الصفحة 251

أن الإمامة وراثة فإن ما ذكرنا هو المقصود منه، قال تعالى (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض) (1) .

ثالثاً

مما ذكرنا في الأمر الأول يتضح أن مثل هذا المقام لا يكون بيد الانسان بل لله عز وجل يجعله حيث يشاء، أما إذا اقتصرنا في محل النزاع على الزعامة الدنيوية فواضح أن ما يطرحه العامة من جعله بيد الناس وباختيارهم يكون أوهم إلى العقول وأميل إلى النفوس، وكأنه اشبه بلغة العصر، لنفرة الإنسان من تسلط فئة معينة على إرادته وتقييدها في إدارة شئون مجتمعه، فطرح محل النزاع بتلك الصورة يخدم العامة، أما على ما ذكرناه من حقيقة الإمامة يتضح السبب في ايكال ذلك الأمر إلى الله عز وجل، وما إن يجعل الحق تعالى إماما فلا معنى للجوء إلى طرق أخرى لتعيين من له الزعامة الدنيوية بل يكون هو المتعين، وبتعبير آخر أن من تثبت فيه الكمالات الروحانية العالية ومن يتصل بالغيب لا يمكن أن يلجأ الناس إلى غيره لإدارة شئونهم، وبهذا ترى أن مركز الزعامة الدنيوية متفرع على ذلك المقام وتابع، كما رأينا في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) فإنه بعد ثبوت نبوته وإيمان الناس به لم ينازع أحد في حاكميته، والخلاصة أنه يمكننا القول أن مقام الزعامة الدنيوية هو أدنى مراتب الإمامة ومقاماتها.

رابعاً

إن وظيفة النص في تعيين الإمام لا تنحصر في الجعل والاعتبار والإنشاء كما يقوم أي حاكم في تعيين حاكم آخر، بل إن النص سوف يكون كاشفا عن الإرادة

____________

1- آل عمران: 34.


الصفحة 252
التكوينية والجعل الإلهي.

ومن هنا يتضح أن نصب الرسول أو الإمام السابق للإمام اللاحق لا يقوم به من تلقاء نفسه بل هو بايحاء من الله عز وجل فهو جعل اعتباري كاشف عن الجعل التكويني.

خامساً

من الامور المهمة التي تترتب على تغيير محل النزاع هو أن مسألة الإمامة تدخل في ضمن المسائل الاعتقادية الأصلية في الدين، لأنها تكون بمنزلة النبوة وإن اختلفت عنها، وتكون هذه المسألة ما بها النجاة يوم القيامة، بخلاف المسائل الاعتقادية غير الأصلية وهي التي لا تكون النجاة يوم القيامة مرهونة بها.

بيان ذلك: أنا ذكرنا أن الركن الاساسي في مقام الإمامة هو مقام السفارة الإلهية ومَن يكون سفيرا من قبل الغيب ومَن هو حجة الله على خلقه، فالأمر الرئيسي هنا هو في الاعتقاد والتسليم بهذه السفارة والسفير وهذا أمر اعتقادي وليس مسألة عملية فرعية، نعم هذا المقام تلحقه شؤون عملية وفرعية، لكن الأمر الاساس هو الأمر الاعتقادي، كما هو الحال في بحث النبوة.

وللأسف الشديد نجد البعض يعبّر بأن مسألة الإمامة خارجة عن الأصول وداخلة في الفروع، وهذا بلا شك غفلة عن حقيقة الحال، وله لوازم فاسدة من نحو عدم وجود فائدة عملية لهذا البحث في زماننا الحاضر وذلك لأن الامام غائب فينتفي موضوع الزعامة ولو انتفاء مؤقتا، كما انه لا فائدة من البحث عمن كان يجب أن يخلف النبي (صلى الله عليه وآله) فهذا حدث تاريخي قد مضى، اما على ما ذكرنا فإن البحث تبقى له أهميته القصوى، إذ قضية الاعتقاد لا ترتبط بحضوره وعدم حضوره ولا بحياته وعدم حياته.


الصفحة 253
ومثل هذا في الوهن أن يقال: أن أهمية بحث الإمامة تنحصر في أن الإمام هل هو مصدر من مصادر التشريع الإسلامي أم لا؟ فهذا وإن كان صحيحا إلا أن فائدة البحث لا تنحصر به بل البحث في أمر اعتقادي جانحي كما يُبحث حول النبوة مع عدم وجود نبي على قيد الحياة إلا أن البحث له أهمية وخطورة من حيث وجوب الاعتقاد على كل مسلم.

فليس البحث حول من يكون رئيسا وزعيما فقط، وليس البحث عن ميزان استنباط الأحكام الفرعية، وهل السنة تشمل النبي والأئمة أم يقتصر فيها على النبي، فهذه كلها أمور فرعية تبتني على ذلك الأصل الاعتقادي، وهو أن الإمامة استمرار لمسيرة النبوة فالاعتقاد بها على نحو الاعتقاد بالنبوة.

سادساً

أن البحث قد يتعمق إلى البحث حول مقامات الأئمة سلام الله عليهم، وليعلم أن مقام الإمامة من أهم هذه المقامات كما أن مقام الزعامة أدناها وأقلها، فتوجد مقامات أخرى تتجاوز الإمامة ككونهم كلمات الله (1) وأسماء الله الحسنى، وغيرها من المقامات العالية التي تعد من أسرار معارف أهل البيت، وفي كل هذه المقامات لا يخرجون عن زي العبودية بل أن خضوعهم وتذللهم التام وفنائهم في المعبود هو الذي جعلهم ينالون هذه المقامات.

وبعض هذه المقامات يشاركهم فيها غيرهم من الأنبياء والمرسلين، وفي بعضها يتفردون ويشاركون بها الخاتم (صلى الله عليه وآله) ، وكذلك الزهراء (عليها السلام) تشاركهم في بعض هذه المقامات كمقام حجة الله، كما ورد في الخبر المتواتر معنى "وفاطمة حجة الله علينا" أو كون مصحفها مصدر من مصادر علومهم.

____________

1- قال تعالى: (إن الله يبشركِ بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم) آل عمران 39.


الصفحة 254

سابعاً

إذا تم مقام الإمامة فسوف يتوجه إلى المكلفين عدد من الوظائف الشرعية، بدءا من الاعتقاد والمعرفة والتسليم إلى التولي والتبري القلبي والعملي، ووظائف أخرى سوف نأتي على ذكرها في الخاتمة.

ولا يخفى أن هذه المقامات الاخرى لا يتوقف عليها الإيمان، فكثير من علمائنا في علم الرجال يشيرون إلى أن الاعتقاد بأدنى مراتبه وهو إجمال الزعامة الدينية والدنيوية ـ كما هو حال كثير من الناس والرواة ـ كاف في اعتبارهم من الامامية.

ثامناً

وقد يطرح هاهنا إشكال حاصله:

إن اثبات المقامات الغيبية للنبي والأئمة وتعميق هذا الجانب في شخصيتهم البشرية يتنافى مع جعلهم قدوة للبشرية ولا يتلاءم مع أمر الله عز وجل باتباعهم واتخاذهم أسوة.

بيان ذلك: أن طبيعة الاقتداء والإتباع أن يأمل المقتدي من الوصول إلى مرتبة المقتدى، وأن يجعل همه الأول هو الوصول إليه والسير على هداه، وهذا يعني أن يكون المقتدى بمرتبة ومقام يمكن الوصول إليه، أما إذا كان مقامه مما لا

الصفحة 255
يمكن الوصول إليه بل هو ممتنع المنال فكيف يجعل قدوة ونؤمر باتخاذه أسوة! فعليه يجب حصر الجانب الغيبي في ما يظهرونه من معجزة لاثبات الرسالة والإمامة فقط.

وقد يطرح الاشكال بنحو آخر أن تعميق هذا الجانب الغيبي في أحكام الدين سوف يبعد الدين عن الجوانب الاجتماعية والمادية التي جعلها ضمن اهتماماته، وبتعبير آخر أنه لو قلنا أن ملاكات الأحكام أمور غيبية بعيدة عن تأثيرات وضعية دنيوية سوف يفقد المكلف الدافع المحرك للسعي وتحصيل تلك الملاكات.

وفي الواقع ليس هذا الاشكال بصياغتيه شيئا جديدا مبتكرا بل هو اشكال يعود في جذوره إلى ما قبل الاسلام، حيث كان الناس يعتقدون أن الوصول والاتصال بالله سبحانه وتعالى ذي القدرة المطلقة اللامحدودة متعسر وممتنع فيجب توسيط وسائط تعد أربابا وآلهة صغيرة تكون وسيلة وواسطة.

أما الجواب:

أولا: أن طبيعة الاقتداء تقتضي أن يكون هناك فارق بين المقتدي والمقتدى، فإذا كان المقتدى مساويا للمقتدي، فإن الإقتداء يكون ممتنعا، إذ لا توجد مزية للمقتدى حتى يقتدى به، فالسعي والحركة والانبعاث الذي يحصل للمقتدي إنما هو من أجل تحصيل أمور وكمالات هو فاقد لها لكنها متوفرة وحاصلة في المقتدى، إذن يجب أن يكون المقتدى غير مساو للمقتدي.

ثانيا: كما أن الحاصل لا يسعى الإنسان إلى تحصيله، كما أن الممتنع أيضا لا يسعى الانسان إلى تحصيله، فيجب أن يكون المقتدى له مرتبة بين هذين الأمرين، وفي نفس الوقت يجب أن يكون هذا الاقتداء ملازماً للانسان في كل مسيرته بمعنى أن المقتدى يجب أن يكون متفوقا دائما على المقتدي، وإلا لو فقد هذا

الصفحة 256
التفوق لتوقف الاقتداء في فترة من فترات حياة الإنسان، وذلك فيما إذا نال كل كمالات المقتدى، وحينئذ لا يكون هناك سعي ولا يكون هناك هدف يحرك هذا الانسان، فيجب أن يكون هناك باعث ومحرك دائمي للانسان وللانسانية قاطبة، وفي نفس الوقت لا تكون كل درجات كمالات المقتدى ممتنعة، كي يمكن السعي والتحصيل.

وهذا هو معنى الحالة الوسطية بين الأمرين أي لا كمالاته كلها ممتنعة ولا كل كمالاته بكل درجاتها حاصلة، فيسعى الانسان لتحصيل تلك الكمالات فقد يصل بجهده إلى تحصيل بعضها وقد لا يستطيع "ألا أنكم لا تستطيعون على ذلك فأعينوني بورع واجتهاد وعقل وسداد".

فتحصيل كل كمالات المقتدى أمر مستحيل غير ممكن أما تحصيل بعض درجات كمالاته فهو أمر مرجو ممكن الحصول عليه، فلماذا لا يصح الاقتداء ولماذا لا يمكن السعي نحوها!!

وقد يقال: إذا كان الأمر كذلك فما الحاجة إلى الإمام من أجل الإقتداء به إذا لم يكن من الممكن الحصول على كل كمالاته، فليقتدى مباشرة بالكمال المطلق اللامحدود وهو الذات المقدسة؟

وجوابه: أن الإمام هو الآية العظمى وفي الحديث "ما لله آية أكبر مني"وآيته في الصفات الخلقية، فالسعي إلى الله غير متناه لا في الدنيا ولا في الآخرة ومن رحمة الله بعباده أن جعل لهم إماما يقتدون به يماثلهم في البشرية ومتخلقا بأخلاق الله عزّ وجل، وهذا هو لطف الله بعباده لأن المقتدى أيضا هو في حالة سير وحركة من أجل تحصيل الكمال اللامتناهي، وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة.

ونعود إلى محل الكلام فإن هذه الحالة الوسطية دائما هي التي تدفع الإنسان نحو الحركة والعمل وكما في الخوف والرجاء، فلا هو حصر في حالة الخوف فقط

الصفحة 257
لأنه يأس من رحمة الله، واليأس عدم اعتقاد برحمته تعالى فهو كفر، والرجاء المطلق كفر أيضا لأنه عدم اعتقاد بعقاب الله.

فالإمام ليست صفاته كلها قابلة للمنال ولو كانت كذلك لما كان الانسان متحركا نحوها بحركة مستمرة دائمة لا تقف عند حد، ولا هي حاصلة للانسان حتى لا يكون هناك دافع نحو السير والسعي الحثيث. وسوف نشير في بحث الفقه العقلي للإمامة إلى أن الوسيلة الصحيحة للتوحيد هي الإمامة.

ثالثا: ذكرنا أن كمالات الإنسان تشمل جنبتيه البدنية المادية و الروحية المعنوية، وكمالات الجنبة الأخيرة على قسمين: منها ما له ارتباط بالبدن كالشجاعة فهي كمال روحي إلا أن له ارتباطاً بالبدن. والقسم الآخر: كمالات روحية لا ارتباط لها بالبدن بل ترتبط بعوالم الغيب و الآخرة والعوالم المجردة، وكمالات هذا الجانب أشرف من الجوانب الأخرى، والاقتداء المؤدي للكمال لا بد أن يشمل جميع جوانب النفس الانسانية، ومن هنا نحتاج في المقتدى أن تكون له جوانب غيبية وكمالات مرتبطة بعالم الغيب.

رابعا: إن دراسة طبيعة حركة الانسان ترشدنا إلى أن جوارحه تنطلق في حركتها من الجوانح، والأخيرة تتحرك طبقا للاذعان والايمان والاعتقاد الذي يلتزم به الانسان فهذه الهيكلية في صدور تصرفات الانسان هي الاساس، وهذا يعني أن أساس تحرك الانسان هو معارفه الاعتقادية، والاعتقاد يشمل جميع الجوانب الغيبية وغيرها، فلا يمكن أن نتمسك بقسم معين من المعارف ونثبته ونغض الطرف عن القسم الآخر لأن العقائد شأن مجموعي تبتني عليه عمل الجوانح التي هي المحرك للجوارح فإذا اختل الأساس اختل ما عليه من البناء.

خامسا: نحن نسائل المستشكل الذي لا ينفي الغيبيات في المقتدى، بل يحصرها في اثبات المعجزة للرسالة والنبوة والإمامة، نقول: لماذا في هذا الجانب نثبت الأمر الغيبي؟


الصفحة 258
والجواب: أن هذا هو الكاشف عن اتصال هذا الشخص بالغيب وأنه مبعوث وسفير من قبل الله سبحانه وتعالى، فالمعجزة هي المثبتة للاتصال والسفارة الإلهية وأن هذا الاتصال غير موجود في بقية أفراد البشر، ونحن نقول أن هذا الاتصال الغيبي هو المقام الغيبي نفسه، بمعنى أن هذا الاتصال يكشف أن لهذا الشخص درجة وجودية معينة، وهذه الخصوصية مَنّ الله تعالى بها عليه وهي التي مكنته من الإتيان بالمعجزة حتى يثبت لبني البشر أنه سفير من قبل الله تعالى.

ومما لا شك فيه أن تصحيح محل النزاع بما ذكرنا سوف يهئ لنا الأرضية والذهنية المطلوبة للتعامل مع الأدلة العقلية والنصوص الشرعية، حيث أن طائفة كبيرة سوف تدخل في ضمن نطاق التحليل والاستنطاق بخلاف ما إذا كان المطلوب هو اثبات الزعامة الدنيوية فإنه سوف يتم اسقاط عدد كبير من الأدلة بحجة أنها تبحث عن ما هو خارج عن محل النزاع.

ولا يخفى أن الخوض في مثل هذه المباحث يحتاج إلى أهلية عقلية وإلمام تام بالمباحث الفقهية والتفسيرية والكلامية والفلسفية والعرفانية، مضافا إلى ما يمكن استفادته من علوم النفس والاجتماع الحديث.


الصفحة 259

المبحث الأول



تعريف الإمامة


الجهة الاولى: التحليل اللغوي:

إنا لا نهدف من بحثنا استعراض المعنى اللغوي الذي يسطره اللغويون في كتبهم، بل مرادنا هو الوصول إلى ماهية وحقيقة الإمامة وبتعبير اصطلاحي رفع الستار عن ما الشارحة وما الحقيقية. وإذا ما استعرضنا كلمات اللغويين فما ذلك إلا توطئة للوصول إلى التعريف الماهوي واستخلاص المعاني العقلية التي تنطوي عليها اللفظة.

ومن خلال ما يذكره اللغويون يمكن ذكر بعض الملاحظات التالية:

1 ـ أن اصطلاحات الامام والأمة والمأموم كلها تعود إلى جذر لغوي واحد هو أمّ يؤم.

2 ـ أن المراد من يؤمه أمّ إذا قصده، والأمّ هو القصد المستقيم والتوجه نحو المقصود (1) ففي هذا الأصل الاشتقاقي جنبة السير والسلوك.

3 ـ أن المراد من الأمة هي الجماعة الذين يكون لهم مقصد واحد.

4 ـ أن الإمام هو كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا

____________

1- المفردات مادة أم.


الصفحة 260
ضالين، وعلى هذا يكون معنى إمام بمعنى المقتدى اسم مفعول، ويكون المأموم اسم فاعل أي الذي يقتدي بغيره، وأما إذا كانت بمعنى الهداية فسوف يكون الامام بمعنى الهادي وهو اسم فاعل والمأموم المهتدى فهو اسم مفعول.

فيلاحظ أن المعنى اللغوي يستطبن معنى الاقتداء والهداية.

من خلال تلك النقاط نرى أنه في جميع اشتقاقات (أمّ) يتضمن قصد وسلوك غاية وهدف معين مع إضافات أخرى في كل اشتقاق، فإذا كانت الأمة فإنها تطلق على الجماعة البشرية التي لها مقصد واحد فهي بالضرورة تتبع إماماً لها يقتدي به الناس ويأخذ بيدهم نحو ذلك المقصد وتلك الغاية، ومن هنا ورد التعبير في القران (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) (1) ، ولذا لم يطلق الأمة على كل المجتمع البشري بل أطلقه بحسب الحقب الزمانية.

ويمكننا القول أن الامامة في اللغة تساوق الهداية، والهداية كما يذكر اللغويون لها معنيان أحدهما: مجرد إراءة الطريق المستقيم، والآخر: هو الإيصال إلى المطلوب، والثاني يستلزم الأول، وذلك لأنه لو قلنا أنها بمعنى الأخذ بيد المأموم وإيصاله إلى المطلوب والغاية المرادة فهي لا تقتصر على مجرد الاراءة بل تتعداها إلى الإيصال.

ونقول أن المراد من الهداية هنا هو الثاني، وذلك لأن الأمة وهي الجماعة التي لها مقصد واحد فإنها تسير نحو هذا المقصد وتتبع الامام من أجل الوصول إلى تلك الغاية، ووجود الامام ومقتضى السير أن يكون المراد من الهداية هو الايصال وأن الامام لا يقتصر على مجرد إراءة الطريق الصحيح بل يتبع ذلك بالاخذ بيد الامة من أجل ايصالهم إلى الغاية القصوى، نعم تلك الهداية والايصال ليس ايصالا جبريا بل ايصال اختياري.

____________

1- الاسراء: 71.


الصفحة 261

الجهة الثانية: التحليل العقلي

إنا إذا قمنا بتحليل أعمق لماهية الامامة وكيفية أخذ الامام بيد الأمة لتحقيق الغاية القصوى، فإنه يجب أن تكون هناك طاعة ومتابعة وانقياد من قبل المأموم للامام، مع المحافظة في نفس الوقت على الاختيار والارادة التي للمأموم، وهذا يعني وجود نوع من السلطة والولاية من قبل الامام على المأموم مع المحافظة على اختياره وهو أنه إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.

فالامامة متقومة بطرفين الامام والمأموم وفي كل طرف منهما يكون لها معنى; ففي الاول له التسلط والولاية، وفي الثاني له الاختيار بمعنى أن الامام لا يلجأ المأموم على التصرف المعين ولا يقوم بتسخيره أو قهره بل يجب أن يقوم المأموم بذلك طواعية واختيارا، ونستطيع تشبيه ذلك بالانجذاب الحاصل بين المحب ومحبوبه وسيطرة الأخير على الأول لا بنحو يقهره ويسلبه وهذا لا ينافي اختياره.

ومن هنا نستطيع القول أن الإمامة ليست علة تامة للهداية بل هي مقتض لحصولها إذا ارتفع المانع وهو إرادة نفس المأموم واختياره، إذ بيده أن يتبع هداية الأمام حتى يوصله إلى الغاية وان يسلم له القيادة، وله أن لا يستجيب له فلا تؤثر عليه هداية الامام.

فالتحليل الماهوي للإمامة يقوم على حيثيات; حيثية الاقتداء، وحيثية الهداية الايصالية، وحيثية السير السلوك والحركة، وحيثية الولاية والسلطة والجذب.

وإذا أردنا أن نتلمس بنحو أفضل فما علينا إلاّ التأمل في هذه الامثلة الثلاثة والموازنة بينها: الانسان الصغير وهو ذلك المخلوق الذي كرمه الله تعالى بالعقل. والإنسان المجموعي وهو المجتمع البشري، والإنسان الكبير وهو عالم

الصفحة 262
الخلقة. فنتناول دور الهداية في هذه العوالم الثلاثة.

- أما الانسان الصغير: فهو ذو جنبتين أحدهما البدن والاُخرى الروح، ولكل منهما تكامل وارتفاع وصعود كما أن لهما تسافلاً وهبوطاً وانحداراً.

ولندقق النظر في تكامل الروح فإن الله تعالى قد كرم بني آدم بالقوى العقلية والعملية المختلفة التي تضمن للانسان أفضل السبل للصعود إلى الكمالات العالية. وعلى رأس القوى العملية والإدراكية يقف العقل ليقود هذه القوى، فإذا ما رضخت له القوى الأخرى تصاعد الانسان في الكمالات، وإذا ما انقلبت الآية ولم يأخذ العقل موقعه المناسب تجد الإنسان في هبوط وانحدار.

والقوى العقلية على نحوين: العقل النظري والعقل العملي. والأول وظيفته الادراك. والآخر وهو العقل العملي ووظيفته الادراك والعمل والتأثير على القوى المادون التي تتبعه في الحركة، فيكون أميرا لها وتكون أسيرة له، وفي اتباعه لا تكون ملجئة بل يبقى للقوى الاخرى الاختيار في اتباع العقل العملي، فإذا ما تسلطت القوى المادون على قوة العقل العملي فتكون إمام ضلال وباطل، وقد ورد في حكمة لأمير المؤمنين (عليه السلام) : "كم من عقل أسير تحت هوى أمير" (1) .

أما إذا أذعنت لقوة العقل العملي فإنه يصبح إمام هدى، فالعقل العملي هاد ومرشد لقوى الانسان المختلفة، ووجود هذه القوة امر لا بد منه وإلا لسعت كل قوة إلى ما يؤدي إلى تكاملها وأدى الصراع بين قوى الانسان إلى فنائه، فيحتاج إلى ما يكون هاديا وموصلا للكمال وهو العقل العملي، وزود هذا العقل بسلطة اخضاع القوى المادون مع احتفاظ النفس الانسانية بالاختيار، والاختيار حيثية نفسانية توظفه النفس - التي هي غير القوى العملية والادراكية - في يد القوى الفوقانية أو القوى المادون، ولو كان العقل العملي ملجئا وسالبا للاختيار لما صدرت المعصية من أحد لأنه موجود في كل إنسان.

____________

1- نهج البلاغة الكلمات القصار211.


الصفحة 263
والعقل العملي في فعله يعتمد على الادركات الصحيحة التي تتم في العقل النظري والعملي، فهو يقود لأنه يمتلك العلم الذي لا تمتلكه بقية القوى وهذا العلم هو الذي يعطيه الصلاحية لقيادة قوى الانسان، ولو كان هذا العلم محتملا للخطأ لما أصبحت لديه اللياقة لقيادة الانسان وقواه، وقد بينا في الفصل الأول مفصلا مدركات العقل العملي والنظري وعلمه الحصولي والحضوري، والمهم هو الأخير لأنه أعلى وأشرف من الأول، فالهداية الايصالية للعقل العملي وهو إمام هدى للقوى المادون تتم بواسطة علم شريف أشرف من العلم الحصولي وهو العلم الحضوري.

والعقل في نفسه مبرأ من الغرائز الشهوية والزلل، وليس العقل هو الذي يسبب الزلل والوقوع في الخطأ، بل هو بسبب سيطرة القوى المادون، وقد قرروا في محله أن إدراكات العقل في نفسها لا خطأ فيها إلا إذا تدخلت القوى الأخرى فيها وهي الواهمة والمخيلة والقوى الشهوية والغضبية.

والخلاصة:

أ - أن قوى الإنسان تهتدي إلى الكمال بواسطة العقل العملي.

ب - أن العقل العملي يقوم بدور إمام هدى، وهذه الهداية ايصالية وليست مجرد إراءة وإلا لاكتفي بالعقل النظري، فهذا يدل على الحاجة الفطرية داخل الانسان لوجود ما يقوده إلى الكمال.

ج - أن العقل العملي استحق هذا المقام بسبب العلم الذي لديه.

د - أن العلم الحصولي لدى العقل العملي يعتمد على أساس العلم الحضوري الذي لا خطأ فيه.

هـ - أن العقل واسطة لتنزل العلوم من العوالم الغيبية العلوية إلى العوالم

الصفحة 264
المادون، ولا يمكن للقوى المادون (الغضبية والشهوية...) أن تتصل بتلك العوالم إلا بالعقل العملي وذلك لضعف قابليتها.

و - ورد في الأثر أن لله حجتين ظاهرة وباطنة أما الظاهرة فهو الرسول وأما الباطنة فهو العقل، وهذه الموازنة تعني أن مقام النبوة كما له دوره وموقعه في الانسان المجموعي فإن له موضع في الانسان الصغير، وأن الله عز وجل قد أودع في الإنسان رسولاً باطناً وظيفته الهداية وهي على وزان الهداية التي يقوم بها الرسول الظاهر وهي الاراءة (إنما أنت منذر) (1) فهي هداية إرائية وانذار وبيان أين يكمن الطريق الصائب والصحيح من دون أن تقوم بوظيفة الايصال (نعم قد يكون النبي إماما فتجتمع لديه ولاية تشريعية وتكوينية كما في أولي العزم) والعقل المقصود به هنا هو العقل النظري، فتكون أوامره تشريعية يشخص الصواب من الخطأ ولا تكون له سيطرة على بقية القوى، وهذه هي مهمة الرسول الباطن.

ز - أن الرسول الباطن وحي فطري إنبائي، والامام الباطن وحي فطري ولوي.

أما كونه وحيا: فلأن العقل قوامه بالعلم، لكن العلم الذي في الوحي النظري غير عمّال أي علم باطني غيبي أما في العقل العملي فهو علم عمّال ومستند للعلم الحضوري، والعلم الإنبائي الذي في العقل النظري أيضا مستند للعلم الحضوري إلا أن تكامل العقل النظري يكون فيما إذا وجد العقل العملي، وعندما نقول أن العلم فيه حيثية ولوية فلا نقصد بذلك تعبيرا أدبيا بل إشارة إلى عمّاليته ومحركيته وقدرته.

أما سبب اطلاقنا عليه بالوحي (2) فلأن حقيقة الوحي هي الارتباط بالغيب، والانسان لوجود حيثية التجرد فيه فهو مفطور على الارتباط بعالم التجرد

____________

1- الرعد: 7.

2- نظير قوله تعالى: (وأوحى ربك الى النحل أن اتخذي...) (النحل: 68) أي فطرها على ذلك.


الصفحة 265
بواسطة العقل، أي بتوسط نفسه، ومن هنا كان فطريا، لا وحيا نبويا تشريعيا جعليا، ومن هنا نقول أنه عندما يقال: انقطع الوحي فإنما يعني الوحي التشريعي لا انقطاع الوحي بمعناه الأعم الشامل لما بيناه أي مطلق الارتباط بعالم الغيب.

ح - في مراتب العلم الحضوري يذكرون أن مرتبة القلب من النفس بوابة الغيب والعوالم العلوية لكلا العقلين، والعقل العملي والنظري يأتمان به وهو مصدر علومهما الحضورية.

ط - أن تصرف الامام الباطن في القوى المادون يكون بقدرة ملكوتية ونعني بها القدرة التجردية التي ليس فيها تدريج وتدرج بل على نحو كن فيكون، وهذه القدرة لا تحتاج إلى شرائط عالم المادة و لا شرائط في فعله وتأثيره، وإنما مجرد الاذعان يحرك النفس تحريكا اختياريا، فلو أن المحرِّك لم يختر التحريك فلا يتحرك، وليس معنى (كن فيكون) الجبر.

وبيان آخر للملكوتي: أنه اصطلاح يطلق على القدرة النابعة من العلم محضا في مقابل القدرة التي تتوقف على العلم والآلة المادية وتسمى القدرة المادية، وهذا أمر متفق ومبرهن عليه في علوم المعارف العقلية والنقلية نذكره كأصل موضوعي. فالعلم الحصولي وهو مرتبة ضعيفة من العلم يحتاج إلى الآلة كما في قدراتنا المعتمدة على العلم الحصولي. أما إذا كانت القدرة نابعة من العلم الحضوري فإنها لا تحتاج إلى شرائط المادة لشرافة و قوة العلم المعتمدة عليه.

فإمامة الامام الباطن وعمّاليته بتوسط قدرة ملكوتية وهداية الامام الباطن بأمر ملكوتي ويسمى أمر إلهي، والإلهي اشارة إلى عالم التجرد، وقد يطلق على عالم الملكوت بعالم الامر فتسمى القدرة الأمرية.

فتبين أن الامام الباطن تكون له نحو إحاطة وقيمومة على من دونه، وهذه ليست كإحاطة واجب الوجود ببقية الممكنات بل هي كإحاطة العلة بمعلولها، ويُمثل لها بالصور الخيالية الحاصلة لدى النفس، فإن النفس تحيط بها احاطة قيمومية فظاهرها وباطنها وأصل وجودها مرهون بفعل النفس.


الصفحة 266
وفي الانسان الصغير نرى أن نسبة العقل العملي والنظري لما دونه من القوى هي إحاطة قيمومية، والوجه في ذلك أن النفس والقوى المادون لا تستطيع أن تصدر فعلا من الأفعال سواء كان فعلا إدراكيا أو عمليا من دون توسيط العقل في البين، فهو يحيط بأعمال وأفعال القوى المادون، وأن الكمالات العملية تفاض عليها بتوسط العقل وبسبب كونه واسطة في الفيض فهو يدرك كمالات المادون ولا يكون جسرا للعبور فقط.

وبناء على كل ما مضى نقول في تعريف الامام الباطن في الانسان الصغير: انه يكون هاديا وموصلا للنفس إلى كمالاتها بأمر ملكوتي.

ي ـ نقطة أخيرة; نضيفها أن التسلسل في تنزل الفيوضات يكون من القلب للعقل النظري الذي هو الرسول الباطن ومن ثم للعقل العملي الذي هو امام باطن، وقد ذكرنا ان العلم الذي في الثاني أشرف من الأول لكن إذا جمع الأول بين الرسالة والامامة فإنه ينال الشرف العالي، وقد ورد في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الذين ابتعدوا عنه "احتجوا بالشجرة وضيعوا الثمرة"، وهذا قريب مما ذكرنا أن كمال العقل النظري هو بالعقل العملي فالامامة هي ثمرة النبوة، وذلك لأن مجرد العلم ومجرد التمييز بين الحسن والقبيح من دون ترجيحها إلى إعمال وإثارة القوى المادون لا يكون ذا أثر، والأثر الوحيد هو في الاستفادة من العلم الذي يتوصل إليه العقل النظري لوصول الانسان إلى الكمال وتجنب الوقوع في المفاسد والقبائح، ومن هنا تكون الامامة ثمرة النبوة والرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) قد حاز شرف النبوة والإمامة وكما أنه امام للخليقة فهو إمام للأئمة كما أن القلب امام للعقل العملي الذي هو إمام لما دونه من القوى.

وبهذا البيان نستطيع استيعاب ما ورد في الأثر أن "المؤمن جماعة بمفرده في صلاته" حيث يكون أحد تفسيراته أن كل قواه تكون مسخرة لقوة العقل العملي وهو مسيطر عليها.


الصفحة 267

الانسان المجموعي:

وهو مجموع المجتمع بما فيه من اركان وهي الدولة والحكومة، فإنا نشاهد انها تتألف من فقرات متعددة منها القوة التنفيذية، ومنها القوة التشريعية، ومنها القوة القضائية، كما أن كلا من تلك القوى الثلاث تتشعب إلى أقسام.

والقوة التشريعية وظيفتها الهداية الارائية، والقوة التنفيذية وظيفتها الهداية الايصالية، والقوة القضائية وظيفتها كوظيفة الوجدان في الانسان الصغير، وهي لتعديل الاشياء لكي لا تستعصي في قبول الهداية الارائية الايصالية والسير نحو التكامل وعدم التخلف عن ذلك، ويمكن المطابقة في التفاصيل الاخرى بين الانسان المجموعي والانسان الصغير فمثلا وزارة الجيش والدفاع توازي القوى الغضبية، ووزارة الرياضة والتربية البدنية أو السياحة ونحوها مما يغطي جانب اللهو واللعب توازي القوى الشهوية، وإلى غير ذلك من التطابق إلا ان اهم ركن في الانسان المجموعي هو ما يقوم بالهداية الارائية والهداية الايصالية إلى الكمالات المنشودة.

الانسان الكبير:

ونقصد به عالم الخلقة وما يحويه من عوالم ونشآت في قوس النزول وقوس الصعود، وذلك لنتعرف على دور الامامة وحقيقتها في هذا العالم الكبير، وهذا الانتقال طبقا لما هو المسلم به في المعارف أن "من عرف نفسه فقد عرف ربه"، أي أن معرفة آيات الله وأفعاله جل وعلى يكون عن طريق معرفة الانسان نفسه وهذا يقتضي موازاة الانسان الصغير للانسان الكبير، وأن فعل الله وهو الخلقة تكون معرفته بمعرفة الانسان الصغير.

ففي الانسان الكبير أيضا مراحل ومراتب من النفوس الكلية (بمعنى السعة والاحاطة) إلى العقول الكلية التي تدير تلك النفوس، ونحن في بحثنا نعتمد على

الصفحة 268
قاعدة عقلية مؤداها أن التعريف الماهوي للإمامة له مصداق في الانسان الصغير إي في ترتب قوى النفس الانسانية وبمقتضى التطابق مع الانسان الكبير - عالم الخلقة - نستكشف الاخير.

والمهم لدينا هو استكشاف موقع الامامة في الانسان الكبير وأنها مرتبة تكوينية ومقام وجودي في ضمن المراتب الوجودية المختلفة، وهذا هو محل النزاع مع الآخرين والذي أردنا إثباته، فهم قد جعلوا محور البحث في الانسان المجموعي ونحن ننقل ذلك إلى الانسان الكبير أيضا.

ولا ندعي أنا قد توصلنا إلى معرفة كنه وحقيقة الامامة في هذا الموقع بل تمكنا من وضع تصور اجمالي يرفع الغموض واللبس وإن بقيت جوانب مجهولة، وهذا المقدار لا يمنع من ثبوت المعرفة وتحققها.

ونبدأ بحديث هشام بن الحكم مع عمرو بن عبيد المعروف والمشهور حيث قال له: ألك عين؟ قال: نعم، قلت: ما ترى بها؟ قال: الألوان والاشخاص، قال: قلت: فلك أنف؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: اشتم به الرائحة، قلت: فلك فم؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أذوق به الطعم. قلت: ألك قلب؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أميز به كل ما ورد على هذه الجوارح، قلت: أليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ قال: لا، قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟ قال: يا بني الجوارح إذا شكت في شيء شمته أو رأته أو ذاقته ردته إلى القلب فيتيقن اليقين ويبطل الشك، قلت: وإنما أقام الله القلب لشك الجوارح؟ قال: نعم، قلت: فلا بد من القلب وإلا بم تستيقن الجوارح؟ قال: نعم، قلت: يا أبا مروان إن الله لم يترك جوارحك حتى جعل بها إماما يصحح لها الصحيح ويتيقن لها ما شكت فيه، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافاتهم لا يقيم لهم إماما يردون إليه شكهم وحيرتهم، ويقيم لك إماما لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك (1) .

____________

1- رجال الكشي 2: 259.