وقد يصور البعض هذا التقريب بحكم العقل العملي بحسن تصرف الانسان بما يتولاه، أو أن الواقعية التكوينية تدل على أنه مسلط على نفسه وعلى عمله تكويناً فضلا عن الاغيار.
ويجاب عن هذا التصوير أن حكم العقل العملي بتحسين او تقبيح التصرف يعود ويدور مدار الكمال الواقعي وهو مدى أحقية هذا الفرد بالتصرف وهذه الأحقية تعلم من كتاب الله. في مثل هذا المورد الخفي جهاته مع تكثرها.
أما لو اريد الاستدلال بالتقريب على الشورى في طول النص فجوابه انه مع وجود النص فهو تقييد وتخصيص للرواية وللقاعدة العقلية فيجب أن يعلم ان هذا التخصيص هو استثناء طارئ او استثناء دائم، مضافاً الى انه في عصر الغيبة لا نعدم وجود الامام فالولاية له وليست منقطعة او متوقفة كما هو ضروري مذهب الامامية ومقتضى الأدلة كتاباً وسنة. مع ان لازم هذه الدعوى من كون منتخب الأمة له الولاية بالأصالة من قبل الامة لا من قبل المعصوم لعدم بسط يده في الخارج، هو أنه في فترة الخمس والعشرين عاما التي لم يتسلم كان الامير (عليه السلام) مقاليد السلطة فيها وكذا بقية الأئمة (عليهم السلام) تكون الولاية للأمة ولمنتخبها لا للإمام المعصوم (عليه السلام) ، وهو كما ترى يناقض أوليات المذهب والأدلة القطعية.
إشكالان ودفعهما:
من الأدلة على الشورى وهي في كنهها اشكالات على نيابة الفقيه عن الإمام، وأن النيابة انما تكون للمجموع، أي أن النيابة عن المعصوم لابد أن تكون هى المجموع لا الفرد (الفقيه) فالشورى ان لم تكن صياغة بديلة عن النص فى الغيبة وفي طول النص، فلا محالة هى المتعينة لنيابة المعصوم، وانها تستمد الولاية منه نيابة لا بالأصالة من الأمة.
وبعبارة اخرى ان الادلة المتقدمة التي لم تتم لإثبات الشورى الا أن هناك نمطين آخرين لاثباتها غير ما تقدم:
الاول: عدم تمامية أدلة النيابة للفقيه.
الثاني: أن أدلة النيابة توكل الأمر الى الامة.
ـ الاشكال الثاني الذي اعترض على نظرية نيابة الفقيه هو عدم امكان حصر السلطات بيد الفقيه لأنه ليس بمعصوم، وقد يقرب الاشكال بنحو آخر وهو أن يقال ان الشيعة في تجويزهم للفقيه بتولى السلطات مع انه غير معصوم يكونون قد تراجعوا عما دافعوا عنه في زمن ظهور الائمة من وجوب تولي المعصوم سدة الحكم، وعليه فاذا جاز للفقيه تولي الحكم، فالعصمة ليست شرطاً فبطلت ضرورة خلافة الائمة، و اذا كانت العصمة شرطاً كيف يجوز للفقيه تولي السلطة.
والجواب عن كل ذلك ان هذا الاشكال يرد لو قلنا بالولاية المطلقة للفقيه نيابة عن الامام وأن ما للامام له، أما على ما يقوله مشهور علماء الإمامية من أنّ تولي الحكم ليس يعني توليه لكل الصلاحيات الثابتة للمعصوم، بل الفقيه في توليه للسلطة في زمن الغيبة حاله حال الولاة النواب في زمن ظهور الامام (عليه السلام) من كون صلاحياته النيابية هي في تطبيق الأحكام الشرعية في مجال الولاية التنفيذية كما له منصب القضاء ومنصب الافتاء واستنباط الاحكام.
وبعبارة أخرى حيث أن الأئمة (عليهم السلام) لم ينصبوا نائباً خاصاً كما في عصر الحضور والغيبة الصغرى، كان جعلها نيابة عامة يفيد تخيير الأمة في اختيار أحد المصاديق ممن ينطبق عليه شرائط النيابة العامة عن المعصومين (عليهم السلام) .
واما ما ذكر من التقريب الآخر فهذا نابع من جهل بمقام الامامة وما يرادفها، فإن الامامة لا تساوي تسلم سدة الحكم، وبالتالي فلو كانت تعني الامامة التسلم الفعلي لسدة الحكم لكان عدم تسلم الأئمة (عليهم السلام) السابقين لسدة الحكم يعني عدم فعلية امامتهم وعدم فعلية ولايتهم، مع انا ذكرنا أن الحكم ليس منحصراً في الحكومة الظاهرية فان ممارسة الحكومة الخفية والنفوذ على الاتباع في الابعاد المختلفة هي نوع من المباشرة للولاية وكذا للحال في الامام الثاني عشر (عج) فإن مباشرته للأمور ليست منحصرة في العلن فراجع. بل ان هناك شؤون ومقامات اخرى للامامة ـ وهذه الشؤون والمقامات ليس للفقيه منها حظ ـ:
منها: السلطة والولاية المعنوية والتكوينية، وهذه لها شعب لا مجال لبسطها في المقام.
ومنها: وجوب المودّة بنص القرآن (قل لا أسألكم عليه اجرا الا المودة في القربى) .
ومنها: الإقرار والاعتقاد بهم، وهو ركن في تحقق الإيمان قال (صلى الله عليه وآله) : "من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية" (1) فأوجب المعرفة للإمام وهو
____________
1- وللحديث مصادر كثيرة باسانيد مستفيضة ان لم تكن متواترة، راجع الكافي ج 2 / 18 باب دعائم الاسلام بعدة طرق، ورواه من العامة أحمد في مسنده ج 4 / 96 وذكره التفتازاني في شرح عقائد النسفي وعدة غيرهما.
ومنها: عرض اعمال العباد عليهم، قال تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) ، فان عرض اعمال كل الامة المخاطبة في هذه الاية لا يكون على الامة المخاطبة وانما على عدة خاصة من المؤمنين الذين يتلون مقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
وغيرها من المقامات والمناصب الاخرى.
ـ ومن الاشكالات: عدم وجود نص على نصب الفقيه نائباً عن المعصوم وعندئذ نعود الى مقتضى القاعدة عند عدم النص وهو كونه بيد المجموع والأصل عدم تسلط أحد على أحد.
وبتقريب آخر انه مع الايمان بوجود الامام (عليه السلام) في سماء الغيب إلا انه مع عدم تمامية النص على فقيه معين يعني عدم وجود النائب الخاص.
والجواب: ان النص ثابت وجلي في نصب الفقيه كما تقدمت الإشارة اليه من الآية والروايات والدليل العقلي وقد حرر فى محله، وقد نشير اليه بنحو أوفى مؤخرا.
مضافاً الى انه عند عدم النص على النائب كيف يصل الامر الى ولاية الشورى والحال أن المعصوم الحيّ هو الوليّ بالفعل بل تصل النوبة طبقاً لقاعدة الحسبة، وهي إما يستكشف منها نيابة الفقيه العادل كما قدمناه، واما يستكشف مجرد مأذونيه التصدي وتجعل القدر المتيقن هو الفقيه، وهذا واضح من الفقهاء الذين لم تتم لديهم أدلة النيابة العامة للفقيه طبقاًلقاعدة الحسبة أسدوا جواز التصدي والتصرف من باب مجرد المأذونية لا المنصب والتولية في الجهاد ونحوه للفقيه. وبين التخرجين فروق مذكورة في تلك الأبواب.
فلنستعرض الان النظرية المختارة والهدف منها هو القراءة العقائدية للطرح الموجود في الفقه السياسي أي ان الاطروحة هل تتلاءم مع الأسس التي اُسست في علم الكلام ام لا.
والوجه الاخر الذي نريد الاشارة اليه هو أن ادلة النص على نيابة الفقهاء تامة وهي توكل تعيين المصداق الواجد للشرائط بيد الأمة وأنها تظل على مراقبته له. وهذه الطريقة لها نظائر في الفقه الامامي.
المبحث الخامس: أدلة نصب الفقهاء:
ـ اما ما ورد من النصب للفقهاء بنحو عام فيمكن الاستدلال به بما يأتي:
1 ـ في سورة المائدة: (انا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء) (1) .
____________
1- المائدة 5: 44.
وكان اليهود اذا كان الزاني من الاشراف لم يقيموا عليه الحد، واذا كان من غيرهم اقاموا عليه الحد. فنزلت هذه الايات الشريفة لبيان ماذا يجب على علماء بني اسرائيل وربانيهم من الحكم.
ـ ان الاية تدل على ان العلماء مخولون طولياً في طول الربانيين، وهم أوصياء الأنبياء بقرينة ذكرهم بعدهم وقبل الأحبار ـ وغيرها من القرائن التي تقدمت الإشارة اليها ـ لتولي سدة القضاء والفتيا والتي اجملت في سدة الحكم وهذه النيابة ثابتة بإذن المعصوم.
ـ ان هذا التفويض ليس مختصاً بعلماء بني اسرائيل بقرينة كونه خطاباً للرسول (صلى الله عليه وآله) من بداية اية 41 وانما ذكر التوراة لانها هي التشريع الالهي الذي يقضي به الأنبياء والربانيون والعلماء في ذلك الموقف فكذلك القرآن فيه التشريع الالهي الذي يحكم به هؤلاء وإنّ هؤلاء هم الذين يصلحون للحكم.
ـ ان الحكم المذكور أعم من القضاء بل يشمل الفتيا، والحكم انما يقام لأجل أن يُعمل به ويُنفذ.
2 ـ رواية عمر بن حنظلة:
جرى الكلام في مدى وثاقة عمر بن حنظلة حيث لم ينص على توثيقه في كتب الرجال المعروفة، ولذا يعتبر البعض رواياته من المقبولات. ولكننا نذهب الى وثاقته، بل نعدّ هذه الرواية من الصحيح الاعلائي تبعاً لما ذهب اليه عدة من الفقهاء منهم الشهيد الثاني والدليل على ذلك:
وهذه الرواية واردة في مسألة حساسة كانت محل خلاف بين كبار فقهاء الشيعة في الكوفة، فعندما يكون لابن حنظلة رأياً يرويه عن الصادق (عليه السلام) فهذا يدل على مكانة علمية له ومرجعيته لثلة من الشيعة، كما لا يخفى على من أحاط خبراً بمسألة الوقت التي ثارت بين جماعة زرارة وجماعة أبي بصير وجماعة محمد بن مسلم. وروايات يزيد بن خليفة متينة.
ب ـ نفس الرواية التي هي مورد الاستشهاد نلاحظ فيها التشقيقات الواردة، وجواب الامام عن كل منها يدل على فقاهة وعلمية للسائل، وان الامام جاراه في تشقيقاته ولم يمانع.
جـ ـ يروى عن محمد بن مسلم بسند صحيح (1) أن مشكلة حصلت لدى آل المختار فحمّلوها ابن حنظلة ليسأل الامام عنها واذا علم ان ديدن الشيعة هو تحميل المسائل للكبار المعروفين بالفضل لاسيما من البيوتات المعروفة. وان نفس محمد بن مسلم مع منزلته ومكانته هو الذي يروي الرواية ولم يذكر مغمزاً في ابن حنظلة مما يدلل على أرفعية منزلة ابن حنظلة على ابن مسلم إذ العادة في الأقران عدم التصريح بوقوع مراجعة لقرينه في مسألة علمية مهمة من وجهاء الشيعة.
د ـ رواية اصحاب الاجماع عنه.
هـ ـ ان 21 راويا مسلّم بوثاقتهم يروون عنه.
د ـ ان أخيه علي بن حنظلة نصّ على توثيقه وهو دون اخيه وجاهة وعلمية (2) .
____________
1- الوسائل: كتاب الايمان الباب 11 / ح 10.
2- وللمزيد من التعرف على حاله راجع كتاب هيويات فقهية ـ بحث حكم الحاكم في الملاك.
اما فقه الرواية
فالبعض كالسيد الخوئي (قدس سره) أصرّ على ان مورد الرواية هو في قاضي التحكيم والمشهور هو دلالتها على قاضي التنصيب، والدليل على ذلك أن القاضي الذي ينصبه الامام حيث يحتاج في انفاذ حكمه وبسط يده الى مؤازرة الناس، وعبّر (عليه السلام) بـ "فليرضوا به حكماً" الا انه قد جعله حاكماً في الرتبة السابقة معللاً الأمر في "فليرضوا.." والان تصل النوبة للناس حتى يرضوا به حكماً.
ويؤيد ذلك انه في معتبرة أبي خديجة حيث وردت بنفس اللسان يعترف السيد الخوئي انها في قاضي التنصيب ولا يعلم وجه التفرقة بينهما.
وبعبارة أخرى انه في المعتبرة ذكر بعد "فليرضوا.. فإني قد جعلته..."وليست الفاء للتفريع بل هي تعليل لوجه الأمر بالرضا ولو كان قاضي تحكيم لما كان للتعليل وجه.
ويؤيده انه ورد في المعتبرة: "فالراد عليه كالراد علينا"، ولو كان قاضي التحكيم لما كان هناك وجه لاعتبار الراد عليه كالراد علينا، بل الوجه هو لأنه قاض منصوب من قبل الامام فالراد عليه هو راد على مقام الطاعة والولاية.
ومادة الحكم كما ذكرنا ليست خاصة بالفقهاء بل الترافع سابقاً كان يجري لدى السلطات والقاضي على حد سواء، مضافاً الى أن القاضي كان يمارس جميع الامور الحسبية والفتيا بالجهاد وهو أمر تنفيذي كما في الفتيا الملعونة لابن شريح بقتل سيد الشهداء (عليه السلام) ، وكذا إقامة الحدود والقصاص، وهو جانب تنفيذي يتعلق بأمن الدولة والمجتمع وغيرها من المجالات التي يجدها المتصفح لعصر صدور الرواية، والتفكيك بين القضاء والفتيا وبين الممارسة السلطوية غير تام.
3 ـ التوقيع الشريف الصادر عن الناحية المقدسة.
حيث يورده عن الكليني، وكان يتشدد في التوقيعات اكثر من تشدده في الرواية العادية، والسر فى ذلك أنه صادر عن الامام الحي الفعلي فهو يعين التكليف الفعلي للسائل، مضافاً الى ظروف التقية، ووجود النائب الخاص الذي يستطيع تكذيبه، وأن اجابة الناحية المقدسة للسائل يعتبر نحو تشريف له، فلو لم يكن التوقيع موثقاً لما رواه الكليني.
نعم قد اشكل انه لم يورد الكليني هذا التوقيع في الكافي، وجوابه ان الكافي خالي من التوقيعات تماماً مع أنه معاصر للنواب الخاصين ويُعزى سبب ذلك ان الكليني اراد ان ينشر كتابه ومع ظروف التقية واختفاء الامام نقل التوقيع يعلم منه وجود الامام ونحوه.
ثم ان الكليني يروى عنه الطوسي كثيراً من الروايات وهي غير موجودة في الكافي، فهذا يعني انه لم يودع كل ما يرويه في الكافي مضافاً الى ضياع بعض مؤلفات الكليني وعدم وصولها الينا.
اما فقه الرواية:
فان التوقيع يحمل اجوبة عن اسئلة متعددة لا ارتباط بينها، ومحل الاستشهاد الفقرة "واما الحوادث الواقعة".
آ ـ المحقق الاصفهاني في حاشية المكاسب يصرف ظهور هذه الفقرة عن محل الاستشهاد، ويذكر ان لها ارتباطاً بما ذكر سابقاً في التوقيع ويتعرض فيه لوقت الظهور، وأن الوقاتين كاذبون أو المقصود بالحوادث أي الأمور المرتبطة بعلامات الظهور لا ارتباط لها بجعل الفقهاء في سدة الحكم والقضاء والفتيا.
ويجاب عنه: بأنّ الفاصل بين الفقرتين فقرات ترتبط بمواضيع اخرى فلا يعقل أن تعود الحوادث لعلامات الظهور.
لكن الجمع بينهما غير ممكن لأن الشبهة الحكمية من حيث حكمها الجزئي تتبع موازين القضاء، ومن حيث حكمها الكلي تتبع موازين الفتيا.
وقد استدل البعض للتعميم بقوله: "هم حجتي عليكم" وهذا لا يناسب مقام الفتيا اذ لا موقعية لكلام المعصوم، فالفتيا اخبار عن المعصوم وهو مخبر محض عن الرسول عن الله.
فيكون المقصود الولاية في القضاء أو الولاية في تدبير الشؤون وهذا ايضاً غير تام لان في فتيا الفقيه، ونقله عن المعصوم ـ في مقام الفتيا ـ موضوعية وليس طريقاً محضاً إذ فتيا الفقيه هي دراية للحديث لا رواية للحديث. وأما كون فهم الفقيه فتيا مستندة الى ما فهمه من قول المعصوم فله موضوعية أيضاً لحجية قول المعصوم لا من باب أنه راو بحت للحكم كبقية الرواة، بل انهم (عليهم السلام) يبلّغون عن الله بقنوات ربانية مسددة لا يداخلها الوهم والخيال ولا وساوس الشيطان ولا الهوى ولا الجهل، فمستسقى علمهم لدني معصوم من الزلل والخطأ ينقلونه بالحق والصواب، ويؤدونه الى الخلق بالحق والصواب، فعلمهم ليس مرهون بدرجة التتبع والفحص وقوة التدبر والاستظهار نظير أفراد الفقهاء والمجتهدين فلا يصح التنظير لحكمهم واخبارهم عن الله ورسوله وتقدمه على حكم واخبار غيرهم برواية الأعدل والاضبط عند المعارضة برواية الأقل عدالة وضبطاً فإن هذا التنظير مرتكز على نظرة بقية المذاهب لا نظرة الإمامية والنصوص القرآنية والنبوية في حقهم.
جـ ـ ان (ال) في الحوادث ليست عهدية او اشارة الى حوادث معينة بل هي
ـ انه قد ورد فى التوقيع: "انهم حجتي عليكم وانا حجة الله" فهذا تصريح بالطولية وأن حجتهم منبثقة عن حجية المعصوم وهي وان لم تكن عينها بل بينهما فوارق. لكن اطلاق المتعلق للحجية يفيد الشمول لكل من الحكم والقضاءوالفتيا. وبعبارة أخرى أن متعلق حجيته (عج) سارية في الموارد الثلاثة، ومع إطلاق النيابة المدلول عليها بالطولية في التعبير المزبور تشمل الموارد المزبورة مع التحفظ على عدم الاطلاق بنحو التطابق كما ذكرنا سابقاً لموضوعية العصمة كما لا يخفى.
وههنا اشكال معروف له صياغتان:
إحداهما: انه كيف يتصور في عهد الغيبة الصغرى ومع وجود النواب الخاصين تجعل النيابة العامة والولاية للفقهاء.
والاخرى: ان رواية ابن حنظلة ومعتبرة ابي خديجة اذا استفيد منها النصب العام فهو نصب من قبل الامام الصادق (عليه السلام) فكيف يبقى ذلك التنصيب الى زمن الحجة (عليه السلام) والمعروف انه بموت المنوب عنه تبطل النيابة.
وجواب هذا الاشكال يعلم من التأمل في حالة النيابة العامة وفلسفتها حيث ان الائمة (عليهم السلام) واتباعهم كانوا يعيشون ظرفاً خاصاً فمع انهم ارادوا المحافظة على المذهب وتعاليمه ارادوا الا يظهروا بمظهر المخالف حتى لا ينالوا عقاب السلطة الحاكمة آنذاك، فمع هذه الظروف كان هناك وكلاء خاصون للائمة لكنهم كانوا محط نظر لا يستطيع الشيعة الرجوع اليهم دائما، فجعل النصب العام والنيابة العامة حتى يكون للأئمة (عليهم السلام) أذرع مختلفة فيسهل الامر على الشيعة في الرجوع اليهم.
مضافاً الى ان الحكم الولائي التنفيذي يلزم أن يكون موقتا بل يمكن ان يكون دائماً فاذا وجدت القرائن على ذلك كصيغة الحكم هنا ووردت على نحو
هذا كله مضافاً الى ما تقدم في المناقشات السابقة من الاشارة الى الوجه العقلي للنيابة، ووجه قاعدة الحسبة في استكشاف النيابة للفقيه العادل وغيرها من الوجوه المحررة في موضعها من علم الفقه.
الخلاصة:
1 ـ ان للفقيه الولاية بحسب بسط يده، وهذه نظرية مشهورة بين علماء الامامية، فلاحظ ما ذكروه في باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما صرح بذلك المفيد في أوائل المقالات وغيره من الفقهاء، فهم يقومون بالرقابة التنفيذية على شؤون الحاكمين اذا اُتيح لهم المجال، وهذه الرقابة لا تكون في مورد النزاع والتخاصم فقط بل في المجال التنفيذي، نعم ذلك لا يعني عدم استعانته بالخبرات الكفوءة، بل لابد منه كل حسب مجاله وخبرته واستشارتهم أو ايكال بعض الامور في تلك المجالات لهم مع رقابته، وبعبارة أخرى شكل الجهاز والنظام هو بحسب آليته بحسب الظروف مع مراعاة الموازين العامة.
2 ـ في حالات عدم بسط اليد لا تكون الولاية لغيره، لأن بسط اليد من قبيل قيد الواجب وهو فرض امكان تنفيذ الوظيفة، نعم في الامور التي لا يستطيع مباشرتها يوكلها للمتخصص الكفؤ.
3 ـ التعبير الوارد "فارجعوا..فليرضوا..واجعلوا" خطاب عام لكل المكلفين بوجوب السعي الى تعيين المصداق من بين الفقهاء كما مر بيانه.
4 ـ ان الاستشارة لازمة وان كانت غير ملزمة له وافضليتها من باب ان الاستعانة بالعقل الجماعي أسد وأفضل مما يتوصل اليه العقل الفرد، وهو ما يسمى حديثاً بالاستعانة ببنك المعلومات.
5 ـ ذكر بعض اصحاب التلفيق بين نظرية النص والشورى في كيفية الحكم في عصر الغيبة من ان النصوص عمومها مجموعي وبالتالي يصل الى شورى الفقهاء. وان ارادة العموم الاستغراقي يلزم الترجيح بلا مرجح اذ ترجع كل فئة الى واحد فترجيح احدهما على الاخر يكون بلا مرجح.
آ ـ ان ظاهر لسان الدليل: "فاجعلوا رجلا.." هو الاستغراق لا المجموع، وديدن الفقهاء على استظهار الاستغراق منها، وتكون النتيجة ان يتصدى الكل للفتيا ولو في عرض واحد ويمارس الكل الجانب التنفيذي وان كان في منطقة محدودة والا لزم في القضاء أن لا ينفذ الا الحكم الصادر من المجموع وهو كما ترى.
ب ـ ان استظهار الاستغراق لا ينافي امكان اخذ شورى الفقهاء اذ قد يرى الفرد والأمة الصلاحية في فقيهين او اكثر، وقد اثير نظيره في بحث القضاء فى احكام اتخاذ قاضيين او اكثر. ويذكرون هناك كيف يكون الحل عند الاختلاف.
وللمسألة تفريعات وتشقيقات تستعرض في مواضعها.
الفصل الثالث
المقام الغيبي في الإمامة
المقام الغيبي في الإمامة
كما ذكرنا في بداية الكتاب أن الحديث حول الإمامة له جوانب متعددة وجهات مختلفة، وقد تناول علماؤنا المتقدمون والمتأخرون ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ البحث حول اثبات النص وإفحام الخصم وإقامة الأدلة المتنوعة على إثبات إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وخلافته عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أمثال الإرشاد والغدير وعبقات الأنوار والمراجعات وغيرها كثير، وكانت نتيجة هذه الجهود المتواصلة أن أصبح البحث حول صحة وتواتر حديث من أحاديث الولاية من السهولة واليسر مما لا ينكره إلا مكابر أو معاند.
والبحث الذي نريد أن نتناوله هنا هو حقيقة الإمامة وما هيتها وكنهها، وهو ليس أمرا مبتكرا في بابه، فقد تناوله الأعلام لكن بنحو مضغوط ومبعثر في ذيل تفسير بعض الآيات القرآنية، وفي شرح بعض الأحاديث الشريفة، ونسعى إلى طرح ذلك من خلال نهج واضح وأسلوب يرفع الستار عن كثير من الحقائق التي خفيت في كتب الأقدمين ويعتبرها بعض أهل العصر من العجائب والغرائب، وقبل الشروع في ذلك نقدم ذكر بعض الامور التي لها مدخلية في البحث:
أولاً: تحرير محل النزاع:
يعتبر مصطلح الإمامة من الموضوعات التي كانت مثار بحث وجدل بين المتكلمين والفقهاء من الصحابة والتابعين وغيرهم منذ بدأ عصر الرسالة، وعندما يحررون محل النزاع يقال: إن الإمامة ترادف الزعامة الدنيوية، وأن البحث حول الإمامة هو البحث حول من يجب أن يتولى إدارة أمور المسلمين ومن يكون له الأمر والنهي، وبالتعبير الحديث حصر محل النزاع في ما يصطلح عليه اليوم بالفقه السياسي.
وتوسع بعض المتكلمين من الامامية بل أكثرهم في محل النزاع، وأضافوا إليه الزعامة الدينية بمعنى أنه بالإضافة إلى دور الإمام في إدارة شئون المجتمع فهو يقوم ببيان الدين والذب عنه ونشر الأحكام الشرعية، فيُعد قوله وتقريره مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي.
ونحن لا ننكر هذين الموردين - وإن كان العامة قد انكروهما وأصبح موردا للنزاع - لكن نقول أن الأمر لا ينحصر بهما، بل أن الإمامة تحمل في طياتها معنى أوسع وأكبر مما ذكره هؤلاء جميعا، ويمكننا القول أن علماءنا رضوان الله تعالى عليهم ألجأتهم ظروف التخاصم والتقية إلى ذكر ذلك كمحل للنزاع ولا يحصرون اعتقادهم بالإمامة في هذا النطاق.
فالإمامة في حقيقتها هي محور الاتصال بين الأرض والسماء، حيث أن الاتصال الغيبي بين الخالق ومخلوقه لم ولن ينقطع منذ بدء الخليقة حتى قيام الساعة، فدائما يوجد من يمثل تلك الصلة الروحية والمعنوية ومن هنا اعتبروا الإمامة امتدادا للنبوة والرسالة، فهي من تلك الجهة تؤدي نفس وظيفة النبوة في عالم الدنيا.
فإن الأدلة قائمة على ضرورة وجود حجة لله عز وجل في كل زمان، وأن الاتصال لا ينقطع بوفاة النبي (صلى الله عليه وآله) ، وهذا هو المقام الإلهي الذي يثبته الامامية
ومن الشواهد التي تؤيد ما ذكرناه: أن الأئمة في دعواهم للإمامة لم يكونوا ليقصروا حديثهم على زعامة المسلمين، بل كانوا يركزون على مقامات أكبر من ذلك ويذكرون في كلماتهم اتصالهم بالغيب، وتحديث الملك لهم، وأن علومهم من نور، وإطلاعهم على أعمال العباد، وأن ما لديهم هو علم لدني.
والجدير بالذكر أن مثل هذه الدعاوى لم تصدر عن غيرهم ممن عاصرهم أو من أتى بعدهم، بل غاية ما ادعوه هو تصديهم للزعامة الدنيوية، ومن هنا نرى بعض المنحرفين يرمون الأئمة بدعوى الألوهية والنبوة، وذلك لأن الأئمة كانوا يركزون على مسألة الاتصال بالغيب وهي أعم من النبوة والإمامة.
بل في موقف عمر بن الخطاب مع سلمان المحمدي ما يدلل على أعمق من ذلك فقد روى الشيخ الطبرسي (1) أن سلمان قال - لعمر-: أشهد أني قد قرأت في بعض كتب الله المنزلة أنك باسمك ونسبك وصفتك باب من أبواب جهنم. فقال لي: قل ما شئت أليس قد أزالها الله عن أهل هذا البيت الذين قد اتخذتموه أربابا من دون الله (2) .
وفي ذيل قوله تعالى: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا) (3) يذكر البحراني في البرهان وكذلك الطباطبائي في الميزان أن نافع كان على خط الخليفة الثاني جالسا في المسجد الحرام في موسم الحج، إذ رأى أن الناس قد تجمعوا حول شخص (وهو الإمام الباقر (عليه السلام) ) فسأل هشام بن عبد الملك: من هذا الجالس الذي اجتمعت عليه الناس؟ فقال: هذا نبي أهل الكوفة.
____________
1- الاحتجاج: 210.
2- كتاب سليم بن قيس: 90.
3- الزخرف: 45.
فحكم الفطرة يوجب ان تكون هناك واسطة، ولكن يجب في هذه الوسائط أمران:
أحدهما: أن تكون مجعولة من قبل الخالق الواحد الأحد، لا أن يختلقها بنو الإنسان كما كانوا يفعلون في الأصنام.
والثاني: أن لا تصل هذه الوسائط إلى رتبة الألوهية فهي مخلوقة لله وهي ذليلة لله تعالى (إن كل مَن في السماوات والارض إلا آتي الرحمن عبدا) (1) وخاضعة له سبحانه في السر والعلانية، وسوف يأتي مزيد بيان لهذا المطلب.
ثانياً
ينسب إلى الشيعة القول بأن الإمامة وراثية، وبالتالي فهم يقولون أن الزعامة تنتقل بالوراثة كما تنتقل الرئاسة بين الملوك وأبنائهم. وهذا لا أساس له من الصحة إذ بناء على ما ذكرنا من أن الإمامة مقام إلهي واتصال بالغيب، فبالتالي فهي بعيدة عن التوريث النسبي، بل هي مقام تكويني ووراثة روحية بمعنى وجود استعداد في روح أخرى للكمالات التي أفيضت على روح سابقة، وعندما يقال:
____________
1- مريم 19: 93.