وليكن هذا معنى قول القائل: إن الأنبياء (عليهم السلام) على عصمتهم يجوز لهم ترك الأولى. ومنه أكل آدم عليه السلام من الشجرة] (1).
ونقول:
أولاً: علينا أن نحمل كلامهم على أن مقصودهم هو الترك المستند إلى المقدمات الصحيحة، التي تناسب عصمة النبي أو الوصي، وحكمته، وعقله، وتدبيره، بحيث يكون تركه للأولى من أجل أنه رأى في مرحلة الظاهر هذا الترك هو الأولى. وليس المقصود أنه عرف أنه الأولى، ثم تركه..
فإذا ظهر أن الواقع كان مخالفاً للظاهر، فإن ذلك لا يضر، لأنه تكليفه هو العمل بما ثبت له في مرحلة الظاهر..
والسبب في ذلك هو: أن تركه للأولى، إذا كان من أجل أنه لم يدرك أولويته، وكان عدم إدراكه لذلك يمثل نقصاناً في مستوى وعيه، وفهمه، وحكمته، أي أنه لا يدرك ما هو أولى وراجح، ولا يدرك أيضاً: أن عليه أن يأخذ بالراجح، ويلتزم به.
فمن المعلوم: أن ذلك لا يصح في حق الأنبياء والأئمة، كيف! وهم أعقل البشر، وأصحهم إدراكاً، وأحكمهم حكمة، وأصفاهم نفساً، وأعدلهم سجية، فلا يمكن أن يكونوا عاجزين عن إدراك ما يعقله ويدركه سائر الناس، خصوصاً فيما هو من قبيل إدراك جهات الحسن والقبح، وله علاقة بالتدبير
____________
(1) المصدر السابق ج14 ص222.
كما أن من الواضح: أن إدراك لزوم الأخذ بالراجح إنما يتأكد لدى العقلاء الحكماء، الذين لا ينطلقون في مواقفهم من هوى، ولا تدفعهم وتتحكم فيهم الغريزة العمياء، ولا تسيّرهم العصبيات أو العواطف..
وليس لنا أن نفرض: أنهم (عليهم السلام) يدركون ذلك كله، ويلتفتون إليه.. ولكنهم يميلون إلى الأخذ بالمرجوح، وترك ما هو راجح وأولى من دون أي سبب، سوى الاستهتار بالراجح. فإن ذلك معناه وجود خلل في درجة الحكمة، وفي التدبير الصحيح لديهم.
كما أنه يعني: أن ثمة خللاً أكيداً في توازن الشخصية النبوية والإمامية التي يفترض أن تكون في أعدل الأحوال.
ولا يكون ذلك بأقل من الاستخارة التي وردت مشروعيتها على لسان النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) وأمرونا ـ ولو من غير إلزام ـ بالعمل بمقتضاها. فإن حقيقتها مشاورة الباري، وهو علام الغيوب في أمر ما.
فهي إشارة نصح وإرشاد وتوجيه إلى أن في العمل، أو في تركه خيراً وفائدة وصلاحاً.
والمعصومون (عليهم السلام) أولى الناس بالعمل بما فيه الخير والصلاح والأخذ بالأولى والأرجح، وهم الأسوة والقدوة لنا، أفتراهم يأمروننا بالعمل وفق الاستخارة التي هي نصح وإرشاد، وتوجيه للراجح، ثم يخالفون هم قضاء عقولهم في ذلك، ويختارون المرجوح؟!!.
وعلى جميع الفروض والتقادير، فإن إنساناً كهذا لن يكون هو الأصلح لمقام الأسوة والقدوة والهداية للناس إلى الرشد، وإلى الأصلح والأتم والأنفع لهم..
وذلك كله يحتم علينا أن نقول: إنه حين يختار المعصوم المرجوح، فلا بد أن يراه على أنه هو الراجح، رؤية لا تخل بعصمته، ولا بحكمته، ولا بعقله، ولا بتدبيره، ولا بتوازن الشخصية لديه..
ولو بأن يقال: إن مرجوحيته إنما هي في مقام الواقع وراجحيته إنما هي في مقام الظاهر، والتكليف متوجه إليه بما هو في مرحلة الظاهر، وبحسب ما تؤدي إليه الأدلة، والحجج المجعولة، والتي يجب عليه الالتزام بها..
أما مرحلة الواقع فلا تكليف فيها حتى لو علم به من طرق أخرى، إذ أنه ممنوع عن متابعة علمه الواصل إليه منها..
وقضية آدم عليه السلام هي من هذا القبيل، كما سنرى. فيكون خلافه للأولى بحسب الواقع ونفس الأمر، إنما هو لصالح ما هو أولى منه في مرحلة الظاهر، بسبب ما استجد من عناوين مرجحة له إلى درجة التعيين والإلزام..
ولولا ذلك، فإن ارتكاب النبي آدم عليه السلام لخلاف الأولى يفقده الأهلية لمقام النبوة، ويجعله أهلاً للعقاب والعتاب، فإن مخالفة الأولى لا تقبل من الإنسان العادي، فكيف بنبي يعرف من اسم الله الأعظم خمسة وعشرين حرفاً، وهم يقولون: إن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وإذا جاز على الناس العاديين فعل مخالفة الأولى، فذلك لقصورهم أو لتقصيرهم، وإنما يعفو الله عنهم، ولا يعاتبهم، تفضلاً منه وتكرماً..
وصدور ذلك من الأنبياء، أصعب وأشد، فإن ذلك ينقص من مقامهم،
ولو كان ما صدر من النبي آدم عليه السلام خلاف الأولى، لما حصل بسبب ما فعله على التكريم الإلهي والتعظيم، وعلى الجوائز والمقامات، والعوائد والهبات..
ولتوضيح ما نرمي إليه نعود فنقول:
إنه حين خالف النبي آدم عليه السلام الأولى، فإن كان يدرك أولويته، ثم تركه، فهناك خلل في مستوى وعيه، أو في حكمته، أو من حيث تسلط هواه عليه، أو عدم توازن في شخصيته..
وإن كان لم يدرك الرجحان، الذي من شأنه أن يدركه عامة الناس، ومع كون المورد أيضاً من موارد إدراكات العقول (كالحسن والقبح العقليين)، فهذا إنسان لا يليق بمقام النبوة، بسبب ضعف إدراكه، أو لوجود خلل عقلي لديه..
وموضوع إطاعة الأوامر هو مما يدرك الناس جميعاً وجوبه، استناداً إلى قانون الملكية والمملوكية، والمولوية والعبودية..
فإذا انتفى الأمران السابقان تعين الأمر الثالث، وهو أن يكون النبي آدم عليه السلام عالماً بما هو راجح في الواقع، ولكن رأى أنه قد عرضت له عناوين جعلته مرجوحاً في مرحلة الظاهر، أو العكس..
فالنبي آدم عليه السلام قد ترك الأولى في الواقع وعمل بالأولى، في مرحلة الظاهر.. فالصدق مثلاً أمر حسن في الواقع، لكن إذا كان يوجب قتل نبي، فإنه يصبح قبيحاً (في مرحلة الظاهر)..
مع أن عصمتهم (عليهم السلام) لا تختص بهذه الناحية، بل هم معصومون في كل شيء من أمور الدين والدنيا، في التبليغ وفي غيره، وفي القول والفعل، والحفظ، وغير ذلك..
قبل الدخول في التفاصيل:
ثم إن السياق في الآيات التي ذكرت قضية النبي آدم قد جاء ليؤكد على أن ثمة اتجاهاً بيانياً واضحاً، لإبعاد هذه القضية عن توهم أن ثمة معصية حقيقية، ونجد الكثير من المفردات التي تسهم في بيان هذه الحقيقة، وقد ذكرنا العديد منها في سياق البحث في هذا الكتاب، وبقي بعض من ذلك نشير إليه بصورة تقريرية سريعة هنا.
فنقول:
1 ـ إنه تعالى حين حذر آدم عليه السلام من إبليس لم يزد على القول له: إنه عدو له، ولزوجه عليهما السلام.. فقال: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ}..
وأنه يريد أن يخرجهما من الجنة.. فقال: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ}..
وأن نتيجة ذلك هو الشقاء والتعب الذي ينشأ عن مواجهة حاجات محيط آخر، غير محيط الجنة بعد الخروج منها. ثم قال: {فَتَشْقَى}..
وقال أيضاً عن الشجرة: {لاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ}..
2 ـ وتحدث عن فعل الشيطان، فقال عنه:
{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا}.. [أي عن الشجرة].
وقال: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}..
وفي آية أخرى يقول: {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا}..
3 ـ وحين تحدث عن النتائج قال: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا}.
وقال: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا}..
وقال: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ}..
وقال: {أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ}..
وقال: {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا}.
4 ـ ثم جاءت الكلمات الأخرى لتتحدّث عن المعصية. والغواية، {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}، ولتتحدث أيضا عن: التوبة من الله عليهما.
فقال تعالى:{فَتَابَ عَلَيْهِمَا}..
وعن طلبهما المغفرة، وإعترافهما بأنهما قد ظلما أنفسهما، قال تعالى: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}..
وقال سبحانه: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}..
فكان لا بد من التماس الرابط البياني الذي يجعل هذا القسم الرابع متناسقاً مع سائر الأقسام التي سبقته..
وليس هذا الرابط أمراً افتراضياً صرفاً، وإنما سنجده نهجاً حياً، يفرض نفسه في السياقات البيانية التي يتداولها أهل اللسان في محاوراتهم.
وحيث لا بد من الدخول في التفاصيل.. مع الالتزام الشديد بالإيجاز الذي نرجو أن لا يصل إلى حد الإخلال بالمقاصد..
وعلى الله نتوكل، وبأنبيائه وأوليائه الأطيبين الأطهرين نبتهل ونتوسل: أن يلهمنا صواب القول، ووضوح البيان، والتوفيق بعد ذلك لنيل رضاه، والإهتداء بهداه.. جل وعلا.
الفصل الثاني:
إلـى الـجـنـة
أيَّـة جـنـة؟!
لقد تحدثت الآيات الشريفة عن أن الله تعالى قد أسكن آدم وزوجه عليهما السلام الجنة.
فعن أية جنة يتحدث؟!
هل هي جنة الخلد؟، أم هي جنة من جنان الدنيا، لها طبيعة خاصة بها، لا تنسجم مع طبيعة الحياة على الأرض؟!. لأن الدنيا واسعة، بحيث تشمل كل ما في هذا الوجود..
وهل هي جنة في السماء؟ أم هي في الأرض؟!
إن هذا البحث، لا نرى أننا نستطيع أن نفيض في الحديث فيه هنا، فنكتفي بالقول:
إننا قد نجد في الآيات الكريمة، وفي بعض الروايات الشريفة ما يؤيد الاحتمال الذي يقول: إنها من جنان الدنيا.. فلاحظ ما يلي:
ألف ـ قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا}.. له درجة من الظهور في أن الجميع كانوا في محل ما، ثم أخرجوا منه.. مما يعني أن إبليس لعنه الله قد كان مع آدم عليه السلام وحواء في داخل ذلك المكان الذي سماه الله: الجنة.
ب ـ قوله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}..
وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا
ج ـ أما القول: بأن قوله: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا}.. فإنما يدل على مجرد تنزل المقام والمرتبة، فهو كقولك لمن تغيرت حاله، وخسر مواقعه الدنيوية: انظر أين كان، وأين أصبح.
فهو لا ينافي ما ورد في الروايات من أنه عليه السلام كان في جنة من جنات الدنيا، ولا يتناقض مع القول بأنه نزل إلى الأرض، بل هو يتلاءم مع جميع الأقوال..
د ـ هناك بعض الروايات تقول: إن آدم عليه السلام حين أهبط من الجنة أهبط على الصفا، وأهبطت حواء (عليها السلام) على المروة. وتلك الرواية نفسها تقول أيضاً:
[سئل الصادق عن جنة آدم عليه السلام، أَمِنْ جنان الدنيا كانت أم من جنان الآخرة؟
فقال: كانت من جنان الدنيا، تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبداً] (1).
ولكن كونها من جنان الدنيا لا يلزم منه أن تكون في الأرض، فإن السماء الدنيا واسعة، ويمكن أن يكون في بعض كواكبها جنة لها حياة وحالات، يمكن القول بأنها برزخية، من شأنها الإعداد للحياة على الأرض، وتطلع فيها الشمس والقمر..
ثم لما أكل النبي آدم من الشجرة التي تسانخ طبيعة الحياة الأرضية أهبطه
____________
(1) تفسير الميزان ج1 ص138.
آدم (عليه السلام) خلق للأرض:
ويبقى هنا سؤال: وهو أنه إذا كان الله تعالى إنما خلق النبي آدم عليه السلام ليكون خليفة في الأرض، فلماذا أسكنه تلك الجنة التي ليست في الأرض، مع ملاحظة: أن كلمة [اسكن] إنما تعني المكث الطويل، لا مجرد المرور العابر، أو الحلول القصير..
وقد أجاب العلامة الطباطبائي (رحمه الله) بقوله:
[قوله تعالى في صدر القصة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (1) يفيد: أن آدم عليه السلام إنما خلق ليحيا في الأرض، ويموت فيها، وإنما أسكنهما الله الجنة لاختبارهما، ولتبدو لهما سوءاتهما، حتى يهبطا إلى الأرض]..
إلى أن قال:
[وبالجملة: فهو عليه السلام كان مخلوقاً ليسكن الأرض، وكان الطريق إلى الاستقرار في الأرض هذا الطريق. وهو تفضيله على الملائكة لإثبات خلافته، ثم أمرهم بالسجدة، ثم إسكان الجنة، والنهي عن قرب الشجرة المنهية حتى يأكلا منها، فتبدو لهما سوءاتهما، فيهبطا إلى الأرض.
فآخر العوامل للاستقرار في الأرض، وانتخاب الحياة الدنيوية ظهور السوأة] (2).
ونقول:
إن هذا الكلام متين لولا أن سياقه يعطي: أنه كان لا بد لإهباط آدم عليه
____________
(1) الآية 30 من سورة البقرة.
(2) تفسير الميزان ج1 ص126و127.
وهو كلام لا يمكن قبوله على هذا النحو، فإن الهبوط إلى الأرض لا ينحصر بهذه الطريقة، إذ قد كان بالإمكان أن يخلق الله تعالى آدم عليه السلام في الأرض مباشرة من دون حاجة إلى إسكانه الجنة، ثم ظهور السوأة بالأكل من الشجرة.
الأقرب إلى القبول:
إنه يمكن الجواب بما يلي:
أولاً: ولعله الأقرب إلى الاعتبار في مثل هذه المقامات، أن يكون الله سبحانه حين قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}.. إنما أخبرهم عما أحاط به علمه سبحانه ـ وهو المحيط العالِم بكل شيء ـ وعرفهم بما يؤول إليه أمر هذا المخلوق الجديد، وأنه سينتهي به الأمر إلى الاستقرار في الأرض، والعمل على إعمارها وفق ما يرضيه سبحانه..
لكن لا على أن يكون ذلك الذي جرى له هو الطريق المقضي عليه سلوكه بصورة جبرية، بحيث لولاه لم يمكن له أن يصل إلى الأرض، بل على أساس أن ذلك قد جاء على سبيل الإخبارعن الغيب الذي سوف يحصل، من دون أن يمثل ذلك أية حتمية وجبرية يتحتم على النبي آدم أن يخضع لها، ليتحقق المقصود.
ويمكن أن يكون إسكان النبي آدم عليه السلام في تلك الجنة من جنان الدنيا قد جاء على سبيل التكريم والإعزاز له، أو لأجل التهيؤ للانتقال إلى
وقد كانت تلك الجنة التي أسكنه الله فيها، أكثر الأماكن أمناً للنبي آدم عليه السلام من أعدائه، بحسب ما هو معتاد، لولا ما توسل به إبليس من لطائف الحيل..
والله يعلم: أن إبليس سوف يلاحق النبي آدم في أي مكان حصل فيه، وسيسعى لحرمانه مما هو فيه، بكل ما لديه من خديعة ومكر وحيلة.
وقد يمكن الجواب أيضاً: بأن الجنة التي هبط منها هي من جنان الأرض نفسها، ولكن الله جعل لها مواصفات مميزة لا توجد في أية بقعة أخرى، وقد خلقها الله تعالى، لتكون لائقة بهذا المخلوق العظيم، ولكن بعد أن جرى ما جرى عليه، أهبطه الله إلى الأرض العادية التي لا تداني تلك في مواصفاتها وميزاتها..
أما تلك البقعة المميزة، فلا ندري ماذا صنع الله بها!! هل أبقاها على حالها؟!
أم أنه أزالها وطمسها؟! أم ماذا؟!
إن الله وحده هو العالم بذلك..
هذا.. ولا مانع من التعبير بالهبوط، إذا كان الانتقال من مكان إلى مكان، فقد قال تعالى: {اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ}.. (1).
نسيان النهي، أم نسيان الميثاق؟!
إننا دفعاً لأي لبس نبادر إلى التذكير بأنه قد يقال:
____________
(1) الآية 61 من سورة البقرة.
وفيها أن أولي العزم من الأنبياء، قد أقروا بهم، وأجمع عزمهم أن ذلك كذلك، ولذلك صاروا من أولي العزم، وذكرت بعض الروايات: أن ذلك قد كان في عالم الذر.
وأما النبي آدم (عليه السلام)، فلم يجحد ولم يقر بالنسبة للإمام المهدي (عليه السلام)، والحال التي يكون عليها الأمر في زمانه، فثبتت العزيمة لهؤلاء الخمسة في المهدي، ولم يكن للنبي آدم عزم على الإقرار به، وهو قوله تعالى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}.. (1).
وقد فسر المجلسي عدم العزم هذا، بأنه عدم التصديق اللساني، لأنه لم يكن واجباً، أو بعدم تذكره من أجل أنه لم يهتم به اهتماماً يوجب هذا التذكير ويحتِّمه..
وليس المراد به عدم التصديق لأنه لا يناسب مقام النبوة..
وفسرت الروايات النسيان بالترك، لأن النسيان الحقيقي لا يجوز على
____________
(1) راجع: نور الثقلين ج33 ص400 و401 و402 و403 وج2 ص94 و101، والكافي ج2 ص8 وج4 ص186 والمناقب لابن شهرآشوب، وعلل الشرائع، ج2 ص136 و137 ط الأعلمي وج1 ص149 وبصائر الدرجات..
ونحن نرجح هذه الروايات على تلك التي تقول: إن المراد هو نسيان النهي عن الأكل من الشجرة، وذلك لأمرين:
أحدهما: وجود الواو الفاصلة بين الآيتين، حيث يظهر أنها واو الإستئناف، فقد قال تعالى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ}..
فلو أنه قال: [ولم نجد له عزماً إذ قلنا الخ..] لظهر اتصال الكلام في الآيتين..
ولكن الفصل بالواو يشير إلى أنه قد بدأ بكلام جديد، ليس بالضرورة أن يكون له اتصال بما سبقه..
الثاني: أن هذا النسيان لو كان قد حصل فعلاً، فإن إبليس قد أزاله حين ذكَّر النبي آدم بنهي الله له، فقال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ..}..
وعلى كل حال، هذا التذكير بالنهي يجعلنا نرجح أن الظاهر هو أن المراد بالعهد، هو العهد الذي أخذه الله على النبي آدم في نشأة عالم الذر ومن الواضح: أن هناك نشآت متعددة، مثل عالم الذر ونشأة الأرواح. والنشأة الجنينية، حيث تلتقي الأرواح بالأجساد، ثم النشأة التي تبدأ بالولادة، فيتدرج من الطفولة إلى الشيخوخة، ليصل إلى عالم البرزخ، ثم عالم البعث والآخرة.
وكل نشأة تمثل عالماً جديداً بالنسبة لهذا الكائن، وقد ينسى معها الإنسان
____________
(1) راجع: مرآة العقول ج7 ص24.
ولعل هذا الأمر لا يشمل أولي العزم من الأنبياء، وهذا ما يُظهر فضل نبينا، وأوصيائه الأكرمين، والزهراء سيدة نساء العالمين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، فإنهم (عليهم السلام) لا ينسون شيئاً مما جرى لهم أو عليهم في السابق، ولا هم محجوبون عن النشآت اللاحقة.
ولعل ذلك يفسّر لنا قول علي عليه السلام: لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً. ثم هو يوضح لنا كيف أن الزهراء (عليها السلام) كانت تحدث أمها وهي في بطنها قبل أن تولد، وثمة نصوص كثيرة تؤكد هذه الحقيقة، لا مجال لتتبعها..
إبليس يذكّر آدم (عليه السلام) بنهي الله له:
ومهما يكن من أمر، فإن مما يدل على أن الأكل من الشجرة لم ينشأ عن النسيان المشار إليه بقوله: {فَنَسِيَ}، أن إبليس نفسه قد ذكَّر آدم عليه السلام بنهي الله له، وحدد له المنهي عنه بالإشارة الحسية، حين قال له: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}..
فهو يقول للنبي آدم عليه السلام: إن ربك نهاك، لكنه يتلاعب في بيانه لسبب النهي، ليتمكن من الوصول إلى ما يريد..
وكل ذلك يشير إلى أن النبي آدم قد أقدم على الأكل من الشجرة، وهو ملتفت لنهي الله له عنها. وهذا يؤيد ويؤكد أن المقصود بالنسيان في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}.. هو نسيان الميثاق، المتعلق بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، لا بعهد الربوبية كما أسلفنا، ولا نسيان النهي عن الشجرة.
بل إن نفس كيفية وصل هذه الآية بما بعدها يشير إلى ما نقول، حيث
ولو أنه لم يأت بالواو في قوله: {وَإِذْ قُلْنَا}.. لتغير مجرى الكلام، ولكان المراد بالنسيان هو نسيان التحذير الإلهي للنبي آدم عليه السلام من إبليس، وفق ما تضمنته هذه الآية..
عالم الذر، وخلق الأرواح:
وبما أن النسيان للميثاق مرتبط بالكلمات التي أنقذت آدم عليه السلام من محنته كما سنرى. ولكي لا يخلو مقامنا هذا ولو من إشارة موجزة إلى هذا الأمر، فإننا نضع أمام القارىء الأمور التالية:
ألف ـ إن هناك روايات تحدثت عن عالم الذر، وأخذ الميثاق على الخلق، وهي كثيرة، فلتراجع في مظانها (1).
ب ـ إن في بعض هذه الروايات عن أبي عبد الله عليه السلام: أن الله أخذ على العباد ميثاقهم، وهم أظلة قبل الميلاد. وثمة روايات أخرى تشير أيضاً إلى عالم الظلال، فراجع (2).
قال العلامة الطباطبائي (رحمه الله):
إن المراد به ـ كما هو ظاهر الرواية ـ وصف هذا العالم، الذي هو بوجه
____________
(1) راجع: تفسير الميزان ج9 ص225 وما بعدها وما قبلها وراجع: البحار ج64 وغيره.
(2) البحار ج65 ص206 وراجع: ج58 ص139و140، وراجع: ج64 ص98 و99، عن بصائر الدرجات ص80 وعن علل الشرائع ج2 ص80 وراجع: الكافي ج2 ص10 وتفسير الميزان ج9 ص326.