حديث شريف


قال: أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي قال: حدثني بكر بن صالح الرازي، عن سليمان بن جعفر الجعفري..

قال: سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول لأبي: ما لي رأيتك عند عبد الرحمن بن يعقوب؟..

قال: إنه خالي.

فقال له أبو الحسن عليه السلام: إنه يقول في الله قولاً عظيماً، يصف الله تعالى ويحده، والله لا يوصف. فإما جلست معه وتركتنا، وإما جلست معنا وتركته.

فقال: إن هو يقول ما شاء، أي شيء علي منه إذا لم أقل ما يقول؟

فقال له أبو الحسن عليه السلام: أما تخافن أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعاً؟ أما علمت بالذي كان من أصحاب موسى وكان أبوه من أصحاب فرعون، فلما لحقت خيل فرعون موسى عليه السلام تخلف عنه ليعظه، وأدركه موسى وأبوه يراغمه حتى بلغا طرف البحر فغرقا جميعاً، فأتى موسى الخبر، فسأل جبرئيل عن حاله، فقال له: غرق رحمه الله ولم يكن على رأي أبيه، لكن النقمة إذا نزلت لم يكن لها عمن قارب المذنب دفاع!. (1).

____________

(1) راجع: أمالي المفيد ص112 ولاحظ أصول الكافي ج2 ص 375.


الصفحة 6

الصفحة 7

مقدمة الطبعة الثانية:

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..

وبعد..

فهذه هي الطبعة الثانية لكتاب [براءة آدم] عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام، وهي تشتمل على كثير من الإيضاحات، والتصحيحات، والإضافات، في مختلف الموارد.. ولكنها لم تصل إلى حد العدول عن النظرة الأساسية التي سجلت في الطبعة الأولى.. بل هي تدخل في سياق تأكيدها..

وفي جميع الأحوال نقول:

إنه لو لم يكن من نتائج هذا البحث إلا أنه استطاع أن يقدم هذه القضية بنظرة أخرجها من دائرة الإنحصار في اتجاه واحد لكفى، فكيف إذا كان قد أسهم في رسم معالم هذا الحدث، وملامحه، بصورة تقترب من الوضوح التام، في مختلف عناصرها، ومكوناتها الضرورية التي تفيد في إقناع كل من يستغرق في شبهات كثيراً ما تؤدي به إلىالطعن في عصمة النبي آدم صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا وآله..


الصفحة 8
وهو يظهر بما لا مجال معه لأي شك أو شبهة أن هذه القضية إنما هي من جملة ابتلاءات الأنبياء، التي أراد الله من خلالها أن يظهر مكنونات ضمائرهم، وحقيقة وشرف معادنهم وعناصرهم، ومدى صفاء جوهرهم، ليقيم بذلك الحجة على الناس، ولتتمثل لهم الأسوة والقدوة، بأجلى وأتم حالاتها، وليبين لهم حقيقة مقاماتهم، وأن الله قد اصطفاهم واجتباهم استحقاقاً منهم لذلك، وتفضلاً منه عليهم.

كما {.. ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} (1). واستحق النبي إبراهيم عليه السلام أن يعرف من اسم الله الأعظم ثمانية أحرف (2)..

وامتحن الله النبي آدم (عليه السلام)، فنجح وأفلح، واصطفاه الله، واجتباه، واستحق أن يعرف من إسم الله الأعظم خمسة وعشرين حرفاً.. كما ورد في الروايات لأنه رضي أن يتخلى عن كل شيء من الملذات والنعم، والسعادات، ويتحمل كل أنواع المتاعب، والمصائب، والبلايا الدنيوية، في سبيل أن يكون في مقامات القرب والزلفى، في المحل الأعلى، مع محمد وأهل بيته الطاهرين..

____________

(1) الآية 124 من سورة البقرة.

(2) ولعل لهذه الأحرف آثاراً في مجالات التصرف المختلفة التي يراد، أو يفترض في كل نبي أن يتصدى لها، وليس بالضرورة أن يكون لهذه الأحرف علاقة بسعة علم النبي المعطاء له، كما أنها لا علاقة لها بأفضليته، إذ لا شك في أفضلية النبي إبراهيم عليه السلام على سائر الأنبياء، ما عدا نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله، فضلاً عن أن يمكن أن يكون لبعض الأحرف إحاطة وسعة بحيث تشمل غيرها من الأحرف على غرار الأسماء الإلهية، فإنها رغم بلوغها تسع وتسعين اسماً، فإن العلماء ردوها إلى سبعة، واعتبروا هذه السبعة هي أجل الأسماء، والباقي مندك تحتها، والله أعلم.


الصفحة 9
هذا.. ولا بد لي من شكر الإخوة الأعزاء الذين لم يبخلوا علي بملاحظاتهم، وبتأييدهم وبآرائهم، فشكر الله سعيهم، وسدد على طريق الخير والهدى والصلاح خطاهم..

والحمد لله، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين..


حرر بتاريخ 18 شهر رجب 1424 للهجرة..
جعفر مرتضى الحسيني العاملي
عامله الله بلطفه وإحسانه..
عيثا الجبل (عيثا الزط سابقاً)


الصفحة 10

الصفحة 11

تقديم، وتمهيد:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين، محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين..

وبعد..

فإن في حياة الشعوب والأمم أفراداً وجماعات، قضايا حساسة وأساسية ينطلق منها وعيها، ويقوم على أساسها التكوين الفكري والإيماني، ثم العاطفي لها، بل هي تلامس جوهر فطرة تلك الشعوب، فتثير كوامنها، أو تكون سبباً في إلحاق أنواع من الأذى بها.

ولأجل ذلك لا بد من توخي الحذر، وعدم المبادرة إلى إلقاء الكلام في تلك القضايا، على عواهنه، وبصورة مرتجلة، ومن دون تدبر، وتأمل وتثبت.. بل لا بد من استحصاف الرأي، واستكناه الأمور بروية وبصيرة، وبصدق وأمانة..

وإن أخطر هذه القضايا وأشدها حساسية في الإسلام، هي قضايا الإيمان والاعتقاد، خصوصاً ما يرتبط منها بالأنبياء، والأئمة الأصفياء، الذين هم الأسوة والقدوة، والذين لكل شيء يرتبط بهم تأثيره العميق جداً في بناء شخصية الإنسان، وفي تكوين خصائصه الإنسانية والإيمانية، وفي تبلور ميزاته في مختلف جهات وجوده.


الصفحة 12

الطبل الأجوف:

غير أنك قد تواجه في حياتك من يدعي المعرفة، ويتاجر بها، ويبيع ويشتري ويهب ويمنح من ألقابها ما شاء لمن شاء.

ويا ليته يكتفي برفع شعاراتها، ولوك عباراتها، بل هو يتعدى ذلك إلى حد التطاول على رموزها، ثم إلى أن يقنع نفسه بأنه هو طليعة روادها، وغاية جهدها وجهادها، فيبادر إلى طرح آرائه السقيمة، وأفكاره العقيمة في كل اتجاه. حتى في قضايا الإيمان والاعتقاد..

فإذا رجعت إليها وإليه، فلن تجد أمامك إلا ألعوبة تحركها أيد في الظلام، أو أضحوكة لا تعرف خفاياها لأن الناس نيام، فهو ينعق بما لا يسمع، كالطبل الأجوف، له صوت عال، وجوف خال. لا يرجع في دعاويه إلى أساس، ولا يعتصم بركن وثيق، بل يرتجل الرأي، ويلقي الكلام على عواهنه، فيخطىء المرمى، ويقع في المتناقضات، ويضيع في متاهات ما يثيره من عجيج وضجيج، دون أن يعرف الخطأ من الصواب، والزائغ من السائغ، فما أشد انطباق قوله تعالى عليه:

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} (1).

أما أهل العلم والفكر الحقيقيون والرساليون، فإنهم الذين يلزمون أنفسهم بقواعد ومناهج، أثبتت لهم الأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة حقانيتها وصوابيتها وواقعيتها..

____________

(1) الآيات من 8 إلى 9 من سورة الحج.


الصفحة 13
إن هؤلاء قد أعطوا هذه الضوابط والمعايير حرّيتها ـ بأمانة وصدق ـ لتهيمن على كل حركتهم الفكرية، والتزاماتهم الإيمانية، ولتحكم وتضبط مسيرتهم في كل موقف، وفي كل مجال.. فهي التي تفرض عليهم القرار، وتحدد لهم المسار، حتى إذا اعتمدوا رأياً أو موقفاً، ثم ظهر لهم: أنه لا ينسجم معها فإنهم يتراجعون عنه، بكل رضى، وحزم، وسيشعرون بالسعادة، لأنهم اهتدوا إلى الحق، وبالامتنان وبالعرفان لمن يدلهم عليه، أو يهديهم إليه، على قاعدة رحم الله من أهدى إلى عيوبي.

وتصبح هذه المعايير والثوابت هي السبب الأقوى في توحيد النظرة، وفي تجذر الفكرة على أسس سليمة وقويمة، وفي الانصهار في بوتقة الحقيقة برؤية صحيحة، ملؤها النقاء والصفاء، وبها تكون السعادة، ويكون البقاء..

مواجهة الانحراف:

وحين واجه هؤلاء العلماء الأبرار، ما ينسبه أهل الزيغ والهوى إلى الأنبياء من أمور تنافي عصمتهم الشاملة، فإنهم واجهوا ذلك بالموقف الحازم والحاسم، وبالرفض القاطع لكل هذه المقولات، لمنافاتها للأدلة القطعية التي تثبت طهارتهم وعصمتهم (عليهم السلام).. ثم عكفوا على تفسير الآيات الشريفة بما ينسجم مع هذا الاتجاه، ويتناغم مع تلكم المعايير.

وحتى لو فرض أن بعضهم قد وقع في الخلل والزلل، والمخالفة للقاعدة وللمنهج الأصيل، فلا ريب في أنهم لا يصرّون على رأيهم ذاك إذا ظهر لهم خطله وفساده، بل هم سيشكرون من يدلهم عليه، أو يشير إليه.

الرؤية الصحيحة:

وإن مما لا ريب فيه: أن المعروف بين الخاص والعام من مذهب شيعة أهل البيت (عليهم السلام) هو عصمة الأنبياء والأئمة (صلوات الله وسلامه

الصفحة 14
عليهم) عن الخطأ، والسهو، والنسيان، في التبليغ، وفي غيره. كما أنهم معصومون ومطهرون عن الذنوب صغيرها وكبيرها..

غير أن هناك ـ من غير الشيعة الإمامية ـ من حاول أن يستفيد من بعض الآيات الكريـمة، أنـها تنسب للأنبياء خلاف ذلك.

الأمر الذي دعا العلماء الأبرار إلى بسط القول في هذه الآيات لبيان خطأ هذا الفهم، حفاظاً منهم على صفاء الاعتقاد لدى الناس الطيبين الذين يأخذون الأمور بعفوية وصدق، الأمر الذي يجعلهم أقل سعياً لتحصين أنفسهم من الوقوع في الشك والشبهة التي يحاول أصحاب الأهواء أن يوقعوهم بها.

آيات معصية آدم (عليه السلام):

ولعل الآيات التي تحدثت عما جرى لآدم عليه السلام في مواجهة مكر إبليس، وفيها قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (1)، هي الأوفر حظاً، والأكثر تردداً على ألسنة السائلين والمجادلين، الذين يترددون ما بين قوسي صعود ونزول.

فمن السؤال البريء، الطالب لنيل الحقيقة، والراضي بها..

إلى سؤال يسعى إلى إشباع شهوة حب الظهور، من خلال الاستغراق في المراء والجدال العقيم، بهدف إسقاط الطرف الآخر في دوامة من العجيج والضجيج المرهق والجريء إلى حد الوقاحة، وتجاوز كل الحدود..

وانتهاء بما يسعى إليه الكثيرون من أصحاب النوايا السيئة، من اهتبال الفرصة لإثارة الشبهة، وزعزعة يقين الطيبين من الناس، ثم جرهم إلى أباطيل، وأضاليل، وأفائك يقدمونها إليهم على أنها البديل الصالح، والبلسم الشافي،

____________

(1) الآية 121 من سورة طه.


الصفحة 15
في حين أنها السم الزعاف، وما أدراك ما السم..

القرآن.. وترشيد الفكر البشري:

والملاحظ أن آيات القرآن الكريم في سياق عرضها لما جرى بين آدم عليه السلام، وإبليس لعنه الله.. وهي أخطر قضية ترتبط بأمر اعتقادي بالغ الحساسية، وله مساس عميق جداً بالتكوين الفكري، وبالنظرة، وبالتعامل، والسلوك، والتعاطي مع الأنبياء، ومع تعاليمهم، وله تأثير على حقيقة الارتباط بهم صلوات الله عليهم..

نعم.. إن القرآن الكريم قد عرض هذه القضية بطريقة تهدف ـ فيما تهدف إليه ـ إلى ترشيد الفكر البشري، وتحريك العقل الإنساني، وفتح آفاق المعرفة أمام الإنسان، وتعميق الرؤية لديه، وإطلاقه من أسار السطحية القاتلة، التي تشل حركته، وتسلبه أقوى مبررات وجوده.

وهذا هو ما عوّدناه القرآن الكريم في سياساته البيانية في مختلف المقامات والأحوال. فهو يريدنا أن نصبح قادرين على إدراك أكبر قدر ممكن مما تختزنه الألفاظ، في مفرداتها وفي تراكيبها من إيحاءات وإلماحات، تفيد في تنمية الفكر، وتعمق الوعي الإيماني لدى الإنسان، ليقوم الإيمان على أسس راسخة وقوية..

هذا البحث:

ومهما يكن من أمر، فقد أحببت في هذا البحث أن أقدم عرضاً سريعاً، وموجزاً جداً لما ترمي إليه هذه الآيات المباركات.

وسيظهر بوضوح أن ما يزعمون أنه هو الظاهر من الآيات المباركة، ليس بظاهر منها.. وإنما للآيات منحى آخر، يختلف، بل يتناقض مع المنحى الذي يزعمون أنها تسير باتجاهه، أو تشير إليه.


الصفحة 16
بل إننا لا نبعد إذا قلنا: إن الآيات الشريفة قد جاءت في سياق مدح آدم عليه السلام وتعظيمه، وتكريمه، وتفخيمه، لا لتلومه وتذمه..

إنها تريد أن تمنحه وسام التقدير الفائق، ولتؤكد على حقيقة ميزاته وخصائصه الفضلى، ولتشير إلى مقامه العظيم عند الله سبحانه. وأنه عليه السلام إنما نال هذا الوسام وتبوأ ذلك المقام، لنجاحه الباهر في الامتحان، وذلك حين أكل من الشجرة، إذ لولا أكله منها لاستحق الطرد المهين والمشين، ولكان جديراً بالإسقاط عن درجة النبوة، ولم يكن ليصلح لها، لا من قريب، ولا من بعيد.

رجاء.. ودعاء:

وإذا كانت هذه النظرة ستكون مثيرة للقارىء الكريم، فإن رجاءنا منه هو أن لا يستعجل الحكم، وأن يختزل من فورة الغضب لديه، ولا يبادر إلى الحكم بالبطلان والبوار على هذا البحث قبل أن يتم قراءته، علماً بأنه لن يصاب بالإرهاق أو الملل، وذلك لما فيه من اقتضاب وإيجاز.

حتى إذا أتم قراءته، وعرف مراميه ومقاصده، واطلع على ما فيه من دلائل وشواهد، وإشارات، فإنه سيجد الفرصة متاحة أمامه للرد أو القبول، إذا وجد لأي منهما المبرر المعقول والمقبول..

ونسأل الله سبحانه أن يهدينا وإياه سبيل الرشاد، وأن يمنحنا التوفيق والسداد، إنه ولي قدير، وبالإجابة حري وجدير.

والحمد لله، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين.


حرر بتاريخ 6/4/1422 هـ. ق
عيثا الجبل (عيثا الزط سابقاً)، جبل عامل، لبنان
جعفر مرتضى العاملي


الصفحة 17

آيات بيّنات..

الآيات الكريمة:

1ـ إن الآيات التي تحدثت عما جرى بين آدم عليه السلام وإبليس هي التالية:

{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.. (1).

وقال تعالى:

{وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ

____________

(1) الآيات من 35 إلى 38 من سورة البقرة.


الصفحة 18
أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ * قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ * يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}.. (1).

وقال تعالى:

.. {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى * فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}.. (2).

____________

(1) الآيات من 19 إلى 27 من سورة الأعراف.

(2) الآيات من 115 إلى 123 من سورة طه.


الصفحة 19

الفصل الأول:



مـمـهِّـدات





الصفحة 20

الصفحة 21

مهارب ومسارب:

لقد رأينا: أن الكثيرين حين واجهوا الآيات التي تتحدث عن آدم عليه السلام، وعن غيره من الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) قد استسلموا للشبهة التي تثار، وانهاروا أمامها أي انهيار، وقد تجلى ذلك في مقولات عجيبة وغريبة، صدرت عنهم في أكثر من اتجاه، حتى لقد قال فريق منهم: إن الأنبياء غير معصومين مطلقاً.

وفريق آخر قال: إن الأنبياء قبل البعثة غير معصومين، وإنما كانت قصة آدم عليه السلام قبل بعثته..

وثالث ذهب إلى: أن المراد بإبليس هو القوة الداعية إلى الشر، في الإنسان، وليس المراد به إبليس الحقيقي، ليقال: إنه قد تسلط على واحد من عباد الله المخـلـَصـين.

ورابع ادعى: أن المراد بآدم عليه السلام ليس هو الشخص المعروف، الذي هو نبي معصوم، وإنما المراد به آدم النوعي، والقصة تخييلية محضة. ولم يقدم أي دليل على ذلك سوى حدسه، وظنونه، التي لن تغنيه من الحق شيئاً، لأنها من دون أي مبرر مقبول أو معقول.. (1).

إلى غير ذلك من أمور قيلت، تدخل في دائرة الشطط، والشذوذ،

____________

(1) راجع تفسير الميزان ج8ص37.


الصفحة 22
ومجانبة الحق، أو تدور في فلك التحكمات الباردة، وإطلاق الدعاوى الفارغة من دون أي دليل.

غير أنه قد بقي هنا أمران، نشير إليهما في ما يلي بإيجاز، وهما:

1 ـ القول: بأن لا أوامر مولوية قبل التشريع..

2 ـ إن ما حصل لآدم عليه السلام كان من قبيل ترك الأولى.

لا أوامر مولوية قبل التشريع:

لقد حاول بعض الأعلام أن يقول ما ملخصه:

قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1).

فهذه الآية أشارت إلى أن التشريعات التفصيلية قد أنزلت لآدم عليه السلام وذريته بعد الأمر الثاني بالهبوط، الذي هو أمر تكويني متأخر عن الكون في الجنة، والأكل من الشجرة، فحين الأكل منها لم يكن دين مشروع، ولا تكليف مولوي، فلا يتحقق ذنب عبودي، ولا معصية مولوية، بل هو ظلم نفس.

أما معصية النهي والأمر فهي بمعنى عدم الانفعال عن الأمر والنهي، سواء أكان مولوياً أو إرشادياً. وليس هو معصية مولوية.

وهو غواية لعدم تمكنه من حفظ المقصد، وتدبير نفسه في معيشته بما يلائم المقصد (2).

____________

(1) الآيتين 38 و 39 من سورة البقرة.

(2) راجع: تفسير الميزان ج1 ص137 و138 بتصرف وتلخيص.


الصفحة 23
ونقول:

إن هذا الكلام لا يمكن قبوله، وذلك لأن إنزال الشرائع، وإن كان قد تم بصورة فعلية بعد هبوط آدم عليه السلام إلى الأرض.. غير أن كون النهي عن الشجرة مولوياً أو غير مولوي، ليس مرتبطاً بذلك.. إذ لا مانع من أن يكون هذا الأمر الموجه للنبي آدم مولوياً، تماماً كما كان أمر الله تعالى للملائكة ولإبليس بالسجود لآدم عليه السلام، مولوياً أيضاً.

ولأجل ذلك استحق إبليس اللعن والطرد إلى يوم الدين، لمجرد مخالفته للأمر المولوي الإلهي الموجه إليه.

فلا يصح جعل عدم تشريع الدين إلا بعد الهبوط الثاني، دليلاً على عدم وجود معصية مولوية، وعدم تحقق ذنب عبودي، وانحصار الأمر بظلم النفس. إذ يمكن أن يوجه الله تعالى أمراً ونهياً لآدم عليه السلام، لا تجوز له مخالفته. حتى في تلك المراحل المتقدمة أيضاً.

الإلزام لا يتوقف على التشريع:

وغني عن القول: إن الأوامر المولوية ليست منوطة بالتشريع وجوداً وعدماً، ليقال: إنه لم يكن قبل هبوط النبي آدم عليه السلام إلى الأرض تشريع. فلم يكن هناك أوامر ملزمة.

وذلك لأن التشريع إنما جاء لينظم علاقة الإنسان بربه، وبنفسه، وبمجتمعه، ومحيطه.. وفق ملاكات المصالح والمفاسد الواقعية..

ولكن للأوامر المولوية ملاكات أخرى غير ملاكات المصالح والمفاسد، وهو ملاك المولوية والعبودية، والمالكية والمملوكية، وحق الأبوة، فإنه أيضاً منشأ للإلزام ببعض الأوامر، وحق الألوهية والربوبية على المألوه والمربوب..

فإن هذا الأمر مما يلزم به عقلاء البشر بعضهم بعضاً، ويتعاملون على

الصفحة 24
أساسه، ومن خلاله، ولا يربطونه بتشريع إلهي، بل هم يرونه حقاً طبيعياً، يفرض نفسه على واقع حياتهم، ومعاملاتهم، فحق المالك على مملوكه، والمولى على عبده، والخالق، والرب والإله، على مخلوقه و.. و.. يفرض نفسه، حتى قبل نزول الشرائع..

بل إن هذا القانون هو الذي يفرض على الناس الالتزام بالشرائع، وإطاعة الأوامر الإلهية، هو قانون تحكم به العقول..

والنبي آدم عليه السلام هو صفوة الله، الذي يمتاز بكمال العقل، وبالخلوص، والصفاء، من الجهالات، والشهوات، والشبهات، التي يمكن أن تؤثر على العقل في قراراته، وأحكامه، وإدراكاته..

وبذلك استحق النبي آدم التكريم الإلهي، فجعله الله حين خلقه قبلة لسجود الملائكة، واستحق إبليس الطرد من رحمة الله حين أبى واستكبر عن السجود إليه..

ولعلك تقول: إن النبي آدم عليه السلام قد خلق للأرض، ولم تكن شريعتها الخاصة بها قد وضعت بعد.. أما إبليس والملائكة فلهم أحكام أخرى، فهم مؤاخذون بما قد يختلف عما يؤاخذ به الأرضيون..

ويجاب عن ذلك: إن ما يطلب من إبليس ومن النبي آدم عليه السلام شيء واحد، ومن سنخ واحد، وهو أن يكونا معاً في موقع العبودية والطاعة لله تعالى، قضاء لحق ألوهيته، وربوبيته، ومالكيته، وخالقيته، و.. و..

ومن موارد ذلك: أن لا يتعدى إبليس على النبي آدم ولا يخالف أمر الله له فيه، وفي ذريته..

كما أن على النبي آدم أن يلتزم بأوامر الله المولوية، والإرشادية، على حد سواء..


الصفحة 25
وهذا الكلام جار بالنسبة للملائكة، ولجميع المخلوقات بدون استثناء، قبل خلق النبي آدم عليه السلام وبعده.. وإن كانت للأوامر الإرشادية بالنسبة إلى البشر غير الأنبياء والأوصياء، خصوصية اقتضتها طبيعة الواقع الذي هم فيه، لأن الشرائع، التي يحتاجها الأرضيون وغيرهم، فإنما تقتضيها خصوصيات تكمن في واقع خلقتهم وظروفهم، وقدراتهم وحالاتهم..

خلاف الأولى:

وربما نجد: أن بعضهم قد اختار في توجيه قضية آدم عليه السلام التعبير الذي يقول: إن ذلك كان من قبيل ترك الأولى؛ فقد قال العلامة الطباطبائي (رحمه الله):

[ابتلاء آدم عليه السلام كان قبل تشريع الشرايع، فكان المتوجه إليه إرشادياً. وما ابتلى به من المخالفة كان من قبيل: ترك الأولى] (1).

وقال أيضاً عن التعبير القرآني الذي يوحي بصدور المعصية من آدم عليه السلام:

[إنما هي معصية أمر إرشادي، لا مولوي.

والأنبياء عليهم السلام معصومون من المعصية والمخالفة في أمر يرجع إلى الدين الذي يوحى إليهم فلا يخطئون، ومن جهة حفظه فلا ينسون ولا يحرفون، ومن جهة إلقائه إلى الناس وتبليغه قولاً، فلا يقولون إلا الحق الذي أوحي إليهم، وفعلاً فلا يخالف فعلهم قولهم، ولا يقترفون معصية صغيرة ولا كبيرة، لأن في الفعل تبليغاً كالقول.

وأما المعصية بمعنى مخالفة الأمر الإرشادي الذي لا داعي فيه إلا إحراز

____________

(1) تفسير الميزان ج14 ص227.