المقدمة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين وسلم تسليماً.
وبعد: فقد قرأت في مجلة المنار المنشأة بمصر سنة 1315 لصاحبها الشيخ محمد رشيد رضا الطرابلسي الشامي نزيل القاهرة في الجزء الاول من المجلد الحادي عشر الصادر في اوائل صفر سنة 1326 في صحيفة 45 رسالة تحت عنوان:
كلمات عن العراق وأهله
لعالم غيور على الدولة: ومذهب أهل السنة
تعرض فيها للتنديد بالشيعة في العراق ونسبتهم إلى ما هم منه بريئون وتحريض الحكومة عليهم مع انهم لها مطيعون وقد ذيلها صاحب المنار بكلمات ندد فيها ايضاً بالشيعة بما لم يكن (فاحببت) ان ابين ما في الاصل والذيل من مخالفة الواقع والصحة والسقم نصرة للحق سالكاً في ذلك جادة الانصاف (واتممت) المرام بذكر كلمات موجزة في السنة والشيعة وما
ومن البلاء العظيم انتشار مذهب الشيعة في العراق كله حتى اصبح ثلاثة ارباع اهله شيعيين وذلك بفضل جد مجتهدي الشيعة وطلبة العلوم منهم وموازرة الحكومة لهم باخذها على يد اهل السنة عن مقاومة سعيهم وخفض كلمتهم وفي النجف مجتمع مجتهدي الشيعة وفيه من طلبة العلوم ستة عشر ألفاً ودأبهم انهم ينتشرون في البلاد ويجدون في اضلال العباد
الرد على مراسل المنار:
عجباً لهذا العالم الغيور وعجباً لصاحب المناركيف وصفه بالغيور وكان احق بان يوصف بالمتعصب الساعي في تفريق كلمة المسلمين والقاء العداوة والبغضاء بين طائفتين عظيمتين منهم في حين هم أحوج إلى الوئام والوفاق منهم
«ويا عجباً» لهذا العالم الغيور كيف خلط المسائل السياسية بالدينية فخبط خبط عشواء واختلط عليه الحابل(1) بالنابل والخاثر بالزباد(2) .
وعجباً لغيرة هذا العالم كيف ادت به إلى أن جعل من البلاء العظيم انتشار مذهب الشيعة في العراق وجدهم في طلب العلوم ولا ذنب لهم الا التمسك بالثقلين كما امر به نبيهم صلى الله عليه وآله وحبهم وتفضيلهم لاهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً والتجاؤهم إلى السفينة التي من ركبها نجا ومن تخلف عنها هوى ودخولهم في باب حطة الذي من دخله كان آمناً وقصدهم مدينة العلم النبوي من بابها
____________
(1) الحابل السدا والنابل اللحمة وقيل المارد بالحابل صاحب الحبالة وبالنابل صاحب النبل أي اختلط الصائدون (منه).
(2) الخاثر ما خثر من اللبن والزباد بالضم والتشديد الزبد قاله الميداني عن الاصمعي وفي اللسان زباد اللبن بالضم والتشديد ما لا خير فيه والزباد الزبد واختلط الخاثر بالزباد أي الخير بالشر والجيد بالردي والصالح بالطالح انتهى وفسره في الجمهرة بما لا يكاد يصح (منه).
وحقيق ان يقال ان من البلاء العظيم وجود مثل هذا الشخص بين المسلمين ووصفه بالعالم الغيور.
وأما قوله: وذلك بفضل جد مجتهدي الشيعة إلى قوله ودأبهم انهم ينتشرون في البلاد ويجدون في اضلال العباد (ففيه) ان جد علماء الشيعة وطلابهم في تشييد مذهبهم ونشره والدعاء اليه وبث علوم اهل بيت نبيهم عليه وعليهم السلام وان كان مما لا يعابون به بل هو موضع الافتخار الا ان ادعاءه كون انتشار مذهب الشيعة في العراق بسبب ذلك مخالف للواقع فان مذهب الشيعة منتشر في العراق من الصدر الاول كما هو ظاهر لكل من لاحظ التواريخ وما زال منتشراً إلى يومنا هذا (ولم نر) ولا نقل الينا وقد توطنا العراق ما يزيد عن عشر سنين ان احداً من علماء الشيعة أو طلابهم دعا احداً من السنة إلى ترك مذهبه والدخول في مذهب الشيعة ومن دخل من السنة في مذهب الشيعة لم يكن دخوله لهذا السبب.
(وعلماء) الشيعة وطلابهم المقيمون في العراق لا سيما النجف الاشرف لا شغل لهم سوى الجد والاجتهاد في طلب العلم واكثرهم يجاورون في النجف لا يخرجون منه الا لزيارة قبول الائمة عليهم السلام ويجدون في طلب العلم ليلهم
«واما» اعتذاره عن ذلك بمؤازرة الحكومة لعلماء الشيعة باخذها على يد اهل السنة عن مقاومة سعيهم وخفض كلمتهم فعذر غير مقبول فان الحكومة قد اعطت الحرية لجيمع الاديان حتى غير المسلمين فكيف لا تعطي الحرية لمن يشاركها في المذهب وما رأينا ولا سمعنا انها منعت احداً من علماء السنة عن نشر مذهبه وبيان انه على الحق فلابد ان يكون المانع لهذا العالم الغيور واعوانه من الجد في نشر مذهبه ودعوة الناس اليه اما الكسل وقلة الغيرة الذين عوفي منهما علماء الشيعة او عدم علمه بنجاح مساعية فجعل يتشبث بهذه الاعذار.
«وان كان مراده بمؤازرة الحكومة لعلماء الشيعة واخذها على يد اهل السنة عن مقاومة سعيهم انها قد اعطت الشيعة
«أما» حركته غيرته إلا على اخوانه المسلمين الشيعيين الشاهدين لربهم بالوحدانية ولنبيه محمد صلى الله عليه وآله بالرسالة والمطيعين لسلطانهم والمتمسكين بولاء عترة نبيهم والآخذين عنهم أحكام دينهم والمحافظين على شرائع الاسلام من الصوم والصلوة والحج والزكاة وسائر أحكام الدين حتى عد انتشار مذهبهم في العراق من البلاء العظيم وجعلهم من المضلين هذا مع شهادته لهم بالجد والاجتهاد في طلب العلوم الذي هو فريضة على كل مسلم حتى اجتمع منهم في بلد واحد ستة عشرة الف طالب عدى عما في غيرها من مدن العراق وبلاد ايران وتركستان والافغان وبخارى والشام والهند والبحرين والقطيف والاحساء وسائر الاقطار ما هذا إلا قلة انصاف منه وقلة غيرة على الدين.
«ولو» كان صادق الغيرة على الاسلام لدعا علماء المسلمين
واما قوله ولذلك يحسب عقلاء العراق ان القطر قد انسلخ من الدولة الخ فان كان اشارة إلى الدسائس الاجنبية فله وجه لكن لا وجه لذكر انتشار مذهب الشيعة بين العلة والمعلل بل كان اللازم ذكر هذا بعد كلامه الاول وان كان اشارة إلى انتشار مذهب الشيعة أو الامرين معا كما هو ظاهر كلامه.
«ففيه» ان نفوذ الدولة في العراق يزداد يوماً فيوماً وسلطتها الآن اشد منها في العصور السابقة بكثير والشيعة في العراق ليسوا باقل خضوعاً واطاعة للدولة من غيرهم فيها «نعم» قد كان انتشار مذهب الوهابية الذين قام هذا العالم يدعو إليهم متستراً بلباس الغيرة على الدولة ومذهب اهل السنة موجباً لانسلاخ الاقطار التي اشتهر فيها هذا المذهب عن الدولة.
السنة والشيعة:
ويناسب في هذا المقام ذكر كلمات موجزة في السنة والشيعة تنجلي بها غواشي الاوهام عن الافهام ويهتدي بها إلى طريق الحق من كان له قلب او القى السمع وهو شهيد.
«فنقول»: جاء الدين الاسلامي الحنيف ولاسنة ولا شيعة ولا شافعي ولا حنفي ولا مالكي ولا حنبلي ولا جعفري
ما به يتحقق الاسلام:
وكانت دعوة النبي صلى الله عليه وآله إلى شهادة أن لا إله إلا الله وانه رسول الله فمن قال ذلك عصم ماله ودمه واستحق اسم المسلم وإلى فعل الصلوات الخمس وصوم شهر رمضان وحج البيت من استطاع اليه سبيلا وايتاء الزكاة وسائر الواجبات وإلى ترك الزنا وشرب الخمر والبغي والفساد وسائر المحرمات على سبيل التدريج حتى اكمل الله لهم الدين في حياة نبيه صلى الله عليه وآله وقال اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً.
سبب الانقسام إلى العلوية والعثمانية:
وبقي المسلمون فرقة واحدة حتى قتل الخليفة الثالث وبويع الخليفة الرابع فلم يجد اعداؤه وسيلة إلى هدم خلافته والقدح فيه اقوى من نسبة قتل الخليفة الثالث اليه فسعوا في ذلك جهدهم حتى تمكنوا من اقناع جم غفير من المسلمين بذلك وتهيأ لهم بما دبروه من الحيلة ان يقسموا المسلمين فرقتين فسميت احداهما علوية والأخرى عثمانية ونالوا بذلك ما أملوه من الملك وقهر علي بن ابي طالب وأولاده الذين هم اعدى اعدائهم ويخافون منازعتهم في الملك ولهم عندهم ثارات بدر
أيام بني أمية وبني العباس ومحنة العلوية:
«ولم يكتفوا» بهذا حتى قصدوا كل من يوالي علياً وولده بأنواع الاذى من القتل والاسر والنهب وهدم الدور والنفي كما فعل بحجر بن عدي واصحابه حين انكروا سب علي بن ابي طالب عليه السلام بالكوفة فحملوا مقيدين إلى الشام وقتل من امتنع منهم عن البرائة من علي بن ابي طالب عليه السلام بمرج عذرا من ارض دمشق وفعل زياد بن ابيه وابنه عبيدالله باهل الكوفة ما فعلا وكذلك الحجاج وغيرهم حتى اخذوا على الظن والتهمة وعظمت البلية واشتدت المحنة فكم من قتيل وشريد لانه قيل عنه انه ترابي. «وبقي» الحال على هذا والناس عثمانية وعلوية طول ملك بن امية وجملة من ملك بني العباس ولكن اسم الاسلام واحكامه تعم الطائفتين. «وقد» كان اسم الشيعة يطلق مع ذلك على من شايع علياً وولده في الدولتين
انتشار علوم أهل البيت عليهم السلام:
«وكتم» أهل البيت عليهم السلام علومهم عن اكثر الناس ولم يبوحوا بها الا لخواص اصحابهم خوفاً على دمائهم وقل المنتفع بهم والآخذ من علومهم «ولكن» في أواخر الدولة الاموية واوائل الدولة العباسية انتشرت علوم أهل البيت عليهم السلام انتشاراً عظيماً وكثر الرواة عنهم والمقتبسون من علومهم لقلة
التسمية بالنسبة والشيعة ونسخ اسم العلوية:
ثم صار المنتسبون إلى أهل البيت عليهم السلام يعرفون بالشيعة وغيرهم بالسنة ونسخ اسم العلوية والعثمانية وذلك في الدولة العباسية واستمر ذلك إلى يومنا هذا وكثرت العلماء والفقهاء في الطائفتين ثم دونت كتب اصول الفقه والفقه عند الفريقين واتسع باب البحث في مقدمات الاجتهاد وجميع العلوم.
معول الشيعة والسنة في معالم الدين:
فكان معول فقهاء الشيعة في معالم دينهم على الكتاب العزيز والسنة النبوية وأقوال اهل البيت عليهم السلام والاجماع وما استقل العقل بحسنه أو قبحه بل على الأولين لرجوع الاجماع
«اما»: قدماء الشيعة اعني المعاصرين للائمة عليهم السلام فقد صنفوا في الاحاديث المروية من طرق اهل البيت عليهم السلام المستمدة من مدينة العلم النبوي في فنون شتى ما يزيد على ستة الاف وستمائة كتاب مذكورة في الرجال على ما ضبطه صاحب الوسائل وامتاز من بينها أربعمائة مصنف اشتهرت بالأصول الأربعمائة وقال شيخنا البهائي في الوجيزة ان ما تضمنته كتبنا من هذه الاحاديث يزيد على ما في الصحاح الستة لاهل السنة بكثير كما يظهر لمن تتبع احاديث الفريقين وذكر علماء الرجال انه روى راو واحد وهو ابان بن تغلب عن امام واحد وهو جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ثلاثين
بعض مشاهير علماء الشيعة وادبائهم وشعرائهم:
«وأما» من تأخرعن هؤلاء فمن مشاهير مصنفيهم في الحديث «الكليني» وابن بابويه المعروف «بالصدوق» وفي الفقه والكلام «الحسن بن ابي عقيل العماني» اول من هذب الفقه وبوبه ومن مصنفاته فيه كتاب المتمسك بحبل آل الرسول وبعده «ابن الجنيد» ومن مصنفاته تهذيب الشيعة لاحكام الشريعة في عشرين مجلدا يشتمل على جميع كتب الفقه ومختصره المعروف بالاحمدي في الفقه المحمدي ومن رؤساء مشاهيرهم في الاصول والفقه والكلام «الشيخ المفيد» وفيها وفي اللغة والشعر والادب والتفسير «السيد المرتضى علم الهدى» وفي الاصول والفقه والحديث والرجال والتفسير «الشيخ الطوسي» وهؤلاء كلهم في المائة الثالثة الى اواسط المائة الخامسة ومن مشاهيرهم في التفسير من قدماء المحدثين «العياشي» وفرات بن ابراهيم ومن متأخري العلماء «ابو الفتوح الرازي» له فيه روح (روض خ ل) الجنان في عشرين
المنع من الاجتهاد والتقليد:
(وفقهاء) اهل السنة وعلمائهم كانوا هم المرجع
اما الشيعة فبقوا على ما كان عليه سلفهم في اخذ معالم دينهم ولم تكثر اقوال فقهائهم كثرة مفرطة لانحصار دائرة الاجتهاد عندهم فيما استفيد من الكتاب العزيز او صح عن النبي صلى الله عليه وآله واهل بيته الطاهرين بشرط عدم المخالفة لاجماع المسلمين فهم في الحقيقة مرجحون لا مجتهدون ولذلك قل بحث علماء السنة في مسائل أصول الفقه بل عدم في الإعصار الأخيرة واقتصروا في علومهم الدينية على درس الأحاديث ومعرفة المذاهب الأربعة (والبحث) بين علماء الطائفتين حاصل في بعض المسائل الفرعية وبعض مسائل الاصولين لما لا يقضي بتكفير احدى الطائفتين (فهذا) ما كان من انقسام المسلمين الى السنة والشيعة بوجه الاختصار وكله ظاهر معروف مسطور
تعظيم القبور وزيارتها وتجديدها:
وإما قوله: الجامدين من المقلدة وعباد القبور فهو ليس موجها الى الشيعة خاصة بل الى الشيعة والسنة فان تعظيم قبور الانبياء والائمة والاولياء والصلحاء وزيارتها لا تختص بالشيعة بل لعل المقصود به خصوص السنة فان هذا العالم الغيور بعد ان شفا غيظه من الشيعة بما بهتهم به اراد ان يشفي غيظه من السنة الذين لا يقولون بمقالته ومقالة اصحابه الوهابية كالالوسيين المذكورين وغيرهما ممن ترك تعظيم قبور الانبياء والاولياء والصلحاء وزيارتها.
(فنقول) جرت سيرة المسلمين في جميع اقطار الارض خلفا عن سلف ويدا عن يد من عصر النبي صلى الله عليه
(والجواب) عن هذه الاخبار بعد تسليم صحة سندها وانها ليست اخص من المدعى.
(اولاً): بانها لا تنافي المقصود اذ لا يبعد ان يكون المراد في الاخبار الاول من اتخاذهم لها مساجد السجود اليها تعظيما او جعلها قبلة او نحو ذلك كما قيل ويرشد اليه قول عائشة كما عرفت فلولا ذلك لا برز قبره غير انه خشي ان يتخذ مسجدا «وفي الجامع الصغير للسيوطي» في باب مناهي النبي صلى الله عليه وآله عن الترمذي عن جابر نهى صلى الله عليه وآله عن صلوة الى القبور (وروى مسلم في صحيحه) النهي عن الصلوة الى القبور بطريقين (وفي الخبر الاخير) ذمهم على تصوير الصور وعبادتها كما هو المألوف عن النصاري (قال النووي) في شرح صحيح مسلم ما لفظه قال العلماء انما نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدا خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به فربما ادى ذلك الى الكفر كما جرى لكثير من الامم الخالية ولما احتاجت الصحابة رضوان الله عليهم اجمعين والتابعون الى زيادة في مسجد رسول الله
(وقال السيوطي) في زهر الربى على المجتبى، وهو أي المجتبى سنن النسائي الصغرى «ما لفظه» قال البيضاوي لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور انبيائهم تعظيماً لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلوة نحوها واتخذوها اوثانا ذمهم ومنع المسلمين من مثل ذلك فاما من اتخذ مسجدا في جوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه لا التعظيم له ولا التوجه نحوه فلا يدخل في ذلك الوعيد انتهى.
(وثانياً) ان النصارى نبيهم عيسى عليه السلام وهو لم يمت فكيف جمعهم مع اليهود وهذا وان اجيب عنه بامور من جملتها ان المراد الانبياء وكبار اتباعهم فاكتفى بذكر
(ورابعاً) انها شاذة لا عامل بها من المسلمين قبل الوهابية بل السيرة القطعية من جميع المسلمين كما عرفت على خلافها وكفاك في ذلك مسجد النبي صلى الله عليه وآله الذي دخل فيه قبره بعد الزيادة في المسجد واستمر المسلمون كافة على ذلك وعلى تعظيم قبره صلى الله عليه وآله الى يومنا هذا وما هذا شأنه من الاخبار لا يعول عليه ولو اردنا ان نعمل بكل خبر وافق الكتاب والسنة والسيرة أو خالفها لزم الهرج والمرج «مع» انه قد جاء في الكتاب العزيز في شأنه اهل الكهف (قال الذين غلبوا على امرهم لنتخذن عليهم مسجدا) ففي تفسير الجلالين (قال الذين غلبوا على امرهم) وهم المؤمنون (لنتخذن عليهم) حولهم (مسجدا) يصلى فيه وفعل ذلك على باب الكهف انتهى. وفي الكشاف (قال الذين غلبوا على امرهم) من المسلمين وملكهم وكانوا اولى بهم وبالبناء عليهم (لنتخذن) على باب الكهف (مسجداً) يصلي فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم انتهى.
«وورد» ايضاً النهي عن تجديد القبور (واشتهر) خير القبور الدوارس وان كنا لم نجده فيما رأيناه من كتب الحديث سيما ما هو مظنه ذلك كالجامع الصغير للسيوطي «وروى مسلم في صحيحه» عن النبي صلى الله عليه وآله الامر بتسوية القبور وانه نهى ان يجصص القبور وان يقعد عيله وان يبني عليه «وفي رواية» نهى عن تقصيص القبور وهو تجصيصها. وان عليا عليه السلام قال لرجل الا ابعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان لا تدع تمثالا الا طمسته ولا قبرا مشرفاً الا سويته «وفي رواية» ولا صورة الا طمستها.
(ولكن) هذه الاخبار بعد تسليم صحة سندها عمومات محمولة على الكراهة لمخالفتها للسيرة ومخصصة بغير ما يكون تجديده والبناء عليه تعظيماً للشعائر وما قامت عليه السيرة القطعية (وقد) دل الشرع الشريف على ان حرمة المؤمن ميتاً كحرمتة حياً ولذلك وجب تكفينه ودفنه والصلوة عليه واستحب تشييع جنازته وحرمت اهانته والجناية عليه وشتمه ونبش قبره وغير ذلك وقد قال الله تعالى في حق الشهداء (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتاً بل احياء عند ربهم يرزقون) مع ان تعظيم هذه القبور من تعظيم حرمات الله وشعائره ومن يعظم حرمات
مذهب الوهابية
اما الوهابية الذين اشرنا اليهم فلا بأس بذكر مبدأ امرهم وبعض معتقداتهم ومبتدعاتهم ليكون الناظر في امرهم على بصيرة (قال ملطبرون الافرنجي) في جغرافيته
(اقول) وكان ظهور مذهب الوهابية في اوائل المائة الثالثة من الالف الثانية (ومن معتقداتهم) تحريم تشييد القبور وبناء القباب عليها والنذور لها والتوسل بالانبياء وغيرهم الى الله تعالى في قضاء الحوائج ومناداة غير الله تعالى عند الشدائد ولو كان من الانبياء او الاوصياء فانه شرك ومتى سمعوا ذلك من احد شتموه وضربوه وقالوا له اشركت وتحريم حمل المحمل الذي يؤخذ مع الحاج من مصر والشام وتعظيمه لانه بدعة وتحريم شرب القهوة والتتن ونحو ذلك (وذكر الجبرتي) في عجائب الاثار في حوادث سنة ثمان عشر ومائتين والف وهو ممن يصرح بالثناء على الوهابية وتصويب معتقداتهم في غير موضع من كتابه المذكور وكان استيلاؤهم على الحرمين الشريفين في عصره ان الوهابي ارسل كتابا الى رئيس الركب المغربي يتضمن دعوته وعقيدته قال فيه بعد مقدمة طويلة (ما لفظه) اذا عرف هذا فمعلوم ما قد عمت به البلوى من حوادث الامور التي اعظمها الاشراك بالله والتوجه الى الموتى وسؤالهم النصر على الاعداء وقضاء الحاجات
فعل الوهابية بالعراق وبالحجاز:
(وذكر) صاحب مفتاح الكرامة قدس الله روحه الوهابية في اواخر اكبر مجلدات الكتاب المذكور وهو معاصر
(وفي) اخر مجلد الوكالة منه بعد ما ذكر انه فرغ منه في الليلة التاسعة من شهر رمضان سنة الف ومائتين وخمس وعشرين «ما لفظه» وكان ذلك مع تشويش البال واختلال الحال وقد احاطت الاعراب من عنزة القائلين بمقالة الوهابي بالنجف الاشرف ومشهد الحسين عليه السلام وقد قطعوا الطرق ونهبوا زوار الحسين عليه السلام بعد منصرفهم من زيارة نصف شعبان وقتلوا منهم جما غفيراً واكثر القتلى من العجم وربما قيل انهم مائة وخمسون وقيل اقل وبقي جملة من الزوار في الحلة ما قدروا ان يأتوا إلى النجف الاشرف فبعضهم صام في الحلة وبعضهم ذهب إلى الحسكة ونحن الان كلنا في حصار والأعراب إلى الان ما انصرفوا وهم من الكوفة إلى فوق مشهد الحسين عليه السلام بفرسخين او اكثر على ما قيل.
(وفي) اخر مجلد الهبات ذكر انه قد وقع اطراف العراق كالحلة والمشهدين في البلاء المبين من القتل الذريع الكثير
(وفي تاريخ الجبرتي) المتقدم ذكره انه في (العاشر من شهر شعبان سنة الف ومائتين وسبع عشرة حضر الى مصر جماعة من اشراف مكة وعلمائها هاربين من الوهابي وقصدهم القسطنطيسنية ليستنجدوا بالدولة العثمانية وذهبوا الى بيوت الحكام والاكابر يشكون ويخبرون عما جرى عليهم).
(وفي) اخر شوال من السنة المذكورة حضر الى مصر اولاد الشريف سرور شريف مكة هاربين من الوهابية ليستنجدوا بالدولة العثمانية.
(وفي) يوم الجمعة خامس عشر ذي الحجة من السنة المذكورة حضرت كتب من الحجاز الى مصر فيها ان الوهابين حضروا الى الطائف فخرج اليهم الشريف غالب شريف مكة فهزموه فرجع الى الطائف واحرق داره وفر هارباً الى مكة وكان رئيس عسكر الوهابيين عثمان المضايفي زوج اخت الشريف وكان حصل بينهما وحشة فخرج المضايفي مع الوهابيين وطلب من سعود الوهابي ان يؤمره على العسكر الموجه لمحاربة الشريف ففعل فحاربوا اهل الطائف ثلاثة ايام حتى دخلوا البلدة عنوة وقتلوا الرجال واسروا النساء والأطفال وهذا دأبهم مع من يحاربهم وهدم المضايفي قبة ابن عباس الغريبة الشكل
(وفي) يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر محرم سنة الف ومائتين وثمان عشرة حضر هجان الى مصر معه كتب مؤرخة في العشرين من ذي الحجة وفيها ان الوهابية احاطوا ببلاد الحجاز وان الشريف غالب طلب من والي جدة وامراء الحاج الشامي والمصري ان يبقوا معه اياما لينقل ماله ومتاعه الى جدة فاجابوه بعد ان بذل لهم مالا فبقوا معه اثني عشر يوما ثم رحلوا ورحل بعد ان احرق داره.
(وفي) يوم الاثنين سادس عشر صفر من تلك السنة وردت كتب من الحجاز الى مصر بتاريخ منتصف المحرم وفيها ان الوهابين استولوا على مكة في يوم عاشوراء بعد ارتحال الشريف غالب وبعد ارتحال الحاج بيومين لان الحاج تأخر بمكة ثمانية ايام زيادة على المعتاد.
(وفي) يوم الاحد الثاني والعشرين من صفر من تلك السنة حضر الى مصر الشريف عبدالله بن سرور مع بعض اقاربه من شرفاء مكة واتباعهم نحوا من ستين شخصاً واخبروا انهم خرجوا من مكة مع الحاج وان عبدالعزيز بن سعود الوهابي دخل مكة بغير قتال وولى الشريف عبدالمعين اميرا على مكة والشيخ عقيلا قاضيا وانه هدم قبة زمزم والقباب التي حول الكعبة والابنية التي هي اعلى من الكعبة الخ.
(وفي) يوم الاحد التاسع والعشرين من شهر صفر من السنة المذكورة حضر مع الحجاج كثير من اهل مكة الى مصر هربا من الوهابية (وفي الخامس والعشرين من شوال من تلك السنة حضر فرمان الى مصر من الدولة بارسال اربعة الاف عسكري الى الحجاز لمحاربة الوهابيين وانهم وجهوا من جهة بغداد أربعة بشوات مع العساكر وارسلوا الى احمد باشا الجزار (الذي كان في عكا) بالتوجه ايضاً لمحاربتهم).
(وفي) اواخر محرم سنة الف ومائتين واحدى وعشرين وردت اخبار الى مصر بمسالمة الشريف غالب للوهابيين لما اشتد عليه الحصار وغلب الاسعار فأخذ العهد على دعاتهم بداخل الكعبة ومنع من شرب الاراكيل بالتنباك بين الصفا والمروة وعاهده على امور منها ترك ما حدث في الناس من الالتجاء لغير الله من المخلوقين الاحياء والاموات في الشدائد والمهمات وبناء القباب على القبور وتقبيل الاعتاب والخضوع والتذلل والمناداة والطواف والنذور والذبح والقربان وعمل الاعياد والمواسم لها وهدم القباب المبنية على القبور والاضرحة لأنها من الامور المحدثة التي لم تكن في زمانه صلى الله وآله.
(وفي) اخر المحرم سنة الف ومائتين واثنين وعشرين ورد الخبر الى مصر برجوع الحاج الشامي من منزل هديه لان الوهابي ارسل الى عبدالله باشا امير الحاج ان يأتي بدون
(وفي يوم) السبت ثالث صفر من هذه السنة وصل حجاج المغاربة الى مصر واخبروا ان سعود الوهابي دخل مكة بجيش كثيف وتوعد امير الحاج المصري بحرق المحمل ان جاء به ثانيا وانه هدم القباب وقبة آدم وقباب ينبع والمدينة وابطل شرب التنباك في الاسواق وغيرها.
(وفي) يوم الاحد سابع ربيع الثاني من السنة المذكورة حضر مع الحاج الى مصر اغوات الحرم والقاضي الذي توجه لقضاء المدينة وخدام الحرم المكي وقد طردهم الوهابي جميعاً واخبر الحاج انهم منعوا من زيادة المدينة وان الوهابي اخذ كل ما كان في الحجرة النبوية من الذخائر والجواهر وانه امر بحرق المحمل (انتهى). ما اردنا نقله من كلام الجبرتي.
(وقال) في حوادث سنة الف ومائتين وثلاث وعشرين ان منها انقطاع الحج الشامي والمصري معتلين بمنع الوهابي. وقال انه لم يمنع احدا ان يحج على الطريقة المشروعة وانما يمنع من يأتي بالبدع التي لا يجيزها الشرع مثل المحمل والطبل والزمر وحمل الاسلحة. ثم ذكر ان اهل الحجاز يرون اخذ الوهابي لذخائر الحجرة الشريفة وجواهرها من الكبائر العظام وصوب هو اخذهم لها. وقال انه لما وضعها ضعفاء العقول
(فان قال) ان وقفها على الحجرة الشريفة غير جائز؟
(قلنا) بل هو جائز لجريان سيرة المسلمين بل جميع أهل الاديان على ذلك ولان في وقفها تعظيماً لشعائر الدين فلا يكون سفها بل هو امر راجح مطلوب شرعاً.
(أما) تشييد قبور الانبياء والاوصياء والصلحاء والعلماء فقد تقدم الدليل على جوازه ورجحانه.
(وأما) التوسل بالموتى من ذوي المكانة عند الله تعالى فلا مانع منه شرعاً ولا عقلاً فانهم احياء عند ربهم يرزقون فالتوسل بهم اما دعاء لله تعالى ان يقضي الحاجة ببركتهم ومثله كثير في الادعية المأثورة عنه صلى الله عليه وآله وعن اهل بيته وعن الصحابة والتابعين او طلب منهم ان يسئلوا الله تعالى في قضاء الحاجة ولا مانع منه عقلاً ولا شرعاً فان الله تعالى اجرى الامور باسبابها وفضل الناس بعضهم على بعض وجعل العبادة في بعض الاماكن كالمساجد افضل منها في غيرها واقسم ببعض مخلوقاته تعظيماً لها واعطى الشفاعة لبعض انبيائه باعتراف الوهابية ونص عليها الكتاب العزيز فجعل ذلك من الشرك جهل محض كقياسه على ما ورد في قوله تعالى (وما نعبدهم الا