ـ ان الائمة (عليهم السلام) كانوا يبتعدون عن السلطة ولا يسعون لاقامة الحكم بل على العكس كانوا يدفعون من يأتي ليبايعهم. فالامام علي (عليه السلام) عندما اتاه الناس لمبايعته صدهم وامتنع اول الأمر وهذا يعني ان الامر بيد الامة فان انتخبتهم فقد اصابت طريق الرشاد والصلاح. كما ان أبامسلم الخراساني قد عرض الحكم على الامام الصادق (عليه السلام) وقد رفض ذلك، والامام الرضا قد عرض عليه المأمون الحكم وقد رفض فهذا يعني انهم لم يكن يرون أنفسهم منصوبين من قبل الله.
2 ـ ان السياسة وتدبير الامور ليست جزءاً من الدين والشريعة، بل هي امور عامة ترجع الى تقدير الناس وحسن رويتهم فالحكومة تستمد مشروعيتها من الامة والمجمتع.
3 ـ ان المعصومين مبشرون ومبلغون وهداة، والنص على امامتهم يعني وجوب الرجوع اليهم في معرفة أحكام الدين أصولاً وفروعاً، وان الحكومة ليست تكليفاً الهياً وليس من مراتبه ومقاماته الحكومة واوضح مثال على ذلك انبياء بني اسرائيل اذ لم يكونوا يديرون شؤون الناس.
4 ـ ان الكتاب الكريم لم يحتوي الا على جزء قليل من أحكام الدولة.
5 ـ ان مفهوم النبوة والامامة يعتمد على العلم الخاص وليس فيه دلالة او ايماء الى الحكم والولاية.
والجواب عن هذه الوجوه:
أولاً: قد ذكرنا سابقاً الجواب عن السيرة ونكرره هنا:
ـ ان الآيات التي تأمر النبي بإقامة القسط والعدل والقضاء والجهاد والنشاط العسكري والدفاع عن المجتمع الاسلامي كثيرة وهذه خطابات لا تصلح إلا للحاكم والوالي، واما البيعة فقد ذكرنا نكتها وأنه لا يكفي مجرد التكليف من دون حصول
ـ وهكذا فى سيرة الامام علي (عليه السلام) فإنه في كثير من كلماته يشير الى احقيته بالخلافة والحكومة، وأن مماطلته في استلام الخلافة بعد مقتل عثمان لحكمة تتضح لمن له أقل تتبع في التاريخ، حيث أنه أراد قطع العذر لمن يشق عصا المسلمين والطاعة عليه وحتى لا يكون هناك مجالاً لمن أراد أن ينكث البيعة.
ـ وقد يشكل بما روي عن الامام الحسين (عليه السلام) من أنه في ليلة العاشر من المحرم قال لأصحابه: وإني قد اذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حل ليس عليكم مني ذمام وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً.
وجوابه: أن الامام الحسين واجب النصرة لأنه مظلوم فضلاً عن كونه إماماً مفترض الطاعة، فنصرته لم تجب بالبيعة فقط بل بدونها نصرته واجبة. وقد ذكروا وجوها لهذه المقالة منها انه أراد امتحان أصحابه ليعلم الثابت منهم عن غيره.
ومنها: أنه يكون إذن خاص منه (عليه السلام) حيث علم أن سوف يستشهد.
ومنها: ان اصحابه ليسوا كلهم على درجة واحدة من الثبات، فلذا تنقل بعض الروايات انه قد ذهب بعض منهم ـ ولكن يسير جداً ـ فهؤلاء لم يلزمهم بالبقاء.
ومنها: ان الاستشهاد معه (عليه السلام) مرتبة لا ينالها إلا من اُتي نصيباً وافراً من المعرفة الحقيقية بمقامهم (عليهم السلام) ولذا كان هذا التحليل هو لذوي النفوس الضعيفة التي ليس من مقامها الاستشهاد معه (عليه السلام) . وهؤلاء كانوا يظنون ان بقاءهم معه (عليه السلام) مرتبط ببيعتهم له فعاملهم الامام (عليه السلام) على اعتقادهم.
ـ اما بالنسبة للامام الصادق (عليه السلام) فلقد عرض عليه ابومسلم الخراساني البيعة ولكن الإمام رفض ذلك وسره واضح لأن ابامسلم لم يرد تحكيم وتولية الامام،
ـ اما بالنسبة للرضا (عليه السلام) فأولاً عندما امتنع عن قبول الولاية حقق هدفاً مهماً وهو اتضاح أن المأمون ولايته لا أساس شرعي لها. وثانياً عندما قبل الولاية تحت الإجبار والإكراه مع شرط عدم التدخل في أمور السلطة فانه يتجنب امضاء مشروعية افعال السلطة الحاكمة حيث يتضح أن المأمون لا شرعية لسلطته حتى يوليه ولاية العهد. وبهذا يكون قد خلص من الهدف الذي توخاه المأمون من استغلال مكانة الامام الدينية في دعم شرعية سلطته.
ـ أما ما استشكله البعض من انصراف الأئمة (عليهم السلام) عن الجانب السياسي وعدم سعيهم لإقامة الدولة والحكم فجوابه يتضح من خلال النقاط التالية:
آ ـ ان الأئمة (عليهم السلام) انصرفوا الى اعمال تعتبر أهم ملاكا من إقامة الحكم عند التزاحم وهى بيان أحكام الدين ومعارفه، أي تدبير الجهة العقلية والمعرفية عند الناس وهي مقدمة على تدبير الابدان، واضح أن نشر الدين وبيان الاحكام تعم منفعته جميع المسلمين في كافة الازمنة، بينما تدبير الحكم وإقامة الدولة يفيد الاجيال المعاصرة لتلك الحقبة فقط فإذا دار الأمر بين النفع والفائدة الاطول زمانا مع آخر ذي فائدة اقصر زمانا فالتقديم للأول.
ب ـ ان المجمتع الاسلامي قد توسع بشكل كبير فى القرنين الاول والثاني وانفتح على حضارات مختلفة واختلط بأمم متعددة مما اثار جملة كبيرة من الاسئلة والاستفسارات والشبهات التي احتاجب الى اجوبة شافية دامغة لكل ما يمس الدين الحنيف، وقد عجزت الاذهان العادية التي تنهل من العلوم الكسبية عن الاجابة عليها واحتاجت الى من يكون له علم لدني يجيب عنها، خصوصاً ان
جـ ـ ان إقامة الحكم ورئاسة الامة وظيفة مشتركة بين القائد والأمة فاذا لم تتمثل الامة للواجب الملقى على عاقتها من رجوعها الى الامام المعصوم فإنه لا يجب على الامام اجبارهم على ذلك. وقد تخاذلت الامة عن القيام بواجبها فاتجه الامام الى الوظيفة الاخرى.
ـ ان الائمة لم يغفلوا الجانب السياسي البتة، وكانوا لا يفوّتون الفرصة من حين لآخر لاثبات أحقيتهم بالخلافة. فالامام الكاظم (عليه السلام) عندما حج هارون الرشيد وزار المدينة وجعل الاخير يسلم على الرسول: السلام عليك يابن العم. قال (عليه السلام) في السلام: السلام عليك ياجداه. للاشارة الى ان المشروعية اذا كانت بالاقربية فإنا اقرب اليه منكم. وغيره من مئات الوقائع التي رصدها التاريخ لهم (عليهم السلام) مع سلاطين بني أمية وبني العباس.
ـ ان الائمة (عليهم السلام) كانوا يمارسون نوعاً من الحكومة الخفية ويأمرون وينهون شيعتهم ومن هذه المواقف:
آ ـ نهي الكاظم (عليه السلام) لصفوان عن ايجار جماله ـ والتي كانت له أكبر مؤسسات النقل في العالم الاسلامي آنذاك ـ للدولة الحاكمة انذاك.
ب ـ جباية الاموال في ذلك الزمان من الأمور المختصة بالدولة، ومع ذلك فانهم (عليهم السلام) كانت تجبى إليهم الأخماس والزكوات، واتفاق الفقهاء على أنه مع حضور الامام لا تبرأ ذمة شخص إلا بتسليمها للامام (عليه السلام) . لما كان علي بن يقطين يدفع زكاته للامام الكاظم (عليه السلام) مع كونه وزيراً للسلطان العباسي، حتى ان جواسيس بني العباس خاطب يوما هارون بما مضمونه هل للمسلمين خليفتان تجبى لكل منهما الاموال، وان الثاني هو موسى بن جعفرعليهما السلام، وان معه من شيعته
ب ـ نصب الوكلاء في المناطق المختلفة وهؤلاء يرجع اليهم الناس في كل من معرفة الأحكام وفي خصوماتهم القضائية وفي كل توابع ولواحق القضاء من انفاذ الاوقاف والوصايا وتقسيم المواريث وادارة اموال القصّر وأخذ القصاص أو الديات وغيرها.
وكان النصب على نحو نصب خاص ونصب عام ونجد أن فقهاء الشيعة يجعلون المناصب ثلاثة: الافتاء ـ القضاء ـ المرجعية، حيث يرون لكل منها شروطاً تختلف عن الاخر وقد تتداخل بعضها وهذا التفصيل استفيد من روايات الائمة (عليهم السلام) فعن تقرير يرفعه أحد عيون الجاسوسية للدولة العباسية ـ يرويه لنا الكشي في كتابه الرجالي ـ يصف الشيعة في الكوفة انهم على ثمان طوائف أحدها زرارية بن أعين والاخرى مسلمية اتباع محمد بن مسلم وهشامية اتباع هشام بن الحكم وبصيرية أتباع ابي بصير وهذا يذكر في الحقيقة تعداد الجماعات الشيعية التي ترجع الى فقهاء الرواة عن الباقر والصادق والكاظم (عليهم السلام) كما نجد أن الائمة قد أجازوا اقامة الحدود بما يتناسب مع هذه الحكومة الخفية كالاب على ابنه والزوج على زوجته والسيد على عبده.
جـ ـ الممانعة من الجهاد الابتدائي مع السلطة الاموية والعباسية كما في رواية زين العابدين (عليه السلام) في الرواية المعروفة عندما اعترض عليه أحد أقطاب العامة قائلا تركت الجهاد وخشونته ولزمت الحجج وليونته والله تعلى يقول: (ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة...هو الفوز العظيم ) فأجابه (عليه السلام) اكمل الآية فقال: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر الحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين) فقال (عليه السلام) : إذا وجدت من هذه أوصافهم من
د ـ ما ورد في رواية ابن حمزة عن ابي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: من احللنا له شيئاً اصابه من أعمال الظالمين فهو له حلال وما حرمناه ذلك فهو له حرام. وهذه ممارسات ولائية حكومية في تحليل ما يؤخذ من السلطة الجائرة التي كانت تقوم بجباية الاموال من خراج وزكاة ومقاسمة.
هـ ـ الاشراف على تولي المناصب في الدولة القائمة من قبل بعض الشيعة حتى يسهل ادارة امور الشيعة. كما في الامام الصادق (عليه السلام) مع داود الزربي والكاظم (عليه السلام) مع علي بن يقطين، والصادق (عليه السلام) مع النجاشي في توليه للاهواز والامام الرضا مع محمد بن اسماعيل بن بزيع.
و ـ الاذن لاصحابهم في التصدي للفتيا.
ز ـ تقنينهم لبعض التشريعات الولائية التي هي مقتضيات منصب الحاكمية وليست تشريعات ثابتة. فكما في احياء الموات والأمور الخاصة بها، والتفويض الخاص بالأراضي هو نوع من الممارسة الولائية وليس تشريعاً ثابتاً بدليل ما في بعض الروايات المشيرة الى أنه عند ظهور الحجة (عليه السلام) سوف يتغير هذا النظام في الاراضي.
حـ ـ اعفاؤهم شيعتهم من اعطاء الخمس في بعض الموارد وفي بعض السنين كما في رواية علي بن مهزيار عن الجواد (عليه السلام) . وما ورد عن الباقر (عليه السلام) في تقنين نظام التضمين وعدم ضمان الاجير.
ط ـ حث الشيعة على التمسك بالأحكام الخاصة بالمذهب من التولي والتبري، وعدم الولاءللسلطة الحاكمة وعدم مشروعيتها، من قبيل التقية، ومتعة الحج والنساء، واقامة الاحكام الفقهية الخاصة في الاعمال اليومية. وحث الامام
وبنظرة استقرائية لأحد المجاميع الروائية القديمة أو لكتاب الوسائل مثلاً يجد الناظر مشجرة كاملة في الابواب الفقهية المروية لممارسات الأئمة (عليهم السلام) في المجال التنفيذي الولائي والقضائي فضلاً عن التشريعي، فرسم صوررة كاملة عن انشطة الحكومة الشرعية في كل المجالات التي تقوم بدورها في الخفاء عن الظهور أمام السلطة الظاهرية آنذاك.
ثانياً: الدين والسياسة:
اما ما ذكر من ان السياسة ليست من الدين وان الحكومة من الأمور الخارجة عن التكليف الالهي وان الكتاب غير حاو لاحكام السياسة فيجاب عنه:
آ ـ ان القران عالج جوانب عدة من كيفية اقامة النظام في المجتمع، فوضع نظام الاحوال الشخصية، وقواعد القضاء وهذه القواعد التي تتفرع منها الاف القضايا الفرعية، وكذا الحدود الجنائية والتعزيرات، والجهاد وأحكامه والذي هو نظام علاقة المسلمين بالكفار وبأهل الكتاب في الحرب والسلم، والخطوط العامة للنظام الاقتصادي الذي تقوم عليه الدولة في دائرة القتصاد الكل والجزء (الدولة والمدينة والريف) ونظام المنابع المالية العامة، وقد أعدت دراسات حديثة لاستخراج نظام القانون الدولي بين الدول من القران.
فهل يعقل ان يقال ان من اهتم ببيان هذه الموارد اغفل عن ذكر نصوص تتعلق بالحاكم وشروطه وتعيينه.
ب ـ ينقض على المستشكل بأن حكومة الرسول (صلى الله عليه وآله) في تلك الفترة الحرجة وصلت وحققت الكثير من الاهداف والانجازات، فهذا يعني أن هذا النظام مع وجود الشخصية المؤهلة قادرعلى تأدية وظائف الحكومةوتنفيذها بأحسن حال.
جـ ـ إن القول بكون مشروعية الحكومة مستمدة من الأمة يناقض فصل الدين عن السياسة، لأن المشروعية تعني الأمر الذي شرعه الشارع واعتبره وصحّحه والذي لا حرج في التعامل والأخذ به، فإذا كانت الحكومة المنبثقة من الأمة مشروعة أي اعتبرها الشارع، فكيف لاتتعرض الشريعة للحكم السياسي، وكيف تكون تلك الحكومة تستمد كل صلاحيتها من الأمة دون الشارع، وبعبارة أخرى ما المعنى المحصل للمشروعية في كلامه ان لم ترجع الى عدم التأثيم والعذر عند مالك يوم الدين، وأي معنى للحديث عن المشروعية حينئذ.
ثم ان مقتضى أن الله سبحانه وتعالى مالك للمخلوقين ولأفعالهم أن مبدأ وأصل الولاية هو لله تعالى وان كل الولايات تتشعب من ولايته "الولاية لله الحق" و"ان الحكم الا لله"، وهذا أصل غاية الأمر حيث جعل للإنسان الاختيار لا القسر كانت الولاية الربانية عليه من نمط تكويني غير قاسر ونمط تشريعي اعتباري قانوني فمنطق التوحيد ومنطق الشرعية الالهية يبنى على أن أصل الولاية لله وأن كل شعبة لابد وأن تنتهي الى ذلك الأصل.
نعم، المنطق الوضعي غير المتقيد بالملة والنهج السماوي وأن للكون خالقاً مالكاً، يجعل مصدر الولاية هو الانسان وسلطة الفرد على نفسه، فيجعل من العقد الفردي والاجتماعي مصدر السلطات والولايات كما يفصل ذلك الدكتور السنهوري في (الوسيط) فبين المنهجين بعد المشرقين.
د ـ إن أحدث النظريات في القانون الوضعي تشير الى أن تعيين القائد الذي تنتخبه الامة ليس اعتباطياً، بل يجب أن تتوفر في القائد المواصفات والاهلية اللازمة التي وضعها الدستور من الكفاءة والامانة وغيرها. وحينئذ فاذا رشح من له هذه الصفات وانتخبته الامة يكون الانتخاب صحيحاً، فحقيقة الانتخاب هي
وقد أثار هذا وأن الباحثون من فقهاء القانون الوضعي أن العقد ليس هو مبدأ نشوء السلطنة سواء على الأفعال أو الأعيان، بل السلطة التكوينية على الأولى والحيازة أو العمارة للثانية هو المنشأ، وأما فقهاء الشرع من الفريقين فقد نصوا على لزوم امضاء الشارع لهذا الاعتبار البشري للسلطة اذ ان لله ما في السموات والارض. فلا يملك الفرد البشري في الاعتبار من الافعال والاعيان الا ما حدده الشرع له، لأن الشارع الاقدس مبدأ السلطات والولايات، لا أن الانسان فاعل ومالك لما يشاء ومطلق العنان، الا ما ينقله هو باختياره عن نفسه بالعقد الفردي او العقد الاجتماعي (الانتخاب) أو العقد السياسي (البيعة) الى الغير. فبين المنهج التوحيدي والمنهج الوضعي بون بعيد. وبذلك يتضح أن اساس الحكومة في المجمتمع بين المنهجين مختلف، فعند المنهج التوحيدي هو متشعب من ولاية الله تعالى على المخلوقات البشرية، وعند المنهج الوضعي هو مستمد من سلطة الفرد والأفراد على أنفسهم.
بل ان الدراسات القانونية في الفقه الوضعي تكاد تصل كما ذكرنا آنفا الى هذه النتيجة وهي أن الاساس في الحكومة هو حكم العقل الفطري، وذلك لأن العقد الاجتماعي (الانتخاب) الناشئ من سلطة الفرد على نفسه لا يبرر حكومة الأغلبية على الأقلية ولو بتفاوت يسير. وكذلك لزوم توفر شرائط في الشخص المنتخب بالعقد الاجتماعي وليس هو من وضع سلطة الأفراد على أنفسهم، بل كلا الأمرين وغيرها من النتائج التي لا تتلائم مع فلسفة السلطة الفردية والعقد هي من قضاء العقل كمادة قانونية مرعيّة عند الكل. فمثلا لزوم كون الرئيس المنتخب ذو خبرة وكفاءة عالية (العلم بمعناه الوسيع) وذو أمانة فائقة (العدالة واذا ترقت أصبحت
ومن ذلك يتضح أن العقد الاجتماعي والسياسي (سواء الانتخاب أو البيعة) ليس الا عبارة عن عملية توثيق وإحكام وعهد مغلّظ للعمل بالقانون، سواء على المنهج التوحيدي الديني او الوضعي أخيراً، فضابطة الصحة للحاكم ليس هو العقد السياسي بل هو توفر شرائط القانون الالهي فيه، أو الوضعي الالهي حيث انه يشعّب الولاية من المالك المطلق الخالق طبق موازين الكمال والعصمة والاصطفاء، فهو يعين المصداق الذي تتوفر فيه الشرائط ويكسبه ولاية الحكم، وتكون البيعة والعقد السياسي معه من قبل الناس ما هو الا زيادة تعهد وإلزام بالعمل نظير النذر والقسم المتعلق بأداء صلاة الظهر أو صيام رمضان تغليظاً للوجوب.
وأما المنهج الوضعي فهو يترك مجال تعيين المصداق لاختيار الامة لكن يظل هذا التخيير له لون صوري غير واقعي في حالة تخلف الشرائط والمواصفات في الشخص الحاكم التي يعيّنها القانون، ويظل التخيير غير صائب في حالة توفر الصفات بنحو أكمل في شخص لم يقع عليه الاختيار، وهذا الجانب السلبي في المنهج الوضعي قد عالجه المنهج الربانى الالهي بجعل الانتخاب بيد العالم بالسرائر وبمعادن البشر (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة) .
فكون العقد السياسي وثيقة إلزام والتزام وسبب لزيادة التعهد، لا انه عملية مولدة لصحة الشيء الذي تم التعاقد عليه بل الصحة والسلامة آتية من الشارع أو القانون، وكون العقد هذا مفاده من اوليات الأبحاث القانونية فالعقد السياسي والبيعة لا يؤمنان صحة الانتخاب وسلامة المنتخب والمبايع، وانما الذي يؤمنه تعيين الشرع في المنهج التوحيدي والقانون في المنهج الوضعي. فالعقد لا يؤمن الصحة والسلامة، وهذا ما نجده عند فقهاء القانون من تمييزهم أدلة الصحة عن أدلة اللزوم.
هـ ـ إن من الضروري معرفة الفرق الجوهري بين القانون الوضعي والقانون الالهي، ففي القانون الوضعي يكون المحور هو الفرد والانسان بما هو هو، وفي القانون الإلهي يكون المحور الله جل وعلا أو الفرد بما هو عبد لله، وهذا المائز مهم جداً في فهم عملية التقنين وما يمكن أن يوضع ويقنن إذ يضفي آثاره على بنوده والأهداف المتوخاة.
ففي القانون الالهي يكون الالتفات الى القوى الناطقية والالهية في الانسان، وفي الوضعي يكون الالتفات الى القوى النازلة والحيوانية له، ولذا تكون نظرية النص اكثر انسجاماً مع القانون الالهي. ونظرية الشورى تنسجم مع القانون الوضعي حيث تجعل السلطة للفرد.
وفي القانون الوضعي تختلف الرؤية الكونية، وفي القانون الالهي تراعى الكمالات التي توصل الى الحق تعالى وهي غير محدودة. ومن هنا يمكننا القول ان هناك مائزين جوهريين بين نطريتي النص والشورى:
ـ ان نظرية الشورى تكاد تشترك مع القانون الوضعي من زاوية فصل الدين عن السياسة، حيث ان الدين لا يقع منهاجاً وتقنيناً للنظام السياسي الحاكم، لأن النظام المتكامل هو الذي يتكفل بنصب الحاكم وبيان خصائصه وشروطه وامتيازاته، بخلاف نظرية النص التي تتكفل هذه الجهة وتطرح نظاماً سياسياً تاماً يعتمد على أسا الوراثة الملكوتية والتنصيب والتأهيل السماوي.
ـ ان أصحاب نظرية الشورى يجدون فراغاً كبيراً في التشريع اذ انهم يعتمدون على ظاهر الكتاب وما ورد عن الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) ، أما أصحاب
و ـ ما ذكر من خلو الكتاب الكريم من النصوص المتعلقة بالسياسة العامة باطل، لكن قد يقال بأن السياسة ليست هى معرفة تلك الأمور الكلية، بل هي فن من الفنون قائم على الفصل بين الجزئيات المختلفة التي تحتاج الى كياسة وخبرة وتجربة والسائس يكون مؤهلاً إذا حصلت لديه تلك الممارسة، ولذا صنف الحكماء السياسة في باب الحكمة العملية.
والجواب عن هذا:
ـ أن السياسة كما لها جانب عملي فإنّ لها جانب نظري أيضاً، وتحكمه اصول كلية وهذه الأصول الكلية موجودة في الدين (وقد أوضحنا ذلك مفصلاً في بحث الاعتبار والحسن والقبح) ثم ان الدين لا يختص بالأمور النظرية العقائدية فقط بل يرتبط بالجانب العملي وفروع الدين تمثل هذا الجانب.
ـ إن السياسة علم يدرس في الجامعات الاكاديمية ويحتوي على كليات مسطورة في الكتب. نعم الجانب التطبيقي منها يعتمد على الخبرة والكياسة، وفي نظرية النص يكون المعصوم هو صاحب الخبرة حيث أن علمه اللدني لا حاجة معه الى اكتساب خبرة من الأجيال البشرية لما قد يصوره البعض في غيبة الحجة (عليه السلام) (واتيناه الحكم صبيا) ، والعلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء وما التجارب والممارسات إلا معدات لذلك الفيض الالهي. هذا بجانب علمه المحيط بالموضوعات بتسديد من البارئ وترفره على كمال الصفات في قواه النفسية الاخرى.
ثالثا:
ان الانبياء لم يكونوا هداة ومبلغين فقط بل يديرون دفة الحكم والاية المذكورة في سورة المائدة (44) أوضح دليل على ذلك غاية الأمر ان الانبياء في اداء
رابعاً:
ما ذكر من أن الحاكمية خارجة عن معنى الامامة والنبوة باطل وجوابه يتضح من قوله تعالى: (اني جاعلك للناس اماماً) ، (وما ارسلنا من رسول إلا ليطاع باذن الله) ، (النبي اولى بالمؤمنين من انفسهم) ، (يحكم بها النبيون) ، (وان احكم بما انزل الله ولا تتبع اهواءهم) ، (انا انزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) ، (يسئلونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول) ، (واعلموا انما غنمتم من شيء فان لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والسماكين وابن السبيل ان كنتم آمنتم بالله) ، (ما أفاء الله على رسوله من اهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) ، (خذ منهم صدقة تطهرهم وتزكيهم) فكل المنابع المالية العامة والضرائب المالية هي بيد الرسول (صلى الله عليه وآله) والإمام، مضافاً الى آيات الولاية العامة الكثيرة (النبي اولى بالمؤمنين من انفسهم) ، (اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم) وغيرها.
خامسا: النص والعقل:
ان القول بالحاكمية التعينية يلازم ويسوق إلى الحجر على عقل الانسان وفكره وتقييد لسلطة العقلاء، فحتى في المعصوم يحتاج الى انتخاب الناس وإلا فالولاية عليهم من دون الانتخاب هو حكم بقصورهم العقلي. وبتعبير آخر فإن النص يحمل في طياته التناقض وذلك لأن جعل الولاية يقتضي التعين، والقيمومة موردها القصور والحجر وكونهم قُصر يعني عدم جواز توليتهم وتنصيبهم مع أنها وظيفتهم، فالتولية يلزم منها عدمها. ومع افتراض ان الناس عقلاء فلا معنى لجعل الولاية عليهم فالعصمة التي في الأئمة هى عصمة ا لتبليغ والهداية لا الولاية الحاكمية، والجانب السياسي في حياة الانسان أمر دنيوي لا يرجع فيه الى السماء والحاكم ليس إلا وكيل عن الجماعة في ادارة شؤونها.
فلو قلنا ان الولاية تابعة لمدى عقلائيته لازمه أن تعطى الولاية للاخرين في الامور التي لا يحيط بها عقله. فتبين أن صرف ثبوت الولاية لأحد على أحد لا يعني أن الاخر محجور عليه. بل للفرد العاقل ولاية في حدود عقلائيته، والمعصوم عقله محيط بجميع الأمور فولايته أقوى من ولاية الانسان على نفسه. (النبي اولى بالمؤمنين من انفسهم) ، مضافاً الى أن المستشكل يرى أن الفرد عندما ينتخب اخر ويعطيه الولاية على نفسه فهذا لا يجعله متنافياً مع عقلائيته، والبعض فراراً من هذا الاشكال ذهب الى ان الحكموالانتخاب هو وكالة وليس ولاية، لكن الصحيح انه لا يمكن تصوير الوكالة بالمعنى المصطلح الجاري عليه في باب المعاملات وذلك لأن الحاكم يقوم بالزام المجتمع بنوع خاص من القوانين والتصرفات ولا يمكن تصوير ان الوكيل يُلزم الموكل بما لا يريده فضلاً عن لزوم هذه الوكالة.
إذ مقتضى أن الوكالة جائزة هو أن الامة يمكن ان ترجع في اختيارها حتى من دون سبب وهذا لا يقول به أحد في هذا المقام.
مضافاً الى العديد من الشواهد التي لا تنسجم مع الوكالة الاصطلاحية كالتعبير عنها بالنيابة والتولية. والقَسَم الدستوري الذي يؤديه الحاكم، وعدم امكان الحاكم الثاني ابطال أعمال الحاكم الأول. وغيرها من الشواهد الكثيرة التي تبطل كون الحاكم وكيلا عن الفرد.
وعلى كل تقدير يبقى المجال امام الولاية فاذا كان القول بأنّ نقل ولاية الفرد
سادساً: النص والاستبداد:
إن البعض ذكر أن نظرية النص تؤدي الى الاستبداد والاستبداد من المعاني المذمومة في القران والسنة، اذ قد وردت كثير من الآيات التي تذم ظاهرة الفرعونية التي تجعل المحور ذات الفرد ولذا قال البعض فراراً من هذا الاشكال ان المعصوم ملزم بالشورى والاستشارة وملزم ايضاً بنتيجة الشورى.
والجواب عنها:
آ ـ ان الاستبداد ينشأ تارة من أصل النظرية وتارة ينشأ من تطبيق النظرية. ولاجل ابطال النظرية يجب اثبات الاول.
ب ـ ان المشرع في نظرية النص وضع وسائل تمنع حصول الاستبداد وذلك عن طريق ضمانات اجرائية:
منها: ان المنصوص عليه هو المعصوم من الزلل والخطأ ولا ينساق وراء الذات والشهوات، وسوف يأتي في الحديث في غير المعصوم.
ومنها: لزوم التقيد بالأحكام الالهية بعيداً عن الهوى والاحاسيس، وهذه قاعدة فوقانية تشبه المواد الدستورية والتي يبطل كل تصرف مخالف لها.
ومنها: رقابة الامة تحت اطار الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. وحرمة طاعة المخلوق في معصية الخالق. ورقابتها بالنسبة الى حكومة نائب المعصوم ظاهرة وأما بالنسبة الى حكومة المعصوم فأجنحة الدولة وأفراد جهاز الدولة ليسوا بمعصومين، فتكون الامة معينة للمعصوم على مراقبة جهاز الدولة كما هو الحال في سيرة علي (عليه السلام) .
ومنها: لزوم اتصافه بالمواصفات المؤهلة له كالعدالة والامانة والكفاءة هذا
ومنها: ان الحاكم في نظرية النص له في الجانب التشريعي ـ مضافاً الى الجانب التكويني الخاص ـ حيثيتان حقوقية بما هو رسول او امام او نائب امام، والاخرى حقيقية ومن هذه الحيثية يعتبر كسائر افراد المجتمع، له ما لهم وعليه ما عليهم، وهذا لما مر في النائب عن المعصوم واما فيه فانه كذلك سوى ما خصّ به من امتيازات في التشريع الالهي مما شرّف وفضّل به على سائر الناس. فكل تصرف ينبع من شخصيته الحقوقية يكون نافذاً، وكل تصرف ينبع من الاخرى لا يكون نافذاً هذا في النائب غير المعصوم والا ففيه لا مجال لاحتمال التصرف الاقتراحي. وبتعبير آخر ان ولاية شخص ما ينوب عن المعصوم هي لعقيدته وفقاهته وعدالته أنيب في الولاية لا لخصوصية شخصه، وفي نظرية النص الحاكم (المعصوم او نائبه) ينظر الى الحكم كمسؤولية وامانة وخدمة ووظيفة.
ومنها: المساواة أمام القانون فالجميع يقفون أمام القانون على حد سواء وتطبق العدالة عليهم، وهو لا يعني ان يتساوى الجميع في العطاء ـ مثلا ـ بل يعطى كل على حسب ما هو مقدر له في الشرع فالتفاضل والتمايز حاصل، لكنه تمايز وتفاضل رضى عليه الشرع، وهو بلحاظ عالم الاخرة لا عالم الدينا.
ومنها: المحورية في نظرية النص ليس للفردي بما هو هو بل بما هو عبد الله بينما في القانون الوضعي تكون المحورية للفرد بما هو هو، وقد ذكرنا سابقاً ما يترتب على هذه التفرقة وأهمها أنها في التقنين تُؤمن ما يسد رغباته وحاجاته الشخصية وغرائزه الدانية من ملكية وحرية.. وهذه كلها تعتبر من درجات الانسان السفلى.
بينما في التقنين الالهي يكون الانطلاق من الجهة العقلية والتألهية أي قوى
فهذه الأمور والضمانات الاجرائية المانعة من الاستبداد، وهي كالقواعد الدستورية التي بيطل كل تصرف يخالفها.
أما الاستبداد فإن نشأته تعود الى عوامل:
آ ـ جهل وقلة وعي بالقانون.
ب ـ وجود طبقة من العلماء والمفكرين يروجون لمحورية ذاتهم والصلاحيات المعطاة لاصحاب المناصب. ومحورية الفرد.
جـ ـ التفكك والاختلاف في صفوف الامة.
د ـ اشاعة الرعب والرهبة من الولاة.
هـ ـ جعل منابع الثروة بيد طبقة معينة مما ينشأ استبداد طبقي.
وهذه العوامل تجد أرضية خصبة في عالمنا اليوم في الانظمة الغربية المدعية للديمقراطية ولانتخاب الأمة وسيادتها حيث تجد الفارق الطبقاتى شديدواسع الهوة والمال دُولة بين الاغنياء وفرعنة للطبقة الثرية تحت عنوان سيادة الأمة وتحكيم آرائها (ولاية الشورى) ، وهذا ما اطلعنا عليه التاريخ قديما فان اكثر من جاء تحت هذا الغطاء الى سدة الحكم كان في الحقيقة بالتغلب والفتك بينما تقاوم نظرية النص نشأة مثل هذه العوامل بعد كون مركز القوى السياسية والمالية والقضائية والعسكرية والامنية هى بيد من عصم علما وعملا كما بيناه مفصلاً وكما اطلعنا التاريخ على حكومة الرسول (صلى الله عليه وآله) والامير (عليه السلام) وبرهة من حكم الحسنينعليهما السلام.
الامر الرابع: الأدلة العقلية على الشورى:
وله تقريبات ثلاثة:
التقريب الاول: ينطلق من أن الانسان مدني بطبعه، ويعلم من ضرورة العقل انه لابد في كل اجتماع مدني من نظام وادارة تقيم هذا الاجتماع وهو المشار اليه في قوله (عليه السلام) : لابد للناس من أمير بر أو فاجر. كما ان الواجبات الكفائية الملقاة على عاتق المسلمين لا يمكن تعطيلها في زمان ما، فهذه الحكومة التي تدير شؤون هذا الاجتماع لا تخلو إما ان تكون منصوبة من قبل الله عزوجل، أو تنصبها الامة، أو تنال الحكم بالقهر والغلبة، وهذا الثالث باطل بالتأكيد لأنه ظلم واستئثار، فينحصر الأمر بين الاولين والفرض ان النصب من قبل الله منتف اما مطلقاً أو على الاقل في عصر الغيبة فيتعين انتخاب الامة.
التقريب الثاني: ان السيرة العقلائية والبناء العقلائي جاريان على ان الناس ينتخبون حُكَّامهم بانفسهم، ولا يوجد ردع عن هذا البناء العقلائي، وهي سيرة عقلائية جارية حتى زماننا هذا، وهي ليست سيرة فحسب بل تقنين مركوز في عالم الاعتبار لدى العقلاء.
التقريب الثالث: وحاصله انه قد ثبت أن الناس مسلطون على أموالهم، والسلطنة على المال فرع من السلطنة على فعل النفس، فهذا كاف في اثبات سلطنة الناس على أنفسهم، وقد يقال استدلالا على هذه المقدمة ان الانسان مسلط على نفسه بحكم العقل العملي، حيث ان الانسان مسلط على نفسه تكوينا فهو مالك لتصرفاته وحركاته وسكناته بيده ومع وجود تلك الملكة التكوينية لا حاجة للاعتبار، ومن هنا قالوا في الاجارة ان عمل الاجير لا يملكه المؤجر قبل عقد الايجار، وهذه المقدمة قد يستدل عليها بنحو آخر بالقول ان الله تعالى ذكر ان الرسول اولى بالمؤمنين من انفسهم، فهو يثبت ولاية الانسان على نفسه في مرتبة
اما الاول فإنا مع التسليم بالمقدمات ولكنا نختار من شقوقه نصب الله عزوجل بل نفس لابدية الحكم نستخدمها لقلب الاستدلال لصالح نظرية النص، حيث أن تعيين الحاكم والقائد من الامور التي يتحقق بها لطف الله حيث انه يدخل في الهداية، وهو ألطف بالبشر وأكثر عناية بهم، وهذا وان كان ينطبق على المعصوم إلا أنه بنفسه يمكن ذكره في الغيبة، أي ترتب المقدمات بعينها بعد فرض وجود المعصوم حياً وان كان في ستار الغيبة فنستكشف من اللابدية المزبورة نصب الفقيه العادل نائباً من قبل المعصوم، إذ الولي في الأصل هو المعصوم فلا معنى لولاية الفقيه العادل بالاصالة بل بالنيابة عن إمام الأصل فيقال: ان الله لا يترك مجتمعه هكذا بدون ارشاد وبدون تعيين بل يذكر لهم الشروط والطريقة الفضلى في تعيين القائد، وهذا يستلزم استكشاف نصب المعصوم للنائب الفقيه العادل وينسجم مع نظرية النيابة عن المعصوم.
وخصوصاً ان المعصوم حي ومازال يمارس دوره في هداية الامة وحفظها سواء عبر نوابه بالنيابة العامة، أو عبر دائرة الابدال والاوتاد والسياح المغمورين بين الناس كما تشير اليه الروايات الكثيرة الواردة من طرق الخاصة والعامة، لكنهم نشطون في مجريات الأمور المتغيرة في العالم البشرى اجمع فضلاً عن العالم الاسلامي، ولك أن تمثل لذلك بالتنظيم السياسي السري الذي يقوم بدور فعّال في مجريات الامور من دون ظهور بارز على منصة السياسة في العلن. وقد أشار الى ما
وما يقال من أن الامة الاسلامية قد وصلت الى مرحلة الرشد العقلي التي به تستغني عن الهداية الالهية المباشرة من خلال المعصوم أو نائبه مردود بأن الكمالات الالهية والهداية الربانية لا حدود لها، وأن الحامل لهذه الكمالات لابد أن يكون شخصاً لا محدود فينحصر العترة الطاهرة، وبعدهم تصل النوبة لهؤلاء الذين يهتدون بهداية العترة، وهذا التقريب حينئذ لا يتأتى إلا في نيابة الفقيه عن المعصوم. مع أن ما يشاهد حالياً في الأمة من تحكيم الاهواء والامراض الفكرية والاجتماعية الفتاكة خير شاهد على ضرورة المعصوم.
أما التقريب الثاني فيرده ان هذا البناء العقلائي ليس بممضي بل ورد الردع عنه في آيات وروايات تقدم ذكرها تشير أن الحكم لله فقط، وأنه يضعه حيث يشاء، ويجب التنبه الى أن السيرة العقلائية ليست هي حكم العقل فالسيرة تعني تواضع ووضع العقلاء الاعتباري وانشاؤهم الفرضي لأجل تنظيم مجريات أمورهم وحياتهم، وبعضه يقع موضع امضاء الشارع وبعضا لا يقع كذلك وما نحن فيه من هذا القسيم.
وقد يقال بامضاء البناء العقلائي من جهة ما ورد في نهج البلاغة (الكتاب 51) حيث يصف عمال الخراج: من عبدالله علي الى أصحاب الخراج أما بعد.. فأنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم فإنّكم خزّان الرعيةووكلاء الأمة: فالتعبير بوكلاء الامة يعني ان الامة قد أوكلت الإمام وهو بدوره أو كل هؤلاء.
والجواب:
آ ـ في التقنين الاقتصادي الاسلامي يعتبر الخراج ضريبة توضع على الأراضي، وهي ملك المسلمين وليست ملكاً للإمام ولا الحاكم، فمن يكون على أموالهم له نوع من التوكيل وهذا غير من نحن فيه، وهذا التقنين غير وارد في الفيء
ب ـ ان الامام قال: "وكلاء الأمة وسفراء الأئمة". فهؤلاء لهم لحاظان فمن حيث كون المال للمسلمين فهو بمنزلة الوكيل، ومن ناحية الولاية على التصرف والتدبير فهو بيد الحاكم وهو سفير له.
جـ ـ الايكال له معنى آخر غير الاصطلاحي وهو يحصل بأن يوكل الانسان أمراً الى آخر مع أنه ليس تحت يده كما في التوكل على الله وايكال الأمر إليه، وإنما يعني جعل همّ وتدبير ذلك الشيء بيد الآخر.
وما قيل من دلالة قوله تعالى: (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) (1) ، على مشروعية الانتخاب ومدح وتحسين غريزة الانتخاب وهو دليل على امضاء السيرة العقلائية مردود. بان الاية في صدد بيان ممدوحية متابعة القول الحسن فالمحورية ليس لانتخاب الفرد وأعمال سلطة وولاية وارادته وانما انتخاب قوته الفكرية وانتقاءه أصوب وأحسن الآراء كما تقدم في الاستشارة والشورى، وهذا هو مضمون الآية، ثم ليس أن ما انتخبه هو الحسن بل المحورية للحسن في نفسه وانه يجب على الفرد اتباع ما هو حسن لا أن ما ينتخبه يصبح حسناً.
اما التقريب الثالث: وهذا التقريب تارة يستدل به على الشورى في قبال النص وتارة في طول النص، وعلى كل حال فانطلاقة هذاالتقريب هو من أن الناس مسلطون على انفسهم، لكن الرواية لم تذكر ما هو مورد السلطنة هل هو التصرفات الفردية الخاصة، أم التسلط على النفس في الامورالعامة التي تمس منافع الاخرين من الاموال العامة كالمباحات وإقامة اركان الدين في المجتمع وبث الهداية بتوسط جهاز الدولة والرقابة والاشراف على مسير الامة في كل المجالات لتأخذ طريق الكمال، والرواية غير ناظرة للأمرالثاني بل تتعرض فقط
____________
1- الزمر 39: 17.