ويؤيد ذلك ما ورد في الامر بالتوكل على الله وعدم خشية الآخرين، أي أن مورد العزم قد يكون على خلاف ما عليه اراء الاكثرية فتوكل على الله فيما عزمت مهما كان ذلك وان كان على خلاف ما يرونه، وواضح ان الآيات الكريمة وردت في غزوة احد حيث ظهر فرار بعض المسلمين وتخلف البعض الاخر عن ميدان الحرب، وطمعهم في الغنائم، وسوء ظنهم بالله بعد ذلك، وتصديقهم موت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وهذا كله يدل على أن الرأي هو ما اختاره الرسول الاكرم وما عزم عليه بغض النظر انه وافق الاكثرية ام لا.
مضافاً الى أن الرسول الاكرم هو القسطاس المستقيم (ما ضل صاحبكم وما غوى) والجادة الواضحة والذي يجب أن يتبعه الاخرون وقد امره الله عزوجل (فاعف عنهم واستغفر لهم) عندما يحيدون عن جادة الصواب، فكيف يتصور بمن يكون بهذه المرتبة وبهذا المقام يلزم بأن يتبع رأي الاكثرية والاغلبية وإن كان على خطأ.
الخلاصة:
ان التعبير بلفظ الشورى المشتق من تشاور واشتور، والاشارة والمشورة هي اراءة المصلحة، وشاورته في كذا راجعته لأرى رأيه، وشرت العسل اشوره جنيته، واشار بيده اشارة أي لوح بشيء يفهم من النطق.
فمادة الشورى تعطي معنى الاستفادة من الخبرات والعقول الاخرى لكي يكون العزم على بصيرة تامة، فهي نظير ما جاء من أن اعقل الناس من جمع عقول الناس الى عقله، واعلم الناس من جمع علوم الناس على علمه، فهى توصية بجمع الخبرات وتنضيج وتسديد الرأي وتصويبه بكشف كل زواياه الواقعية عبر الاذهان المختلفة، وقريب من ذلك ما قاله اللغويين انها استخراج الرأي بالمفواضة في الكلام ليظهر الحق.
سواء كان الأمر بيد الفرد الواحد أم لا، كما هوالحال في سلطة الانسان على أمواله اذا اراد ان يقدم على بيع او عقد معاملي، فان استبداده برأيه يؤدي به الى الجهالة بخلاف ما اذا اعتمد المشورة والاستشارة، ولكن ذلك لا يعني في وجه من الوجوه قط سلطة المشير على المستشير، أو سلطة المشير مع المستشير وانما يعني اعتماد الوالي على منهج العقل الجماعي في استكشاف الموضوعات والواقعيات العارضة.
وهذا هو مفاد الروايات المستفيضة في باب الاشارة والمشورة والاستشارة والشورى، أي التوصية باعتماد تجميع الخبرات والعقول، لا جعل السلطة بيد المجموع بل الفيصل والنقض والابرام والترجيح بين وجهاة النظر يكون للولي على الشيء بعد استطلاعه على الاراء المختلفة، كما هو دارج قديما وحديثا في الزعامات
ولذلك عد الفقهاء تلك الروايات المستفيضة أحد أنواع الاستخارة بل افضلها، والاستخارة هي طلب الخير لا تولية ا لمشيرين مع المستشير، فلا يتوهم ان فتح باب الاستشارة والشورى في الرأي لغو اذا لم يكن بمعنى التشريك في الولاية وتحكيم سلطة المستشارين، إذ أي فائدة أبلغ واتم من استكشاف الوالي واقع الاشياء وحقائق الامور عبر مجموع الخبرات والعقول، واعتماده منهج جمع العلوم الى علمه، فان ذلك يصيّره نافذ البصيرة، سواء كان ذلك على الصعيد الفردي كولاية الفرد على أمواله أو على الصعيد الاجتماعي كولاية الشخص على المجتمع.
فمجيء مادة المشورة في قوله تعالى يعطي هذه التوصية للمؤمنين في التدبير، بأن يكون البت فيه بعد استخراج الرأي الصائب من العقول المختلفة بالمداولة والمفاوضة مع العقول الاخرى، اما مَن يكون له الرأي النهائي فليست الاية في صدده، لاختلاف ذلك التعبير مع (وامرهم شورى) حيث ان اليد هي من أقرب الكنايات عن السلطة، وكذلك يختلف مع التعبير في قوله تعالى: (واولوا الارحام بعضهم اولى ببعض في كتاب الله) ، وغيرها من التعبيرات القرآنية والمتعرضة للولاية في الاصعدة المختلفة.
ومما يعزز ما تقدم قوله تعالى: (فان ارادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما) فانه تعالى ندب الى التشاور بين الزوجين في رضاعة الطفل مع ان ولاية الرضاعة ذات الاجرة بيد الزوج فقط، وان كانت الحضانه في غير ذلك من حق الزوجة.
____________
1- كالمستشارين العسكريين والماليين والسياسيين والاجتماعيين وغيرهم.
بل ان الامر بالتوكل فه اشعار بنفوذ عزمه وحكمه (صلى الله عليه وآله) وان خالف آراءهم، ولذلك ذكر أكثر المفسرين وجوهاً في امره بالمشاورة.
احدها: ان ذلك لتطييب انفسهم والتألف لهم والرفع من قدرهم.
الثاني: ان يقتدى به في المشاورة، كي لا تعد نقيصة ليتميز الناصح من الغاش، وكتشاوره (صلى الله عليه وآله) قبل واقعة بدر ـ الكبرى والصغرى ـ وغيرها من الوقائع.
الرابع: لتشجيعهم وتحفيزهم على الادوار المختلفة والتسابق الى الخيرات والاعمال الخطيرة المهمة، وتنضيج عقول المسلمين وتنميتها، ولكى يتعرفوا على حمة قرارات الرسول وافعاله (صلى الله عليه وآله) .
ومن الغفلة الاستدلال بمورد نزول الآية في غزوة أحد على كون الشورى ملزمة له (صلى الله عليه وآله) ، بدعوى أن رأيه (صلى الله عليه وآله) كان هو اللبث في المدينة وعدم الخروج، ورأي بقية أصحابه على الخروج ومع ذلك تابع رأي الأكثرية وخرج الى جبل أحد. وقدمنا مفصلاً خطأ هذا الاعتقاد.
ومما يستأنس لكون معنى الشورى بمعنى المشورة والاستشارة لا تحكيم السلطة الجماعية أن الآية مكية ولم يكن ثمة كيان سياسي للمسلمين، بل ان ظاهر الآية ترغيب المؤمنين حين نزولها في الاتصاف بتلك الصفات، فيكف يلتئم مفاد السلطة الجماعية مع ولاية الرسول (صلى الله عليه وآله) المطلقة، ولذلك ترى أن كثيرا من مفسري العامة فسروا الاية بمعنى الاستشارة واستخراج الرأي لا تحكيم السلطة الجماعية.
مناقشة الاستدلال على نظرية التلفيق بين النص والشورى
قام بعض المفكرين بمحاولة الجمع بين ادلة التعيين والنصب ـ ككثير من الايات القرآنية الدلة على ان الامامة عهد وجعل الهي، وان المنصوب هو علي (عليه السلام) وذريته ـ وبين ما يزعم من مفاد آية الشورى ودلالتها على أن السلطة للامة، بأنّ مورد الادلة الاولى هو مع وجود المعصوم (عليه السلام) وتقلده للزعامة الاجتماعية السياسية، ومورد الثانية هو مع عدم وجوده (عليه السلام) كما في زمن الغيبة.
وهذا الرأي مردود لأنه ان جعل المدار لسلطة الامة والشورى عدم تقلد المعصوم الزعامة بالفعل فذلك يعني شرعية سلطة الامة في الفترة التي كان فيها علي (عليه السلام) مبعدا عن السلطة، وكذلك في فترة ما بعد صلح الحسن (عليه السلام) الى عصر الغيبة، حيث انهم (عليهم السلام) لم يكونوا متقلدين بالفعل زمام الحكم، وهذا مناقض لمبدأ النص.
وان جعل المدار على وجودهم (عليهم السلام) وان لم يتقلدوا زمام الامور والحكم بالفعل، فوجودهم لا تخلو منه الارض "اللهم بلى لا تخلو الارض من قائم لله بحججه اما ظاهر مشهور او خائفاً مغمور لكي لا تبطل حجج الله وبيّناته" (1) .
ولا فرق بين حضور الامام وغيبته بعد كون عدم تقلده زمام الامور بالفعل غير مؤثر في كونه اماما بالفعل ـ بما للامامة من عهد معهود إلهي ذات شؤون عظيمة بالغة ـ كما في الحديث النبوي المروي عن الفريقين "الحسن والحسين امامان ان قاما او قعدا" فقعودهماعليهما السلامبسبب جور الامة لا يفقدهما الجعل الالهي والخلافة الالهية على الامة.
____________
1- رواه الصدوق في الاكمال باسانيد مستفيضة عن كميل عن علي (عليه السلام) ، واسانيد اخرى في الخصال والامالي، والحديث موجود في النهج وتحف العقول وكتاب الغارات، بل هذا المضمون روي في احاديث متواترة في اكثر كتبنا الروائية.
وهل يتعقل ان يكون لله حجتان بالاصل في عرض واحد بالفعل، بان يكون الحجة في غيبته حجة بالاصل، ومنتخب الامة حجة اخرى بالاصل ولكن بالانتخاب لا بالنيابة عنه، ومن هنا كان دأب فقهاء الإمامية على ضوء مبدأ النص والتعيين ان ولاية الفقيه مستمدة منه (عليه السلام) وعجل الله فرجه الشريف فى الغيبة لا انها للفقيه بالاصالة مع خلعه (عليه السلام) عن ذلك المنصب.
هذا ولا يغفل عن ان سبب عدم تقلده (عج) زمام الامور والحكم وعدم الظهور هو المذكور في قوله (عليه السلام) "لو كنتم على اجتماع من امركم لعجل لكم الفرج" ولذلك قال السيد المرتضى والخواجة وغيرهما ان سبب غيبته منا.
نعم اذا أمكن ان تخلو الارض من الحجة المعصوم، وان يترك الله البشر وحالهم مع قوانين دينه على اوراق وتكون يد الله مغلولة ـ والعياذ بالله تعالى ـ امكن حينئذ ذلك الاحتمال والجمع المزعوم بين الادلة.
ومن الطريف ان الدعوى المزبورة تذعن في طياتها بشروط المرشح بالانتخاب من الفقاهة والكفاءة والامانة والعدالة والضبط وسلامة الحواس الى غير ذلك من الشروط التي لا تتوفر بنحو الاطلاق والسعة وبنحو الثبات الذي لا تزلزل فيه الا في المعصوم (عليه السلام) ، وكأن ذلك أوْبٌ الى النص مرة أخرى، اذ الاشتراط في جذوره تعيين.
نعم نصبه (عج) للفقهاء كنوّاب بالنيابة العامة قد استفيد من قوله "فارجعوا"الايكال للامة في اختيار احد مصاديق النائب العام الجامع للشرائطولا
ولا يتوهم ان تولية الامة ذلك يلزمه امكان توليتها السلطة على نفسها بالاصالة من الله تعالى في اختيار خليفة الله في ارضه، إذ بين المقامين فيصل فاصل وفاروق فارق، حيث انه لابد من العصمة في قمة الهرم الاداري للمجتمع دون بقية درجات ذلك الهرم، اذ بصلاح القمة يصلح مجموع الهيكل.
كما لا يتوهم انه حيث لابد للناس من امير برّ او فاجر تدار به رحى ادارة النظام الاجتماعي البشري وهذه اللابدية والضرورة العقلية التي نبه عليها علي (عليه السلام) في النهج تقتضي تنصيب الامير على الناس بالذات بالاصالة من دون حديث النيابة عن المعصوم.
ووجه اندفاع التوهم: أن الضرورة العقلية تقتصي الزعيم، أما شرائط كونه امير برّ لا فاجر هو كون امارته من تشريع الله تعالى واذنه اذ الولاية لله تعالى الحق، والامارة تجري على يد الفرد البشري المخول منه تعالى في ذلك.
ولذلك ترى أن عدة من الفقهاء (قدس سرهم) استدلوا بتلك الضرورة في الكشف عن اذنه وتنصيبه للفقهاء باعتبار انهم القدر المتيقن، أو غير ذلك من التقريبات المذكورة في كلماتهم.
وبذلك ننتهي الى أن الاية هي في صدد الاشادة بصفة ممدوحة مهمة في المؤمنين وهي عدم الاستبداد بالرأي، واعتماد العقل المجموعي في استخراج الرأي الصائب وفتح الافق، وأما أين هى منطقة السلطة الجماعية وأين هي منطقة السلطة الفردية ومن هو من هم فذلك يتم استكشافه من مبدأ السلطات وهو الله تعالى ومن ثم رسوله (صلى الله عليه وآله) وخلفائه المعصومين، بالوقوف على حدود نصوص الجعل والتنصيب كما ذكرنا لذلك مثالا في النائب العام والقاضي والمفتي.
فالتوصية في الاية هى في اعتماد التلاقح الفكري في اعداد الفكرة، أما مرحلة البتّ والعزم والارادة فلا نظر إليها من قريب ولا من بعيد، ومجرد اضافة الامر الى ضمير الجماعة لا يعني كونها في المقام الثاني، بعدكون مادة المشورة صريحة في المقام الاول.
بل غاية ذلك هي أهمية اعتماد المفاوضة في استصواب الرأي في الموضوعات التي تخص وتتعلق بمجموعهم، هذا لو جمدنا على استظهار الموضوع المتعلق بالمجموع من لفظة (امرهم) ، ولم نستظهر معنى الشأن من الامر ـ كما استظهره كثير من المفسرين ـ أي بمعنى شأنهم وعادتهم ودأبهم على عدم الاستبداد بالرأي واعتماد طريقة الاستعانة بالمستشارين.
ونكتة الاضافة الى ضمير الجماعة هى وحدة سوق الافعال في الايات كما في (وأقيموا الصلاة () ومما رزقناهم ينفقون) (ويجتنبون كبائر الاثم) ، وأما لفظة (بينهم) فهي ظرف لغو متعلق بمادة الشورى لكونها مداولة بينالآراءومفاوضة لا تقل عن كونها بين اثنين، فهي فعل بينيُّ وفيما بينهم.
بعد هذا الاستعراض المطول للطائفة الاولى من ادلة نظرية الشورى بالمعنى المصطلح وهي ما ورد من الآيات والروايات من مادة الشورى والاستشارة توصلنا الى نتيجة ان مفاد الشورى هو بيان منهج عقلائي وهو جمع الخبرات والتجارب والاستضاءة بمعلومات الاخرين. وان لا يكون اقدام على مهام الامور الا بعد المداولة الفكرية وهي بعيدة عن تشريع سلطة للجماعة بل تبقى السلطة
ثانياً: عنوان الولاية والأمر بالمعروف
وقد ورد ذلك في آيتين:
آ ـ قوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله اولئك سيرحمهم الله ان الله عزيز حكيم) (1) .
أن الظاهر من الآية الكريمة اسناد الولاية الى الكل فالمولى هو الكل والمولى عليه كذلك فهي ولاية الكل على الكل وهذا يعني أن أمر الامة بيدهم، وهذه الولاية تعم ولاية النصرة (2) وولاية الاخوة والمودة. والامر بالمعروف معنى عام شامل (ويذهب محمد رشيد رضا الى ان الولاية معنى عام يشمل كل معنى يحتمله ولا يختص بأمر دون آخر) ويدخل في هذا السياق جميع الآيات الواردة فيها معنى الولاية كما في الانفال 8 / 73.
ب ـ (ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر واولئك هم المفلحون) (3) .
فهو امر لكل المسلمين بأن تكون منهم جماعة خاصة وقوة معينة تأمر
____________
1- التوبة 71 / 9.
2- المنار 10 / 542، 105.
3- آل عمران: 3: 104.
وبتقريب آخر أن الأمر بالمعروف له صورتان، أحدهما: صرف الامر والنهي الانشائي والقولي والاخر: ان يراد منه الأمر التنفيذي وتطبيق ذلك المعروف والردع عن المنكر. فإن كان الأمر الأول فلا خصوصية فيه حتى تختص به طائفة معينة بل هو عام شامل لجميع المسلمين. فلابد أن يكون المراد منه هو الصورة الثانية وحينئذ يتعقل تخصيصه بجماعة خاصة تقوم بهذا الامر.
بل ان محمد رشيد رضا (1) يرى أن هذه الآية في دلالتها على كون الشورى اصل الحكم في الاسلام اقوى من دلالة آيتي الشورى.
1 ـ مادة (اولياء) و (ولي) ورد استعمالها في القران فى موارد كثيرة جداً (2) عديدة واختلفت معانيها تبعاً لموارد استخدامها، ويمكن من خلال نظرة عامة الى تلك الموارد القول ان اكثر مواردها التي بصيغة الجمع كان معناها النصرة والمحبة. والمراد من هذه الآية هو ذلك بقرينة نفس الآيات المحيطة بهذه الآية فإنها قد وردت ضمن آيات يقارن فيها الحق تعالى بين فئتين من الناس هم المنافقون والمؤمنون ومورد هذه المقارنة في غزوة تبوك (3) حيث تخلفوا عنه (صلى الله عليه وآله) واستهزؤوا به فذكر ابتداءً وصف المنافقين بأنّ بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويستمر في ذكر صفاتهم وبُعدهم عن الحق تعالى والعذاب في الاخرة.
____________
1- المنار: 4: 45.
2- راجع معجم الفاظ القرآن الكريم 2: 840.
3- البيان في تفسير القرآن 5: 257.
وبقية الصفات المذكورة من عباداتهم اقامة الصلاة وايتاء الزكاة واطاعة الله ورسوله. والنتيجة الاخروية وهي رحمة الله تعالى والوعد بالجنة وهذه كلها في قبال صفات المنافقين.
فالمنافقون يأمرون بالمنكر والمؤمنون يأمرون بالمعروف.
والمنافقون ينهون عن المعروف والمؤمنون ينهون عن المنكر.
والمنافقون يقبضون ايديهم والمؤمنون يؤتون الزكاة.
والمنافقون نسوا الله فنسيهم والمؤمنون يطيعون الله ورسوله وسيرحمهم الله.
والمنافقون وعدهم نار جهنم والمؤمنون وعدهم جنات تجري من تحتها الانهار.
فالمنافقون كتلة واحدة لهم نفس الوصف والجزاء والمؤمنون بنصر بعضهم بعصاً ولهم نفس الوصف والجزاء.
فالآية الكريمة غير ناظرة الى الولاية بمعنى الحكم وادارة الشؤون كما هو مورد الاستشهاد بها.
ومما يدل على ما ذكرناه أيضاً أن اقامة الصلاة وايتاء الزكاة واعمال فردية وليست متفرعة عن ولاية البعض على البعض، مضافاً الى أن ذيل الآية ويطيعون الله ورسوله فإذا كانت بصدد بيان سلطة الجماعة على مجموع الأمة فكيف يلتئم مع الحث على طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) وانصياعهم ومتابعتهم.
وبتعبير آخر أن الآية تبين الدور الذي يجب أن تقوم به الامة في مجال الحكومة وهو تمكين صاحب الصلاحية والسلطة لا ان التشريع والقدرة هو بيد الامة. فالآية لا تتعرض لهذا المقام بل تذكر ما هو تكليف الامة وكيف تتعامل مع مسألة الحكم وتمكين الحاكم.
3 ـ أن هذا الدور لا يعني أنّ لها تخويل من تشاء وتسلطه على نفسها، كيف والآية تصف الجماعة الآخذة بزمام الأمور انها داعية الى الخير كل الخير لمكان اللام الجنسية أو الاستغراقية، آمرة بالمعروف كل المعروف لمكان اللام أيضاً، ناهين عن المنكر كل المنكر لذلك أيضاً عن المنكر الاعتقادي او الاقتصادي او المالي او الاجتماعي في كل المجالات والشؤون، ومن الظاهر ان الداعي الى كل سبل الخير والآمر بكل معروف دق او جل وعظم وتوقفه خبر بماهية المنكر، وحائزاً على العصمة العملية كي لا يتوانى عن الأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر لا تأخذ في الله لومة لائم، ولا يعدل به هوى عن ذلك. فتنحصر وظيفتهم أي الامة في التكوين والرجوع الخارجي الى تلك الجماعة غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
4 ـ ان الآيات الحاصرة للولاية في فئة خاصة تكون مفسرة وحاكمة في الدلالة ومبينة للفئة الخاصة التي يجب على الأمة الرجوع اليها وتمكينها خارجاً.
5 ـ ان في الآية احتمالاً آخر وهو كونها في صدد بيان الوجوب الكفائي للآمر بالمعروف غير المشروط بالعلم بالمعروف بل العلم قيد واجب فيه وهو مغاير للوجوب الاستغراقي المشروط بالعلم بالمعروف نظير وجوب الحج الكفائي غير
ويمكن تقريبه بأن الشرط العام الذي يذكره الفقهاء في وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر هو العلم بأحكام الشريعة فالجاهل لا يتأتى منه ذلك. فاشتراط العلم هو شرط وجوب وبضميمة أن التعلم لجميع الاحكام أو غالباً غير ما يبتلى به نفس المكلف واجب كفائي فهذا يعني ان الواجب هو قيام فئة من المجتمع بالتعلم المزبور فيتحقق موضوع الوجوب الآخر المشروط به وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالآية الكريمة محتملة أن تكون بصدد الاشارة الى ضرورة حصول ذلك التوجه لدى فئة من المجتمع للقيام بهذه الوظيفة نظير الوجوب الكفائي لإقامة الحجج غير المشروط بالاستطاعة لئلا يخلو بيت الله الحرام عن إقامة هذه الشعيرة ولئلا يعطّل.
وبتعبير آخر اننا تارة ننظر الى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعنى اقامة العدل والحدود وحفظ النظام الذي هو وظيفة الدولة وتارة ننظر اليه بنحو شامل وعام لجميع الافراد والآية ناظرة الى الثاني والدليل على ذلك هو ما سبق الآية من قوله تعالى: (يا أيها الذين امنوا اتقوا الله حق تقاته... واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا..) وهذه كلها ناظرة الى تكاليف اجتماعية يقوم بها افراد المجتمع ويتوجب على المجتمع اقامتها والعمل على ايجادها خارجاً، وان الآية ليست فى صدد بيان واجبات الدولة اتجاه المجتمع.
وقد ورد في تفسير هذه الآية قوله (عليه السلام) : "انما الامر بالمعروف والنهي عن المنكر على العالم". فوجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الاحتمال وجوباً كفائياً وهو واجب على الأمة بنحو الكفاية.
ثالثاً: البيعة:
1 ـ (إن الذين يبايعونك انما يبايعون الله يد الله فوق ايديهم فمن نكث فانما ينكث على نفسه ومَن اوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه اجراً عظيماً) (1) .
2 ـ (يا أيها النبي اذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ان لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن اولادهن ولا يأيتين ببهتان يفترينه بين ايديهن وارجلهن ولا يعصينك فى معروف فبايعهن واستغفر لهن الله ان الله غفور رحيم) (2) .
تقريب الاستدلال:
ينطلق المستدل من المعنى اللغوي للبيعة. فالبيعة الصفقة على ايجاب البيع وبايعته من البيع، والمبايعة عبارة عن المعاقدة والمعاهدة كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه واعطاه خالصة نفسه (3) .
فالبيع تمليك من جهة البايع للمشتري ونقل الولاية على هذه العين للمشتري ولا يصح البيع إلا ممن له الولاية والصلاحية للتصرف في المبيع. والبيعة هي انشاء ولاية من المبايِع للمبايَع على نفسه، واسناد هذه المبايعة للامة يدل على أن الولاية هي للأمة وهي تنقلها الى الرسول (صلى الله عليه وآله) او للمعصوم في نظرية النص.
وقد استدل من الروايات:
____________
1- الفتح 48 / 10.
2- الممتحنة 60 / 12.
3- لسان العرب 8 / 26 مادة بيع.
وقال العلامة المجلسي نكث الصفقة نقض البيعة وانما سميت البيعة صفقة لأن المتبايعين يضع احدهما يده في يد الاخر عندها. ويؤيد ما مضى السبر التأريخي حيث نرى الالتزام بالبيعة، فبيعة العقبة الاولى والثانية، وبيعة الامام علي وابنه الحسن والحسين (عليهم السلام) . ومبايعة الامام الرضا (عليه السلام) وما ورد في مبايعة الامام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) (2) .
وتقريب الاستدلال بالروايات:
1 ـ نفس المعنى اللغوي المتقدم والذي يجعل البيعة نوع تولية وانشاء ولاية فالطاعة وانشاء الولاية للحاكم في مقابل تقسيم بيت المال والغنائم كما يظهر من مفردات الراغب، وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته الفصل الثالث ـ فصل 29 ان البيعة هي العهد على الطاعة كأنما المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه وامور المسلمين وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهداً جعلوا أيديهم في يده تأكيد للعهد فأشبه فعل البايع والمشتري فسمي بيعة مصدر باع وصارت البيعة مصافحة بالايدي.
2 ـ ما ورد من التعبير انه عهد الله وهذا ينسجم مع قوله تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) . ومنه يعلم ان الامامة والحاكمية تنوجد وتتولد من البيعة.
3 ـ ان السيرة العقلائية الجارية في فترة ما قبل الاسلام مقتضاها أن البيعة
____________
1- بحار الأنوار: 2 / باب 32 ح 26.
2- سيرة ابن هشام 2: 66 / 73 ـ الكامل لابن الاثير 2: 252 ـ الارشاد ص 116 / 170 / 186 ـ الاحتجاج 1: 34 ـ نهج البلاغة الخطب 137 / 229 ـ وفي الغيبة للنعماني ص 175 ـ 176 في أمر الحجة (عليه السلام) : فوالله لكأني انظر اليه بين الركن والمقام يبايع الناس بأمر جديد وكتاب جديد وسلطان جديد من السماء.
4 ـ من تكرر السيرة على أخذ البيعة عند الاستخلاف يدل على ضرورة وجود نوع من المناسبة بين البيعة وبين تسليط وتأمير الآخرين، وهذا يدل على أنه كما ننشئ بالتأمير والولاية بالنص فإنها تنشأ بالبيعة فكأنه يوجد طريقان لحصول التأمير والاستخلاف أحدهما النص والاخر البيعة، فإذا ما وجدا معاً فإن يكون من باب التأكيد والثبوت. كما في تولية الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) حيث لم يقل أحد أن توليه كان بالبيعة بل بنص الله عزوجل الذي أوجب حاكمية الرسول (صلى الله عليه وآله) وأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كما أوجب رسالته ونبوته، أما كون البعية له هي المنشئة لتوليه وإمرته فهى بعيدة عن أقوال العامة والخاصة، ومن ادعى ذلك من المتأخرين فهو غن غفلة عن تلك النصوص ومخالفة لضرورة الذين عند الفريقين.
وفي هذا الاستدلال نأمل من جهات:
1 ـ اننا ننطلق من نفس مدلول البيع. فان المحققين والفقهاء (1) نصوا على ان البيع ليس من الاسباب الاولية لحصول الملكية فهو ليس كالحيازة والابتكار والارث. بل هو يكون فرعاً عن ملكية سابقة، ففي الرتبة السابقة يجب ان يكون للبايع (المبايع) صلاحية وسلطان معين على مورد المبايعة ثم ينقله الى آخر. فنفس دليل البيعة لا يدل على وجود تلك الملكية السابقة والسيادة السابقة للأمة. اي اذا فرض كون سيادة موجودة فحينئذ تكون المبايعة نقل لتلك السيادة من الامة الى الحاكم (2) ، ويؤيد ذلك ان نفس المعاني التي ذكرها اللغويون بعيدة عن انشاءالامرة والحاكمية بل غاية ما تدل عليه هو الالتزام ببذل الطاعة، وفي مسند أحمد بن
____________
1- يراجع المكاسب للشيخ الانصاري في أول كتاب البيع، كما نص على ذلك السنهوري في الوسيط.
2- ويمكن التنظير بالدليل التعليقي التقديري فإنه يثبت الحكم على فرض وجود موضوعه، ولا يتعرض لحالات الموضوع، فإذا ورد دليل يتعرض لنفي الموضوع للحكم المزبور في مورد معين فإنه لا يعارض ذلك الدليل لأنه لا يتعرض للموضوع بل للمحمول فقط.
2 ـ لو لاحظنا ما ذكر في الآيتين الكريمتين من مورد البيعة، وان المسلمين عندما بايعوا على ماذا بايعوا وان المؤمنات عندما بايعن على ماذا بايعن، هل بايعوا على امور لهم صلاحية تركها والالتزام بها فاختاروا الثاني. ام ان المبايعة كانت على الحاكمية.
اننا نلاحظ انه في الآيتين وفي غيرها لم يرد ذكر للحاكمية على الاطلاق، بل وردت المبايعة على المناصرة والالتزام بأمور أوجبها الاسلام كعدم الشرك وترك الزنا وعدم العصيان، وهي أمور يجب الالتزام بها ويحرم عليهم تركها فما الذي أفادته البيعة؟ اذن البيعة تعبير ظاهري وخارجي عن ذلك الالتزام. فهي أولاً: لم يكن موردها الحاكمية فإن حاكمية الرسول هى من الله، وثانياً: لم تكن فيه عملية نقل او انشاء ولاية على الاطلاق، وهذا يعني ان للبيعة معنى آخر ليس هو نفس المعنى المأخوذ فى البيع.
3 ـ النقض بالنذر والعهد واليمين فإن مورد هذه الأمور قد يكون المباحات وقد يكون الواجبات أيضاً، فالصلاة الواجبة والثابت وجوبها قبل النذر يجعلها المكلف مورداً للنذر وحينئذ يكون الوجوب آكد ويكون وجوبان، أحدهما: سابق على النذر، والآخر: لاحق عليه. ويفسر الفقهاء ذلك بانه انشاء عهد لله عزوجل ومورد البيعة قد لا يكون امراً اختياره بيد المكلف بل يكون من الواجبات ويكون النذر بها تعهداً زائداً. والبيعة كذلك فالمبايع يُنشأ التعهد بالتزام حاكمية ذلك المبايَع مع أن اصل الحاكمية ثابت في رتبة سابقة وليس سبب الحاكمية هو المبايعة بل قد تكون فى بعض صورها أداء لامر واجب عليهم كما في مبايعة الرسول (صلى الله عليه وآله) والامام (عليه السلام) .
فالبيعة تكون نوع توثيق وزيادة تعهد وتغليظ التكليف والثبات على مَن