هبوط النبي آدم (عليه السلام) في الأحاديث الشريفة:
وقد صرحت الروايات الشريفة بأن هبوط النبي آدم عليه السلام، قد كان بمعنى الانتقال إلى عالم جديد يتناسب مع الحالة التي استجدت له.
فقد روي أنه عليه السلام قال مخاطباً ربه:
[.. وبدت لنا عوراتنا، واضطرنا ذنبنا إلى حرث الدنيا، ومطعمها، ومشربها] (1).
وعن الإمام الصادق عليه السلام:
[أخرجه الله، لأنه خلق خلقة، لا يبقى إلا بالأمر والنهي، والغذاء واللباس] (2).
فانتقال آدم عليه السلام من الجنة يشبه انتقال الجنين من عالم الجنينية بالولادة إلى هذا العالم الجديد بالنسبة إليه، حيث لم يعد يمكنه العيش فيه لاحتياجه إلى أمور لا يتحملها عالمه الأول، ولا يستجيب، ولا يستطيع تلبيتها له.
بخلاف هبوط إبليس، فإنه طرد وإبعاد وعقوبة له..
اهبطا.. واهبطوا:
ويبقى هنا سؤال: وهو أنه تعالى قد قال في سورة طه الآية 123: [اهْبِطَا] ولكنه في سورة الأعراف الآية 24، وفي سورة البقرة الآية 38 قال: [اهْبِطُواْ] فما هو السبب في ذلك؟!..
____________
(1) تفسير البرهان ج1 ص84 والبحار ج11 ص183 عن تفسير العياشي.
(2) تفسيرالقمي ج1 ص43 والبحار ج11 ص161 وتفسير البرهان ج1 ص80 وج2 ص6.
إنه تارة يكون المقصود هو: إفهام كل واحد من المخاطبين أنه يتحمل المسؤولية بصورة مباشرة، وأن أي فرد آخر مهما كان موقعه، وأياً كانت طبيعة العلاقة معه، وخصوصية الصلة به، فإن ذلك ليس له أي تأثير في التخفيف من تبعات ما يقدم عليه.. ففي مثل هذه الحال، يحسن أن يوجه الخطاب لجميع الأفراد، ليشعر كل واحد منهم أنه مطالب ومؤاخذ ومسؤول.. وهذا هو ما تكفلت به آيات سورة البقرة، فيما يظهر..
وتارة يكون المقصود هو: الحديث مع فريقين لهما نهجان مختلفان، أحدهما سبيل هداية ونجاة، والآخر، سبيل ضلالة وهلاك.. فيأتي التعبير بصيغة المثنى: اهبطا، ليقرر: أن باب الخيار مفتوح أمام الأفراد أيضاً، للأخذ بهذا السبيل أو بذاك، فمن اتبع منهم طريق الهدى، فلا يضل ولا يشقى. وهذا هو ما ورد في سورة طه..
وتارة ثالثة: يراد الجمع بين كلا الحالتين، فمن جهة يراد الإلماح إلى أن الأفراد هم الذين يتحملون مسؤوليات أعمالهم أولاً، فيؤمر كل فرد بالهبوط إلى موقعه المناسب له، ليكون فيه..
ثم يشار من جهة ثانية: إلى أن هؤلاء الهابطين فريقان، يعادي كل منهما الآخر.. وإن كان فريق أهل الإيمان لا يعادي بعضهم بعضاً، بل هم إخوان على سرر متقابلين..
وربما يظهر ذلك: من ملاحظة سورة الأعراف الآية 24..
هدايتان:
وقد أشارت الآيات الشريفة إلى وجود هدايتين تختلف كل واحدة منهما عن الأخرى..
الثانية: هدايته له تعالى بعد هبوطه، قال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}..
فالهداية الأولى: تتمثل بمعارف، وآفاق يفتحها الله أمام أوليائه، وأنبيائه، على حد قوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا}..(1). أو {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}..(2). أو: [علمني رسول الله ألف باب من العلم، يفتح لي من كل باب ألف باب]..
ومنها تلقى النبي آدم عليه السلام، الكلمات من ربه، ومعرفته بحقائقها، ومقاماتها..
والهداية الثانية: هي الهداية التكوينية، والفطرية، والإلهامية، والتشريعية، والعقلية، التي يحتاج إليها الإنسان في مسيرته في الحياة الدنيا.. كما أشرنا إليه في كتاب [تفسير سورة هل أتى] في أكثر من موضع..
____________
(1) الآية الأولى من سورة الإسراء.
(2) الآية 18 من سورة النجم.
الفصل التاسع:
العصيان.. والغواية..
والتوبة.. والمغفرة..
الغواية، ضد الرشد لا ضد الضلال:
ولربما أصبح واضحاً:
أولاً: أن غواية آدم عليه السلام ليست بمعنى الضلالة عن طريق الهدى، وإنما هي ضد الرشد، بمعنى أنه عليه السلام لم يصل إلى مطلوبه، الذي أراده وسعى إليه.. حيث إنه قد حاد ومال عن هدفه، وغوى عنه..
وبقي في وسط الطريق لأجل مانع، حال بينه وبين مواصلة طريقه، ومن كان كذلك، فإنه لا يكون ضالاً، لأن رعاية الله له واضحة، وسبيل الوصول أيضاً معروف المواصفات، لكن قد حصل مانع له من الوصول، أوجب عجزه عن تحقيق مراده، وخيبته فيما قصد إليه. وهذا هو المراد بكلمة: [غَوَى]..
ثانياً: لو كان المقصود بالغواية، الضلال.. لَلَزِم أن يقول: غوى آدم وضل، فعصى. لأن المعصية تنشأ من الضلال، ولا ينشأ الضلال عن المعصية..
العصيان ليس هو التمرد:
ثم إنه قد اتضح أيضاً: أن معنى العصيان في قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ}.. ليس هو التمرد على الله، وكسر هيبته، وهتك حجاب عزته.. بل معناه عدم موافقة العمل المأتي به لظاهر كلامه سبحانه الذي جاء على شكل أمر أو نهي.
وبعبارة أخرى: مرة يلاحظ في الأمر حال الآمر وموقعه، وحرمته، وهيبته،
ومرة يكون الانبعاث ناشئاً عن الشعور بأمرين، هما: لزوم حفظ السيادة وإدراك وجود مصلحة في المطلوب..
ومرة لا يكون لحال الآمر أثر في الأمر، فلا يكون سيداً ولا مولى، بل يكون صديقاً، ومخالفة أمره لا توجب كسر مولويته، ولا هتك حرمته، بل هو يستجيب لأمره من موقع اللياقة والمجاملة..
ومرة رابعة يكون إدراك وجود المصلحة هو الداعي والمحرك، كأمر الطبيب للمريض، فالداعي للطاعة هو الإحساس بجدوى المأمور به في الشفاء، وهذا الداعي هو معنى داخل في مضمون متعلق الطلب..
وكذا لو أعطيت السائل الطالب، فإن الإعطاء ليس لأجل امتثال أمره، ولا لحفظ مولويته وسيادته، بل لأن العاطفة تحركت في قلبك..
وإذا قال الببغاء: إفعل. فإن قوله لا يوجب أي تحريك..
فاختلاف الدواعي يوجب الاختلاف في العنوان الذي ينشأ عن المبادرة والامتناع، ولأجل ذلك فإن كلمة: [عَصَى]، يختلف معناها باختلاف هذه الحالات..
فمعصية الله غير معصية الطبيب والصديق، والسائل وغير ذلك. فمعصية الله في أوامره التعبدية معناه كسر هيبته، وهتك حرمته، والجرأة عليه، والتمرد على مولويته. أما معصيته في أوامره الإرشادية، أو الواردة في مقام التخيير، أو لأجل رفع الحظر، وكذلك معصية السائل، والطبيب، والصديق، فلا توجب ذلك..
فإذا ظهر أن الطبيب الثاني قد أخطأ، أو أنه كذب عليك، فإنه هو الذي يلام. ولا تلام أنت، ولا الطبيب الأول، رغم معصيتك لأمره، مع شدة احترامك وحبك له..
ويصح للطبيب الأول أن يقول لك: لقد عصيتني، فوقعت فيما وقعت فيه، لكنها ليست معصية بمعنى التمرد عليه، وهتك الحرمة.. كما قلنا.
ولأجل ذلك يبادر الطبيب الأول مرة أخرى إلى معالجة السلبيات التي لحقت بك، من موقع المحبة، واللطف، والعطف..
وعلى حد تعبير العلامة الطباطبائي (رحمه الله):
إن استعمال عصى في خصوص الأوامر المولوية إنما هو طريقة الشرع، وإلا فإن الإستعمال اللغوي لا يقتصر على ذلك، بل يراد به مطلق عدم الانفعال بالأمر والنهي، سواء أكان الأمر والنهي مولويين، أو إرشاديين، حيث لا يكون ثمة عنوان السيادة ملحوظاً في نشوء الأمر والنهي.. سواء أكان هناك سيادة بالفعل، كالإرشادات الإلهية التي تهدف إلى إلفات الناس إلى بعض المنافع أو المضار في بعض الموارد، أو لم تكن هناك سيادة ومولوية
توبة آدم (عليه السلام):
وبعد، فإن الله تعالى، قد قال: إنه هو الذي تاب على النبي آدم، ولكنه لم يصرح بتوبة النبي آدم عليه السلام. وحتى لو كانت هناك توبة من النبي آدم، فإن هذه التوبة لا تعني الإقلاع عن المعصية، عن ندم، وتصميم على عدم العود.
بل هي هنا بمعنى الالتجاء إلى الله سبحانه، القادر على مد يد العون، فإن المشكلات التي يواجهها قد أكدت حاجته إلى التسديد والرعاية الربانية.
فمن الطبيعي أن يعود النبي آدم عليه السلام إلى ربه الرحيم، وأن يخشع، ويخضع له، ويطلب منه، وهو الغني الكريم، والرؤوف الرحيم، أن يعود عليه بالإحسان، والفضل، والهداية.
فاستجاب الله سبحانه له، وأمده بالرزق، وبالدواء، وفتح له أبواب الرحمة والهداية إلى كل ما يفيد في سد الخلل، ورفع النقص، ودفع العجز.
وقد كان ذلك كله قبل أمر الله تعالى له بالهبوط، وأما لو كان المراد بالتوبة هو ما يقولونه، فلا معنى لعقوبة النبي آدم بإهباطه من الجنة، لأن الله قد صرح بأنه قد تاب عليه، وأنه قد أعطاه الهداية أيضاً.. قبل إهباطه، فإهباطه بعد أن تاب الله عليه، يعطينا أن المراد، بالتوبة هو ما قلناه.. وليس ما قالوه..
التوبة عند العلامة الطباطبائي (رحمه الله):
وقد استدل العلامة الطباطبائي (رحمه الله) على أن التوبة ليست عن ذنب بما ملخصه:
____________
(1) راجع: تفسير الميزان ج1 ص 137 و 138.
فذلك يدل على أن التوبة ليست عن معصية، وعلى أن الخروج من الجنة لم يكن عقوبة له، بل كان أمراً تكوينياً، كاستتباع السم للقتل، والنار للإحراق (1).
ونقول:
إن ذلك لا يكفي دليلاً، إذ قد يكون هناك توبة عن ذنب ما، ثم لا ترجع الأمور إلى حالها الأول، وذلك بسبب أن للمعصية نفسها آثاراً تكوينية، كشرب الخمر الذي يحدث قروحاً في المعدة، أو أمراضاً أخرى، فإن التوبة منه، وقبول هذه التوبة من الله إنما يعني مجرد رفع العقوبة، ولا يعني لزوم أن يشفيه الله سبحانه من تلك القروح أو الاختلالات، أو الأمراض التي نشأت عن شرب الخمر.
ولأجل ذلك نقول:
إن ما ذكرناه هو الأقرب إلى القبول..
المغفرة:
ولا بأس بأن يطلق على هذا الستر المطلوب من قبل النبي آدم وزوجه بإلحاح، وبحرص: أنه مغفرة، فالمغفرة، في عمق معناها، هي الستر..
ثم لا بأس بأن يتوجه النبي آدم عليه السلام بطلب تلك المغفرة، وذلك
____________
(1) راجع: تفسير الميزان ج1 ص136.
وإن من تجليات قدرته تعالى أن يسخر مخلوقاته كلها ـ كل بحسب ما يناسبه ـ في سبيل سد كل خلل، ورفع كل نقص، وأن يساعد آدم على إنجاز هذا المهم الذي سيرافقه ويرافق ذريته إلى أن تقوم الساعة. وهذه المساعدة على انجاز هذا المهم على أتم وجه.. إنما تأتي من منطلق حبه له، ورحمته تعالى به: {تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا}..
ومن أهم مفردات هذه المعونة، الهداية الإلهية المنسجمة مع كل نواميس الكون وسننه التي أودعها سبحانه فيه، وهو الأعلم بدقائق صنعه، وهو بديع السموات والأرض. الرحمن الرحيم، ولأجل ذلك نجد الله تعالى يقول: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}..
الفصل العاشر:
الحسد والمحسودون في الروايات
روايات تحتاج إلى إيضاح:
وتبقى أمام القارئ الكريم روايات تحتاج إلى إيضاح، هي التالية:
1 ـ روي عن الإمام أبي الحسن الثالث عليه السلام قال: الشجرة التي نهى آدم وزوجته أن يأكلا منها، شجرة الحسد. عهد إليهما: أن لا ينظرا إلى من فضّله الله عليه، وعلى خلايقه بعين الحسد، ولم يجد له عزماً(1).
2 ـ عن المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله عليه السلام، في حديث طويل، قال: فلما أسكن الله عز وجل آدم وزوجته الجنة قال لهما: { كُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ـ يعني شجرة الحنطة ـ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ}..
فنظرا إلى منزلة محمد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، والأئمة عليهم السلام بعدهم، فوجداها أشرف منازل أهل الجنة، فقالا: ربنا لمن هذه المنزلة؟!
فقال الله جل جلاله: إرفعا رؤوسكما إلى ساق العرش.
فرفعا رؤوسهما، فوجدا أسماء محمد، وعلي، وفاطمة، والأئمة عليهم السلام مكتوبة على ساق العرش بنور من نور الله الجبار جل جلاله، فقالا:
____________
(1) نور الثقلين (تفسير) ج3 ص402 عن العياشي والبرهان (تفسير) ج2 ص6.
فقال الله جل جلاله: لولاهم ما خلقتكما. هؤلاء خزنة علمي، وأمنائي على سري، إياكما أن تنظرا إليهم بعين الحسد، وتمنيا منزلتهم عندي، ومحلهم من كرامتي، فتدخلان بذلك في نهيي وعصياني، فتكونا من الظالمين..
قالا: ربنا ومن الظالمون؟!
قال: المدعون لمنزلتهم بغير حق..
إلى أن قال:
يا آدم ويا حواء، لا تنظرا إلى أنواري وحججي بعين الحسد، فأهبطكما عن جواري، وأحل بكما هواني، {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا}.. إلى قوله: {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ}.. وحملهما على تمني منزلتهم، فنظرا إليهم بعين الحسد، فخذلا حتى أكلا من شجرة الحنطة الخ.. (1).
3 ـ عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: قلت للرضا عليه السلام، يا ابن رسول الله، أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء، ما كانت؟ فقد اختلف الناس فيها، فمنهم من يروي: أنها الحنطة. ومنهم من يروي أنها العنب، ومنهم من يروي أنها شجرة الحسد؟.
فقال عليه السلام: كل ذلك حق.
فقلت: فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟!
____________
(1) نور الثقلين ج2 ص12 وراجع ج1 ص67 و68 عن معاني الأخبار والبرهان (تفسير) ج1 ص82 و83.
فعلم الله عز وجل ما وقع في نفسه فناداه: ارفع رأسك يا آدم، وانظر إلى ساق عرشي..
فرفع آدم رأسه، فنظر إلى ساق العرش، فوجد مكتوباً:
لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين. الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.
فقال آدم: يا رب من هؤلاء؟
فقال عز وجل: هؤلاء من ذريتك، وهم خير منك، ومن جميع خلقي. ولولاهم ما خلقتك، ولا خلقت الجنة والنار، ولا السماء ولا الأرض، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد، وتمنى منزلتهم.
فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهي عنها، فسلط على حواء لنظرها إلى فاطمة بعين الحسد حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم، فأخرجهما الله تعالى من جنته، وأهبطهما عن جواره إلى الأرض (1).
4 ـ وروى الكليني، بإسناده إلى الزهرى، محمد بن شهاب قال: سئل الإمام السجاد عليه السلام: أي الأعمال أفضل عند الله عز وجل؟
فقال عليه السلام: ما من عمل بعد معرفة الله عز وجل، ومعرفة رسول
____________
(1) نور الثقلين (تفسير) ج1 ص60 عن عيون أخبار الرضا والبرهان (تفسير) ج1 ص83 و84.
وإن لذلك لشعباً كثيرة. وللمعاصي شعباً. فأول ما عصي الله به الكبر. وهي معصية إبليس حين أبى واستكبر، وكان من الكافرين. ثم الحرص، وهي معصية آدم وحواء حين قال الله عز وجل لهما: {كُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}.. الخ.. (1).
وقفات مع الروايات:
ويواجهنا في الروايات المتقدمة مشكلتان، لا بد من حلهما ليمكن الالتزام بمضمونها، وهاتان المشكلتان هما:
1ـ آدم من الظالمين.
2ـ كون آدم حاسداً.
فلا بد لنا من النظر في هذين الأمرين، لأن ذلك يفيد في فهم ما ترمي إليه الآيات الكريمة التي تحدثت عن قضية آدم، فنقول:
آدم (عليه السلام) من الظالمين:
لقدوصف آدم عليه السلام في الرواية الثانية بأنه من الظالمين..
ومن الواضح: أن الله سبحانه وتعالى قد قال في آية أخرى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.. (2).
فالآية تفيد أن أي عهد إلهي، سواء أكان عهد نبوة أو عهد إمامة لا يناله الظالمون..
____________
(1) نور الثقلين (تفسير) ج1 ص60 عن أصول الكافي والبرهان (تفسير) ج1 ص81.
(2) الآية 124 من سورة البقرة.
إن ذلك يدل على أن المراد بالظلم هو ظلم النفس، بمعنى محاولة حمل أمور كبيرة عليها، يصعب حملها في العادة.
وقد تقدم: أن هذا الأمر العظيم الذي يدعوه لتحمل المشاق هو أمر يتناسب مع أهدافه كنبي يسعى إلى نيل رضا الله سبحانه، والحصول على درجات القرب منه تعالى.
فالمراد بالظلم إذن هو هذا المعنى، وهو أن يحمّل نفسه المشاق، وليس المراد الظلم للآخرين، المتضمن للتعدي على حرمات الله سبحانه..
الحسد لأهل البيت (عليهم السلام):
وقد اتضح مما قدمناه أيضاً:
أن آدم عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام قد كان منسجماً مع نفسه، ومع أهدافه السامية ـ وهذا هو ما يفترض فيه ـ حين سعى إلى نيل مقامات القرب من الله تعالى، وآثر تحمل أعباء هذا السعي.
وهو قد سعى إلى نيل مقام معنوي أوحدي منحصر بأهله، لا يمكن لأحد أن يصل إليه حتى الأنبياء..
وواضح: أن السعي إلى نيل مقامهم ملازم لإزالة صفة الإختصاص بهم عنهم، لتحل محلها صفة المشاركة، بل إن ذلك ملازم لأن تحل محلها صفة أدنى منها. لأن الرئيس مثلاً إذا أزيل عن مقام الرئاسة ليحل محله رئيس آخر، فإن ذلك معناه زوال صفة الرئاسة عنه، وإن كان لا يزال في مستوى عظيم من الإحترام..
وهذا ما أشارت إليه الروايات المتقدمة، من أنه عليه السلام قد تمنى مقام أهل البيت لنفسه، فإنه وإن لم يكن قاصداً لسلب نعمة ذلك المقام عنهم، ولا طالباً له، ولكن يلزمه سلب اختصاص ذلك المقام بهم. فهو قد قصد ما يلزم منه ـ لو حصل عليه ـ زوال إحدى الصفات عنهم صلوات الله عليهم، وهي صفة الاختصاص والتفرد لهم.. وإن لم يكن ملتفتاً إلى ذلك، وذلك رغبة منه في الحصول على كل ما يقدر على الوصول إليه من مقامات القرب والرضا.
وهذا نظير ما لو كان هناك موقع جميل على رأس جبل، يحاول إنسان أن يصل إليه ويكون فيه، مع عدم التفاته إلى أن حلوله فيه يستلزم إزالة غيره عنه. فهو لم يتمن زوال النعمة عن شخص، ليكون ذلك حسداً محرماً، بل تمنى الوصول إلى المقام الأوحدي العظيم، من دون التفات إلى أن أحداً قد بلغ إلى هذا المقام، واحتل تلك المنزلة..
وهذا ما يفسر لنا التعبير بالحرص الوارد في الرواية المتقدمة المروية عن الإمام زين العابدين عليه السلام، وقد صرحت بأن الحرص من آدم عليه السلام كان هو السبب فيما جرى لآدم وزوجته صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا وآله..
وخلاصة القول:
إن النبي آدم عليه السلام قد رأى موجودات عالية بلغت مقامات عظيمة من القرب، والكرامة الإلهية، فتمنى أن يكون معهم، وبدأ يسعى في هذا السبيل، ولكنه لم يكن يملك ما يمكنه من تحقيق أهدافه..
ولكن هناك مرتبة من الحسد ليست قبيحة، وهي ما لو تمنى أمراً لنفسه، ولم يتمنَّ زواله عن أحد، لكن قد يلزم من تمنيه هذا زوال صفة التفرد والإنحصار بالغير، وهذا كما لو كان إنسان في قرية، يحمل شهادة الدكتوراه، فهذا امتياز له وليس لأحد سواه، فإذا تمنى أحد أن يصبح مثله، فإن ذلك يزيل صفة التفرد عنه، وهي صفة لها قيمتها بنظر الناس، وإن لم يلتفت هو إلى ذلك، فأصبح هذا التمني بمثابة الحسد من جهة، وهو غبطة من جهة أخرى..
والنبي آدم عليه السلام كان يريد مقامات الزلفى عند الله، ولذلك طلب صفة الملائكية، والتخلص من الشهوات والغرائز، وطلب الخلود في طاعة الله، وطلب الملك الذي ييسر له مختلف أنواع القربات، لقد طلب الصفاء، والخلوص, بأقصى الدرجات، وأفضل الحالات، وآثر أن يتحمل أعظم المصائب، من أجل التخلص من الدنيا، ومن أجل الوصول إلى أشرف الغايات وأسماها، وأعزها وأغلاها..
الحسد المنهي عنه:
وقد نهى الله النبي آدم عن الحسد، ولكن لا شك في أن هذا النهي منصرف إلى المراتب القبيحة منه، وهي تمني زوال النعمة عن الآخرين، ولم يخطر في باله إلا أن التمني لمقام تلك الأنوار هو أمر سائغ، بل واجب، لأنه يعبر عن حبه لله تعالى، وسعيه في رضاه، ولم يتمن زوال صفة الأوحدية
[إن آدم لم يأكل، ولم يقرب نفس الشجرة، وإنما أكل من جنسها]..
فلما بذل المحاولة تبين له الأمر على حقيقته، وحصلت له الآثار التكوينية، التي لا مجال للتخلص منها، فهو كما لو شرب إنسان دواء مسهِّلاً، وهو لا يعلم، فإنه لا بد أن يترك أثره عليه، وجهله بحقيقته لا يجعله في مأمن من حصول ذلك الأثر.
فالنهي الإلهي نهي عن تحمل المشقات والمتاعب، التي كان الله يعلم أنها ستنتهي به إلى هذه النتيجة، وهو نهي إرفاقي، ناشئ عن العلم بأمور خافية على النبي آدم، وعن العلم الواقعي بعدم تمكن النبي آدم من الوصول إلى ما يطمح إليه..
ولكن مبادرة النبي آدم وسعيه يكشف عن خلوص جوهره، وصفاء عنصره، وعن حسنه الفاعلي، وإن لم يستطع في مقام الفعل أن يحقق ما ينويه، وأن يصل إلى ما يطمح إليه..
وقد قلنا: إن النبي آدم كان عارفاً بالله، شاكاً في مقولة إبليس، رغم وجود مؤيدات لصحة ما يدَّعيه، وهو ما يشاهده النبي آدم من ارتباط لتلك الشجرة المنهي عنها بتلك الأنوار العالية ومن كون المنهي عنه شخص شجرة بعينها،
____________
(1) وهذا هو المقصود بقوله (عليه السلام): [وإياكما أن تنظرا إليهم بعين الحسد، وتمنيا (أي ان تتمنيا) منزلتهم عندي]، فإن المراد الذي فهماه، بحسب الظاهر: هو النهي عم التمني المؤدي إلى زوالهم (عليهم السلام) عن منزلتهم، وحلولهما هما في تلك المنزلة. ولكن حين لا يكون الأمر كذلك، فإن التمني للوصول إلى ما وصلوا إليه يصير عين الكمال، وغاية في الحسن..
وحين أكل من الشجرة، فإن خطاب الله سبحانه له عليه السلام، قد جاء وفق علمه تعالى بالواقع..
فالنبي آدم مخالف لصورة النهي، ويسمى هذا عصياناً، وهو أيضاً قد فعل خلاف الرشد الذي هو مقابل [الغي]، (أي ما لا يوصله إلى مطلوبه بحسب علمه تعالى)، وهذا ما يصحح خطابه بقوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}.. ويصحح قوله: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ}..
وهذا الخطاب منه تعالى، خطاب محبة وحنان، ورأفة، ورحمة، وليس خطاب انتقاص، وغضب وإبعاد، لأن الله يعلم حقيقة نوايا النبي آدم، وأن ما جرى له إنما هو أمر تكويني لا خيار له فيه، وليس نتيجة غضب، ولا هو عقوبة إلهية..
ولذلك اصطفاه الله، واجتباه، وتاب عليه، وهداه..
وقد اعترف النبي آدم بأنه قد حمَّل نفسه ما لا تطيق، {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}.. وعرف أن ما أراد أن يصل إليه هو مما يشبه الحسد، أو هو من جنسه، وإن لم يكن حسداً قبيحاً، ولكنه وإن لم يكن آثماً بارتكابه، بسبب عدم القصد له، لعدم علمه بأسرار الواقع، وبحقائق تلك الأنوار، وبمقاماتها الأوحدية، ولكن لا ضير في أن يذكِّره الله تعالى بأن نهيه له عن الأكل من الشجرة كان سببه هو هذه الأمور التي انكشفت للنبي آدم بعد هذه المتاعب والمصائب..
فقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}.. يريد به: أنكما لن تصلا إليها، وسوف تفشلان في محاولاتكما، لأنكما لستما في مستوى أولئك الصفوة، وهم النبي وأهل بيته، وسينكشف ضعفكما وقصوركما..
فالحسد الذي تحدثت عنه الروايات ليس رذيلة، بل هو فضيلة للنبي آدم عليه السلام، لأنه يعبر عن مدى حرصه على منازل الكرامة الإلهية، ولم يكن عليه السلام يقصد إزالة غيره عن ذلك المقام. وإن كان وصوله إليه يزيل صفة الانحصار بهم، وهي ميزة وكرامة لهم..
فالنبي آدم عليه السلام قاصد لمقام الرضا الإلهي، لا لأجل الحلول في مقام وموقع الغضب الإلهي، وقد نال النبي آدم بحرصه هذا وبتضحياته تلك، مقام الإجتباء الإلهي..
السؤال ما قبل الأخير:
وبعد.. فإن هناك من يقول: لو كان الاستدلال بالآيات على صدور الذنب متعسراً، بل متعذراً، ولم يكن الأكل من الشجرة خلاف الأولى، لكان ينبغي على الله تعالى أن يأمر النبي آدم بالأكل من الشجرة، لا أن ينهاه عنها..
وإن كان إبليس قد حقق طموحات النبي آدم الإلهية، حينما أطاعه وخالف نهي الله، لوجب أن يستحق إبليس كل تقدير، وليس الطرد والإبعاد!!
أولاً: إن إبليس كان يسعى لإيقاع النبي آدم عليه السلام في المشكلة، ولم يكن يدري أنه سيكون لذلك نتيجة يتمنى أن لا تكون، بل هي تأتي في سياق معاكس لما يسعى لوضع آدم فيه..
وكأن هذا نظير ما جرى لفرعون، فإنه جاء بالسحرة، ليتغلب بهم على النبي موسى عليه السلام، فكانت النتيجة هي إيمان السحرة، وخيبة فرعون فيما خطط له.
ثانياً: إن الله يعلم: أن النبي آدم لا يملك القدرات التي تمكنه من نيل مقامات أهل البيت عليهم السلام، وقد أمره بما يعلم أنه قادر عليه، لكنه لم يمنعه من أن يفكر ويسعى لتلك المقامات، ليثبت بذلك حسنه الفاعلي.. أي أنه تعالى قد أمره بما يطيق، وبين له الحد الذي يطيقه، وهو أن لا يصل إلى تلك الشجرة، وبين له أيضاً: أن التفكير في تلك الشجرة معناه: أن يحمل نفسه أموراً صعبة، ويتعرض لمشاق هائلة.. ولم يمنعه منها منعاً مولوياً تترتب عليه العقوبة، بل نهاه نهياً إشفاقياً، ولو كان يعلم منه القدرة على الوصول لكان أمره له أمر جزم وحتم، ولم يعذره بالتخلف عن تلك الغاية، فالمانع من الأمر هو علم الله بعجز النبي آدم..
ولكن على النبي آدم أن يظهر شدة حرصه على نيل تلك المقامات، وأن يعرض نفسه لأعظم البلاءات، لينال بذلك الجائزة الكبرى، وهو مقام الإجتباء والاصطفاء.. ولم يتمن النبي آدم زوال النعمة عن أحد، ليكون قد مارس الحسد المذموم..
فاتضح: أن الله تعالى إنما لم يأمر النبي آدم لآجل عدم توفر القدرة على الامتثال.. وكان على النبي آدم أن يسعى لنيل ذلك المقام، ولا منافاة بين الأمرين..