الصفحة 85

الفصل الثالث

القواسم المشتركة لحديث الخلفاء الإثني عشر

في مصادر (مدرسة الصحابة)

  • عدد الخلفاء اثنا عشر

  • خلفاء.. أوصياء.. أمراء

  • الخلفاء من (قريش)

  • الخلفاء يحفظون بقاء الإسلام منيعاً عزيزاً قائماً صالحاً ماضياً مستقيماً ظاهراً منتصراً

  • الخلفاء يرافقون مسيرة الرسالة حتى اللحظات الأخيرة

  • الخلفاء يباشرون الأمر بعد وفاة الرسول بلا فصل

  • أول الخلفاء الإثني عشر هو الإمام علي بن أبي طالب

  • الحسن والحسين من الخلفاء الإثني عشر

  • المهدي آخر الخلفاء الإثني عشر

  • أسماء الخلفاء الإثني عشر تحدد هويتهم في غاية الجلاء


  • الصفحة 86

    الصفحة 87

    نظرة

    على الفصل الثالث


    نستنتج من خلال استعراض الهياكل الفظية لحديث (الخلفاء الإثني عشر) مجموعةً من القواسم المشتركة بين تلك الهياكل المتعددة، فعدد الخلفاء اثني عشر خليفةً، وقد وصفوا بكونهم خلفاء، وأوصياء، وأمراء، وأنَّهم من (قريش)، ومن (بني هاشم) بالتحديد، وأنَّ هؤلاء الخلفاء يتكفلون بقاء الإسلام منيعاً، عزيزاً، قائماً، صالحاً، ماضياً، مستقيماً، ظاهراً، منتصراً، وأنَّ هؤلاء الخلفاء يرافقون مسيرة الرسالة حتى اللحظات الأخيرة، وهم يباشرون الأمر بعد وفاة الرسول (ص) مباشرةً بلا فصل.

    وقد ثبت أنَّ أول الخلفاء الإثني عشر هو الإمام علي بن أبي طالب، وأنَّ الإمام المهدي هو آخر الخلفاء الإثني عشر، وأنَّ الإمامين الحسن والحسين من الخلفاء الإثني عشر، وأخيراً فإنَّ ذكر أسماء الخلفاء الإثني عشر يحدد هويتهم في غاية الوضوح والجلاء.

    الخلفاء الإثنا عشر




    الصفحة 88

    الصفحة 89

    القواسم المشتركة

    لحديث ( الخلفاء الإثني عشر)

    في مصادر (مدرسة الصَّحابة)


    يمكن أن ننتزع من خلال الهياكل والصياغات اللفظية المختلفة التي وردت في الروايات المتقدمة في الفصل السابق، والتي تشير بمجموعها إلى مدلول واحد، قواسم مشتركة تمثّل ذلك المضمون الموحّد الذي سيقت من أجل الوفاء به.

    ومن الطبيعي أن نجد مثل هذه الإختلافات اللفظية في روايات موحَّدة المضمون ضمن الأحاديث الصادرة عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، فمن المعلوم أنّ هذه الاختلافات، وخصوصاً في مثل هذا المورد الحسّاس الذى نحن فيه، يقود في الغالب إلى احتمال ايراد رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) لهذا المضمون النهائي الموحَّد بألفاظ متعددة، ومواطن مختلفة، ومناسبات شتى، من باب تكريس الفكرة وتأكيدها، وتوطيد محتواها في نفوس المسلمين.

    كما أنَّ من الإحتمالات القائمة في مثل هذا المورد أن يكون أحد الرواة قد سمع جزءاً من الحديث، وسمع راوٍ ثانٍ طرفاً آخر منه.. وهكذا.

    واذا ما نظرنا إلى مضمون حديث (الخلفاء الاثني عشر) من حيث الأهميَّة، وإلى قوالبه وصياغاته اللفظيّة المتعددة من حيث التنوّع والإختلاف نظرة فاحصة متأنّية؛ لوصلنا من دون ريب إلى اليقين الكامل بأنّ هذا الحديث قد تكرر في مواطن متعددة، ومناسبات متفاوتة، فقد روي الحديث في مصادر (مدرسة الصَّحابة) في ما لا يقلّ عن الخمس عشرة صحابياً كما أشرنا سابقاً، وقد اكتنف الحديث من خلال النقل المكثّف، وذكر الخصوصيّات والقيود والإضافات المتعددة لا تنسجم إلاّ مع القول بالتكرار، والتعدّد من باب الترسيخ والتأكيد.


    الصفحة 90

    إنَّ مثل هذا التعدد والتنوّع جارٍ في طائفة غفيرة من المفاهيم الإسلامية الأساسيّة التي طفحت بها آياتُ القرآن الكريم، والأحاديث النبويّة الشريفة.

    وعندما نغوص في أعماق حديث (الخلفاء الإثني عشر) لدراسة القواسم المشتركة بين هياكله وصياغاته اللفظية المتنوعة، فإنَّنا نتوخى من خلال ذلك فهم شامل ومتكامل لمرامي الحديث ومقاصده، ونتيقّن من موارد تطبيقه، فنكون قد عقلناه عقل وعاية ورعاية، ولم نقتصر على أن نعقله عقل سماع ورواية.

    والقواسم المشتركة بين الأحاديث المتقدمة هي:

    (1)

    عدد الخلفاء اثنا عشر


    وردت الدلالة صريحة في جميع الروايات المتقدمة على أنَّ عدد الخلفاء الذين يتولون الأمر بعد رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) هم (اثنا عشر) خليفةً، وقد جاء التعبير عن هذا العدد بثلاثة أنحاء:

    النحول الأول:

    هو ذكر عدد (الخفاء الإثني عشر) بشكل صريح، وهو ما مرّ معنا في مجمل الأحاديث السابقة على نحو العموم، وقد يأتي في بعض الأحاديث التصريح بأول هؤلاء الخلفاء وهو الإمام علي (عَليهِ السَّلامُ)، وبآخرهم وهو الإمام المهدي (عَليهِ السَّلامُ) ( ).(1)

    ____________

    (1) انظر الحديثين المذكورين تحت الصياغة رقم (16) من الفصل السابق، عن ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي، وانظر كذلك: الأحاديث المذكورة تحت الصياغة رقم (17) في المتن والهامش.


    الصفحة 91

    النحو الثاني:

    هو تشبيه (الخلفاء الإثني عشر) بعدّة نقباء بني اسرائيل، أو عدّة نقباء موسى (عَليهِ السَّلامُ)، على اختلاف في التعبيرين، ومن المعلوم أنَّ عدد نقباء بني اسرائيل هو (اثنا عشر) نقيباً، كما قال (جَلَّ وَعلا):

    (وَلَقَد أَخَذَ اللهُ ميثاقَ بني اسرائيلَ وَبَعَثنا منهم اثنَي عَشَرَ نَقيباً)2.

    النحو الثالث:

    هو التصريح بأسماء ثلاثة من هؤلاء (الخلفاء الإثني عشر)، وهم الإمام علي (عَليهِ السَّلامُ) والإمام الحسن بن علي (عَليهِ السَّلامُ)، والإمام الحسين بن علي (عَليهِ السَّلامُ)، بالإضافة إلى تسعة آخرين من ولد الإمام الحسين بن علي (عَليهِ السَّلامُ)(1) ، على أنَّ آخر هؤلاء الخلفاء وهو الإمام محمد المهدي (عَليهِ السَّلامُ) تاسع هؤلاء الخلفاء قد ورد التصريح باسمه أيضاً في طائفة من هذه الروايات(2).

    والمهم أنَّ إضافة الخلفاء (الثلاث) المصرَّح بأسمائهم بالإضافة إلى (التسع) الآخرين، يشكّل بمجموعه العدد النهائي للخلفاء، من خلال هذا الأسلوب الوارد في طوائف من هذه الروايات.

    من هنا يسقط ما أورده (النووي) في (شرح صحيح مسلم)(3) ، و(ابن حجر) في (فتح الباري في شرح صحيح البخاري)(4) من عدم اختصاص الخلفاء بهذا العدد حيث نقلا عن (القاضي) قوله:

    ____________

    (1) انظر: الصياغة رقم (17) من الفصل السابق.

    (2) انظر: الصياغة رقم (16) من الفصل السابق.

    (3) النووي، شرح صحيح مسلم، ج: 12، ص: 199.

    (4) العسقلاني، ابن حجر، فتح الباري في شرح صحيح البخاري، ج: 13، ص: 181.


    الصفحة 92

    (لأنَّه (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) لم يقل لا يلي إلاّ اثني عشر خليفة، وإنَّما قال يلي، وقد ولي أكثر من هذا العدد، ولا يضرّ كونه وجد بعدهم غيرهم).

    وذلك لأنَّ ذكر العدد هنا كذكر العدد في قوله (جَلَّ وعَلا):

    (وَلَقَد أَخَذَ اللهُ ميثاقَ بني اسرائيلَ وَبَعَثنا منهم اثنَي عَشَرَ نَقيباً)5.

    إذ لم يأتِ التعبير : (لم نجعل منهم إلاّ اثني عشر نقيباً)، مع أنَّ تجاوز العدد لم يقل به أحد قط.

    وهو نظير قولنا: (في السنة إثنا عشر شهراً)، ولا نعبّر بقولنا: (ليس في السنة إلاّ إثنا عشر شهراً)، وهذا التعبير سائد ورائج على لسان الشريعة المقدسة، والمحاورات العرفية، علاوةً على القرائن التي ذكرناها من إرادة عدد (الإثني عشر) على نحو التحديد، ونفي الزائد عن هذا العدد.

    (2)

    خلفاء.. أوصياء.. أُمراء

    من خلال النظر في القوالب اللفظية المتقدمة في الفصل السابق نلاحظ أنَّ التعبير عن (الخلفاء الاثنى عشر) قد ورد بألفاظ ونعوت متعددة، تشير بمجموعها إلى أنَّ لهؤلاء الخلفاء المذكورين موقعاً حسّاساً ومصيريّاً في الإسلام، وأنَّهم سيقومون بدور أساسي في الحياة الإسلامية بعد رحيل النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، فقد جاء التعبير عنهم تارةً بلفظ:

    (اثني عشر خليفة)(1).

    وهو التعبير الأكثر وفاءً بالمقصود، وأخرى بلفظ:

    (اثني عشر وصيّاً)(1).


    الصفحة 93

    وهو واضح الدلالة أيضاً، وتارةً ثالثة بلفظ:

    (اثني عشر أميراً)(1).

    وهو يتّجه بنفس المسارين السابقين. وفي نفس المسار يأتي التعبير عن (الخلفاء الإثني عشر) بلفظ:

    (اثني عشر قيِّماً) .(1)

    وبلفظ:

    (اثني عشر حجَّةً) .(2)

    وقد يأتي التعبير عنهم أيضاً بلفظ:

    (اثني عشر رجلاً) .(3)

    وبهذا يحمل (الخلفاء الإثني عشر) صفات قياديّة متنوّعة، يجمع فيما بينها كونهم في موقع بالغ الأهميَّة والحساسيَّة، فهم (اثنا عشر خليفةً)، و(اثنا عشر وصيّاً)، و(اثنا عشر أميراً)، و(اثنا عشر قيِّماً)، و(اثنا عشر حجَّةً).

    ولا نظنُّ أنّا بحاجة إلى أن نعود الى مداليل هذه المفردات اللغوية الواضحة، والتنقيب عن معانيها ومقاصدها الواقعيّه ضمن المحاورات الشرعية على نحو الخصوص، بل والعرفيّة على نحو العموم؛ لكي نستفيد موقع هؤلاء الخلفاء، ومكانتهم من الشريعة الإسلامية.

    وبحسب زعمنا أنَّه لو لم يكن في حديث (الخلفاء الإثني عشر) إلاّ هذه الأوصاف لكفى به دلالةً على أن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) كان في مقام تنصيب مَن يلي الخلافة من بعده، وتكثيف النصوص لهذا الغرض، وأنَّه كان يتناول أمراً في غاية الأهميّة والحساسيّة، وهو أمر (الخلافة الإسلاميّة).

    ____________

    (1) انظر: الصياغة رقم (12) من الفصل السابق.

    (2) انظر: الصياغة رقم (17) من الفصل السابق.

    (3) انظر: الصياغة رقم (10) من الفصل السابق.


    الصفحة 94

    إنّ الأهمية القصوى التي يحظى بها موضوع (الخلافة في الإسلام) كانت تتطلب بالضرورة أن يترجم الرسول الاكرم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) الخطابات الإستخلافية إلى هذا النوع من التفصيل الذي يذكر فيه العدد أولاً، والخصوصيّات المتعددة الأُخرى التي سوف نقف على خصوصياتها ثانياً.

    كما ويتطلب الأمر أن تُحوَّل المجملات التي قد تأتي بخصوص هذا الموضوع الخطير إلى مبيّنات واضحة، ومشخّصة، لا تقبل التأويل والتشكيك، وترقى إلى مستوى إقامة الحجّة، وإظهار البيان الكامل، في مقام الوفاء بالمقصود والمراد.

    إنَّ تكريس فكرة (الخلافة الإسلامية) من قبل النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) في ذهنية المسلمين بهذا النحو من التعبير يعزّز ما نؤمن به مبدئياً من أنَّ هذه الألفاظ والنعوت المذكورة لـ (الخفاء الاثني عشر)، كقوله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ): (خليفة)، أو (وصيّاً)، أو(أميراً)، أو (قيّماً)، أو (حجَّةً).. إنّما يقصد بها الخلافة الواقعيّة التي تحفظ الإسلام من التبدّل، والتحريف، والتشويه، وتصونه من يدّ الظلم، والجور والسياسات التخريبيّة التي تتلون بألوان شتى، وتحاول استعباد المسلمين بمختلف الوسائل والأساليب، ومن كافة المحاور والمنطلقات.

    وفي الحقيقة إنَّ هذا التفسير لا يحمِّل الحديث المذكور أمراً إضافياً، ولا يتعسّف في تفسير الألفاظ الواردة فيه إلى حيث التأويلات البعيدة عن المنهج العلمي في التعامل مع المداليل، بل يسترسل مع الألفاظ في مداليلها الواقعيّه، وما يسبق إلى الذهن منها في الخطاب الشرعي والعرفي على حدّ سواء.

    من هنا، ومن خلال القرائن الإضافيّة التي سوف نذكرها لاحقاً ندرك أنَّه لفي غاية البعد والغرابة أن يكون رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) قد أراد من النعوت التي ذكرها في حديث (الخلفاء الاثني عشر) الحكّامَ والأُمراء الذين يمسكون بزمام الحكم عن طريق السيف والغلبة، ويتحكّمون بمجريات الحياة الإسلامية، وفقاً لهذا المبدأ المزعوم، وإنّما يقصد (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) من هؤلاء (الخلفاء الإثني عشر) الذين يأتون من بعده، أولئك النفر الذين يمثّلون نفس الواقع الذي عاشه همومه، ومارسه بنفسه


    الصفحة 95

    (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، وينتهجون نفس السلوك والمبادئ التي سار عليها، وضحّى من أجلها، ويسيرون نحو تحقيق المهام والغايات التي سعى لتحقيقها وبلوغها، بجهوده المضنية، وجهاده الدائب المرير، ويتمتعون بكلّ ما لهذه المفردات من معانٍ ومداليل، تعبّر عن شؤونه، ومهامه، ومسؤولياته الثقيلة (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ).

    إذن، فـ (الخلفاء الاثنا عشر) هم (خلفاء) لرسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، و(أوصياء) عنه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، و(أمراء) على الأمّة بأمره (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، و(قيّمون) عليها بتنصيب منه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، و(حجج) على النّاس بوصيّة منه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، من خلال (الخلافة)، و(الوصاية)، و(الإمارة)، و(القيمومة) التي تنتسب إليه، وتعدُّ تمثيلاً حقيقياً عنه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ).

    ولو فرضنا جدلاً أنَّ هذه الألفاظ المذكورة في حديث (الخلفاء الاثني عشر) لا تفي بهذا المقصود، ولا تدلّ على (الخلافة الإسلاميّة)، والنيابة الحقيقية عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ).. فإنَّ معنى ذلك أنّنا سوف لن نعثر على مفردة متيسّرة تحقق لنا هذا المطلب، وتفي به بشكل مطلق، مهما تصفّحنا المعاجم، والقواميس اللغويه المختلفة!!

    (3)

    الخلفاء من (قريش)

    نصّت أغلب الأحاديث المتقدمة، وفي مختلف مصادر مدرسة الخلفاء على كون هؤلاء (الخلفاء الإثني عشر) بأجمعهم من قبيلة (قريش)(1)، ويأتي التعبير صريحاً في الأحاديث التي وردت بلفظ:

    ____________

    (1) انظر: الصياغة رقم (1) و (2) و (3) و (4) و (5) و (6) و (7) و (8) و (9) و (10) و (11) و (12) و (13) و (14) و (15) وكذلك (16) و (17) ضمناً من الفصل السابق.


    الصفحة 96

    (كلُّهم من قريش).

    بل نرى أنّ بعض الاحاديث يذهب الى ماهو أكثر من ذلك في تخصيص نصب الخلفاء وينص على أنّهم من (بني هاشم)(1) على نحو التحديد(2).

    قال (المازري):

    (غير قريش من العرب ليسوا بكفؤ لقريش، ولا غير بني هاشم كفؤ لبني هاشم، إلاّ بنو عبد المطَّلب، فإنَّهم وبنو هاشم شيء واحد)(3) .

    وتتضيَّق دائرة تحديد نسب الخلفاء أكثر عن طريق النص على كونهم من ولد علي بن أبي طالب (عَليهِ السَّلامُ) أو الحسين بن علي (عَليهِ السَّلامُ) كما تقدّم(4).

    (4)

    الخلفاء يحفظون بقاء الإسلام منيعاً عزيزاً قائماً صالحاً ماضياً مستقيماً ظاهراً منتصراً

    دلّت جملة من روايات (الخفاء الإثني عشر)، وبألفاظ متنوعة على أنَّ الإسلام يبقى محفوظاً بمبادئه وبتعاليمه الواقعية، ببقاء هؤلاء (الخلفاء الإثني عشر)، وأنَّ الدين لا يقبل التعطيل والتحريف مادام هؤلاء الخلفاء بين ظهراني الأمّة، وما فتئوا يتوالوان عليها واحداً بعد واحد.

    ____________

    (1) هاشم هو أول أولاد عبد مناف الجدّ الثالث للنبي (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، وهو أشرفهم وأفضلهم.

    (2) انظر: الصياغة رقم (4) وكذلك (16) و (17) ضمناً من الفصل السابق.

    (3) محمد صالح المازندراني، شرح أصول الكافي، ج: 5، ص: 230.

    (4) انظر: الصياغة رقم (16) و (17) من الفصل السابق.


    الصفحة 97

    وستقف معنا أيُّها القارئ الكريم على أنّ المراد من منعة (1) أمر (الدين)(2) و(الإسلام)(3) ، و(الأمّة)(4) ، و(النّاس) (5) .. وعزّته (6)، وقيمومته (7)، وصلاحه (8)، ومضيّه (9)، واستقامته(10) ، وظهوره(11) .. إنّما هو بحسب الحيثيات الواقعية، والإرتكازات المبدئية الثابتة التي لا تقبل التبدلّ والتغيير، بحيث تبقى تشريعاته وأحكامه الواقعية محفوظة من التشويه والتحريف، مهما تعاقبت الأجيال، ومهما امتدّ الزمن بالإنسان، وتغيّرت ظروف الحياة من حوله، وبهذا فإنّ الأحاديث بجملتها تكون تفسيراً، وتصديقاً، وتأكيداً لقوله (جَلَّ وَعَلا):

    (إنّا نحنُ نزّلنا الذكرَ وإنّا لَهُ لَحافظون)1.

    ونقرأ في أقوال رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) بعض الأحاديث التي تتجه بنفس هذا المسار، وتصبّ في عين هذا الإتجاه، وتعبِّر عن هؤلاء (الخلفاء الإثني عشر) بـ (الطائفة)، أو(العصابة)، أو(أُناس) من هذه الأمّة، وذلك باعتبار أنَّ مضامين هذه الأحاديث تشير إلى نفس الحقيقة المستفادة من حديث (الخلفاء الإثني عشر)، وهي عبارة عن بقاء الإسلام عزيزاً، منيعاً، قائماً، مستقيماً، صالحاً، وظاهراً على مَن

    ____________

    (1) انظر: الصياغة رقم (5) و (6) من الفصل السابق.

    (2) انظر: الصياغة رقم (6) و (7) و (11) و (13) من الفصل السابق.

    (3) انظر: الصياغة رقم (5) من الفصل السابق.

    (4) انظر: الصياغة رقم (8) و (9) من الفصل السابق.

    (5) انظر: الصياغة رقم (10) من الفصل السابق.

    (6) انظر: الصياغة رقم (6) من الفصل السابق.

    (7) انظر: الصياغة رقم (7) من الفصل السابق.

    (8) انظر: الصياغة رقم (9) من الفصل السابق.

    (9) انظر: الصياغة رقم (10) من الفصل السابق.

    (10) انظر: الصياغة رقم (8) من الفصل السابق.

    (11) انظر: الصياغة رقم (11) و (12) من الفصل السابق.


    الصفحة 98

    عاداه، وخالفه، وناوأه، حتى قيام الساعة، وأنَّ مهمة هؤلاء الخلفاء هي الذبّ، والدفاع عن تعاليمه، ومبادئه الواقعية، من كيد الأعداء، وهو ما قد يأتي التعبير عنه في هذه الأحاديث بـ (القتال)، و(الظهور)، و(القهر)، فكلّها معان، ومصطلحات للدفاع عن الرسالة الإسلامية بكلّ ما أمكن.

    وليس من شكّ في أنَّ هذه الأحاديث تتوجه بنفس التوجيه الذي تمَّت الإشارة إليه سابقاً في تفسير بقاء الإسلام منيعاً، ظاهراً، منتصراً في حديث (الخلفاء الإثني عشر)، حيث إنَّ (القتال)، و(الظهور)، و(القهر) المذكور في هذه الأحاديث إنّما يكون مع الحقّ، ولأجل الحقّ، وفي طريقه، حسب النصوص التي تناولته.

    وهذا التفسير لا يتقبّل أن تُحمل هذه الألفاظ على معناها الظاهري السطحي من المبارزة، والقتال، والحرب بشكل دائم، وطيلة فترة بقاء الإسلام على وجه هذه الأرض، لأن الواقع التاريخي الثابت يرفض هذا التفسير بشكل قاطع، ولا يدع مجالاً حتى لإحتماله.

    إذن، يجب حمل هذه الألفاظ والمصطلحات الصادرة عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) بشأن هذه الطائفة من الأمّة على المعنى الذي استفدناه سابقاً، وسنشير إليه لاحقاً أيضاً في النقطة الآتية من حديث (الخلفاء الإثني عشر)، وهو المعنى الواقعي المقصود من مجموع هذه الأحاديث، والذي قامت عليه الشواهد التأريخية القاطعة، والقرائن العلميّة الثابتة.

    ومن هذه الأحاديث ما روي عن (جابر بن عبدالله الأنصارى) عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أنّه قال:

    (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة...)(1).

    ____________

    (1) البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب: الأمراء من قريش


    الصفحة 99

    وجاء عن (عمران بن حصين) أنّ رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) قال:

    (لا تزال طائفة من أمتي على الحق، ظاهرين على مَن ناواهم، حتى يأتِ أمرُ الله تبارك وتعالى، وينزل عيسى بن مريم)(1).

    وعن (عمران بن الحصين) عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أنّه قال:

    (لا تبرح عصابة من أمتي ظاهرين على الحقّ، لا يبالون من خالفهم، حتى يخرج المسيح الدجّال فيقاتلونه)(1).

    وفي حديث آخر عنه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أنّه قال:

    (لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوّهم قاهرين، لا يضرُّهم مَن خالفهم، ولا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك...)(1).

    وعنه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أنَّه قال:

    (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوِّهم، لا يضرّهم مَن خالفهم، حتى تأتيهم الساعة، وهم على ذلك)(1).

    وقال (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ):

    (لا يزال ناسٌ من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون)(1).

    وقال (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ):

    (لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمرُ الله عزّ وجلّ)(1).

    وقال (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ):

    ____________

    (1) البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب: الأمراء من قريش


    الصفحة 100

    (لا يزال هذا الدين قائماً، تقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة)(1).

    (5)

    الخلفاء يرافقون مسيرة الرسالة حتى اللحظات الأخيرة للحياة

    بما أنَّنا استنتجنا من النقطة السّابقة أنَّ (الخلفاء الإثني عشر) يحفظون بقاء الإسلام منيعاً، عزيزاً، قائماً، صالحاً، ماضياً، مستقيماً، ظاهراً، منتصراً.. فإنّ هذا لوحده كافٍ للدَّلالة على أنَّ هؤلاء الخلفاء سيتواصلون مع الرسالة الإسلاميَّة إلى حيث اللحظات الأخيرة من عمر مسيرة الإنسان على وجه الأرض، باعتبار أنَّ جوهر الدّين الإسلامي المتمثل بـ (القرآن الكريم) سوف يبقى مصوناً، ومحفوظاً من التغيير والتحريف على مدى الأزمنة والعصور بنصِّ قوله (جَلَّ وَعَلا):

    (إنّا نحنُ نزّلنا الذكرَ وإنّا له لحافظون)(2).

    وقوله (جَلَّ وَعَلا):

    (لا يأتيه الباطلُ من بين يديهِ ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيم حميد)(3).

    وسيأتي فيما بعد أنَّ (الإماميَّة الإثني عشرية) تقدّم تفسيراً رصيناً، متيناً، مقبولاً، ينسجم مع هذه النظرية، وذلك من خلال الإيمان بفكرة (الإمام المهدي) الغائب المنتظر (عَليهِ السَّلامُ)، وهو آخر (الخلفاء الإثني عشر)، حيث غيَّبه الله (جَلَّ وَعَلا) حتّى لحظات

    ____________

    (1) البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب: الأمراء من قريش

    (2) الحجر / 9.

    (3) فصلت / 42.


    الصفحة 101

    الحياة الأخيرة، ثمَّ يظهره ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلئت ظلماً وجوراً، وهو التفسير الوحيد الذي ينسجم ويتناسب مع هذه الأحاديث، ويوجهها توجيهاً شرعياً معقولاً، ومبنياً على الأسس والأصول الشرعية الثابتة، دون تعسُّف، أو تحميل، أو إعلان عن الإعياء والعجز عن تقديم تفسير واضح لهذه الأحاديث، أوالتوقّف فيها، كما فعل بعضُ العلماء على ما سيأتي توضيحه وتفصيل الكلام فيه لاحقاً إن شاء الله تعالى.

    وهناك قرائن أخرى ذُكرت فى الأحاديث المتقدمة تشير إلى مرافقة (الخلفاء الإثني عشر) لمسيرة الرسالة الإسلاميَّة حتى اللحظات الأخيرة، إذ قد مرّ معنا فى الصيغة الثالثة من الهياكل اللفظية، وكذلك في القواسم المشتركة لأحاديث (الخلفاء الإثني عشر) أنّ الخلفاء كافةً ينتهون نسبياً إلى قبيلة (قريش)، فعن طريق الجمع بين هذه الأحاديث، وأحاديث أخرى واردة في الصحاح والكتب المعتبرة لدى أبناء (مدرسة الصحابة)، والتى تنصُّ على أنَّ أمر الخلافة والقيمومة على المسلمين سيبقى مستمراً فى قبيلة (قريش) حتى قيام الساعة.. عن طريق هذا الجمع نستطيع أن نصل الى ذات النتيجة المتقدمة، وأنَّ هؤلاء (الخلفاء الإثني عشر) سوف يتعاقبون واحداً بعد الآخر على حفظ الرسالة الإسلامية، وحمايتها، وصيانتها من التحريف حتى قيام الساعة.

    ولنلاحظ ما ينقله لنا (البخاري) كشاهد على هذا القول، حيث يذكر فى صحيحه ما نصّه:

    (حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا عاصم بن محمد: سمعت أبي يقول: قال ابن عمر: قال رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ):

    ـ لا يزال هذا الأمر فى قريش ما بقى منهم اثنان)(1).

    وقال (ابن حجر العسقلاني) معلّقاً على هذا الحديث:

    ____________

    (1) البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب: 2: الأمراء من قريش، ح: 2.


    الصفحة 102

    (قوله: (ما بقى منهم اثنان) قال ابن هبيرة: يحتمل أن يكون على ظاهره، وأنَّهم لا يبقى منهم فى آخر الزمان إلاّ اثنان: أمير، ومؤ مَّر عليه، والنّاس لهم تبع)(1) .

    وهذا يدلّ بناءاً على ما هو ظاهر من قوله: (والنّاس لهم تبع) على بقاء أمر الخلافة بعد رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) إلى آخر الدنيا.

    على الرغم من أنَّنا نستبعد تفسير الحديث بالطريقة المذكورة فى حديث (أبى هبيرة)، لأنّ النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) لا يريد أن يخبر فى الحديث المذكور بأ نّه لا يبقى فى آخر الزمان إلا شخصان من (قريش)، وأنّ النّاس يفنون عن آخرهم إلاّ هذين الشخصين، بل يريد (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أن يخبر بأنّ الأمر مستمرّ في (قريش) في مختلف الأحوال والأزمنة، حتى بفرض أنّه لا يبقى من الناس إلاّ اثنان، فيكون أحدهما أميراً من (قريش)، والآخر مؤمَّر عليه، وليس بالضرورة أن يقع ذلك، ولا يبقى من النّاس بالفعل إلاّ اثنان، وهذا النوع من التعبير يكثر فى الخطابات الشرعية، والحوارات العرفية، على نحو العموم بالدلالة التى ذكرناها له، ومثال ذلك ما لو قال قائل: (ما يزال القرآن محفوظاً بقدرة الله تعالى ما دام على وجه الأرض آدميٌّ واحد)، ففي هذا التعبير دلالة على الإستمرار والدوام، وليس المقصود منه إثبات وجود آدميّ واحد في آخر الدنيا.

    ويؤيد هذا الخبر ما رواه (ابن حجر العسقلاني) فى نفس الموضوع حيث يقول:

    (قلت: فى رواية مسلم عن شيخ البخاري فى هذا الحديث: (ما بقى من النّاس اثنان)، وفى رواية الإسماعيلي: (ما بقي من النّاس اثنان، وأشار بإصبعيه السّبابة والوسطى)(2) .

    ____________

    (1) العسقلاني، ابن حجر، فتح الباري فى شرح صحيح البخاري، ج: 13، ص: 117.

    وانظر: صحيح مسلم بشرح النورى، ج: 12، ص: 201.

    (2) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري فى شرح صحيح البخاري، ج: 13، ص: 117.

    وانظر: صحيح مسلم بشرح النووي، ج: 12، ص: 201.


    الصفحة 103

    ويضيف (العسقلاني) فى توضيح الحديث:

    (وجه الدَّلالة من الحديث ليس من جهة تخصيص قريش بالذكر، فإنّه يكون مفهوم لقب، ولا حجَّةَ فيه عند المحقّقين، وإنَّما الحجة وقوع المبتدأ معرّفا باللام الجنسيَّة، لأنَّ المبتدأ بالحقيقة ههنا هو الأمر الواقع صفة لهذا، وهذا لا يوصف إلا بالجنس، فمقتضاه حصر جنس الأمر فى قريش، فيصير كأنَّه قال: لا أمر إلاّ فى قريش)(1) .

    وهذا الكلام منه أوضح فى الدلالة على المطلوب.

    وأمّا (النووي) فيعتبر الملاك في الحديث هو استمرار أمر الدين الحنيف ما دام هناك بشر على وجه الأرض، فيقول فى تفسير الرواية المتقدمة التى نقلت من طريق (عبدلله بن عمر):

    (حكم حديث ابن عمر مستمر إلى يوم القيامة ما بقى من الناس اثنان)(2) .

    ومن البديهى أنَّ من غير الحكمة أن يترك النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) تشخيص هؤلاء الخلفاء لتأويلات المتأولين، واجتهادات المجتهدين، وليس من الممكن أن يبقى الأمر مبهماً، ومرتبكاً بالشكل الذي يوقع المسلمين فى عدم القدرة على تحديد الموقف، وتشخيص هويَّة هؤلاء الخلفاء الذين يلون أمر النّاس، وينتهون نسبياً إلى قبيلة (قريش)، إذ أنّ هذا الإجراء يتقاطع مع مهمَّة رسول الإنسانية (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) فى رسم المسار الصحيح للأمّة الإسلاميَّة، وإجلاء معالمها بكلّ وضوح، وبأكبر قدر ممكن من المواقف والأحاديث.

    ____________

    (1) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري فى شرح صحيح البخاري، ج: 13، ص: 117.

    وانظر: ارشاد الساري فى شرح صحيح البخاري، ج: 15، ح: 7140، ص: 104.

    (2) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري فى شرح صحيح البخاري، ج: 13، ص: 117.

    وانظر: ارشاد الساري فى شرح صحيح البخاري، ج: 15، ح: 7140، ص: 104.


    الصفحة 104

    ومن هنا يظهر لنا بطلان ما ذهب إليه (ابن حزم) بخصوص هذا الحديث، على ما نقله (العسقلاني) في (فتح الباري) حيث يقول:

    (وقيّد ذلك طوائف ببعض قريش، فقالت طائفة: لا يجوز إلاّ من ولد علي، وهذا قول الشيعة، ثمَّ اختلفوا اختلافا شديداً فى تعيين بعض ذريَّة علي، وقالت طائفة: يختصّ بولد العبّاس، وهو قول أبي مسلم الخراساني وأتباعه.

    ونقل ابن حزم أنّ طائفة قالت: لا يجوز إلاّ فى ولد جعفر بن أبي طالب، وقالت أخرى: فى ولد عبد المطلب، وعن بعضهم: لا يجوز إلا فى بني أميَّة، وعن بعضهم لا يجوز إلاّ فى ولد عمر، قال ابن حزم: ولا حجة لأحدٍ من هؤلاء الفرق)(1) .

    فمضافاً إلى ما ذكرناه من وقوع هذا التفسير وأمثاله فى عدم التشخيص الذي ننزّه عنه النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، وخصوصاً فى مثل هذا الأمر الحيوي والحساس فى حياة الأمّة الإسلامية.. فإنَّنا سوف نبيّن لاحقاً، ومن خلال القرائن العلميّة، والأدلّة الشرعيَّة القاطعة، وعند الوصول إلى مرحلة تخصيص هؤلاء الخلفاء الوارد ذكرهم فى حديث (الخلفاء الإثنى عشر) أنَّ قول أتباع مدرسة أهل البيت (عَليهِمُ السَّلامُ) من بين هذه الأقوال هو الصحيح، وأنَّ هؤلاء الخلفاء هم من ولد علي بن أبي طالب (عَليهِ السَّلامُ).

    وقد تقّدم فى بعض الأحاديث التى نقلناها آنفا ما يدل على هذا المعنى أيضاً(2) .

    وأمّا بقيَّة الأقوال والإدعاءات فهي لا تمتلك الدليل الشرعي المقنع على حسب ما هو موجود لدينا من مستندات ووثائق شرعية وتأريخية.

    ____________

    (1) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري فى شرح صحيح البخاري، ج: 13، ص: 118.

    (2) انظر: الصيغة (16) و (17) من الهياكل اللفظية للحديث.


    الصفحة 105

    ونرى أنّ هناك تصريحات واضحة من قبل علماء مدرسة الخلفاء فى كون مسألة إمامة القرشي من المسائل الإجماعيّة عند المسلمين، إلاّ ثلَّة قليلة لا يُعبأ بها، فقد جاء في (فتح الباري):

    (وقال عياض: اشتراط كون الإمام قرشيّاً مذهب العلماء كافةً، وقد عدّوها من مسائل الإجماع، ولم يُنقل عن أحدٍ من السّلف فيها خلاف، وكذلك من بعدهم فى جميع الأمصار.

    قال: ولا إعتداد بقول الخوارج ومن وافقهم من المعتزلة لما فيه من مخالفة المسلمين)(1) .

    وبعد نقل هذا الإجماع، وبعد الإقرار به بين جميع المسلمين، تنبثق مشكلة تلقائية تفرض نفسها فى مقابل هذا الإجماع، تلك هي الحقيقة التأريخية التى أ كّدت على أنَّ (عمر بن الخطّاب) حاول أن يستخلف من هو (غير قرشي) من بعده، وهو (معاذ بن جبل)، وذلك باتفاق أهل التواريخ والسّيَر، وقد حاول (العسقلاني) بعد نقل الإجماع المذكور آنفا الدفاع عن هذا الموقف الخارق للإجماع بالقول:

    (قلت: ويحتاج من نقّل الإجماع إلى تأويل ما جاء عن عمر من ذلك، فقد أخرج أحمد عن عمر بسندٍ رجاله ثقات أنّه قال: (إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حيّ استخلفتُه)، فذكر الحديث وفيه: (فإن أدركني أجلي وقد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل.. الحديث)، ومعاذ بن جبل أنصاريّ لا نسبة له فى قريش، فيحتمل أن يقال: لعلَّ الإجماع انعقد بعد عمر على اشتراط أن يكون الخليفة قرشيّاً، أو تغيّر اجتهاد عمر فى ذلك، والله أعلم)(2) .

    ____________

    (1) العسقلاني، ابن حجر، فتح الباري فى شرح صحيح البخاري، ج: 13، ص: 118.

    (2) العسقلاني، ابن حجر، فتح الباري فى شرح صحيح البخاري، ج: 13، ص: 118.


    الصفحة 106

    فبغض النظر عن أنّ ( عمر بن الخطاب ) هل يمتلك شرعية الإستخلاف أو لا، فأنّا نرى أنَّ من الواضح أنّه لا معنى للتوفيق بين ما ثبت بالدليل الشرعي المتفق عليه بين المسلمين عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، وعن طريق الإجماع المنقول عنهم من كون الخلفاء كافة من (قريش)، وبين ما حاوله (عمر بن الخطاب) فى مقولته الآنفة الذكر ، إذ أنّ التبرير المذكور لذلك لا يستند إلى أيّ أساس علمي، لوضوح أنّ الإجماع إنّما ينعقد ويكتسب شرعية من خلال نفس الناطق باسم التشريع، ومن خلال نفس أقوال رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) وأحاديثه، ومن البديهي أنَّ الذي أخبر عن كون الخلفاء من (قريش) هو رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، ومن خلال هذا الإخبار انتهى العلماء إلى القول بالإجماع على ذلك بلا فصل، فلا معنى إذن للقول بأنّ الإجماع قد يكون منعقدا بعد (عمر بن الخطاب)، بإعتبار أنَّ هذا النوع من الإجماع كاشف عن الحقيقة الشرعيّة الثابتة بالنّص الصريح.

    وعلى هذا الأساس فإذا اتفقنا على القول بأنّ رسول الله قد نصّ بشكل صريح على كون (الخلفاء الإثني عشر) من (قريش)، وأنّ الأمر لا يخرج عن ذلك أبداً، وإلى حين قيام الساعة، واتفقنا أيضاً على أنّ الإجماع قد انعقد بين المسلمين على ذلك، فلا بدّ أن نتفق أيضاً بعد هذا على أن الواقع الإسلامي آنذاك، ومن حين كان رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) حيّاً بين ظهرانىّ الأمّة قد تسالم على هذه الحقيقة، وتعامل معها كأمرٍ مفروغ عنه من الوجهة الشرعية، وإنّما تمّت استفادة الإجماع منذ ذلك الحين، وعلى هذا الأساس.

    وأما الإحتمال الثاني الذي أورده (ابن حجر) فى مقام تصحيح محاولة (عمر بن الخطاب) فهو ساقط عن الإعتبار أيضاً، ولا يُعبأ به بشكل لا يقبل التراجع والتردّد، إذ لا إجتهاد فى مقابل قول النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، وحكمه الصريح، المعترف به فى مصادر مدرسة الخلفاء المعتبرة.


    الصفحة 107

    وأخيراً فعلى الرّغم من جمال وجذّابية عبارة (والله أعلم)، وأنَّ من الممكن أن يستفاد منها تواضع الكاتب، وإذعانه لما يعجز عن الظفر به من حقائق، إلا أنّها قد تكشف عن عدم إيمان القائل بما يقول فى بعض الأحيان، أو أنّه يعتقد بشيء آخر خلاف ما أثبته فى كتاباته، خشيةَ الإصطدام مع الثوابت والخلفيات التى يؤمن بها مسبقاً، ونحن نظن أنّ وضع هذه اللفظة فى هذا النصّ تقترب كثيراً إلى هذا التوجّه الذي نعتقد به بثقة، من خلال القرائن العلمية التى إثبتناها، والتى تحفّ بالمقام، وتحاول توجيه الحقيقة نحو المسارات والسبل المتفرقة.

    على أنّ ما هو المفترض فى الخطابات الشرعية والأحاديث النبوية أن تكون فى مقام بيان تمام مقصوداتها الواقعية، من خلال اللغة الواضحة التى لا تحتاج إلى الكثير من البحث والعناء والإستقصاء.

    ويبقى على المسلمين أن يقوموا برصد الأحاديث الشرعية بدقة متناهية، ومعرفة الحديث الواقعي من الحديث غير الواقعي منها، ومن بعد ذلك ومن خلال تثبيت الأحاديث الواقعية، والإتفاق على صدورها، يجب تقديم الرأي العلمي الناضج، والرؤية الواضحة لكلّ خصوصيات التشريع وتفاصيله المحددة، وخصوصاَ فى القضايا المصيرية الحساسة، كقضية (الخلافة الإسلامية) بعد النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ).

    ولا يجوز بحال من الأحوال إعلان الإعياء، والعجز من تفسير الأحاديث المقطوعة الصدور بهذه العفوية، ومن خلال مقولة: (والله أعلم)، بعد إيراد تأويلات فى غاية البعد عن النظر الشرعي والعقلي، ومن دون النظر إلى بقية الخطابات الشرعية، والجولة المتأنية فيها بروحٍ تحمل التطلع المعّمق لإدراك الحقيقة، والسعى الحثيث نحو الظفر بها، بكلّ جدّية وإخلاص.

    وهذا الكلام لا يعنى بطبيعة الحال أنّنا يجب أن نظفر بجميع الأحكام التفصيلية الواقعية لكل شؤون التشريع، إذ هذا الأمر مما لا يقول به أحد، مع عدم وجود مصدر التشريع وحضوره بشكل مباشر، ولهذا تُبنى الكثير من الأحكام الشرعية على


    الصفحة 108

    الظهورات التى استمدت شرعيتها من قبل نفس مصدر التشريع، على الرغم من أنّها قد لا تصيب الواقع أحيانا.

    ولكنّ الذي ينبغي التأكيد عليه هو أنَّ من غير الممكن لمن أراد البحث عن الحقائق الإسلامية الكبرى وأصول، الإعتقادات الدينية، من العجز عن الظفر بها عن طريق التتبع والاستقصاء، وعن طريق الإنطلاق من حيث البدايات المتجرّدة عن الخلفيات المسلّمة، والإتباع العشوائي لأفكار الآخرين وآرائهم، لأنّه إن وجدت حالات من الإبهام والغموض فى مثل هذه المبادئ الأصلية، فهي إنَّما تنشأ من حالة الضبابية التى تضرب على التأريخ ووقائعه، والغموض الذي يكتنف الكثير من الحقائق، ويحاول أن يتجاوزها، ويسدل عليها ستار التوقف، والوصول إلى الطريق المسدود .

    وسوف نثبت إن شاء الله تعالى أنَّ هذه الأحاديث بمجموعها تسير نحو مضمون واحدٍ، وتحاول أن تفي بغرض مشترك موحَّد، وأنّها تجرى على وتيرة واحدة، من دون تفاوت أو إختلاف يُذكر.

    (6)

    الخلفاء يباشرون الأمر بعد وفاة الرسول (ص) بلا فصل

    تتناول نصوص حديث (الخلفاء الإثني عشر) التى مرّت معنا آنفاَ، وبمختلف الألفاظ والصياغات والتعابير مسألة ولاية هؤلاء الخلفاء بعد النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) مباشرة ومن دون فصلٍ، حيث ورد في جملة منها أنّ رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) قال:

    (يكون بعدي ...).

    فهذا اللفظ واضح الدلالة على المباشرة من غير فصل، لا سيّما إذا ضممنا إلى ذلك أنّ هؤلاء خلفاء، وأمراء، وأوصياء للنبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، إذ لا يمكن أن


    الصفحة 109

    يتحقق معنى (الخلافة)، و(الإمارة)، و(الوصاية) مع الفصل بين المستخلِف والخليفة، وبين الموصِى والوصى، ولو بمدّة وجيزة كما هو واضح.

    وكذلك إذا ضممنا إلى هذا الحديث الأحاديث الأخرى التى أكّدت على أنّ الإسلام سيبقى منيعاً، عزيزاً، قائماً، صالحاً، ماضياً، مستقيماً، ظاهراً، منتصراً مع هؤلاء الخلفاء ، وأنّ هذا البقاء لا يعنى إلاّ بقاء معالم الإسلام، وأصوله واضحة، ومشخصة، وراسخة فى الواقع طبقاً لقوله تعالى:

    (إنّا نحنُ نزّلنا الذكرَ وإنّا لهُ لحافظون)(1) .

    وهذا ما لا يمكن تصوره مع وجود فترة زمنية فاصلة بين النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) وبين خلفائه وأ وصيائه النائبين عنه.

    مضافاً إلى كلّ هذا، فإنّه سوف يأتى وحسب ما ثبت فى مصادر مدرسة الخلفاء أنّ أول الخلفاء الإثنى عشر هو الإمام علي بن أبي طالب (عَليهِ السَّلامُ)، وهو يعزّز المعنى المذكور، وينسجم معه إنسجاماً تاماً.

    وسوف يأتى فى ضمن استعراض محاولات علماء مدرسة الخلفاء فى تفسير حديث (الخلفاء الإثنى عشر) أنَّ هناك من يقول بعدم ضرورة مجيء هؤلاء الخلفاء بعد رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) بشكل مباشر، وإنّما من الممكن أن يتوزّعوا على المراحل الزمنية المختلفة، ولا مانع من أن تبدأ خلافتهم بعد مضي فترة من رحيله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، كما أنّه ليس من اللازم أن يقع التعاقب بينهم واحداَ بعد الآخر، ولذا فنحن نـذّكر القارئ المتتبع بأنّنا سوف نعود إلى هذه النقطة، ونشير إليها بعد حين بإذن الله تعالى.

    ____________

    (1) الحجر / 9.


    الصفحة 110

    (7)

    أول الخلفاء الإثنى عشر هو الإمام علي بن أبي طالب

    يلاحظ القارئ لحديث (الخلفاء الإثني عشر) عند اطلالته الأولية عليه أنَّ الدائرة التى تشمل هؤلاء الخلفاء قد تبدو واسعةً إلى حدٍ ما، ولكن، ومن خلال النظر في القواسم المشتركة بين هياكل الحديث اللفظية المتنوعة التى أشرنا إليها سابقاً، ومن خلال الإطّلاع على القيود والمخصّصات الإضافية التى وردت على لسان طائفة معتدّ بها بنفس هذا المضمون.. من خلا هذا نستطيع وفقاَ للسير العلمي الإنتقال من تلك الدائرة الواسعة إلى دائرة أضيق، ونقف على المقصود الواقعي من الحديث، وتحديد هوية الأشخاص الذين أشار إليهم رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) من خلاله.

    ومن المفردات الأخرى التى تتجه بالحديث نحو هذا المسار من التحديد والتخصيص النصوص التى دلّت على أنَّ أول (الخلفاء الإثنى عشر) المقصودين بهذا الحديث هو علي بن أبي طالب (عَليهِ السَّلامُ).

    ومما لا يقبل الريب أنَّ جميع ما أستفيد من الأحاديث المتقدمة من إستنتاجات ينطبق على علي بن أبي طالب (عَليهِ السَّلامُ) تمام الإنطباق، ويتجسد فيه بأجلى الصور وأوضحها، فلنعد، وننظر في تلك القواسم المشتركة لنرى دقّة هذا التوافق والإنسجام:

    أولاً: عليُّ من قريش

    إنّ الأحاديث المتقدمة قد نصّت على أنَّ (الخلفاء الاثني عشر) من (قريش)، وعلي بن أبي طالب (عَليهِ السَّلامُ) كذلك كما لايخفى، وأمّا الأحاديث التي دلّت على أنَّهم من (بني هاشم)، فهي تكرّس هذه الحقيقة أيضا، وتضيف إليها ما يوطدها، ويؤكدها بشكل أوثق.