فيلاحظ في هذه الرواية أن ما ذكره عمرو بن عبيد من التسالم على خضوع القوى المادون للقلب وأن هذا الخضوع ليس اعتباريا بل تكويني حقيقي.
الجهة الثالثة: التعريف النقلي
يلاحظ أن هذه الكلمة وردت في القران في موارد عدة هي: (قال إني جاعلك للناس إماما) (1) ، (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) (2) ، (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات) (3) ، (يوم ندعو كل اناس بإمامهم) (4) ، (ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) (5) .
والعلامة الطباطبائي يتعرض لتفسير مقام الامامة الذي أُعطي لابراهيم وأنه مغاير لمقام النبوة والرسالة، ويأتي بشواهد عدة:
1 ـ أن هذا المقام أعطي لابراهيم على كبره و بعد تولد ذريته اسماعيل واسحق، وقد كان قبلها نبيا بلا شك.وذلك لأنه لو لم يكن لديه ذرية لما كان سؤاله الله تعالى (ومن ذريتي) .
2 ـ أنه لو كان المراد من الإمامة هنا النبوة فلا معنى لأن يقال لنبي مفترض الطاعة إني جاعلك للناس نبيا أو مطاعا فيما تبلغه من نبوتك فهذا لا يتناسب مع كونه نبيا.
3 ـ أن القران كلما تعرض للإمامة تعرض معها للهداية تعرض تفسير (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) والهداية
____________
1- البقرة 2: 24.
2- السجدة 32: 34.
3- الانبياء 21: 73.
4- الاسراء 17: 71.
5- القصص 5: 28.
4 ـ أن لفظ الهداية قُيد بالأمر في آية السجدة، والأمر هو الذي يبين حقيقته ما ورد في قوله تعالى (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) (1) ، وقوله (وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر) (2) ، فهذا الأمر هو أمر ملكوتي ليس فيه تدريج بل يحصل دفعة واحدة بمجرد إرادته بعيداً عن شرائط المادة والآلة وهذا الملكوت قد حاز عليه ابراهيم كما ورد في (وكذلك نري ابراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) (3) ، فإراءة الملكوت لابراهيم كانت مقدمة لافاضة اليقين عليه، وأهل اليقين لا يحجبهم عن ربهم حجاب قلبي من معصية أو جهل أو شك أو ريب، بل يكون لهم شهود حضوري على الأعمال أي أعمال البشر.
فالامام هاد يهدي بامر ملكوتي يصاحبه، والامامة بحسب الباطن نحو ولاية على الناس في أعمالهم، وهدايتها ايصالها إياهم إلى المطلوب بامر الله دون مجرد اراءة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول (4) .
ولأن محور تعريف الامام حول فهم الملكوت فإنا نستكشف رأي العلامة في ذلك فتوجد آيات عدة تتعرض للملكوت وهي يس 83 ـ الانعام 75 ـ الملك 3 ـ المائدة 120 ـ القمر 50 ـ آل عمران 26.
ففي سورة الملك (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق فوقكم سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر....)
____________
1- يس 36: 83.
2- القمر 54: 50.
3- الانعام: 75.
4- الميزان 1: 274.
فالمخلوق يكون ذا جهتين فإذا لحظناه بما هو في نفسه فإنك تلحظه من جهة المخلوقية، أما إذا لحظته بما هو دال على خالقه تكون جنبة ملكوتية، ومن هنا كان النظر في ملكوت الأشياء يهدي الانسان إلى التوحيد هداية قطعية، فإراءة ابراهيم ملكوت السماوات والأرض هو توجيهه تعالى نفسه الشريفة إلى مشاهدة الاشياء من جهة استنادها ووجودها إليه (2) .
(قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) (3) ، فالملك هنا يشمل الحقيقي والاعتباري، بل قد يقال بالأول فقط وهو قد يعطيه من يشاء من عباده وليس فيه معنى تعطيل نفسه عن الملك وحصر لقدرته حتى تكون يده مغلولة والعياذ بالله، وإنما هو اقدار في عين أنه قادر.
إذن فالامامة هي الهداية الايصالية الملكوتية النابعة من العلم والقدرة، فالامام هو رابطة تكوينية بين الخالق والمخلوق فهو يشهد الاعمال (كتاب مرقوم يشهده المقربون) (4) ، فالمقربون لهم نوع من العلم الحضوري، ويضيف
____________
1- يس 83.
2- الميزان 7: 170 ـ 172.
3- آل عمران: 6.
4- المطففين: 20.
- وقوله تعالى (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) .
يذهب العلامة إلى أن المراد من الامام هنا هو إمام الهدى، إذ ان الآية تدل على أن لكل زمان إمام، ولا يخلو أناس في عصر من العصور من إمام فيكون المراد من الإمام هنا هو إمام الهدى، نعم الروايات دالة على وجود إمامين هدى وضلال، واستظهار العلامة وإن خالف ظاهرها لكن لا مخالفة حقيقية عند التدبر في الروايات، وذلك لان الروايات المفسرة للقران على نحوين:
أحدهما: أنها تقوم بمعالجة ظاهر القران الكريم بحيث تبين المراد من الآية وترشد إلى النكات الأدبية والبلاغية في الآية، و هذه لا مجال لاستظهار غير المعنى الذي تشير إليه بل يجب الأخذ بها، وأمثلتها كثيرة منها: في تفسير آية الوضوء (إلى المرافق) أنه ليس المراد بيان انتهاء عملية الغسل بل لتحديد المقدار المغسول ويذكر الامام شواهد على ذلك، وقوله (لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة) ليس المراد هو التخيير بين القصر والتمام، بل المراد هو الالزام فمثل هذه الروايات يجب الأخذ بها في تعيين الظهور.
والقسم الآخر: من الروايات التي تقوم ببيان باطن القرآن وهذه الروايات
نعود إلى الآية الكريمة: فعلى فرض كون المراد من الامام هو إمام الضلال أيضا لا الامام الذي اجتباه الله، فإن إمام الهدى هو من البشر، وقد عرفته آيات أخرى من أن هدايته تكون بأمر ملكوتي خلاف إمام الضلال الذي لم تعرفه الآيات بهذا السنخ، وسيأتي مزيد تفصيل لهذا المعنى في فقه الآيات.
وقد ذهب البعض إلى أن المراد من الامام هوا لكتاب التشريعي كالتوراة والانجيل والقرآن، وهذا غير صحيح لأن المراد من كل أناس أنه يعم كل الناس من الأولين والآخرين، وليس مختصا بفئة معينة، ويلاحظ أن القرآن إذا أراد تخصيص فئة معينة من الناس لها هدف معين فإنه يعبر عنهم بالامة وعدم استخدامه لهذا اللفظ هنا يدل على إرادته كل الناس في مختلف الأزمنة.
ونعود إلى إمام الهدى والضلال; فإن امام الهدى هو الذي تكون هدايته بأمر ملكوتي بخلاف إمام الضلال الذي تكون هيمنته على مستوى الشيطنة، وهذه الهيمنة يوازيها في الانسان الصغير التخيل والتوهم إي العقل المقيد، وفي رواية في ذيل سورة القدر: والله إنه ليوحى إلى امام الضلالة بتوسط ابليس وجنوده كما يوحى إلى امام الهدى كما تتنزل عليه الملائكة من الله.
ففي الانسان الصغير بظل أئمة الضلال من الواهمة والمتخيلة والغضبية والشهوية لا تستطيع أن تترفع إلى مستوى التجرد العقلي فكذلك أئمة الضلال في الانسان الكبير إبليس وأشياعه وأتباعه.
ويستعين العلامة في توضيح الهداية المخبوة في الامام بقوله تعالى (أفمن
إن قلت: أن الذي يهدي من نفسه ولا يحتاج إلى هداية الغير هو الله سبحانه وتعالى كما ذكرته الآية في الشق الأول، والذي يحتاج إلى هداية الغير هم الأنبياء والرسل والائمة المهتدون بهداية الله سبحانه.
قلت: إن لازم ذلك أن يبعث الله للناس نحو هداية نفسه مباشرة لا الهداية التي في الرسل والانبياء لأنهم يهتدون بغيرهم، وبتعبير آخر لازم ذلك أن ينهانا عن اتباع الرسل والانبياء في حين لا توجد لدينا قناة لاستلام الهداية إلا من الرسل فيحصل تنافي في مدلول الآية الشريفة، وهداية الله لا يدعيها أحد من دون توسط الرسل والانبياء، فبالتأكيد هذا المعنى خاطئ، والصواب أن الآية دالة على أن الهادي الذي يتبع هو المعصوم الذي علمه لدني لا من الأغيار البشرية وإن كانت في خط الهداية، ومن يهدي بهداية غيره لا يكون مأمونا من الخطأ والزلل، فلا يكون هاديا.
وذلك المعصوم هو الذي يكون هاديا للحق على نحو الدوام أما الشخص الآخر الذي لا يهتدي إلى الحق إلا بهداية غيره فإذا لم يوجد ذلك الغير فهو يهدي إلى الباطل والضلال. وهداية الله لهؤلاء المعصومين تكون بأحد الطرق الثلاثة (ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا) (2) .
وينقل العلامة دليلا عقليا على وجوب العصمة وهو تفسير الامامة بأنه يهدي (بأمرنا) وأن الهداية ايصالية كما مر ذكره سابقا، فلابد أن مَن يكون لديه
____________
1- يونس: 35.
2- الشورى: 51.
فتحصل مما تقدم:
1 ـ ضرورة كون الامام معصوما.
2 ـ أن يكون موجودا في كل زمان.
3 ـ أنه يفوق غيره في الفضائل النفسية سواء المعاشية أو الاخروية.
4 ـ أن الإمامة باقية في عقب ابراهيم، وهذا يستفاد من نفس سؤاله لله تعالى في سورة البقرة، واستجابته تعالى لذلك، وما ورد في سورة الانعام من الآية 82 ـ 90: (وتلك حجتنا آتيناها ابراهيم على قومه...ووهبنا له اسحاق ويعقوب وكلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته..) حيث الخطاب في الآية لذرية ابراهيم واصطفاء الله لهم، وهدايتهم ثم يقول عز من قائل (فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) فالمراد من (بها) الامامة، وهذا يدل على تأبيدها واستمرارها، وأن الخطاب ما زال لابراهيم وذريته فهم الموكلون بهداية البشرية.
ويطرح العلامة اشكالا ويجيب عنه، أما الاشكال فهو أن الآية تدل على أن من يكون نبيا فهو مهتديا فهذا يدل على أن كل نبي إمام، ويجيب عنه: أنه مما لا شك فيه أن النبي يكون مهتديا لكن ليست لدينا قاعدة أن كل مهتدي فهو هاد هداية ايصالية، نعم ما دلت عليه آية (أفمن يهدي إلى الحق...) تدل على أن الهادي إلى الحق يجب أن يكون مهتديا فالتلازم من طرف واحد لا من طرفين.
ويضيف العلامة في آية سورة الزخرف 28: (وإذ قال ابراهيم لأبيه
نعم يبقى اثبات أن المراد من الهداية في (سيهدين) حيث أنه كان نبيا ويدعو قومه فيجب أن تكون تلك الهداية غير ما هو حاصل عنده وما ذلك إلا الهداية الايصالية والامرية المجعولة باقية في عقبه.
ويخلص العلامة إلى أنه يتضح من آية البقرة سبع مسائل هي امهات مسائل الامامة:
1 ـ أن الامامة مجعولة.
2 ـ أن الامام يجب أن يكون معصوما بعصمة إلهية
3 ـ أن الارض لا تخلو من أمام حق.
4 ـ أن الامام يجب أن يكوم مؤيدا من عند الله.
5 ـ أن اعمال العباد غير محجوبة عن علم الإمام.
6 ـ أنه يجب أن يكون عالما بجميع ما يحتاج إليه الناس في أمور معادهم وحياتهم.
7 ـ أنه يستحيل أن يوجد من يفوقه في فضائل النفس.
وفي كتاب المقالات التأسيسية يذكر العلامة تعريفا أوسع للامامة: أن الامام هو السائق للنفوس البشرية إلى لقاء الله وإلى المعاد حيث يسوق أعمالهم ونفوسهم إلى الله تعالى، فبه معادهم وحشرهم ونشرهم حيث تشير الروايات المستفيضة إلى ورود الامام في كافة منازل الآخرة، وقد أشار القرآن إلى ذلك (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) فهذه الآية تثبت للرسول الذي هو حي في عالم الدنيا بأنه يشهد الاعمال وهي من سنخ ملكوتي
ونضيف على ما ذكره العلامة أن رابطة الامام والرسول بما هو امام لا تقتصر على عالم الدنيا وما بعده بل حتى ما قبل عالم الدنيا، حيث بعثه في عالم الذر إلى الآخرين وبقية العوالم السابقة على نشأة الدنيا، وأن الهداية الارائية ايضا مفروضة في الامامة لتقدمها على الايصالية - وان كانت هي في الامام في طول الهداية الارائية للنبي (صلى الله عليه وآله) - وهو ما يعبر عنه بالحافظ والمبين للدين عند المتكلمين، وأن الامامة في المجتمع - الانسان المجموعي - هي الزعامة السياسية أيضا مفروضة في حدّ الامامة.
المبحث الثاني
الأدلة العقلية على ماهية الإمامة الإلهية
وقبل الدخول في البحث، نذكر مقدمة تنفع في المقام:
من المسائل المهمة التي دار البحث عنها في الامم السابقة هي مسألة اتصال الارض بالسماء وهل أن الله بعد أن خلق الخلق تركهم أم استمر اتصاله بهم، واتخذت هذه المسألة اشكالا متعددة ففي عهد اليهود شاعت مقولة (يد الله مغلولة) بمعنى أن الله عز وجل ترك عالم الخلق يسير كما يشاؤن ولا يتدخل في سيرهم ولا يعيق إرادتهم.
وفي عهد مشركي الجزيرة العربية قالوا بضرورة توسيط آلهة صغار ليتم الاتصال مع الذات المقدسة اللامحدودة.
وفي العهد الاسلامي ظهرت مقولة العامة من انقطاع الاتصال بين الارض والسماء بعد الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) وأنه لا يمكن أن تتنزل مشيئة إلهية جزئية في الموارد الخاصة، وقد أشرنا إلى ذلك فيما سبق، وأن دعوى العامة وإن لم تكن في انقطاع التشريع الالهي لكنها في انقطاع الارادة التكوينية المرتبطة بالناموس البشري فتكون هذه العقيدة قريبة المضمون من (يد الله مغلولة) .
والقران الكريم عالج كل تلك المقولات فبالنسبة لعقيدة اليهود أجابهم بصراحة (غلت أيديهم بل يداه مبسوطتان) وأن الارادة الالهية لم ينقطع اتصالها بالمخلوقين.
1 ـ في اعتقادهم أن الرابطة مع الغيب يجب أن تكون ذاتاً مستقلة صغيرة (إله صغير) .
2 ـ في اختراعهم لتلك الوسيلة والواسطة من عند أنفسهم دون الله تعالى، فالقرآن الكريم في نفس الوقت يؤكد على عدم انقطاع الاتصال بالغيب المطلق، وأن هناك وسيلة للاتصال بالعوالم العلوية وهي في حقيقتها محكومة لله عز وجل ولا تكون معبودة بل العبودية المطلقة لله عز وجل.
فهذه الصيغ الثلاث تتضمن نفس المحتوى وهو انقطاع الوحي عن الارض وعدم الاتصال مع السماء. وأما استمرار الاتصال فهو عين التوحيد وذلك لأن التوحيد الخالص هو توحيد الذات والصفات والافعال بل حتى التوحيد في التشريع حيث لا يكون للانسان حق التشريع والتقنين بل الله وحده له هذا الحق الذي بيّنه عن طريق الانبياء والائمة.
وايضا هناك التوحيد في الولاية أي نتبع الله عز وجل فيمن نتولاه ونستهديه للوصول إلى الكمالات العالية وهذا هو معنى الامامة فنفي الامامة يكون شركا ونفيا للتوحيد في الطاعة.
ويمكن لنا أن نضم إلى هذه الصيغ الثلاث صيغة رابعة نادى بها أصحاب المدرسة المادية الحديثة التي تدعي أن عالم المادة تحكمه المعادلات المادية والقوانين الخاصة بها حيث أنهم يجعلون مصدر الخلقة والايجاد هو المادة ثم يختلفون في تفسير هذه المادة فيجعل البعض أن المقصود منها الطاقة والقدرة ولأجل الأقلمة مع أساس العقيدة يجعلون المادة شاعرة عالمة.
ولكننا نقول - في مقابل الصياغات المتقدمة - أن ارتباط مراتب الوجود مع الذات المقدسة موجود ودائم غير منقطع حتى في عالم الانسان الصغير، وهذا الارتباط اختياري لا اجباري وقد برهن عليه في محله.
الدليل الاول:
وخلاصته:
أنه لابد من ارتباط غيب الغيوب وهو الذات المقدسة بالعوالم النازلة وبالاخص عالم الانسان الصغير واراداته وهدايته الارائية والايصالية وهذا التنزل بلا شك يجب أن يكون عبر قناة وجودية خلقية وإلا لاقتضت وجود طفرة، ولابد لهذه القناة من أن تتصف بصفتين أحدهما الارتباط بالغيب والاخرى الارتباط بالعالم النازل. وتفصيل ذلك من خلال النقاط التالية:
وقد ذكرنا أن هذا الارتباط أيضا غير نافع، وذلك لأن الحقيقة الانسانية هي أشرف صور المخلوقات الالهية ومنها يبدأ السير التكاملي والاتصال بالغيب فيجب أن لا يكون دونها كمالا، وهذا مع ما ذكرناه سابقا يقتضي أن يكون الهادي والرابط بين الأرض والسماء له جنبة بشرية.
وفي مقام الجواب نشير إلى أن الروايات قد استفاضت أو تواترت على أن للائمة جنبة تشريعية للاحكام لا بمعنى الاتيان بأصل الشريعة بل هي هداية تشريعية متممة للنبوة والرسالة، وبيان ذلك من خلال مقدمات:
- من المبادئ الاساسية التي تحكم التشريعات والتقنينات على مدى العصور هو مبدأ تدرج القوانين، وهو يعني أن القانون يبدأ من قواعد كلية وعمومات فوقانية ثم تتدرج إلى قوانين متوسطة حتى تصل إلى القوانين الجزئية التي تطبق على الظواهر الفردية والاجتماعية، وهذا النحو هو الحاكم على التقنينات الوضعية فترى الدستور ثم القوانين الصادرة من المجالس النيابية ثم القوانين الصادرة من السلطة التنفيذية.وقد أشرنا في بحوث الاصول إلى تماثل الاعتبار الشرعي مع الاعتبار الوضعي على أساس اتحاد لغة التقنين والتشريع.
- أن تنزل القوانين العامة والقواعد الكلية إلى المصاديق يحتاج إلى مراقبة وذلك لمنع حصول الاختلاط والتدافع والتصادم في التطبيق.
- أن السنة الجارية في عالم الخلقة هي محدودية أعمار الانبياء والرسل، ولذا فهم يكتفون بذكر الكليات والقوانين العامة ولا يستوفون تنزيلها وتطبيقها على
- ان سلامة الشريعة وصوابية التقنين تقتضي استمرار المراقبة في تطبيق تلك القواعد العامة والقوانين الكلية، خصوصا في القواعد الالهية التي ترعى المصالح والمفاسد الواقعية التي تخفى على الاذهان العادية فلابد من استمرار بيان المتوسطات والتطبيقات، خصوصا إذا قلنا أن الاحكام الشرعية هي إرادات إلهية صادرة من جانب الذات المقدسة في الوقائع الجزئية والفردية والمجموعية.
- أن البشر العادي المنقطع عن الغيب ليس له أن يتوصل إلى بيان مؤدى النقطة السابقة وذلك لاحتياجها إلى عصمة علمية.
والنتيجة: انه لا بد من وجود فرد له عصمة علمية مضافا إلى العصمة العملية والكمالات النفسانية العالية، وهذا الفرد الذي يكمل مسيرة الأنبياء التشريعية هو الامام.
ولا يخفى على كل ذي لب ما نشاهده في حياتنا العملية حال التشريعات الوضعية والمراقبة المستمرة على كيفية تطبيق التشريعات الدستورية وعدم مضادتها لها، ومع ذلك توجد موارد عديدة للنقض والخطأ وبين كل فترة وأخرى تحصل الاستدراكات والملاحق لغرض تفادي الاخطاء والنقص، وفي القانون الالهي وإن لم يُقس بالقانون الوضعي البشري إلا انه لا بد من وجود المعصوم عصمة علمية يقوم ببيان تلك المتوسطات وبذلك يؤمن عن الوقوع في الخطأ والزلل في التطبيق أوالتنزيل المسمى في اصطلاح الوحي بالتأويل، ومجرد احتواء الكتاب على تلك التشريعات العامة لا يدفع الخطأ في مجال التنزيل أو التفريع، فكم نرى في عملية الاجتهاد أثناء استنباط الاحكام الشرعية من أخطاء وغفلات (1) .
____________
1- حتى عرف مسلك فقهاء الامامية بمسلك التخطئة دون التصويب.
ووجه الاندفاع أنه مهما بلغت درجته العلمية فإنه لا يؤمن من الوقوع في الخطأ في بيان القوانين المتوسطة وتطبيقها على الجزئيات، فلا بد من الاتصال بالغيب.
وبناء على ما مضى يتبين ضرورة ابراز جنبة الهداية الارائية في الائمة مضافا إلى الهداية الايصالية، وعدم الاكتفاء بالاخيرة فقط كما ذهب إليه السيد العلامة في الميزان.
ويوجد في المقام جوابان:
الأول: ان هذا الإشكال قد حصل فيه التغافل عما ذكرناه في بداية البحث أن الانبياء والرسل بمقتضى محدودية أعمارهم البشرية لا يوضحوا كل شيء ولا يبينوا كل القوانين الجزئية والمتوسطات، فمن أين للفقيه أن يعلم بقية المتوسطات مع عدم كونه متصلا بالغيب إذ المتوسطات ليست مجرد تطبيقات للكليات بل هي نوع من الانشاء التشريعي من نفس المشرع الاول. وبتعبير آخر: أن الانبياء نحو اراءتهم كانت اراءة اجمالية فلابد من الاراءة التفصيلية واستمرارها عن طريق الائمة بأن تكون متصلة بالغيب معصومة من الوقوع في الخطأ.
الثاني: أن بيان الامام وفهمه للحكم الشرعي لا يكون كفهم الفقيه بل هو، بيان بعلم الغيب والتسديد الالهي المصيب للحق دوما. فاراءة الامام للاحكام الشرعية ليست شريعة جديدة بل بيان لتلك الشريعة الاجمالية الكلية المتنزلة عبر القناة الغيبية للنبي (صلى الله عليه وآله) .
فالنبوة لها فضل والامامة تفصيل لتشريع النبوة، ويبقى للامامة الهداية الايصالية بخلاف النبوة التي تقتصر على الهداية الارائية وبعض الانبياء هم ائمة أيضا، أما الائمة فليسوا بأنبياء وتفضيل بعضهم على بعض ثابت بالنصوص القرآنية والروائية، وقد تبين أيضا كيف أن النبوة لا تقوم مقام الامامة وأنها تكتمل بها.
وهاهنا تساؤل آخر وحاصله: لماذا لا يكتفى بالامامة عن النبوة فإنها جامعة للهداية الايصالية والارائية؟؟
والجواب عن ذلك:
1 ـ أن المفروض أن الهداية الايصالية ليست إلجائية بل اختيارية.
2 ـ أن المكلف في اختياره لأي سيرة في حياته يجب أن يكون طبقا لعلم، لكي يؤمّن جانب الاختيار والكمال في المسير الانساني فلابد أن يكون الانسان على علم بالطريق والغاية والهدف من هذا المسير وهذا الجانب العلمي لا يؤمّن إلا بالهداية الارائية، فعلمه وانتقاؤه طبقا لهداية النبي هو قوام الاختيار.
وبعد حصول ذلك العلم لدى المكلف يأتي دور الهداية الايصالية والتسبب الملكوتي الذي يرى أن أرضية المكلف مخيرة ومهيأة لتقبل الكمال، ويستطيع المكلف الاختيار ويتبع إمام الهدى ويفضله على اتباع إمام الضلال.
فتظهر أهمية العلم بالشريعة الذي يبينه النبي، ثم يأتي دور الامام بعد أن