّة علماء أهل السنة من الشيعة:
1ـ ذكر الذهبي أن تشيع علي بن موسى بن الحسين ابن السمسار الدمشقي كان على سبيل التقيّة وتوخي الضرر، حيث قال في هذا المجال: "ولعل تشيعه كان تقيّة لا سجية, فإنه من بيت الحديث، ولكن غلت الشام في زمانه بالرفض، بل ومصر والمغرب بالدولة العبيدية, بل والعراق وبعض العجم بالدولة البويهية، واشتدّ البلاء دهراً، وشمخت الغلاة بأنفها، وتواخى الرفض والاعتزال حينئذ"(1).
____________
(1) الذهبي، سير أعلام النبلاء: ج17 ص507.
2ـ وقال ابن حجر في لسان الميزان: "إن علي بن عيسى الرماني أظهر التشيع حذراً وتقيّة", ثم ذكر قول ابن النديم: "إن مصنفات علي بن عيسى الرماني التي صنفها في التشيع لم يكن يقول بها وإنما صنفها تقيّة؛ لأجل انتشار مذهب التشيع في ذلك الوقت، وذكر له مع البُسري الرفّاء حكاية مشهورة في ذلك"(1).
وقد كان على الدكتور أن يتهم ابن حجر الذي حمل بعض مصنفات علي بن عيسى الرماني على التقيّة، بأنه اتخذ ذلك ذريعة لحل التناقض في الأحاديث والروايات والتخلص من التراث السني الذي ينسجم مع مبادئ الشيعة الإمامية.
هذه إطلالة سريعة على مبحث التقيّة في العقيدة والتراث السني، يتضح من خلالها أصالة هذا المبدأ القرآني والروائي وأنه موضع اتفاق المسلمين قديماً وحديثاً وليس هو من مختصات الشيعة ومستحدثاتهم كما ادعى سعادة الدكتور، فما الطعن في هذه العقيدة إلا تجنٍ على الحقائق الموضوعية والأدلة الناصعة.
2ـ عقيدة البداء
إن دعواكم أن الشيعة اخترعت واستحدثت عقيدة البداء لمعالجة التناقض بين جملة من الأخبار، لا يمت إلى الحقيقة بصلة؛ لأنكم حملتم البداء على معناه الباطل، والذي يعني الظهور بعد الخفاء المستلزم للجهل والنقص، مع أن البداء بهذا المعنى مستحيل على الله تعالى لا تقول به الإمامية، بل تقول باستحالته وبكفر من يقول به وبلزوم التبري منه.
____________
(1) ابن حجر، لسان الميزان: ج4 ص248.
مفهوم البداء عند الشيعة
والبداء الذي تؤمن به الشيعة تبعاً للآيات والروايات هو إظهار ما خفي على الناس من مصالح التشريع وملاكات الأحكام وأسس التدبير الكوني، وليس المقصود بالبداء الاصطلاحي ظهور ما خفي على الله تعالى وأنه بدا له من الأمر ما لم يكن بادياً؛ وذلك لأن جميع الأمور في العوالم كلها ظاهرة ومعلومة لله تعالى ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، والى ذلك أشار تبارك وتعالى بقوله: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}(1)، فالله تعالى قد يظهر أمراً ويكتبه في لوح المحو والإثبات بعد أن كان مكنوناً في أم الكتاب، ومعنى ذلك أنه تعالى قد يظهر شيئاً على لسان نبيه الأكرم(صلى الله عليه وآله) لمصلحة تقتضي ذلك بعد أن كان خافياً على عموم الناس.
البداء في روايات أهل البيت(عليهم السلام)
والمعنى الذي ذكرناه للبداء هو ما صرحت به روايات أهل البيت(عليهم السلام)، فهي بعد أن أنكرت المعنى الباطل للبداء وهو الذي يقتضي الجهل والنقص، أثبتت البداء بمعناه القرآني الذي يعني الإبداء وإظهار ما كان يجهله الناس.
قال أبو عبد الله الصادق(عليه السلام): "ما بدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو له"(2)، وقال(عليه السلام) أيضاً: "إن الله لم يبد له من جهل"(3)، كما قال(عليه السلام): "من
____________
(1) الرعد: 9. (2) الكليني، الكافي: ج1 ص148، باب البداء. (3) المصدر نفسه.
زعم أن الله يبدو له في شيء اليوم لم يعلمه أمس فابرؤوا منه"(1)، وقال الشيخ الصدوق في تعليقه على هذه الرواية: "وإنما البداء الذي ينسب إلى الإمامية القول به هو ظهور أمره"(2).
البداء في أقوال علماء الشيعة
وقد قرر هذا المعنى للبداء جميع علمائنا، فلا تجد أحداً منهم يفسر البداء بالمعنى الباطل الذي اتهم به الشيعة، قال الشيخ الطوسي: "والوجه في هذه الأخبار [أي أخبار البداء] ما قدمنا ذكره من تغيير المصلحة فيه واقتضائها تأخير الأمر إلى وقت آخر على ما بيّناه، دون ظهور الأمر له تعالى، فإنا لا نقول به ولا نجوزه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً"(3).
وقال المازندراني شارح كتاب (الكافي) عند استعراضه لروايات البداء: "فهو سبحانه كان في الأزل عالماً بأنه يمحو ذلك الشيء في وقت معين لمصلحة معينة عند انقطاع ذلك الوقت وانقضاء تلك المصلحة، ويثبت هذا الشيء في وقته عند تجدد مصالحه، ومن زعم خلاف ذلك واعتقد بأنه بدا له في شيء اليوم مثلاً، ولم يعلم به قبله، فهو كافر بالله العظيم ونحن منه براء"(4).
ومن الواضح لأهل العلم والتحقيق أن وجهة نظر أي دين أو مذهب إنما تؤخذ من أقوال علمائه، وليس من الصحيح والمنطقي أن تقتطع رواية من
____________
(1) الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة: ص7 مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم. (2) الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة: ص70. (3) الشيخ الطوسي، الغيبة: ص431. (4) محمد صالح المازندراني، شرح أصول الكافي: ج4 ص250ـ 251، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
موضوعها العام ثم تفسيرها تفسيراً باطلاً لا ينسجم مع ما يعتقد به أتباع ذلك الدين أو المذهب.
البداء في الكتب السنية
ثم إنه قد ورد لفظ البداء في جملة من الروايات الصحيحة الواردة في الكثير من المجامع الحديثية للطائفة السنية.
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: "إن ثلاثة في بني إسرائيل، أبرص وأقرع وأعمى بدا لله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً، فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟.... إلى آخر الحديث"(1).
وقد حمل شرّاح البخاري لفظ البداء على نفس المعنى الذي تقدم التصريح به عن علماء الشيعة.
قال ابن حجر: "قوله: (بدا لله) بتخفيف الدال المهملة بغير همز، أي سبق في علم الله فأراد إظهاره، وليس المراد أنه ظهر له بعد أن كان خافياً؛ لأن ذلك محال في حق الله تعالى"(2)، وبنفس المضمون ما ذكره العيني في عمدة القاري(3).
وفي تفسير ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ} قال: "فإن بدا لله أن يقبضه قبض الروح، فمات، أو اُخر أجله رد النفس إلى مكانها من جوفه"(4).
وروى الهيثمي في مجمع الزوائد حول طلوع الشمس من مغربها عن
____________
(1) البخاري، الجامع الصحيح: ج2 ص384، كتاب أحاديث الأنبياء. (2) ابن حجر، فتح الباري: ج6 ص364. (3) العيني، عمدة القاري: ج16 ص48، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت. (4) ابن أبي حاتم. تفسير ابن أبي حاتم: ج10 ص3252، المكتبة العصرية.
عبد الله بن عمرو: "أنها [الشمس] كلما غربت أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع فأذن لها في الرجوع حتى إذا بدا لله أن تطلع من مغربها فعلت كما كانت تفعل أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع فلم يرد عليها شيء، ثم تستأذن في الرجوع فلا يرد عليها شيء ... الحديث"(1).
قال الهيثمي: "رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح"(2).
فإن التعبير الوارد في هذه الروايات يتطابق مع ما ورد في مروياتنا، وتقدم تفسير العلماء له بالإبداء وإظهار ما كان خافياً على عموم الناس، وليس المراد منه ظهور ما خفي على الله تعالى، الذي أحاله وأبطله أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وعلماء السنة والشيعة.
آثار البداء على العقيدة
ثم إنّ من الواضح أن البداء بالمعنى المقبول والوارد في صريح الروايات يبين قدرة الله تعالى المطلقة على التصرف في الكون كيف يشاء، وأن قلم التكوين ولوح الخلق والتغيير لم يجف، وهذا على خلاف ما آمنت به اليهود عن تقييد قدرة الله تعالى وقطع صلته عن مخلوقاته، حيث قالوا: إن يد الله عز وجل مغلولة، كما حكى القرآن ذلك عنهم في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء}(3)، ومن هذا المنطلق نفهم السبب في تأكيد أئمة أهل
____________
(1) الهيثمي، مجمع الزوائد: ج8 ص8. (2) المصدر نفسه: ج8 ص9. (3) المائدة: 64.
البيت(عليهم السلام) على عقيدة البداء، حيث جاء رداً على فكرة اليهود، وإبطالاً لكل فكرة تجعل قدرة الله ومشيئته سبحانه محدودة بحد معين، وإثبات سعة القدرة في عوالم الخلق والتكوين.
وأما ما أوردتموه من روايات في مدح بريد العجلي وزرارة وذمهما في روايات أخرى، ثم تساءلتم أي المضمونين حق وأيهما تقية، فجوابه واضح؛ لأن ما ورد من روايات المدح هي الحق وقد بنى عليها علماء الرجال عندنا لصحة أسانيدها وقوة مضامينها، وأما روايات الذم فهي روايات ضعيفة، موهونة، ساقطة، من حيث المتن والسند.
قال السيد الخوئي في معجم رجال الحديث عند تعليقه على مثل روايات الذم: "لا يكاد ينقضي تعجبي كيف يذكر الكشي والشيخ هذه الروايات التافهة، الساقطة، غير المناسبة لمقام زرارة وجلالته والمقطوع فسادها"، ثم أثبت بعد ذلك ضعف طرق تلك الروايات وجهالة رواتها(1).
وأما الروايات التي نقلتموها في مسألة البداء فهي ضعيفة جداً، ولا يناسب الاستدلال بها من أستاذ ودكتور يعتمد الروايات والمصادر المعتبرة في مقام الرد والمناظرة.
____________
(1) السيد الخوئي، معجم رجال الحديث: ج8 ص225ـ 254. قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بنى جذيمة فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتل منهم ويأسر ودفع إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرناه له، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده، فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين.
الدخول في الإسلام لا يساوي إثبات العدالة
قلتم في الإجابة على ما أوردناه من غرابة مسألة الإيمان بعدالة جميع الصحابة مع عدم التناسب والانسجام بينها وبين الدليل الذي أقيم عليها في ص66: "الخلاف بيننا وبينكم ليس في عدالة جميع الصحابة، وإنما خلافنا معكم في عظماء الصحابة وأفاضلهم من المهاجرين والأنصار وخاصة الخلفاء الراشدين، أبو بكر وعمر وعثمان وإخوانهم".
قلت:
أولاً: إن كلامكم هذا يعد التفافاً وهروباً عن الجواب، فكان من الحري بكم أن تقدموا تفسيراً واضحاً ودليلاً ساطعاً على ما أثرناه من الاستغراب حول الإيمان بعدالة كل من أسلم وصحب النبي بعد إسلامه كما عليه محققيكم حسب ما اعترفتم به بعد أسطر من الصفحة ذاتها.
ثانياً: إن الذي يظهر من كلامكم هذا أن الإيمان بعدالة جميع الصحابة بمفهومها العريض إنما طرحت في الوسط السني واتخذت عقيدة يكفّر كل من يحاول النقاش فيها، جاءت لتبرير وتصحيح الأقوال والمواقف المتناقضة والمتضاربة التي وقعت في الصدر الأول للإسلام وبعد وفاة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) والتغطية على جملة من الحوادث التي ما زالت تأنّ من وطأتها الأمة الإسلامية، كالصراع الذي وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة وتجاوزات خالد بن الوليد(1) ومخازي معاوية بن أبي سفيان وما
____________
(1) أخرج البخاري في صحيحه: ج3 ص99 عن سالم عن أبيه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بنى جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر ودفع إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرناه له، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده فقال: >اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين<.
نتج عنها من الفتن والحروب التي طحنت كبار الصحابة، إلى غير ذلك من الوقائع.
ثالثاً: لو أن من ترك دينه السابق وأعلن الدخول في الإسلام كان الأصل فيه أنه متبع له ملتزم بتعاليمه حتى يثبت خلافه، فلماذا لا نطبق هذا الأصل بحق من أسلم بعد النبي(صلى الله عليه وآله) تاركاً لدينه السابق وحسن إسلامه؟
ولماذا نحتاج في توثيقه وإثبات عدالته إلى شهادة علماء الرجال ومن له تخصص في هذا المجال؟ مع أنه قد لا يقل شأناً عن ذلك الذي أسلم في حياة الرسول(صلى الله عليه وآله) وخصوصاً إذا كان في السنة التي توفي فيها النبي(صلى الله عليه وآله).
اتهام الشيعة بتكفير الصحابة
قلتم في ص66: "إن ادعاء كفر الصحابة أو فسقهم أو خيانتهم عن بكرة أبيهم ما عدا أربعة أشخاص أشد غرابة من القول بعدالتهم".
قلت:
أولاً: ذكرنا سابقاً أن الشيعة الإمامية يؤمنون بإسلام كل من تشهد الشهادتين، ولا يحكمون بكفر الصحابة، هذه كتبهم الفقهية والحديثية شاهدة على ذلك، فجميع الصحابة مسلمون إلا من أعلن كفره وارتداده بإنكاره التوحيد أو النبوة، وأما بعض الروايات الواردة في كتبنا والتي قد توهم منها ارتداد جميع الصحابة إلا أربعة فهي كما سيأتي روايات ضعيفة سنداً ولا يمكن الاعتماد عليها في الاستدلال في مجال العقيدة.
مضافاً إلى أن لفظ الارتداد الوارد في بعضها لا يراد منه الارتداد الفقهي الاصطلاحي وهو الكفر والخروج عن الدين الإسلامي، وإنما معناه الرجوع عن رتبة من مراتب الإيمان، وهو مقام الطاعة والولاية والانقياد إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) في مسألة الإمامة والوصية.
ثانياً: إنكم اعترفتم في الصفحات اللاحقة من كتابكم بارتداد الصحابة إلا طائفة قليلة منهم، حيث قلتم في ص74: "فحدثت ردّة عن دين الله عز وجل من بعضهم، وامتناع عن دفع الزكاة من البعض الآخر، ولم يبق على الدين سوى ثلاث مدن (المدينة ومكة والطائف) وما عداها فقد أعلنوا عصيانهم"، ثم ذكرت قول ابن كثير: "وقد ارتدت العرب إما عامة وإما خاصة"، وقد ورد هذا المضمون في كتبكم المعتبرة بألسنة مختلفة، فمنها ما حكمت بارتداد عشرات القبائل والبلدان في مختلف أطراف الدولة الإسلامية، والتي احتضنت أعداداً هائلة من الصحابة، وقد كان معنى الارتداد في تلك الروايات هو الكفر والخروج عن الدين، بدليل ما وقع من قتالهم واستباحة أموالهم وسبي نسائهم وأطفالهم.
ثالثاً: إن نقاشنا في مسألة عدالة الصحابة المطلقة وإثبات صدور جملة من المخالفات الشرعية والعقيدية من بعضهم، لا يتجاوز ما ذكرتموه في الكثير من عبائركم، فمن ذلك قولكم في ص73: "فإن الإنسان بدخوله إلى الإسلام، لا يعني أنه أصبح ملكاً لا يصدر منها أخطاء ولا يقع منه هفوات، فالصحابة بشر لهم رغبات ولهم أخطاء وليسوا معصومين".
وقولكم في ص83 في مقام بيان ما ذكره عمر (رض) من أنهم كانوا يظنون أن لن يبقى منهم أحد إلا ينزل فيه شيء من النفاق بعد نزول سورة
براءة: "وإنما المراد أننا جميعاً أصحاب ذنوب وخطايا".
فإن مثل هذه التعابير وغيرها مما ورد في كتابكم لا يختلف كثيراً عما تراه الشيعة في مسألة عدالة الصحابة.
إنكار العدالة لا يسيء للمجتمع الإسلامي في زمن النبي(صلى الله عليه وآله)
ذكرتم في ص75ـ 76 نبذة عن مراحل الدعوة وتأثيرها الإيجابي على جيل الصحابة، ثم خلصتم إلى أن المدرسة الربانية بإشراف محمد(صلى الله عليه وآله) قد نجحت في تربية الأصحاب والتاريخ يشهد، وأوحيتم إلى القارئ بعد ذلك أن الشيعة الإمامية يؤمنون بإخفاق النبي(صلى الله عليه وآله) في تربية أصحابه.
قلت:
أولاً: لا نظن أن هناك مسلماً يؤمن بالله ورسوله يتوهم أن الرسالة الخاتمة بقيادة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) وإشرافه لم تستطع أن تربي جيلاً من حملة الإسلام ومبلّغيه؛ بل استطاعت تلك الحقبة التي قارنت البعثة النبوية المباركة أن تصنع مجتمعاً إسلامياً، يحمل معالم الرسالة وطابعها العام، مبتعداً عن الأعراف الجاهلية التي كانت تسود البيئة السابقة على الإسلام.
ثانياً: إن كثيراً من الأنبياء استمرت دعوتهم عقوداً من الزمن ولم يؤمن برسالتهم ويتبع نهجهم إلا النزر اليسير من قومهم، كما هو الحال مع نوح وموسى وعيسى ولوط وأيوب وصالح ويونس (عليهم السلام)، ولا يعني ذلك أن نحكم عليهم بالفشل، لأن وظيفة الأنبياء (عليهم السلام) هي التبليغ وإيصال التعاليم الإلهية، وأما الهداية فهي من الله تعالى، قال عزّ وجلّ: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ
وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء}(1).
ثالثاً: إن تلك المسيرة الإسلامية بطابعها العام لا تعني أنها أصبحت معصومة ومثاليّة خالية عن كل أشكال الأخطاء والتجاوزات، بحيث نضطر إلى ارتكاب التأويلات واختلاق المبررات والسكوت عما وقع بين الصحابة، من اختلافات وفتن، ونجمع بين المتناقضات وتساوي بين القاتل والمقتول والظالم والمظلوم، فإن المجتمع يمكن أن يكون صالحاً وإسلامياً في إطاره العام، ومع ذلك يتضمن الكثير من الأفراد الذين تصدر منهم المخالفات والإخفاقات العقائدية والكبائر من الذنوب، ولكن تبقى هذه الأفراد تحت لواء وراية الإسلام ويتشكّل منهم ومن غيرهم من المسلمين الهيكل العام للدولة الإسلامية التي حكمت آنذاك.
والذي يشهد على التفاوت الكبير بين أفراد المجتمع الإسلامي في عهد النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، هو وقوع الكثير من الانتكاسات والمخالفات للنبي(صلى الله عليه وآله)، كالفرار في معركة أحد(2) ويوم حنين(3)، واعتراض الأصحاب على الرسول(صلى الله عليه وآله) في الحديبية(4) والعصيان في ترك إنفاذ جيش أسامة(5)،
____________
(1) البقرة: 272. (2) أخرج البخاري في صحيحه: ج2 ص230، كتاب الجهاد والسير، باب غزو النساء، عن أنس قال: "لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي(صلى الله عليه وآله)< وذكر ذلك أيضاً في كتاب المناقب باب مناقب الأنصار وكتاب المغازي باب غزوة أحد. (3) أخرج البخاري في صحيحه: ج2 ص227 كتاب الجهاد والسير ب 52 عن اسحاق، قال: قال رجل للبراء بن عازب: أفررتم عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوم حنين؟ قال: لكن رسول الله لم يفر. (4) في صحيح البخاري: ج1 ص190 كتاب الشروط عن عمر قال: فأتيت نبي الله، فقلت: ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ إلى أن قال: فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا، قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات...<. (5) ابن سعد، الطبقات الكبرى: ج2ص249.