والاعتراض على تدوين الكتاب في رزية الخميس المعروفة(1)، وحجة الوداع(2).
وجملة من تلك المخالفات وقعت في أخريات حياة النبي(صلى الله عليه وآله)، في وقت من المفترض أن يكون الإسلام قد أخذ موقعه الحقيقي في قلوب المسلمين، وبعد أن ملأت أسماعهم الآيات القرآنية من قبيل قوله تعالى: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}(3) وقوله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا
____________
(1) أخرج البخاري في صحيحه: ج1 ص73ـ 74 كتاب العلم ح114 بسنده عن ابن عباس، قال: "لما اشتد بالنبي وجعه، قال ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، قال عمر: إن النبي(صلى الله عليه وآله) غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، قال: قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع، فخرج ابن عباس يقول: إن الرزيئة كل الرزيئة ما حال بين رسول الله وبين كتابه. (2) روى مسلم عن عائشة رضى اللّه عنها، أنّها قالت: قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأربع مضين من ذى الحجة أو خمس، فدخل عليّ وهو غضبان، فقلت: من أغضبك يا رسول اللّه؟ أدخله اللّه النار<. صحيح مسلم: ج2 ص879، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام.... وفي رواية أخرى: "ومالى لا أغضب؟ وأنا آمر بالأمر فلا أُتَّبع" مسند أحمد: ج4 ص286، باب حديث قيس عنه البراء بن عازب، كنز العمّال: ج5 ص275، تذكرة الحفّاظ: ج1 ص116، ذكر أخبار إصبهان: ج2 ص162. قال الهيثمى:رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح مجمع الزوائد للهيثمى: ج 3 ص 233. وقال الذهبي: هذا حديث صحيح من العوالي. سير أعلام النبلاء: ج8 ص498. /p>
وروى مسلم في صحيصحه عن عطاء قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في ناس معي، قال: أهللنا، أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالحج خالصاً وحده، قال عطاء: قال جابر: فقدم النبي صلى الله عليه وسلم صبح رابعة مضت من ذي الحجة، فأمرنا أن نحل، قال عطاء: قال: حلوا وأصيبوا النساء، قال عطاء: ولم يعزم عليهم، ولكن أحلهن لهم، فقلنا: لما لم يكن بيننا وبين عرفة الا خمس أمرنا أن نفضي إلى نسائنا، فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني< صحيح مسلم: ج2 ص883. (3) النساء: 59.
نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(1)، والأدهى والأمرّ من كل ذلك أن تصور هذه المخالفات من قبيل الرعيل الأول من الصحابة.
فهذه المعطيات والوقائع التاريخية بمجملها هي التي رسمت أسس وأبعاد عقيدة الشيعة الإمامية في مسألة الصحابة وعدالتهم، وهذا هو الذي يرفع غرابة ما نعتقده في الصحابة، ويصلح أن يكون دليلاً ساطعاً في هذا المجال وكافياً في تقييم المجتمع الإسلامي في زمن البعثة المباركة وبعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله).
وعليه فإن مخالفات الصحابة للنبي(صلى الله عليه وآله) في بداية البعثة وأواخرها وعصيانهم له في أهم المواقف وأخطرها كل ذلك يجعل مجال المخالفة في مسألة الولاية والإمامة والخلافة بعد وفاته مفتوحاً على مصراعيه، ومع ذلك فإن الشيعة لا يحكمون بكفر من يرتدّ عن مسألة الإمامة، بل يبقى مسلماً له دوره في بناء المجتمع الإسلامي، وإن كان عاصياً في مسألة الإمامة وفاقداً لدرجة مهمة من درجات الإيمان.
قلتم في ص77: "إن القائل بردّة هؤلاء [الصحابة] وخيانتهم ومدّعي ذلك صاحب قلب مريض، نسأل الله له الشفاء".
قلت: إنّكم قد اعترفتم في كتابكم هذا وفي مواطن مختلفة بردّة الكثير من الصحابة بعد وفاة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، ممن أشرقت عليهم أنوار النبوة ونالته بركة صحبة النبي كما ذكرت، وقد نقلت المصادر المعتبرة ارتداد عدد من الصحابة، أمثال مالك بن نويرة وأصحابه، وربيعة بن أميّة الجمحي الذي شهد مع النبي(صلى الله عليه وآله) حجة الوداع وحدّث عنه، ثم ارتد في خلافة عمر
____________
(1) الحشر: 7.
(رض) ولحق بالروم، وغير ذلك من الصحابة الذين تنبأ النبي(صلى الله عليه وآله) بارتدادهم بعد رحيله، حيث قال: "وإن أناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أصحابي أصحابي، فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم"(1).
وقولكم مدعي ذلك صاحب قلب مريض، فإننا نترفع عن الرد بنفس الأسلوب لأن قلوبنا تحمل في طياتها السماحة والإخلاص لكل إنسان.
طول الصحبة لا يثبت العدالة
أوردتم في ص77 قولي: "فهل يصح أن يقال إن صحبة ساعات أو أيام قلعت ما في نفوسهم" وذلك في مقام التساؤل حول تفاوت زمن الصحبة للنبي(صلى الله عليه وآله)، ثم قلتم: "هل يعني أن الشيعة يقرّون بأن الذين صحبوه من أول أمره(صلى الله عليه وآله)قد قلعت ما في نفوسهم من جذور غير صالحة؟" وذكرتم بعد ذلك بعضاً من الصحابة الذين أسلموا في بدايات البعثة المباركة، وتساءلتم هل تهذبت نفوسهم عندكم أم لا؟
قلت:
أولاً: إنك حاولت الالتفاف على الجواب مرة أخرى، حيث لم تذكر المبرر الواقعي والعلمي للحكم بعدالة من لم يثبت من عدالته إلا أيام أو ساعات، ومشاطرته في مبدأ العدالة مع من أسلم في أوائل البعثة.
ثانياً: إننا لا نعني بقولنا: "فهل يصلح أن يقال: إن صحبة ساعات أو أيام قلعت ما في نفوسهم" أن من أسلم في أول البعثة قد قلع ما في نفوسهم من جذور غير صالحة وملكات رديئة مما لا ينجو منها أحد إلا من عصم الله تعالى،
____________
(1) البخاري، الجامع الصحيح: ج2 ص348، كتاب أحاديث الأنبياء ح3349.
وإنما طول الصحبة قد تخلق له أجواءً وأرضية خصبة مهيأة لنمو بذور الخير والصلاح لا أنه يكون إنساناً صالحاً في مجمل أبعاد حياته بالضرورة.
ففي الحديث عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، قال: "مثل ما بعثني الله من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقيّة(1) قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ"(2).
ويشهد على ذلك الحوادث والفتن والاختلافات والمهاترات والتجاوزات التي وقعت من الصحابة والنبي(صلى الله عليه وآله) بين أظهرهم وعلى مرأى ومسمع منه(صلى الله عليه وآله).
ومن أمثلة ذلك ما جاء في البخاري عن ابن أبي مليكة، قال: "كاد الخيران أن يهلكا، أبو بكر وعمر"(3)، وذلك عندما تشاجرا وارتفعت أصواتهما عند النبي(صلى الله عليه وآله).
وفي صحيح البخاري أيضاً عن جابر بن عبد الله، قال: "كنا في غزاة، قال سفيان: مرة في جيش، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فسمع ذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فقال: ما بال دعوى جاهلية! فقالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: دعوها فإنها فتنة"(4).
____________
(1) نقيّة: طيبة. (2) البخاري، الجامع الصحيح: ج1 ص94، كتاب العلم، دار الفكر ـ بيروت. (3) البخاري، صحيح البخاري: ج4 ص394، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، مكتبة الإيمان ـ المنصورة. (4) البخاري، الجامع الصحيح: ج3 ص290، كتاب التفسير.
وهذه الأمثلة تكشف وتدلّل بوضوح على أن رواسب الجاهلية لم تزل عالقة في قاع مجتمع الصحابة، ولم تقتلع ما في نفوسهم من جذور الملكات الرديئة.
ثالثاً: إن ما زعمتموه من أن الشيعة الاثني عشرية وبدون استثناء لا يرى في كتبهم إلا التكفير أو التفسيق للصحابة، مجازفة وإلقاء للكلام على عواهنه ولا يصدر من مثقف إسلامي فضلاً عن متخصص في مجال الفكر والعقيدة الإسلامية، إذ لا يوجد في كتبنا ما يدل على دعواك إلا بعض الروايات الضعيفة التي سيأتي استعراضها ومناقشتها لاحقاً.
رابعاً: إن الصحابة الذين ذكرتهم في حديثك لا شك إننا نعتقد بإسلامهم وسابقتهم في الإسلام إلا أن هذا لا يعني عصمتهم عن الزلل والانحراف، ولا يثبت حرمة التعرض لهم، ونقدهم واستعراض الأخطاء التي ارتكبوها في حياتهم والتي أثّرت سلباً على المسيرة الإسلامية، ومن أهم ما نعتقده من تلك الانحرافات هو إنكارهم لإمامة علي(عليه السلام) وخلافته، التي أوصاهم بها النبي(صلى الله عليه وآله) قبل وفاته.
خصوصاً وأن بعض الصحابة الذين أشرت لهم في كتابك قد خرج على إمام زمانه الذي عقدت له البيعة العامة من قبل المسلمين، وبعضهم الآخر قتله من أسلم قديماً من الصحابة، فأيّهم الذي أشرقت أنوار النبوة على قلبه؟!
ولكن مع ذلك كلّه نؤكد إسلام الصحابة إلا من أعلن ارتداده بإنكار الشهادتين.
قلتم في ص77: "قال الطوسي الإمامي: ودفع الإمامة وجحدها كدفع النبوة وجحدها سواء والصحابة الأوائل لم يعرفوا الإمامة، فضلاً عن أن يقال إنهم دفعوه عنها والشيعة يعتقدون أنهم دفعوه عنها، فما حكمهم إذن؟".
قلت: إنّ مراد الشيخ الطوسي من دفع الإمامة هو إنكارها، بدليل عطف الجحود في كلامه على دفع الإمامة وهو من عطف التفسير والبيان، وهذا ما تعتقده الشيعة عموماً، إذ أننا نعتقد بأن كل من عرف الإمامة وثبتت عنده بنصّ شرعي قاطع من قرآن أو سنة نبوية مباركة، ثم يجحدها وينكرها يكون كمنكر النبوة وجاحدها في الكفر والخروج عن الدين، وأما من لم يثبت له ذلك ولم يعرف الإمامة كما ادعيت ذلك للصحابة، فإنه يبقى على إسلامه وإن أنكر مسألة الإمامة والخلافة.
قلتم في ص78: "إن القرآن لم يقسم الأصحاب المؤمنين من المهاجرين والأنصار، وإنما مدحهم جميعاً وأثنى عليهم".
قلت: تقدم الجواب عن هذه النقطة في الأبحاث السابقة، وذكرنا أن هناك الكثير من الآيات القرآنية التي ذمت ووبخت جملة من الصحابة من غير المنافقين.
النفاق والمنافقون
بدأتم من ص 79 باستعراض مسألة النفاق في مجتمع الصحابة والإجابة على ما جاء في رسالتي، التي أثبت لكم فيها تفشي ظاهرة النفاق في وسط الصحابة.
النفاق في مكة
قلتم في ص80: "لا يعرف [النفاق] أصلاً في أحد من المهاجرين؛ لأن المهاجر أصلاً خرج من أرضه وماله باختياره فكيف ينافق؟"
قلت:
أولاً: الآيات القرآنية
إنّ هناك آيات كريمة تثبت أن النفاق كان موجوداً في مكة المكرمة قبل هجرة النبي(صلى الله عليه وآله) إلى المدينة:
1ـ قوله تعالى في سورة المدثر: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً}(1)، ومن الثابت لدى جميع العلماء والمفسرين أن سورة المدثر من السور المكية، لا سيما هذه الآية التي هي مورد البحث، من الواضح أيضاً أن المرض المذكور في الآية المباركة هو مرض النفاق كما نص على ذلك المفسرون.
قال ابن كثيرفي تفسيره للآية: > {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم} أي: من المنافقين {وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً{أي: يقولون ما الحكمة في ذكر هذا ههنا؟(2).
وقال الشوكاني: "المراد بـ {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} هم المنافقون"(3).
____________
(1) المدثر: 31. (2) ابن كثير، تفسير ابن كثير: ج4 ص447. (3) الشوكاني، فتح القدر: ج5 ص330، عالم الكتب ـ بيروت.
والآية المباركة تقسم الناس في ذلك الوقت إلى أربعة طوائف، هم أهل الكتاب والمؤمنون والكافرون والذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون، والآية تتحدث أيضاً عن مثل قرآني ضربه الله تعالى حول عدة أصحاب النار من الملائكة، وقد انقسمت حياله تلك الطوائف الأربعة انقساماً حقيقياً خارجياً بين من استيقن وزادته إيماناً وبين من ارتاب ودخله الشك والتردد والاستغراب من المنافقين والكافرين، فالمنافقون أخفوا ذلك وأعلنه الكافرون، إذن فالآية المباركة تنص على وجود طائفة من المنافقين في مكة المكرمة أعلنوا إسلامهم وأخفوا شكهم وريبهم في الدين لأسباب ودواع سنذكرها لاحقاً.
وأمام هذه الصورة الواضحة التي طرحتها الآية حول المنافقين في مكة حار المفسرون من أعلام الطائفة السنية في تفسيرها فجاءت كلماتهم وتفسيراتهم لهذه الحقيقة مرتبكة ومضطربة ومشوشة وبعيدة كل البعد عن مقصود الآية، فمنهم من حمل مراد الآية على ما سيقع من النفاق في المدينة من دون أن يبرز قرينة على ذلك من الآية (1)، ومنهم من ركب متن الشطط جاعلاً المراد بمرض القلوب هم الكافرون أنفسهم(2)، مع أن الآية عدت الذين في قلوبهم مرض قسماً آخر في قبال الكافرين كما فهمه أكثر المفسرين، ومنهم من حمل المراد من مرض القلب على الاضطراب وضعف الإيمان(3)، إلى غير ذلك من التمحلات التي كان القصد منها الفرار
____________
(1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: ج19 ص82. (2) الفخر الرازي، تفسير الفخر الرازي: ج30 ص207. (3) ابن عطية الأندلسي، المحرر الوجيز: ج5 ص396، دار الكتب العلمية ـ بيروت.
وعدم الإذعان بوجود النفاق في مكة.
2ـ قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ}(1)، وهذه أيضاً من الآيات المكية التي نزلت في بعض المنافقين بمكة.
قال الواحدي النيسابوري في أسباب النزول: "وقال الضحاك: نزلت في أناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك"(2).
وبنفس المضمون ما ذكره القرطبي في تفسيره(3).
وهذا يكشف عن وجود النفاق بين المسلمين في مكة رغم الظروف الصعبة والمخاطر المحدقة بهم وسطوة قريش في ذلك الحين، مما يتعارض مع إنكارك المطلق لمسألة النفاق في مكة.
3ـ قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (4).
أجمع المفسرون على ذكر أن هذه الآية المباركة نزلت في قوم أسلموا بمكة ولم يستحكم الإيمان في نفوسهم وقد خرجوا مع المشركين يوم بدر وأظهروا النفاق عندما رأوا قلة المسلمين.
قال مقاتل في تفسيره: "نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة والوليد بن الوليد
____________
(1) العنكبوت: 10ـ 11. (2) الواحدي النيسابوري: ص178، دار الكتب العلمية ـ بيروت. (3) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: ج13 ص330. (4) الأنفال: 49.
بن المغيرة وقيس بن الوليد بن المغيرة والوليد بن عتبة بن ربيعة والعلاء بن أمية بن خلف الجمحي وعمرو بن أمية بن سفيان بن أمية، كان هؤلاء المسلمون بمكة، ثم أقاموا بمكة مع المشركين فلم يهاجروا إلى المدينة، فلما خرج كفار مكة إلى قتال بدر، خرج هؤلاء النفر معهم، فلما عاينوا قلة المؤمنين شكوا في دينهم وارتابوا، فقالوا: (غر هؤلاء دينهم) يعنون أصحاب محمد(صلى الله عليه وآله)"(1).
وقال ابن عباس: "نزلت الآية في الذين أسلموا بمكة وتخلفوا عن الهجرة فأخرجهم أهل مكة إلى بدر كرهاً، فما رأوا قلة المؤمنين ارتابوا ونافقوا، وقالوا لأهل مكة: (غر هؤلاء دينهم)"(2).
وقال الثعلبي: "نزلت في ناس من أهل مكة دخلوا في الإسلام ولم يهاجروا، منهم قيس بن الفاكه بن المغيرة وقيس بن الوليد بن المغيرة وأنهم أظهروا الإيمان وأسروا النفاق، فلما كان يوم بدر خرجوا مع المشركين إلى حرب المسلمين، فلما التقى الناس ورأوا قلة المؤمنين قالوا: (غر هؤلاء دينهم)"(3).
إلى غير ذلك من الآيات القرآنية الأخرى التي تفيد أن النفاق لم يقتصر على المدينة، وإنما كان له وجود في مكة قبل الهجرة.
مضافاً إلى ذلك ما أثبتته كتب الحديث والتاريخ.
ثانياً: الطبيعة البشرية
إنّ إنكارك لوجود النفاق في مكة مع بطلانه كما تبين، لا يمكنك أن تعتمده دليلاً ومستنداً في نفي طرو النفاق على بعض المسلمين من
____________
(1) مقاتل، تفسير مقاتل: ج2 ص22، دار الكتب العلمية ـ بيروت. (2) أبو الليث السمرقندي، تفسير السمرقندي: ج2 ص26، دار الفكر ـ بيروت. (3) الثعلبي، تفسير الثعلبي: ج3 ص371، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
المهاجرين في المدينة بعد الهجرة، إذ من الممكن أن تعتري الإنسان حالة من الشك والريبة والتردد نتيجة القصور في بعض مدركاته وعدم قدرته على استيعاب بعض الحقائق الدينية، فيرجع عن دينه ولكنه يكتم ذلك حفاظاً على بعض المصالح الهامة بنظره، كالخوف من شماتة أعدائه أو حفاظاً على بعض علاقاته القبلية أو للعصبية والحمية، والشاهد الواضح على ذلك الردة التي وقعت بعد الهجرة من قبل جملة من مسلمي مكة، أمثال عبيد الله بن جحش الأسدي، حيث تنصر في الحبشة بعد هجرته إليها(1)، وربيعة بن أمية بن خلف الجمحي الذي لحق في خلافة عمر (رض) بالروم وتنصّر بسبب شيء أغضبه(2)، وغيرهم، وإذا كان الصحابي من المهاجرين معرضاً للكفر والارتداد فتعرضه للنفاق بالأولوية، خصوصاً وأن الكفر والارتداد لا يختلف في منطقكم عن حقيقة النفاق.
أسباب ودواعي النفاق في مكة
بعد أن اتضح وجود النفاق في مكة بصريح الآيات وكتب التفسير والحديث، قد يتردد البعض في هذه الحقيقة بتوهم أن من خرج من أرضه وماله باختياره كيف ينافق؟ وهذا التوهم الفاسد إنما هو مجرد استبعاد بعيد الصلة عن شخصية الإنسان وواقعه، وهو يُنبئ عن قصور في النظر تجاه الطبيعة البشرية التي تتجاذبها الكثير من الميول النفسية والظروف الاجتماعية والبيئية والقبلية، حيث إنها قد تؤثر على تفكير الإنسان وطموحاته وأهدافه التي قد يرسمها لنفسه ضمن حركة أو حزب أو دين
____________
(1) ابن حجر، الإصابة: ج5 ص370، دار الكتب العلمية ـ بيروت. (2) ابن حجر، فتح الباري: ج7 ص3.
معين وإن كان قد يتعرض للظلم والاضطهاد في منطلق مسيرته، ونحاول فيما يلي أن نشير إلى بعض تلك الأسباب والدوافع على سبيل الاختصار:
1ـ إننا كثيراً ما نجد في المجتمعات فئات من الناس مستعدة لقبول أية دعوة إذا كانت ذات شعارات طيبة تنسجم مع أحلامهم وآمالهم وتطلّعاتهم إلى تحقيق رغباتهم وما تصبوا إليه نفوسهم، فيناصرونها رغم أنهم في ظل أعتى القوى وأشدها طغياناً، فيعرضون أنفسهم للأخطار والمشاق والمصاعب وإن خسروا أرضهم وأموالهم، كل ذلك رجاء أن يوفقوا يوماً لتحقيق أهدافهم التي يحلمون بها من الجاه والسلطان وحب الشهرة والحصول على الثروات الطائلة، مع أنهم ربما لا يؤمنون بتلك الدعوة إلا بمقدار إيمانهم بضرورة الحصول على تلك الأهداف، ولذا نجدهم يتراجعون عن تلك المبادئ إذا تعرضت حياتهم للخطر وأيقنوا بعدم نيل تلك المآرب، نظير ما تقدم من قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}(1)، خصوصاً وأنها نزلت كما تقدم في من أسلم في مكة المكرمة، وكذا ما تقدم في قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} (2)، قال الواحدي بعد بيان نزولها في المنافقين: "وقالوا: نكون مع أكثر الفئتين، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: غر هؤلاء دينهم"(3).
مضافاً إلى أن جزيرة العرب استعلمت من اليهود ظهور نبي في هذا
____________
(1) العنكبوت: 10. (2) الأنفال: 49. (3) الواحدي، تفسير الواحدي: ص444، دار القلم ـ بيروت.
الزمان والمكان سيفتح حصون كسرى وقيصر وستدين له العرب والعجم، لا سيما وأنهم رأوا ولمسوا صدقه ووقوع بعض ما أخبر به، ومن الأمثلة التي تدل على رسوخ ذلك المبدأ في الأذهان ما حصل في معركة الخندق التي كانت سبباً في نزول قوله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا} (1)، قال القرطبي في تفسيره: "أي: باطلاً من القول: وذلك أن طعمة بن أبيرق ومعتب بن قريش وجماعة نحو من سبعين رجلاً قالوا يوم الخندق: كيف يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا يستطيع أحدنا أن يتبرز"(2).
ونحن إذ نذكر هذه الأمور لا نبتغي التشكيك في نوايا المسلمين وخصوصاً السابقين منهم، الذين بذلوا الغالي والنفيس وقدموا أرواحهم وكل ما يملكون بصدق وإخلاص في سبيل الإسلام وإعلاء كلمته، وإنما أردنا بذلك أن نثبت لك خطأ ما جزمت به من عدم وجود أي مظهر من مظاهر النفاق بين مسلمي مكة ومهاجريهم.
2ـ ما أشرنا إليه آنفاً من أن إنكار وجود النفاق في مكة لا يستلزم تنزيه المهاجرين كافة عن ابتلاء بعضهم بمرض الشك والنفاق والريبة، مع كثرة المحن والفتن والظروف القاهرة والعصيبة التي كانت تعصف بالمجتمع الإسلامي من الخوف والجوع والنقص في الأموال والأنفس والثمرات، مضافاً إلى الحروب والمعارك التي خاضها المسلمون كالتزلزل والشك في الدين الذي حصل في معركة أحد، حتى قال بعضهم: "فلنأخذ لنا أمنة من أبي سفيان"(3).
____________
(1) الأحزاب: 12. (2) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: ج14 ص147. (3) الطبري، جامع البيان: ج4 ص147.
وقد أحدثت هذه المعركة هزة عنيفة زلزلت إيمان وثبات الصحابة إلا قليل منهم، حتى عاتبهم الله ووبخهم، قال عزّ وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} (1).
ومن جميع ما ذكرنا يتبين أن النفاق لم ينحصر بالأنصار من الأصحاب، بل شمل بعض المهاجرين أيضاً، سواء في مكة قبل الهجرة أم في المدينة.
النبي(صلى الله عليه وآله) ومعرفة المنافقين
قلتم في ص80: "القرآن الكريم تولى كشف المنافقين بذكر أعمالهم ومواقفهم حتى لكأن النبي(صلى الله عليه وآله) وأصحابه يرونهم، بل ويعرفونهم".
ثم أوردتم بعد ذلك مجموعة من الآيات التي زعمتم أنها دالة على أن النبي(صلى الله عليه وآله) كان يعرفهم، وأن الله تعالى هددهم إذا لم ينتهوا عن النفاق فسوف يغري رسول الله(صلى الله عليه وآله) بهم إما بإخراجهم أو قتلهم، بحيث لم يغره بذلك دل على انتهائهم.
قلت:
أولاً: إن ما زعمته من أن القرآن كشف المنافقين وأن النبي(صلى الله عليه وآله) وأصحابه كانوا يعرفونهم، يتنافى مع ما ذكره كبار مفسريكم في قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}(2).
____________
(1) آل عمران: 144. (2) التوبة: 101.
قال السمعاني: "هذا دليل على أن الرسول لم يعلم جميع المنافقين"(1).
وقال ابن كثير في تفسير الآية: "وقوله: {لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} لا ينافي قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}؛ لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين، وقد كان يعلم أن في بعض من يخالفه من أهل المدينة نفاقاً"(2).
وفي كلام ابن كثير هذا جواب على ما أوردتموه في آيات قرآنية استظهرتم منها أن النبي(صلى الله عليه وآله) وبعض أصحابه كانوا يعلمون بالمنافقين كلهم، وهذا الاستظهار ليس في محله، إذ غاية ما تفيده الآيات المذكورة أن النبي(صلى الله عليه وآله) كان يعلم رؤوس المنافقين فقط وذلك عن طريق صفاتهم وسيماهم.
ولذا قال ابن كثير في موضع آخر: "قول من قال: كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقاً في غزوة تبوك... فأطلع على ذلك حذيفة ـ إلى أن قال: فأما غير هؤلاء، فقد قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} الآية، وقال تعالى: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً}(3) ففيها دليل على أنه لم يغر بهم ولم يدرك على أعيانهم وإنما كان تذكر
____________
(1) السمعاني، تفسير السمعاني: ج2 ص343. (2) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: ج2 ص398. (3) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: ج2 ص398.
له صفاتهم فيتوسمها في بعضهم، كما قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}(1).
وهناك روايات معتبرة وردت في مسانيدكم تصرح بأن النبي(صلى الله عليه وآله) لم يكن يعرف بعض المنافقين(2).
ثانياً: لو افترضنا أن النبي(صلى الله عليه وآله) كان مطلعاً على المنافقين كلهم بأعيانهم وأشخاصهم، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن النبي(صلى الله عليه وآله) أطلع أصحابه على جميع المنافقين، فلربما كانت هناك مصلحة وحكمة تقتضي إخفاء أسمائهم وأشخاصهم، كأن تكون هي الحفاظ على وحدة النظام الإسلامي وتجنب حصول الفتن في مجتمع المسلمين، والله ورسوله أعلم بملاكات الأحكام ومصالح الشريعة.
ولعل من الشواهد على عدم اطلاع ومعرفة الصحابة بالمنافقين أنهم كانوا يسألون حذيفة عنهم ويستعملون ذلك من تركه للصلاة عليهم، مع أن حذيفة لم يطلعه النبي(صلى الله عليه وآله) إلا على أربعة عشر منافقاً كما تقدم عن ابن كثير.
المنافقون من الصحابة
قلتم في ص81: المنافقون ليسوا من الصحابة ولكنهم معهم - وقلتم في ص82ـ والقرآن الكريم في كل آياته يبين أن المنافقين ليسوا بمؤمنين، أي: ليسوا ممن يوصفون بالصحبة، فإن الصحبة الإيمانية لا يوصف بها إلا المؤمن.
____________
(1) المصدر نفسه: ج1 ص52. (2) أبو يعلى، مسند أبي يعلى: ج1 ص90، دار المأمون للتراث.
قلت:
أولاً: إن ما ذكرته من الصحبة الإيمانية وأنها لا يوصف بها إلا المؤمن، يتنافى مع ما ذكره كبار علمائكم في تعريف الصحابي، حيث لم يشترطوا فيه إلا الإسلام.
قال البخاري في صحيحه: "ومن صحب النبي(صلى الله عليه وآله) أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه"(1).
وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: "فأما الصحابي فكل مسلم رأى رسول الله ولو لحظة" (2).
وحيث إن الإسلام وكون الشخص مسلماً مرحلة مختلفة عن الإيمان وسابقة عليه، وذلك في صريح قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}(3)، فيثبت بناءً على ذلك أن من الصحابة من لم يكن مؤمناً وإنما كان مسلماً بحسب ما يعلنه من النطق بالشهادتين.
ولذا قال ابن كثير في تفسيره للآية المتقدمة: "وقد استفيد من هذه الآية الكريمة أن الإيمان أخص من الإسلام، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة"، ثم قال بعد أن استدل على التغاير بين الإيمان والإسلام من الروايات: "فرق النبي(صلى الله عليه وآله) بين المؤمن والمسلم، فدلّ على أن الإيمان أخص من الإسلام، وقد قررنا ذلك بأدلته في أول شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري ولله الحمد والمنّة"(4).
____________
(1) البخاري، الجامع الصحيح: ج2 ص406، كتاب الفضائل، دار الفكر ـ بيروت. (2) النووي، شرح صحيح مسلم: ج1 ص35، دار الكتاب العربي ـ بيروت. (3) الحجرات: 14. (4) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: ج4 ص234.
والأعراب الذين ذكرتهم الآية المباركة من المسلمين الذين رأوا النبي(صلى الله عليه وآله)، فينطبق عليهم تعريف الصحابي، مع أن الآية نفت عنهم الإيمان وأثبتت لهم الإسلام فحسب، مما يعني أن الصحبة بحسب تعاريفكم لا يشترط أن تكون إيمانية، بل يكفي أن تكون صحبة إسلامية على ظاهر الإسلام.
ثانياً: إن ما أوردناه من تعريفات للصحابي وغيرها تشمل المنافقين أيضاً؛ لأن التعاريف المذكورة تضمنت قيد الإسلام ولم تشترط الإيمان الواقعي الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، كما قال عز وجل: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}(1).
قال الرازي في تفسير هذه الآية: "إن عمل القلب غير معلوم واجتناب الظن واجب، وإنما يحكم بالظاهر، فلا يقال لمن يفعل فعلاً هو مرائي، ولا لمن أسلم هو منافق، ولكن الله خبير بما في الصدور"(2)، وقد ذكرنا أن الكثير من المنافقين لم يكونوا معروفين بالنفاق، وكان المسلمون يتعاملون معهم كما يتعاملون مع سائر المسلمين، لهم مالهم وعليهم ما عليهم، فيكون مشمولاً بالتعاريف المتقدمة.
وما ذكرناه يتفق مع كافة التعاريف التي ذكرت للصحابة، بما في ذلك التعريف الذي ذكره ابن حجر للصحابي، والذي يعدّ أخص التعاريف وأضيقها، حيث ذكر أن الصحابي هو من رأى النبي(صلى الله عليه وآله) وآمن به ومات
____________
(1) النساء: 94. (2) الفخر الرازي، تفسير الرازي: ج28 ص141.
على الإسلام(1)، فإن مراده من الإيمان هو الإيمان بحسب الظاهر الذي يرادف الإسلام، ولذا قال في ذيل تعريفه: "ومات على الإسلام"، وإلا فإن الإيمان الواقعي لا يحدده إلا الله كما بينا، فلو كان مراده الإيمان الواقعي فإن التعريف يفقد جدواه وفائدته.
ثالثاً: بناءً على ما بينتموه سوف تثار عدة نقوض وإشكالات حول جملة من طوائف المسلمين، نظير من كان منافقاً طيلة حياة النبي(صلى الله عليه وآله) ثم تاب وآمن وحسن إسلامه، فهل مثل هذا يعد من الصحابة؟ وهل أن صحبته تنقلب بعد توبته صحبة إيمانية؟! أمثال الجلاس بن سويد الأنصاري الذي كان منافقاً على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ثم تاب بعد ذلك وحسنت توبته(2).
ونظير من ارتد في عهد النبي(صلى الله عليه وآله) ثم تاب بعد وفاته، أمثال ما يدعى في توبة عبد الله بن سعد بن أبي سرح الذي ارتد في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأمر بقتله فاختبأ عند عثمان ثم ولاّه في أيام خلافته، فهل لمثل هذا الشخص صحبة إيمانية مع أن النبي(صلى الله عليه وآله) أمر بقتله ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة(3).
رابعاً: إن النبي(صلى الله عليه وآله) وبعض الأصحاب أطلقوا على المنافقين لفظ الصحابة، وقد نقلت لكم جملة من تلك الإطلاقات والاستعمالات، كقوله(صلى الله عليه وآله) في أحد المنافقين: "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي"(4)، وكقوله(صلى الله عليه وآله): "في أصحابي اثنا عشر منافقاً"(5)، وقال(صلى الله عليه وآله) أيضاً: "إن في أصحابي
____________
(1) ابن حجر، الإصابة: ج1 ص130. (2) ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج3 ص199، دار صادر ـ بيروت. (3) ابن عبد البر، التمهيد: ج6 ص176، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية ـ المغرب. (4) مسلم، صحيح مسلم: ج2 ص740، كتاب الزكاة، ح 1063، دار الفكر ـ بيروت. (5) مسلم، صحيح مسلم: ج4 ص2143، كتاب صفات المنافقين، ح2779، دار الفكر ـ بيروت.
منافقين" (1).
ومن هذه الإطلاقات يتضح أن المنافقين من الصحابة، وأما اختصاص الصحبة بالصحبة الإيمانية فهو يحتاج إلى شاهد ودليل، وهو مفقود في مثل الروايات والأحاديث النبوية المذكورة.
ثم إن هناك بعض الصحابة اختلف في دخولهم في المنافقين، فهل هؤلاء من الصحابة؟ وهل أن الصحبة الإيمانية لابد من إحرازها يقيناً فلا يكون أولئك معدودين من الصحابة أم تجري فيهم أصالة الصحبة الإيمانية؟!
____________
(1) أحمد بن حنبل، المسند: ج4 ص83، وقد صححه الخطيب التبريزي في كتابه الإكمال: ص36.