وعليه فمن تمام عناية الله ولطفه بالانسان أن يهيئ له الاسباب المعدة للكمال، ونظير هذا حقيقة الانسان الصغير حيث أن العقل العملي لا يغني عن العقل النظري فحكمة وجوده هو نوع اعداد وتهيئة أرضية لانجذاب الانسان إلى نزعات العقل العملي وذلك بما يحصل عليه من علوم حصولية (1) .
تقييم الدليل الأول:
يلاحظ على هذا الدليل هو تركيزه على حيثية الهداية الارائية في الامام، ولا يقوم باثبات المقام الغيبي للامام بما هو هاد هداية ايصالية، وهذا الدليل هو الذي اعتمده عامة المفسرين من الامامية طيلة قرون عديدة، ولكنهم عند ذكره لم يتطرقوا إلى المقام الغيبي للامام الذي يمكن التعمق فيه من خلال نفس المقدمات المذكورة.
الصياغة الثانية لنفس الدليل:
في بداية هذا الفصل بيّنا الجهاز العلمي والادراكي في الانسان الصغير وذكرنا أنه توجد مدارج ادراكية ثلاث:
____________
1- ومن هنا يتبين أنه من دون حصول التولي للائمة لا يمكن أن ينشدّ الانسان للكمال ولا تنفع كلمة العرفاء من كفاية السير والمجاهدة الباطنية وإن أخطأ في مصداقه في عالم الشهادة وما ذلك إلا لأن الهداية الارائية لا يمكن أن تتم إلا بالامام في عالم الدنيا حيث أن الاحكام الشرعية هي طريق الكمال، فإذا أخطأ في الامام في هذه النشأة فسوف تكون تشريعاته في حيز الوقوع في الزلل والخطأ فكيف يمكن السير في طريق الكمال - والهداية الايصالية من دون الهداية الارائية متعذرة.
- المراتب الادراكية (العقل والوهم والخيال والحس) .
- المراتب العملية (العقل العملي والقوى الشهوية والقوى الغضبية والاختيار) .
وذكرنا أن تنزل العلوم البشرية دليل على وجود العالم العيني وعالم ما وراء المادة حيث أن العلم ليس بمادي وليس له عوارض المادة وقد ثبت في محله أن التجربة و الاستقراء لا يفيدان العلم وذلك لأن الجزئي لا كاسب ولا مكتسب، بل العلم يفاض من العالم الغيبي.
وفي تنزل العلوم تدرج في تلك المراتب حتى يصل إلى عالم الخارج، وقد أشرنا إلى أن البديهيات توفر عصمة نسبية لدى الانسان ولهذا أطلق على العقل الرسول الباطن، وأن هذه البديهيات لا تكون بديهية لدى العقل النظري إلا بعد ارتباطها بعلوم حضورية، وذلك لأن العلوم الحصولية وهي الصور الذهنية تظل قابلة للانطباق على كثيرين وطبيعتها أنه يظل فيها الاحتمال والامكان، فهي لا تولد اليقين ولا الضرورة أي ضرورة الوقوع والوجود، أما الدرك العياني الحضوري فليس محلا للاحتمال والزلل لذلك يجب أن تستند الادراكات الحصولية إلى ادركات حضورية حتى تكون يقينية صحيحة.
وعلى كل حال فهذه القنوات الانسانية ليست بمأمونة من الخطأ باعتبار تجاذب النزعات الشيطانية باعتبار أن الجن والشيطان ذو وجود خفي لطيف حيث بامكانه أن يرتبط بالانسان عبر مدارج وجوده لا سيما الادراكية النازلة وهو ما يعبر عنه في الروايات "أنه يجري في البدن مجرى الدم في العروق" فللشيطان منافذ يستطيع أن ينفذ من خلالها في الانسان.
ونضيف هنا أنه كيف يمكن أن تتنزل الارادات والمشيئات الربانية من دون اشتباه والتباس وخطأ؟ والجواب: أن هذا غير ممكن إلا لمن أهّله الله بمدارج روحانية وادراكية بأن لا يستطيع الشيطان النفوذ إليها، وهو ما تشير إليه الآية
وبعبارة أخرى: أن الارادة والمشيئة الالهية يجب أن تبرز إلى عامة البشر المختارين حتى يستعلموا مواطن مشيئة وإرادة الله حتى في الموارد الجزئية سواء الجزئي الاضافي أو الحقيقي، وهذه الارادات لا يمكن أن تتنزل إلا عبر من كانت له عصمة عملية وعلمية أي يكون على صعيد المدارج الادراكية النازلة وعلى المدارج الادراكية الروحية الفوقانية. وبتعبير جامع له مقام غيبي، فلا تنازعه قوى الغضب ولا الشهوة والخيال ولا الوهم: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم) (1) ، فالشيطان يدعو ويغري الادراك، فالذي تكون ارادته ومشيئته مظهرا لارادة الله يجب أن يكون مأمونا من نفوذ الشيطان إلى ادراكا ته.
تقييم الدليل:
هذه الصياغة توضح كثيرا من الروايات نحو "نحن تراجمة أمر الله ونهيه وتراجمة ارادة الله ومشيئته". وفي هذه الصياغة ترميم للنقص في تعريف الامامة لدى العلامة الطباطبائي، حيث أنه قد ركز على أن للامام مقاماً ملكوتياً يوجب بمقتضاه التصرف في النفوس والسير بها من منزل إلى منزل معنوي أعلى، وما ذكرناه يركز على الهداية الارائية للمعصوم.
فالدليل الاول بصياغتيه يقوم بمهمة البرهنة على جانب الهداية الارائية في الامام.
____________
1- الشعراء: 222.
الدليل الثاني:
وهو المعروف بالدليل الفطري وقد ورد في عدة روايات، واجماله:
أن كل فطرة بشرية تجد في أعماقها انجذاباً فطرياً نحو الكامل علما وعملا، وهذا الانجذاب هو الباعث والمحرك للانسان لأن يتكامل، وهذا دال على وجود من هو كامل علما وعملا.
تفصيل الدليل: من خلال بيان عدة مقدمات:
المقدمة الأولى:
أن مدارس المعارف البشرية تتفق على وجود الأمور البديهية والفطرية لدى الانسان، ويعرفون القضية البديهية بأنها القضية التي يضطر الانسان إلى الاذعان بها بالضرورة من دون حاجة إلى إعمال الفكر بل مجرد الرجوع إلى النفس ورفع الموانع يجد نفسه مصدقا بها.
ونلاحظ أن هذا التعريف للبديهة ينطبق على الامور التي فطر عليها الانسان، فاذا افترض امر اشتركت البشرية فيه فإنه يعلم أنه من الامور الفطرية، ومن أدلة التوحيد د ليل الفطرة وهو من براهين الصديقين حيث يقولون أن انجذاب الفطرة البشرية نحو الكمال اللامحدود، دليل على وجود اللامحدود، وذلك لأنه لا يعقل أن تشترك البشرية بالايمان بأمر ما وتكون خاطئة به وإلا لزم السفسطة لأنه لو تبين خطؤها فهذا يعني عدم وجود حقيقة يمكن أن يرتكز عليها الانسان في علومه، إذ أن السفسطة تعني احتمال الخطأ في كل علم تذعن به النفس، فالعلوم التي تكون على وزان الامور الفطرية والبديهية والتي يشترك بها عامة البشرية لا يمكن أن تكون خاطئة.
المقدمة الثانية:
أن الانسان في حين انجذابه إلى اللامحدود يقر في نفسه أنه لا يستطيع أن يكون لا محدودا لان قدرته وامكاناته كلها محدودة. فحتى لا يصاب باليأس وعدم الأمل والرجاء يجب أن يسعى لتحصيل الكمالات العلمية والعملية بالمقدار الممكن على حسب قدرته ووسعه، وهذا أحد وجوه تفسير ما يعبر عنه في بعض الروايات "آه من طول السفر وقلة الزاد" فهذا السفر لا نهاية له لأن المقصود لا محدود ولا متناه.
المقدمة الثالثة:
أن من مسببات الانجذاب إلى الكامل اللامحدود الانجذاب إلى الكامل من بني الانسان، فنجد الناس ينجذبون إليه وهذا ما يثبته علماء الاجتماع حيث يذكرون أن من أعرق الاساطير في تاريخ البشرية هي اسطورة البطل، ولا يكاد يخلو مجتمع وملة منها، حيث يصورون البطل الشجاع والهمام المتحلي بمحاسن الاخلاق، ونرى الناس يندفعون إلى التشبه به في كافة جوانبه وذلك للاعتقاد أن كمالاته من اللامحدود.
المقدمة الرابعة:
أن من كمالات الانسان الارتباط باللامحدود علما وقدرة و هيمنة على كل عالم الخلقة أو مَن تكون له السيطرة على كل شيء، وهذا لا يعني الاحاطة المطلقة بالعزل عن الذات المقدسة وإلا لم يكن ذلك كمالا، ونفس وجود هذا الأمر و النزع الفطري دال على عدم امتناعه.
الصياغة الثانية:
وهي تنطلق من نفس ما انطلقت منه الأولى أن الانسان ينجذب نحو الكمال اللامحدود.
المقدمة الثانية:
أن الحركة نحو أية غاية كمالية يشترط فيها أمران ذكرناهما فيما سبق: كون الهدف ممكنا وليس بممتنع ولا محال، وان يكون الكمال المطلوب غير حاصل للانسان فعلا.
المقدمة الثالثة:
أن الكمالات المطلقة للذات المقدسة لا يحدها حد والانسان يعلم من نفسه أنه لا يمكن أن ينقلب إلى اللامحدود، فحتى تكون تلك الكمالات ممكنة يجب أن تتنزل إلى الحظيرة الانسانية حتى يتصورها الانسان ممكنة التحصيل مع بقاء تلك الكمالات المتنزلة غير حاصلة لديه.
وينتج من ذلك أن الارتباط بالذات المقدسة يجب أن يكون بواسطة رابطة من الحقيقة البشرية وقد ذكرنا سابقا أن المقتدى يجب أن يتحلى بالصفتين الغيبية والبشرية، وقد أشار القران إلى هذه الحقيقة (لو أرسلنا إليهم ملكا للبسنا عليه
والخلاصة: أن الموجب لحفظ الخوف والرجاء حسب التعبير الشرعي والموجب لضمان دوام الحركة حسب التعبير الفلسفي، والموجب للايمان بالغيب حسب تعبير الروايات (ونعني بالايمان بالغيب الاعتقاد بغيب الكمال اللامحدود والانجذاب إليه فتتحكم إرادات الغيب في التكامل بنحو غير منقطع) لا يتحقق إلا بوجود الرابطة، فمآل مَن لم يؤمن بالرابطة أنه لا ينجذب ولا يؤمن بالذات المقدسة ومعنى الايمان بها هو الايمان بالله تعالى.
وضرورة الارتباط بالله عز وجل عن طريق الواسطة يؤمن به العامة أيضا باضطرارهم الفطري، إلا أنهم في تطبيق مَن يلبسونه لباس العصمة يشتبهون في التطبيق، وهذا هو عين الانحراف والضلال، مثلا يلبسون الصحابي أو بعضهم ثوب العصمة والكمال العلمي والعملي وهذا واضح من خلال ما ينقلونه من فضائل للأول والثاني والعشرة المبشرة بالجنة كما يدعون، ونحن نستشهد بذلك على أنه في واقعه استجابة لنداء الفطرة الذي قد أشرنا إليه في بداية الدليل وإقرار بمسلك الإمامية ومعتقد الامامة العهدية الالهية، و لأجل ذلك نلاحظ اطلاق الروايات على الأول والثاني الجبت والطاغوت لأنهما في قبال العبودية والمخلوقية، فالجبت مأخوذ من الجب وهو الطم أو القطع أي السد العام لطريق الحق وسلوك الكمال، والطاغوت من الطغيان والتمرد في الذات على ما توجبه حقيقة الفطرة البشرية بأن يكون عبدا للعيش ويدرك حالة الفقر في حقيقته لربه فيتمرد ويعتد بذاته مستقلة ومستغنية عن المدد الرباني.
____________
1- الانعام: 9.
فالامام مظهر عقلي أتم للخوف والرجاء الذي يجب أن يتحلى به الانسان ليتكامل وليكون مرتبطا بالذات المقدسة.
وهاهنا اشكال: أن هذه الصياغة تثبت كيفية الارتباط بين أفراد البشر والذات المقدسة وذلك عبر المعصوم الذي يتوفر فيه الشرطان اللذان يدفعان الانسان نحو الحركة، لكن كيف هو الارتباط بين المعصوم وهو بشر مع الذات المقدسة حيث يعلم أن كمالات الذات المقدسة أزلية أبدية لا يمكن تحصيلها فكيف يحصل الاقتداء والسير التكاملي بالنسبة إلى نفس المعصوم؟
والجواب: لقد ذكرنا في المراتب الوجودية أن النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) هو أفضل الائمة والمعصومين فهو يمثل الرابطة بينهم وبين الذات المقدسة، ويكونون في حالة استسعاء تام لتحصيل كمالات الحقيقة المحمدية، وهذا ما تفيده الروايات والآيات، وارتباط النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) بالذات المقدسة تكون مسألة من مختصات النبوة ولكن نشير إليها بنحو الاجمال، حيث أن عليه الصلاة والسلام أول ممكن في الوجود فهو يعلم أن ما في الذات الازلية غير منقطع الفيض عنه، والكمالات كلها تتجلى أو تتنزل تدريجيا شيئا فشيئا فالنبي (صلى الله عليه وآله) في تكامل دائم.
الصياغة الثالثة:
تعتمد على مقدمة نقلية ذكرناها فيما سبق، حاصلها: أن لفظ الأمة أطلق في
يبقى اشكال على هذه الصياغة: بأن القران الكريم أطلق الامة على عدد آخر من الأمم بل بعضها منحرف وتتبع إمام الضلال؟
والجواب: أن القرآن أطلق على هذه الأمة أنها الملة الحقة والأمة الحقة، وهي التي لديها هدف حقيقي يوصل إلى الكمال الواقعي أما الامم الأخرى فاطلاق الامة عليها لا يكون بلحاظ قصد الكمال الحق فهم لا يؤمّون إليه لأن سيرها لا ينتهي إلى الكمال المطلق.
تقييم الدليل الثاني:
أن هذا الدليل يثبت ما ذكره العلامة الطباطبائي من جنبة الهداية الايصالية في مقام الامامة وفيها جنبة الهداية الارائية، وهو ما ذكرناه من الاشكال والجواب ومدى الحاجة إلى الهداية التفصيلية ليحصل الاطمئنان في اتباع هذا الهادي.
الدليل الثالث:
ويسمى برهان الغاية، وله عدة مقدمات:
1 ـ أن كل انسان عندما يتكامل لا بد أن يجعل له غاية يريد الوصول إليها وهذا أمر ثابت في جميع مدارس المعارف البشرية القديمة والحديثة.
2 ـ أن الموحدين يجعلون هدفهم هو الله عز وجل أي التخلق بأخلاق الله.
3 ـ ثبت لدى أصحاب المعارف أن الفطرة لا يستحثها الكمال فقط بل ما يدفعها نحو السعي هو خوف الضرر والهلاك أيضا، وعليه فالايمان بالتوحيد والنبوة يوفر الجانب الأول وهو كونه غاية وهدف، أما الجانب الآخر فيوفره الايمان بالمعاد والعقاب الأخروي، وأن الانسان لا يعيش عالم الدنيا فقط وإنما يوجد هناك عوالم أخرى يحياها الانسان، وهذه الرابطة بين المعاد والتوحيد يقرها كثير من علماء النفس والاجتماع.
4 ـ أن الكمالات التي يسعى الانسان إلى تحصيلها لا تقتصر على كمالات عالم الدنيا بل هي كمالات في عوالم لاحقة لهذه الدنيا فهناك عوالم آتية فيها كمالات و دركات ومفاسد، وأعمال الانسان في هذه الدنيا تهيئ الارضية لنيل المكانة في تلك العوالم وهذا هو معنى المعاد.
فالنتيجة: أن هذا السير يقتضي وجود الهادي والمعصوم الذي يسير بالامة نحو المعاد الحقيقي واحراز الكمالات العالية في العوالم اللاحقة، وهذه المقدمات تثبت ضرورة تحلي الامام الهادي بـ:
آ - الهداية الايصالية وأن يكون له تصرف في النفوس تصرفا غير إلجائي أي تتكامل النفوس باختيار الانسان.
ج - الزعامة الاعتبارية في الانسان المجموعي وهو المجتمع.
فهذا الدليل يثبت ضرورة الامامة حسب تعريف العلامة مع التكملة التي أضفناها.
كذلك يبين الدليل الارتباط بين المعاد ومعرفة الامام ومن هنا نفهم قوله تعالى (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) فالدعوة والحشر والمعاد يكون بتوسط الامام لأنه هو الهادي لهم نحو الكمالات التي تظهر في العوالم اللاحقة، والآثار التي تظهر في المعاد إنما هي بتوسط الامام حيث يكون مرتبطا بالغيب، ويعلم بلوازم الافعال الدنيوية وحقائقها وما يضر وما ينفع.
ومن الأدلة النقلية التي تؤيد هذا الدليل وما هو دور الامام في المعاد:
قوله تعالى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) (1) ، وهذه الآية سوف نفرد لها بحثا مستقلا في المقام الثالث، إلا أنا نريد أن نشير إلى أن الآية تنص على أن المؤمنين (وهم الائمة كما في العديد من الروايات) يشاهدون حقائق أعمال العباد في الدنيا وهذا الاطلاع اطلاع ملكوتي.
وفي روايات أخرى تشير إلى أن الاعمال إذا أريد أن تصعد إلى السماء والعرش فإن الصاعد بها هوا لامام، وروايات تشير إلى أن دور الامام يكون عند قبض الروح وفي البرزخ وعقبات الانتقال من عالم إلى عالم، وروايات تشير إلى أن الامام يُنصب له عمود من نور على كل مدينة فيطلع على أعمال العباد.
وفي تفسير (وعلى الاعراف رجال...) (2) يشير العلامة إلى أنه على الاعراف رجال مشرفون على الناس من الاولين والآخرين يشاهدون كل ذي
____________
1- التوبة 9: 105.
2- الأعراف: 46.
تقييم الدليل الثالث:
إن هذا الدليل يثبت مقام الهداية الايصالية والارائية والزعامة والرئاسة التي ذكرها المتكلمون.
____________
1- الميزان 8: 132.
الدليل الرابع:
ويعتمد على مقدمات:
1 ـ أنه من الثابت روائيا وعقليا أن معرفة النفس من أشرف الطرق للمعرفة الربوبية وذلك لأنه طريق برهاني يؤول إلى العيان الحضوري بناء على "من عرف نفسه فقد عرف ربه" "أعرفكم بربه أعرفكم بنفسه".
2 ـ قد بينا في زاوية التعريف العقلي ل (ما الحقيقية) شئون النفس والرسول الباطن ودور العقل العملي والقلب واشرنا إلى صفات عشرة لدور العقل العملي وآثار القلب وسائر القوى.
3 ـ بمقتضى المطابقة بين الانسان الصغير والكبير، وأن المقصود من معرفة الرب ليس معرفة الذات الأزلية بل معرفة أفعال الذات وعالم الخلقة الذي هو عالم ربوبية الباري للخلق، والرب هو عنوان من الصفات الفعلية للباري عز وجل بل وبمقتضى المطابقة بين الانسان الكبير والمجموعي أي المجتمع وهو وأن كان اعتباريا إلا أن هذا الاعتبار ليس ناشئا من لا شيء، بل الاعتبار كما أشرنا إليه يقتنص وينتزع من التكوين، وقد مثلنا أن قوى الانسان الصغير كلها تتمثل في المجتمع فالجيش يمثل القوة الغضبية ووزارات الترفيه تمثل القوة الشهوية، والقوى المقننة تمثل العقل النظري، والقوة القضائية تمثل الوجدان والضمير وحسب تعبير القرآن (النفس اللوامة) فهذه هي المطابقة بين الانسان الكبير والصغير والمجموعي.
وبمقتضى هذه المقدمات إذا كان في الانسان الصغير توجد امامة ذات هداية ايصالية ارائية فنستكشف وجود ذلك في الانسان الكبير والمجموعي وهو دور الامامة في المجتمع، وما ذكرنا في كيفية تصرف العقل العملي في بقية القوى ينطبق على الامام في الانسان المجموعي.
الدليل الخامس
وهو برهان العناية، وقد تعرضنا له في الفصل الأول إلا أنا نعيده هنا ملخصا:
وهو علم الباري بالنظام الوجودي الأحسن، وعلى أكمل ما يكون عليه، وهذا العلم مستلزم لإفاضة الوجود الإمكاني الخلقي على أحسن ما يمكن أن يكون عليه، ولو بنحو الترتيب أو التدريج في العوالم كي تستقصي كل الكمالات في عالم الامكان (وهذا التعريف مأخوذ من مدرسة الاشراق والحكمة المتعالية) وقد أشرنا إلى أن قاعدة العناية الفلسفية هي بعينها قاعدة اللطف لدى المتكلمين حيث أن الاخيرة تعني أن كل فعل موجب لقرب المكلف من كماله المنشود، فإن الباري يحسن ويلطف تهيئته وايجاده ويقبح عدم ايجاده، فمن حيث اللب القاعدتان تعبران عن مفهوم واحد وأمر واحد، إلا أن الفلاسفة في منهجهم يعتمدون على العقل النظري في اثبات القاعدة، أما المتكلمون فيعتمدون على العقل العملي في اثبات القاعدة.
تقييم الدليل:
أن المتكلمين اقتصروا في اثبات الامامة في الانسان المجموعي على قاعدة اللطف ولم يتناولوا جانب الهداية الايصالية مع انها لطف أيضا، وقد قمنا بتوسعة الدليل ليشمل هذا الجانب أيضا حيث أن العناية صفة من صفات الباري وأنه لطيف خبير (إن الله بالناس لرؤف رحيم) .
ملاحظة عامة:
إلى هنا نلاحظ الارتباط بين الإمامة وبقية أصول الدين ففي الدليل الأول بينّا كيف الارتباط بين الامامة والنبوة، وفي الدليل الثاني بينا الارتباط بين الامامة وفطرة التوحيد وأن بوابة التوحيد هو الامامة، وفي الدليل الثالث بينا الارتباط بين الامامة والمعاد ودور الامام في عوالم ما بعد نشأة الدنيا، وفي الدليل الرابع انتقلنا من معرفة النفس إلى الامامة، وفي الدليل الخامس ننتقل من صفات الباري وإنها تستلزم الامامة.
وبتعبير آخر أن هذه الادلة ليست أدلة خطابية بل هي برهانية عرفانية في آن واحد أي ان ادراكها يحتاج إلى مقدمات فكرية من المعاني الحصولية وإلى ذائقة قلبية كي يدرك كنه تلك الأدلة الخمسة، ففيها مطالب علمية ممتزجة من العلم الحصولي والعلم الحضوري، والنكتة التي أردنا الاشارة إليها أن هذه الادلة الخمسة اللمية تدلل على أن أصول الدين تقود إلى الامامة.
الدليل السادس:
وهو من الأدلة الإنية التي اعتمدها المتكلمون والتي تنطلق من احتياج الكل إليه وغناؤه عن الكل دليل على إمامته، وعبر البعض عنه انه اجتمعت فيهم من الفضائل كلها، فهم احق بالامر بحكم العقل العملي، وبتعبير ثالث أنهم (عليهم السلام) المشار إليهم باشخاصهم وأسمائهم بحسب الجرد التاريخي وباعتراف كل الفرق والملل قد فاقوا نوابغ كل صفة في كمال تلك الصفة.
تفصيل ذلك:
وهكذا في معالجتهم للمشاكل الفكرية التي انتقلت إلى الامة الاسلامية من الحضارات الأخرى فتراهم يجعلون لها الحلول بنحو لا يصطدم مع الاسلام وضرورياته، وموارد هذا شتى من التوحيد وصفات الحق تعالى، والعدل والمعاد والقضاء والقدر وما ورد من الشبهات حول نبوة الأنبياء (عليهم السلام) ، وبقول ابن أبي الحديد في ذيل إحدى الخطب "لم تنتشر المعارف الالهية من غير هذا الرجل ولم يكن في الصحابة من تصور أو صور شيئا طفيفا من المعارف"، ونضيف على مقولته تلك أن عباراتهم وحلولهم وحكمهم ظلت حتى يومنا هذا مدار بحث
فمثلا المتقدمون يجعلون الظاهر في قبال الباطن والأول في قبال الآخر، بينما الامام (عليه السلام) جعل الذات المقدسة هو الظاهر والباطن والاول والآخر، "فهو وحدة واحدة يستوي فيها الظاهر والباطن والأول والآخر"، وفي كتاب التوحيد في ما ذكره الامام الصادق (عليه السلام) تبيان إلى كيفية الدلالة على ذلك.
اما الأول فباطل وذلك لأن القول به هو نفي لوجود الله وذلك لأن الطفرة هي صدور شيء من شيء من دون سبب وعلة والاتفاق عبارة أخرى عن نفي السببية، وأن حيازة هؤلاء على الريادة في الصفات الكمالية إن كان اتفاقا يعني أن يد الله مغلولة، وأنه ترك الخلق كما خلقهم من دون هدايتهم والاتصال بهم.
فيبقى الثاني وأن وجود تلك الصفات فيهم لم يكن من باب الصدفة والاتفاق بل أن هذا يدل على عناية الهية وافاضة ربانية جعلت هؤلاء متصفين بتلك الصفات طيلة تلك السنين المتعاقبة والتي شهدت منافسين عدة حاولوا النيل منهم بشتى الطرق والوسائل، فتوجد في البين إفاضة ربانية للكمالات العلمية والعملية، وإن الوراثة بينهم ليست وراثة نسبية بل وراثة نورية تكوينية جعلت تلك الحقيقة الغيبية مستمرة بهم.
وبهذه المقدمة تكون تلك الادلة الإنية مثبتة للمقام الغيبي الذي نتوخاه في الامامة والذي يكون به عدل النبوة وسفارة إلهية.