الصفحة 165

الفصل الرابع

كتمان أحاديث الخلافة

في مصادر (مدرسة الصحابة)



  • أولاً: أحداث السقيفة بعد رحيل رسول الله

  • ثانياً: السياسات الظالمة المنحرفة التي تقلَّدت الحكم الإسلامي


  • الصفحة 166

    الصفحة 167

    نظرة على الفصل الرابع

    نحاول من خلال هذا الفصل أن نجيب على سؤال كبير مهم يطرح نفسه بين يدي البحث، وهو: لماذا غابت أسماء (الخلفاء الإثني عشر) التفصيليّة في (صحاح) (مدرسة الصَّحابة)، لنجد الإجابة تكمن في سببين رئيسين، أحدهما: ما جرى من أحداث رافقت رحيل رسول الله (ص) إلى الرفيق الأعلى، فقد تمخض عن تلك الأحداث إبعاد أمير المؤمنين علياً (ع) عن منصب الإمامة الذي خصَّ به من قبل الله ورسوله، وبالتالي البدء في محو أحاديث الإمامة والخلافة في الإسلام، التي نصَّت على موقع (الخلفاء الإثني عشر)، ومنزلتهم القيادية، من خلال مجموعة من الممارسات التي كانت تصبّ في منع تدوين مثل هذه الأحاديث.

    السبب الثاني: يكمن في مواجهة (الخلفاء الإثني عشر) لكلّ ألوان القهر، والظلم، والطغيان، وعدم مهادنتهم للحكومات الظالمة الجائرة، مما حدى بهم لأن يدفعوا الثمن نفيساً وغالياً، حيث تكللت حياتهم بالشهادة في سبيل الله سبحانه.

    إنَّ هذه الحكومات رأت في منهج (الخلفاء الإثني عشر) خطراً كبيراً يهدد وجودهم.. فعمدوا إلى استئصال كلّ ما يمتّ إلى ذكرهم بصلة، وخصوصاً لدى من يسير في ركب هذه الحكومات من أهل الحديث.

    الخلفاء الإثنا عشر



    الصفحة 168

    الصفحة 169

    كتمان أسماء الخلفاء الإثني عشر

    في (صحاح) مدرسة الصَّحابة

    وفقاً للمقتضيات التأريخية الثابتة نجد أنَّ من الطبيعي والمنطقي جداً غياب أسماء هؤلاء (الخلفاء الاثني عشر) في (صحاح) (مدرسة الصَّحابة)، ومصادرهم المعتبرة، بعد أن فُرض عليها التسالم عليه فرضاً، وتبنَّت صحته بصورة إجماليَّة على عمومه دون خوض في التطبيقات والتفاصيل قسراً، لأنَّ قوة حضور هذا الحديث بين المجاميع الحديثية البارزة، وسعة انتشاره، حالت دون الإمساك به من قبل المانعين، وجعلته يفلت من مسارات الكتمان التي مُني بها العشرات من الأحاديث الشريفة في تلك الظروف العصيبة، وبهذا فقد تعزَّز موقعه في (الصحاح)، والمصادرالمعتبرة الأخرى لدى (مدرسة الصَّحابة).

    إنَّ المسألة بالنسبة إلى أسماء (الخلفاء الإثني عشر) قد إختلفت شيئاً ما مع ورود الحديث الإجمالي في (الصحاح) بشأنهم، لأنَّ ذلك الحديث العام عندما يثبت على نحوه العام فإنَّه مما يقبل التأويل، والتحوير، والأخذ، والرد، وأما بالنسبة إلى ذكر الأسماء فهي مسألة مصيرية حساسة، تعيِّن الواقع الذي ينبغي أن يُسار عليه، ويُصار إليه، وتشخِّص محاور الخلافة في كل زمن بالعنوان التفصيلي الواسع، الأمر الذي لا يمكن اجتنابه، أو تلافيه، أو تأويله، أو تحويره.

    فالاسم من أبرز علامات التشخيص، ولهو من أهم الدلالات على توضيح المسميات وتشخيصها في منتهى الوضوح، ومن خلاله يتم تمييز الأشياء، وفرزها، وعدم اختلاط بعضها بالبعض الآخر.

    على أنّ انتشار حديث (الخلفاء الإثني عشر) بهذا الحجم في مصادر (مدرسة الصَّحابة) على نحو الخصوص، كان خاضعاً للإرادة الإلهية، ومورداً للمشيئة الربّانيّة، ومصبّاً للرحمة الإلهية، إذ أنَّ اللطف الإلهي كان يحفّ بهذا الحديث،


    الصفحة 170

    ويحفظه من الحذف والإستئصال، ليكون حجَّةً على العباد، وشاهداً على تمام النعمة، وإكمال الدين، والمبالغة في البيان.

    فلا توجد أيّة مصلحة لهم في نقل الحديث، بل توجد دواعٍ عديدة لإقصائه عن هذه المصادر، وإبعاده عنها، لأنَّه يعدّ إدانةً سافرة لأصل البناء الذي ساروا عليه، وانتهجوا نهجه، وهو يؤدّي بصورة حتميّة إلى انهيار بناء (مدرسة الصَّحابة) من الأساس.

    قال (رضي الدين بن طاوس) في (ربيع الشيعة):

    (وإذا كانت الفرقة المخالفة قد نقلت أحاديث النص على عدد الأئمة الإثني عشر (عَلَيهمُ السَّلامُ) كما نقلته الشيعة الإماميَّة، ولم تنكر ما تضمَّنه الخبر، فهو أدلّ دليل على أنَّ الله تعالى سخَّرهم لروايته، إقامةً لحجّته، واعلاء لكلمته، وما هذا الأمر إلاّ كالخارق للعادة، والخارج عن الأمور المعتادة، لا يقدر عليه إلاّ الله سبحانه الذي يذلّل الصعب، ويقلّب القلب، ويسهّل العسير، وهو على كلّ شيء قدير)(1) .

    وقال الشيخ (جعفر كاشف الغطاء) حول هذه الروايات:

    (ولعمري، إنَّ هذه الأخبار إن لم تكن من المتواترة على كثرتها، وكثرة رواتها، وكثرة الكتب التي نقلت فيها، لم يكن متواتر أصلاً.

    ثمَّ إن لم تكن متواترة فهي من المحفوفة بالقرائن، وإنَّما حفَّت بلطف الله، وكان مقتضى الحال إخفاؤها، لإخلالها بدينهم

    ____________

    (1) التستري الشهيد، نور الله، الصوارم المخرقة، تصحيح: جلال الدين المحدّث، ص: 93.

    وقال (محمد طاهر القمّي الشيرازي): (ولا يخفى أنَّ هذه الرواية رواها العامّة في صحاحهم بعدّة طرق، وعدّوها من الصحاح، تسخيراً من الله سبحانه مع بغضهم وعداوتهم للإماميّة الإثني عشريّة)، الأربعين لمحمد طاهر القمّي الشيرازي، ص: 35.


    الصفحة 171

    المؤسس في السقيفة، ومخالفتها لهوى الأمراء، فظهورها مع أنَّ المقام يقتضي إخفاءها قرينة على أنَّ الجاحد لا يمكنه إنكارها، كما أنكر كثيراً من أضرابها)(1) .

    ويمكن تلخيص أهم دواعي كتمان أحاديث الخلافة بأمرين أساسيين:

    أولاً: أحداث السقيفة بعد رحيل رسول الله

    ثانياً: السياسات الظالمة المنحرفة التي تقلَّدت الحكم الإسلامي

    وقد تنوعت أساليب دفع (الخلفاء الإثني عشر) عن مواقعهم التي رتبهم الله فيها، وإقصائهم عن أداء دورهم الريادي في قيادة المجتمع الإسلامي في ذات الطريق الذي سار عليه رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، وبالتالي طمس كلّ المعالم، والآثار، والمرويات، التي يمكن أن تشير إليهم من قريب أو بعيد، ومن أهم هذه الأساليب:

    1ـ كتمان الأحاديث التي وردت بشأن تنصيبهم خلفاء، وأوصياء، من قبل النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، وإخفاء أكثر ما يمكن إخفاؤه من مآثرهم، وفضائلهم وممارساتهم الرسالية، التي تحاكي ممارسات صاحب الرسالة المقدسة (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) .

    2ـ تحريف الأخبار والآثار التي أكَّدت على وجوب طاعتهم، وإتباع أمرهم، وانتحال عشرات التأويلات، والتبريرات المتعسفة، في سبيل إقصاء تطبيقها عليهم (عَليهِمُ السَّلامُ).

    3ـ إختلاق أكبر حجم من المرويات المفتعلة في حقِّ غيرهم، وإضفاء صفات القداسة، والجلال، على رموز وضعت عمداً في قبالهم.

    ____________

    (1) جعفر كاشف الغطاء، كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء، ج: 1، ص: 8.


    الصفحة 172

    4ـ إختلاق ثقافة واسعة تعاكس الثقافة التي سنَّها (الخلفاء الإثنا عشر)، وساروا عليها في مواجهة سلطات الجور، وحكومات الضلال، وذلك عن طريق الأصوات الإعلامية المأجورة، التي إنتحلت الأحاديث الجمَّة القائلة بوجوب طاعة الساطان، برّاً كان أو فاجراً، وقد حُشدت الكتب الحديثية بمثل هذا النوع من المفتعلات.

    5ـ محاولة إستمالة (الخلفاء الإثني عشر) عن طريق الإغراء، وعرض المواقع، والمناصب الرسمية عليهم دون جدوى.

    6ـ المواجهة المعلنة مع (الخلفاء الإثني عشر) بعد اليأس من إستمالتهم، وكسب رأيهم، عن طريق محاربتهم، وتصفيتهم جسدياً، وتعريضهم لأنواع التنكيل، والتشريد، والتقتيل، وهكذا فعلوا بأصحابهم، وأتباعهم، وكلَّ من ينتمي إلى مدرستهم المعطاء.

    ومن خلال فهمنا لهذا الأمر سوف نقف على الحقيقة التي تفسِّر لنا السبب في عدم وصول أسماء (الخلفاء الإثني عشر) بالتفصيل في (صحاح) (مدرسة الصَّحابة)، واكتفاء هذه المصادر بذكر الخصائص العامة لهم وحسب، الأمر الذي لم يكن بالإمكان كتمانه، أو تحريفه عمّا هو عليه، لقوة شياع هذا الحديث، وحضوره بين المجاميع الروائية الشهيرة، وللإرادة الالهيَّة المتعلقة بهذا الأمر الحساس.

    على أنَّنا ذكرنا سابقاً عند إيراد الهياكل اللفظية للحديث مجموعة من الروايات التي ذكرت أسماء (الخلفاء الإثني عشر) بالتفصيل في بعض مصادر (مدرسة الصَّحابة)، الأمر الذي يجعلنا مطمئنين تماماً لصحة المنهج الذي سرنا عليه، والذي تخفظنا من خلاله عن أن نميل مع أيَّة خلفية مسبقة، أو عصبية مذمومة، أو تحيّز غير مشروع، على الرغم من أنَّه كان يكفينا ما ورد متواتراً عن طرق أجلاّء المسلمين من مصادر مدرسة (الخلفاء الإثني عشر) بهذا الشأن، حيث إنَّ قصر النظر على ما ورد في كتب (مدرسة الصَّحابة) فقط في مجال الإستدلال، وانتزاع المبادئ


    الصفحة 173

    الإعتقادية، والمرتكزات الفكرية من خصوص كتبهم الحديثية، أمر لا يقرُّه ذو عقل مطلقاً.

    فنحن لسنا مرغمين على إثبات عقائدنا، ومبادئنا، على ضوء سلسلة روائية خاصة، تنتهي إلى واحدٍ من (الصحاح) أو كتب (مدرسة الصَّحابة) الأخرى، ومن ثمَّ إهمال كلّ ما يرد في المصادر الأخرى، وعدم النظر فيه، واعتباره تراثا ميِّتاً، وغير قابل للعطاء، إذ كما يفترض أن تكون هذه (الصحاح) مشتملة على بعض الحقائق بين طيّاتها وفقاً لموازين الرواية والحديث، فكذلك نفترض أن تكون الكتب الروائية لمدرسة (الخلفاء الإثني عشر) مشتملة على حقائق بين طيّاتها أيضاً، والمعروف أنَّ الميزان في ذلك هو موافقة الحديث الصحيح لتعاليم الكتاب الكريم، وعدم معارضته إيّاه، وانتهاء أسانيد الأحاديث إلى الثقات المعتبرين، فكلّ ما حمل هذه المواصفات فهو مقبول، وكلّ ما خالف ذلك فهو مرفوض، سواء أكان ذلك وارداً في كتب مدرسة (الخلفاء الإثني عشر)، أو (مدرسة الصَّحابة)، من دون أدنى فرق.

    إنَّ من الغريب حقاً أن ترى شخصاً يسمح لنفسه في أن يسير وفق منهج معيَّن على أساس ضوابط ومرتكزات خاصَّة، في الوقت الذي لا يدع فيه فرصة للطرف المقابل في أن يمارس منهجه الإستدلالي على ضوء مبانيه، ووفق مرتكزاته الخاصَّة، أو على ضوء تلك الضوابط والأسس ذاتها على أقلّ تقدير.

    فمن الجائز في وجهة نظر (مدرسة الصَّحابة) السائدة الأخذ بما رواه (البخاري)، و(مسلم)، و(الترمذي)، و(النسائي)، و(ابن ماجة)، و(أحمد).. وغيرهم، وليس من حقّ أتباع مدرسة (الخلفاء الإثني عشر) الأخذ بما رواه (الكليني)، و(الصدوق)، و(الطوسي)، و(المفيد).. وغير هؤلاء من أئمة المسلمين الكبار، والموثوقين في أعلى درجات الوثاقة في أمر الفقيا والحديث، كما أنَّ من المفترض لديهم أن يؤمن الآخرون بكل ما ورد في طرقهم الخاصة، وأن ينقادوا له ويتعبدوا به، ويعدّون الخارج عن ذلك خارجاً عن الدين وتعاليم شريعة سيد المرسلين (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)!!


    الصفحة 174

    بينما لا يرون أنَّ من الواجب عليهم الإيمان والإذعان لما رواه الآخرون بأي شكل كان، وليس في ذلك خروج لهم عن الدين، فالدين هو ما يريدونه، ويكتبونه بطريقتهم الخاصَّة، لا ما يعتقد به، ويكتبه الآخرون!

    فما نؤكد عليه هنا هو أننا توخينا من إخراج حديث (الخلفاء الاثني عشر) في مصادر (مدرسة الصَّحابة)، وإثبات صحته سندياً لديهم، ومن ثم تخريج الأحاديث التي وردت من طرقهم وهي تذكر الأسماء بالتفصيل، إنَّ الذي توخيناه لا يعدّ أن يكون إلزاماً لهم بما ألزموا به أنفسهم، وتكريساً للحجَّة، وتوطيداً للدليل والبرهان، ليتضح الحق، ويسفر الصبح لذي عينين.

    وعلى أيَّة حال فلنرجع إلى إستعراض بعض الشواهد لما أثبتناه في العنوانين السابقين الذين يعود إليهما سبب كتمان أحاديث الخلافة النبوية، فمن جانب نرى أنَّ الأحداث التي وقعت بعد رحيل رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) إلى الرفيق الأعلى جعلت البعض ممن أغوته الرئاسة، وطمع في تسنُّم منصب قيادة المسلمين، يساهم في إبعاد الحقِّ عن أهله، ويقصي (الخلفاء الإثني عشر) وعلى رأسهم عليَّ بن أبي طالب (عَليهِ السَّلامُ) عن دائرة المنافسة، ومن جانب آخر نرى أنَّ ثمرة هذا الإقصاء تمخضت عن ولادة سياسات ظالمة منحرفة، في فترة متأخرة عن الفترة الأولى، كان من مصلحتها إبعاد (الخلفاء الإثني عشر) عن مواقعهم أيضاً لدواعٍ متداخلة، لأنَّ منهج (الخلفاء الإثني عشر) يعلن المواجهة الصارمة ضدَّ هذه السياسات الجائرة، الأمر الذي دعى هذه الحكومات إلى محاربة مدرسة (الخلفاء الإثني عشر)، والسعي الحثيث نحو إطفاء نور علومهم، وإخماد جذوة معارفهم الجمَّة.

    وسنتعرض إلى ذكر هذين الأمرين الأساسيين بشيء من الإجمال ضمن العنوانيين المذكورين.


    الصفحة 175

    أولاً: أحداث السقيفة بعد رحيل رسول الله

    وفقاً للمنهج العلمي الذي آثرنا على أنفسنا أن لا نحيد عنه من أول البحث نجد أن من الطبيعي أن تقترن مسألة كتمان أحاديث الرسول الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) بمسألة المنع من تدوين الأحاديث المروية عنه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، إذ إنَّ المنع من تدوين حديث صاحب الرسالة (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) يعد من أبرز مظاهر الإخفاء والكتمان، وأن حُفَّ بالكثير من الأعذار والمنتحلات.

    وبهذا فأن الجذور الأولية لمسألة كتمان أحاديث الرسول (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) تعود من حيث النشوء إلى حيث العهد الأخير من حياة خاتم الأنبياء (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ، فقد طلعت على المسلمين آنذاك محاولات تجنح إلى محاربة كل ظاهرة تسعى لتثبيت وتدوين ما قاله رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، بذريعة أنَّ السنَّة النبوية لا يصحّ أن تدون، لئلا تختلط أقوال الرسول (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) بأقوال الكتاب العزيز.

    ويرى كل منصف هشاشة ما تحمله هذه الحجّة الواهية من ضعف واضطراب، ولا يكاد يخفى أنَّ هناك دوافع وخلفيات أكبر من هذا المعنى المطروح بكثير، تلك الدوافع هي التي جعلت روّاد هذا المبدأ يسيرون بدأب وجدّ، في سبيل مواجهة تدوين الحديث، ويتصدون بعزم كبير لكلّ من يحاول أن يخترق هذا المخطط المرسوم، ويقف دون تحقق الطموح المعقود عليه.

    وللأسف الشديد نرى أنَّ ما حصل هو عين هذه الغاية، فقد رأينا ضياع الكثير من الأحاديث المصيريَّة الحساسة، وخصوصاً ما يتعلق منها بمسألة خلافة الأمَّة الإسلامية بعد رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، بسبب اجتهاد البعض في مواقف لا يمكن للتأريخ أن يغتفرها مطلقاً، مهما أحيطت بألوان التأويل، وأنحاء الإنتحال والتبرير.


    الصفحة 176

    إن التأريخ سجَّل لنا موقفاً مصيرياً، وحدثاً كبيراً، يصعب علينا إهماله، وتجاوز ما خلّفه من آثار سلبية على حياة المسلمين، كما أنَّ هناك كلمات أُطلقت على صاحب الرسالة المقدسة (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) حينما أشرف على الرحيل من هذه الدنيا، مما ترتجف إليد عندما تحاول أن تثبتها، ويرتعش اللسان عندما يحاول أن ينطق بها، إلا أننا لا نجد بُداً من ذكرها هنا، حفظاً للحقائق التأريخية من التلف والضياع، وتحقيقا لما توخينا الوصول إليه، من خلال تتبع الحقائق، واستقصاء المظاهر، التي حفت بالرسالة الإسلامية، فيما يتعلق بموضوعنا، لكي يسفر الصبح لذي عينين.

    إنَّ الموقف المؤلم الذي سجله التأريخ لنا بمرارة يتمثل بمنع (عمر بن الخطاب) رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) من كتابة وصيته الأخيرة للأمة الإسلامية، حيث قال (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) على ما في (الصحاح)، ومنهم (البخاري) ــ واللفظ له ــ

    ـ (ائتوني بكتاب، أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده.

    قال عمر: أن النبي (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) غلبه الوجع! وعندنا كتاب الله حسبنا.

    فاختلفوا، وكثر اللغط، قال (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ):

    ـ قوموا عنّي، ولا ينبغي عندي التنازع.

    فخرج (ابن عباس) يقول:

    ـ إنَّ الرزية كلَّ الرزية، ما حال بين رسول الله وبين كتابه)(1) .

    ____________

    (1) البخاري، صحيح البخاري، ج: 1، كتاب العلم، باب كتابة العلم، ص: 37، وج: 4، كتاب: الجهاد، باب: هل يستشفع إلى أهل الذمَّة، ص: 31، وج: 4، كتاب: الجزية، باب: إخراج اليهود من جزيرة العرب، ص: 66، وج: 5، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي، ص: 137، وج: 7، كتاب: المرضى، باب: قول المريض: (قوموا عنّي)، ص: 9، وج: 8، كتاب: الإعتصام، باب: كراهية الخلاف، ص: 161.

    وانظر: إرشاد الساري، ج: 1، كتابة العلم، ص: 364، وفتح الباري، ج: 1، كتابة العلم، ص: 208، وعمدة القاري، ج: 2، كتابة العلم، ص: 169.

    وكذلك روي في صحيح مسلم بشرح النووي، ج: 11، ص: 89-95، والملل والنحل للشهرستاني، ج: 1، ص: 20، ومسند أحمد بن حنبل، ج: 1، ص: 222 و293 و 324 و 355، والمصنَّف لعبد الرزاق، ج: 5، ص: 438 و 439، وطبقات ابن سعد، ج: 2، ص: 244، وتأريخ الطبري، ج: 2، ص: 193.


    الصفحة 177

    وفي رواية أخرى أنَّ (عمر بن الخطاب) كان يتحدث عن هذه الواقعة بالقول:

    (كنّا عند النبي، وبيننا وبين النساء حجاب، فقال رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ):

    ـ إغسلوني بسبع قِرب، واتوني بصحيفة ودواة؛ أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده.

    فقالت النسوة: [وفي رواية: فقالت زينب بنت جحش وصواحبها](1)

    ـ ائتوا رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) بحاجته.

    فقال عمر: فقلتُ:

    ـ اسكتن، فإنَّكنَّ صواحبة، إذا مرض عصرتُنَّ أعينَكنَّ، وإن صحَّ أخذتُنَّ بعنقه.

    فقال رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ):

    ـ هذا خير منكم)(2) .

    بل يظهر من بعض الروايات أنَّ الأمر كان مدبَّراً قبل ذلك، ولذا نرى أنَّ (عبد الله بن عمرو بن العاص) يقول:

    ـ (كنت أكتب كلَّ شيء أسمعه من رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا:

    ____________

    (1) إمتاع الاسماع، ص: 546.

    (2) ابن سعد، طبقات ابن سعد، ج: 2، ص: 243-244، باب: الكتاب الذي أراد رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أن يكتبه لأمته، ونهاية الإرب، ج: 18، ص: 357، وكنز العمال، ج: 7، ح: 18771، ص: 243، عن ابن سعد.


    الصفحة 178

    ـ تكتبُ كلَّ شيء سمعته من رسول الله، ورسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) بشرٌ، يتكلم في الغضب والرضا؟!

    فأمسكتُ عن الكتاب، فذكرتُ ذلك لرسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) ، فأومأ بإصبعه إلى فيه، وقال:

    ـ أكتُب! فوالذي نفسي بيده، ما خرج منه إلاّ حق)(1) .

    وفيه أيضاً أنَّه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) قال له:

    ـ (نعم، فإنّي لا أقول فيهما إلاّ حقّاً)(2) .

    وروي ( الذهبي) بهذا الصدد:

    (إنَّ أبا بكر جمع أحاديث النبي (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) في كتاب، فبلغ عددها خمسمائة حديث، ثم دعا بنار فأحرقها).

    وبما أنَّ هذا الحدث يُعدُّ في غاية الخطورة والأهمية، فلابدَّ أن يستند إلى فلسفة محكمة، وحجة بالغة، إلاّ أنّا نرى أنَّ التبرير المذكور لهذا التصرّف كان أوهى من بيت العنكبوت، والعذر أقبح من الذنب، ولنقرأ الرواية التي تضمَّنت هذا التبرير:

    (روى القاسم بن محمد من أئمة الزيدية، عن الحاكم، بسنده عن عائشة، قالت:

    ـ جمع أبي الحديث عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) فكانت خمسمائة حديث، فبات ليلة.. فلما أصبح قال:

    ـ أي بنيَّة، هلم الأحاديث التي عندك.

    فجئتُه بها، فدعا بنار فحرقها! فقلت:

    ـ لم حرقتها؟! قال:

    ____________

    (1) ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد، ج: 2، ص: 192.

    (2) ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد، ج: 2، ص: 215.


    الصفحة 179

    ـ خشيتُ أن أموت وهي عندي، فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنتُه، ووثقتُ به، ولم يكن كما حدَّثني، فأكون قد نقلتُ ذلك)(1) !!

    وجاء في (تذكرة الحفاظ) بصدد المنع عن أصل رواية الحديث عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) فضلاً عن تدوينه:

    (إنَّ الصدِّيق ــ يعني أبا بكرــ جمع الناس بعد وفاة نبيهم، فقال:

    ـ إنَّكم تحدِّثون عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدُّ إختلافاً، فلا تحدِّثوا عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه)(2) .

    وأمّا (عمر بن الخطاب) فقد منع وفد الصحابة الذين أرسلهم إلى الكوفة عن رواية الحديث عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ):

    (قال قرظة بن كعب: بعثَنا عمر بن الخطاب إلى الكوفة، وشيَّعنا إلى موضع قرب المدينة يقال له (صرار)، وقال:

    ـ أتدرون لم شيَّعتُكم، أو مشيتُ معكم؟ قلنا:

    ـ نعم، لحقِّ صحبة رسول الله، أو لحقِّ أصحاب رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ)، ولحقِّ الأنصار، قال عمر:

    ـ لكنّي مشيتُ معكم لحديث أردتُ أن أحدِّثكم به، فأردتُ أن تحفظوه لممشاي معكم، إنَّكم تقدمون على قوم، أو تأتون قوماً، تهتزُّ ألسنتُهم بالقرآن إهتزاز النخل، أو: للقرآن في صدورهم

    ____________

    (1) الإعتصام بحبل الله المتين، ج: 1، ص: 30.

    (2) الذهبي، تذكرة الحفاظ، ج: 1، ترجمة أبي بكر، ص: (2-3)، والأنوار الكاشفة، ص: 53.


    الصفحة 180

    هزيز كهزيز المرجل، أو: لهم دويٌّ بالقرآن كدويّ النحل، فإذا رأوكم مدّوا إليكم أعناقهم، وقالوا:

    ـ أصحاب محمد (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ)، أو: فيأتونكم، فيسألونكم عن الحديث، فأقلّوا الروايةَ عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ)، وأنا شريككم.

    أو: فلا تصدُّوهم بالحديث عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ))(1) .

    وقد حذا (عمر بن الخطاب) حذو (أبي بكر بن أب قحافة) في مسألة الإحراق، لذا يقول في (تقييد العلم):

    (قال القاسم بن محمد بن أبي بكر: إنَّ عمر بن الخطاب بلغه أنَّه قد ظهر في أيدي الناس كتب، فاستنكرها، وكرهها، وقال: أيُّها الناس، إنَّه قد بلغني أنَّه قد ظهرت في أيديكم كتب، فأحبَّها إلى الله أعدلها وأقومها، فلا يبقينَّ أحد عنده كتاباً إلاّ أتاني به، فأرى فيه رأيى.

    قال: فظنّوا أنَّه يريد أن ينظر فيها، ويقومها على أمرٍ لا يكون فيه إختلاف، فأتوه بكتبهم، فأحرقها بالنار.

    ثم قال:

    ـ أمنية كأمنية أهل الكتاب)(2) .

    ____________

    (1) ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج: 6، ص: 7، والدارمي، سنن الدارمي، ج: 1، ح: 279 و 280، ص: 97، وابن ماجة في سنن ابن ماجة، ج: 1، باب التوقّي في الحديث، ح: 28، ص: 12، والحاكم في المستدرك على الصحيحين، ج: 1، كتاب: العلم، ص: 102، والخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث، ص: 92، والذهبي في تذكرة الحفاظ، ج: 1، ص: 7، والهندي في كنز العمال، ج: 2، رقم: 4017، ص: 284-285، وابن عبد البر في جامع بيان العلم، ج: 2، ص: 147.

    (2) إبراهيم بن هاشم، تقييد العلم، ص: 52.

    وانظر: طبقات ابن سعد، ج: 5، ص: 188.


    الصفحة 181

    ومن أساليب الإبادة التي تعرَّضت إليها أحاديث رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) بعد هذه المرحلة أسلوب الدفن للكتب الحديثية، والغسل، والمحو لها، ولذا يقول (إبراهيم بن هاشم) على ما في (تقييد العلم):

    (دفنّا لبشر بن الحارث ثمانية عشر ما بين قمطر وقوصرة)(1) .

    وقد استنكر الإمام (أحمد بن حنبل) هذا العمل، وقال:

    (لا أعلم لدفن الكتب معنى)(2) .

    وكذلك حمل (ابن الجوزي) على هذا العمل أيضاً في (تلبيس إبليس) قائلاً:

    (قد كان جماعة منهم شاغلوا بكتابة العلم، ثم لبس عليهم إبليس وقال:

    وكان من سياسة (عمر) أنَّه منع كبار الصحابة من رواية الأحاديث النبوية، فقد روي أنَّه منع (ابن مسعود) و(أبي مسعود)، فقد جاء في (تأريخ دمشق) لـ (ابن عساكر):

    ـ بعث (عمر) إلى أبي مسعود، وابن مسعود، فقال:

    ما هذا الحديث الذي تكثرونه عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ)(3) ما المقصود إلاّ العمل.

    ودفنوا كتبهم ...

    وهذا فعل قبيح محظور، وجهل بالمقصود بالكتب..

    واعلم أنَّ الصحابة ضبطت ألفاظ رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ).. فإذا كانت الصحابة قد روت السنَّة، وتلقتها التابعون، وسافر المحدِّثون، وقطعوا شرق الأرض وغربها، لتحصيل كلمة من

    ____________

    (1) إبراهيم بن هاشم، تقييد العلم، ص: 62-63.

    (2) إبراهيم بن هاشم، تقييد العلم، ص: 63.

    (3) ابن عساكر، تأريخ دمشق، ج: 39، ص: 108، ومختصر تأريخ دمشق، ج: 14، ص: 63.


    الصفحة 182

    هنا، وكلمة من ههنا، وصحَّحوا ما صحَّ، وزيَّفوا ما لم يصح، وجرحوا الرواة، وعدلوا، وهذبوا السنن، وصنفوا.

    ثمَّ يأتي مَن يغسل ذلك، فيضيع التعب، ولا يُعرف حكم الله في حادثة!؟

    فما عوندت الشريعة بمثل هذا!

    أفترى، إذا غُسلت الكتب، ودُفنت، على من يصمد في الفتاوى والحوادث)(1) .

    وفي (الكامل) لـ (ابن عدي):

    (بعث عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن مسعود، وإلى أبي الدرداء، وإلى أبي مسعود الأنصاري، فقال:

    ـ ما هذا الحديث الذي تكثرونه عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ).

    فحبسهم بالمدينة، حتى أستشهد)(2) .

    وروي أيضا أنه كان يحبس بعض الصحابة لروايتهم الحديث النبوي(3) .

    وسار (عثمان بن عفان) على نفس الخطى المريبة التي سار عليها (أبو بكر بن أبي قحافة) و(عمر بن الخطاب) من قبله، ولم يسمح بالرواية إلاّ لما أُقرَّ من قبله رسميّاً، ضمن سياسة المنع السابقة، وفي حدودها المرضيَّة.

    روى بهذا الشأن عن (محمود بن لبيد) أنَّه قال:

    (سمعت عثمان على المنبر يقول:

    ____________

    (1) ابن الجوزي، تلبيس إبليس، ص: 396-398.

    (2) ابن عدي، الكامل، ج: 1، ص: 18.

    (3) انظر: المستدرك على الصحيحين للحاكم، ج: 1، ص: 11، ومجمع الزوائد، ج: 1، ص: 149، وتذكرة الحفاظ للذهبي، ج: 1، ص: 7، ومختصر تأريخ دمشق، ج: 17، ص:101.


    الصفحة 183

    ـ لا يحلّ لأحد أن يروي حديثاً عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِِ وسَلَّمَ) لم يسمع به في عهد أبي بكر، ولا عهد عمر)(1) .

    وعلى أيَّة حال فقد اتخذ الحكّام والولاة فيما بعد ذلك عين سياسة المنع هذه، واقتفوا نفس الأثر، ولذا يقول الشيخ (محمد أبو زهرة):

    (وقد تتابع الخلفاء على سنَّة عمر.. فلم يشأ أحدهم أن يدوِّن السنن، ولا أن يأمر الناس بذلك، حتى جاء عمر بن عبد العزيز).

    وروى (الخطيب) ما يعزِّز هذا المعنى عن (رجاء بن حيوة) أنَّه قال:

    (كان معاوية ينهى عن الحديث، يقول:

    ـ لا تحدِّثوا عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ))(2) .

    وجاء في (تأريخ دمشق):

    (كان معاوية يقول على منبر دمشق:

    ـ إيّاكم والأحاديث عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) إلاّ حديثاً ذُكر على عهد عمر)(3) .

    وقد عدّ العلاّمة (مرتضى العسكري) عشرة موارد فى أمثلة الكتمان لدى مدرسة (الشيخين) بصدد عدم السماح لأحاديث الخلافة لعلي (عَليهِ السَّلامُ) وأولاده الطاهرين (عَليهِ السَّلامُ) بأن تأخذ مواقعها من كتب الحديث، والحدّ من إنتشارها قدر الإمكان.

    والموارد التي ذكرها هي:

    ____________

    (1) ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج: 2، ص: 336.

    (2) الخطيب، الفقيه والمتفقه، ج: 1، ص: 7.

    (3) ابن عساكر، تأريخ دمشق لابن عساكر ، ج: 3، ص: 160.


    الصفحة 184

    1ـ حذف بعض الحديث من سنة رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، وتبديل المحذوف بكلمة مبهمة.

    2ـ حذف تمام الخبر من سيرة الصحابة، مع عدم الإرشاد إلى الحذف.

    3ـ تأويل معنى الحديث من سنة الرسول (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ).

    4ـ حذف بعض أقوال الصحابة، مع عدم الإشارة إليه.

    5ـ حذف تمام الرواية من سنة الرسول (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، مع عدم الإشارة إليه.

    6ـ النهي عن كتابة سنة الرسول (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ).

    7ـ تضعيف الروايات، ورواة سنَّة الرسول (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، والكتب التي تنتقص السلطان.

    8ـ إحراق الكتب والمكتبات.

    9ـ حذف بعض الخبر من سيرة الصحابة، وتحريفه.

    10ـ وضع الروايات المختلفة بدلاً من روايات سنَّة الرسول (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) الصحيحة، وسيرة الصحابة الصحيحة.

    ويذكر العلاّمة (العسكري) نماذج واضحة لكل واحدٍ من هذه العناوين، بما يشكّل حجَّة بالغة، ودليلاً قاطعاً على أنَّ هناك جهود جبّارة قد بُذلت في سبيل تشويه ذهنيَّة المسلمين، ورسم صورة غائمة لـ (الخلفاء الإثني عشر) في معتقداتهم، وعدم السماح لأحاديثهم بالتحرك والإنتشار(1) .

    فمن موارد حذف بعض الحديث من سنة الرسول (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) وتبديلها بكلمة مبهمة ما فعله (الطبري)، و(ابن كثير) بخبر دعوة بني هاشم في تفسير الآية:

    ____________

    (1) للتوسع يمكن مراجعة البحث المذكور في معالم المدرستين للعلاّمة مرتضى العسكري، ج: 1، ص: 402-483.


    الصفحة 185

    (وأنذر عشيرتك الأقربين).

    حيث حذف قول رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ):

    (ووصيي وخليفتي فيكم)، وأبدلاه بقولهما: وكذا وكذا)(1) .

    ومن أمثلة تأويل معنى الحديث من سنة الرسول (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) ما فعله (الطبراني) في (مجمع الزوائد) :

    (عن سلمان، قال: قلت:

    ـ يا رسول الله، إنَّ لكلّ نبي وصياً، فمن وصيك؟

    فسكت عنّي، فلما كان بعد أن رآني، فقال:

    ـ يا سلمان!

    فأسرعت إليه، وقلت:

    ـ لبيك! قال:

    ـ تعلم من وصي موسى؟ قلت:

    ـ نعم، يوشع بن نون، قال:

    ـ لم؟ قلت:

    ـ لأنَّه كان أعلمهم يومئذ، قال:

    ـ فإن وصيي وموضع سرِّي، وخير من أترك بعدي، وينجز عدتي، ويقضي ديني، علي بن أبي طالب).

    فقال (الهيثمي) بعد إيراد هذا الخبر في (مجمع الزوائد):

    (رواه الطبري وقال: وصيي، أنَّه أوصاه بأهله لا بالخلافة)(2) .

    ____________

    (1) العسكري، مرتضى، معالم المدرستين، ج: 1، ص: 404.

    (2) الهيثمي، مجمع الزوائد، ج: 9، ص: 113-114، وانظر: معالم المدرستين، ج: 1، ص: 411-414 .


    الصفحة 186

    فمن الواضح أنَّ سياق الحديث من حيث إستعراض وصي موسى (عَليهِ السَّلامُ)، وأنَّه إنَّما كان وصياً لكونه أعلم الناس من بعده، ومن ثمَّ ذكر خصوصيات وصفات الوصي في هذه الأمَّة بالتفصيل، فكلّ هذه القرائن تؤكّد على أنَّ المقصود هو الوصية بالخلافة، والأمر في منتهى الوضوح، ولكن بما أنَّه لم يكن هناك بدّ من قبول الخبر وروايته، فلابدَّ إذن من اللجوء إلى تحريفه عن واقعه ومعناه الحقيقين إرضاءاً للرغبات، وتقرباً لسلاطين الجور والضلال، وتمويهاً للحقائق الناصعة، والأحاديث الثابتة.

    ومن أمثلة حذف بعض من أقوال الصحابة مع عدم الإشارة إلى الحذف ما فعله (ابن عبد البر) في ترجمة قصيدة الصحابي الإنصاري (النعمان بن عجلان) في (الإستيعاب)، حيث حذف منها بيتين قالهما في وصية الرسول (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) بحقِّ علي (عَليهِ السَّلامُ)، وهما:

    فذاك بعون الله يدعــو إلى الهدى

    وينهى عن الفحشاء والبغي والنكر

    وصي النبــــي المصطفى وابن عمه

    وقاتل فرسان الضـــــــلالة والكفر

    ومن مظاهر الكتمان أيضا ما روي في (مسند أحمد) من أنَّه قال:

    (جاء رجل فوقع في علي، وفي عمار، عند عائشة، فقالت:

    ـ أمّا علي، فلستُ قائلة لك فيه شيئاً، وأمّا عمّار فإنِّي سمعتُ رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) يقول فيه:

    ـ لا يخيَّر بين أمرين إلاّ اختار أرشدهما)(1) .

    ____________

    (1) ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد بن حنبل، 6 / 113.


    الصفحة 187

    ومن الغريب أن يجد المتتبع أنَّ (عائشة) بنفسها تقرّ في حديث آخر بعد واقعة (الجمل) أنَّ رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) قد قبض وإلى جواره علي (عَليهِ السَّلامُ)، خلافاً لما ادعته في أحاديثها السابقة التي نفت فيها الوصية لعلي (عَليهِ السَّلامُ).

    فقد روى (ابن عساكر) ما يلي:

    (إنَّ إمرأة سألت عائشة، فقالت:

    ـ يا أمَّ المؤمنين! أخبرينا عن علي، قالت:

    ـ أيّ شيء تسألن، عن رجل وضع يده من رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) موضعاً فسالت نفسه في يده، فمسح بها وجهه، واختلفوا في دفنه، فقال: أنَّ أحبَّ البقاع إلى الله مكان قبض فيه نبيه، قالت:

    ـ فلم خرجتِ عليه؟ قالت:

    ـ أمرٌ قُضي، لوددت أن أفديه بما في الأرض)(1) .

    وفي حديث آخر أنَّها قالت:

    (قال رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) وهو في بيتها لما حضره الموت:

    ـ ادعوا لي حبيبي..

    فدعوا علياً فأتاه، فلمّا رآه أفرد الثوب الذي كان عليه، ثمَّ أدخله فيه، فلم يزل يحتضنه، حتى قبض عليه)(2) .

    وأمّا (معاوية بن أبي سفيان) فقد مارس سياسة الكتمان إلى أقصى حدٍّ ممكن، ومارس مختلف أساليب البطش والتنكيل من جانب، والحثّ والإغراء من جانب

    ____________

    (1) ابن عساكر، ترجمة الإمام علي (عَليهِ السَّلامُ)، 3 / 15.

    (2) ابن عساكر، ترجمة الإمام علي (عَليهِ السَّلامُ)، 3 / 15.


    الصفحة 188

    آخر، في سبيل إنجاح هذه السياسة غير المشروعة، فقد جاء في (شرح نهج البلاغة) لـ (ابن أبي الحديد المعتزلي):

    (قال أبو عثمان الجاحظ: إنَّ معاوية أمر الناس بالعراق والشام وغيرهما بسبّ علي، والبراءة منه.

    وخطب بذلك على منابر الإسلام، وصار ذلك سنَّة في أيام بني أمية إلى أن قام عمر بن عبد العزيز فأزاله.

    وذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ: أنَّ معاوية كان يقول في آخر خطبة الجمعة:

    اللهمَّ إنَّ أبا تراب ألحد في دينك، وصدَّ عن سبيلك، فألعنه لعناً وبيلاً، وعذبه عذاباً أليماً، وكتب بذلك إلى الآفاق، فكانت هذه الكلمات يشار بها على المنابر إلى خلافة عمر بن عبد العزيز)(1) .

    وجاء في تأريخ (الطبري) و(ابن الأثير):

    (استعمل معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين، فلمّا أمَّره عليها، دعاه، وقال له:

    ـ قد أردتُ إيصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها إعتمادا على بصرك، ولست تاركاً أيصاءك بخصلة، لا تترك شتم عليٍّ وذمِّه، والترحّم على عثمان والإستغفار له، والعيب لأصحاب علي، والإقصاء لهم، والإطراء لشيعة عثمان، والإدناء لهم.

    فقال له المغيرة:

    ـ قد جربت وجربت، وعملت قبلك لغيرك، فلم يذممني، وستبلو فتحمد أو تذم.

    فقال:

    ____________

    (1) المعتزلي، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، شرح الخطبة: (57)، ج: 1، ص: 56.


    الصفحة 189

    ـ بل نحمد إن شاء الله)(1) .

    ونقل (ابن أبي الحديد) عن (المدائني) أنَّه قال:

    (كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة:

    ـ أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته)(2) .

    وفيه أيضاً:

    (كتب معاوية إلى عمّاله في جميع الآفاق:

    ـ ألا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة، وكتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه، وأهل ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه، فأدنوا مجالسهم، وقرِّبوهم وأكرموهم، واكتبوا إليّ بكل ما يروي كل رجل منهم، واسمه وإسم أبيه، وعشيرته.

    ففعلوا ذلك، حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعث إليهم معاوية من الصلات، والكساء، والحباء، والقطايع، ويفضيه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك كلّ مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمّال معاوية، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاّ كتب اسمه، وقرَّبه، وشفعه، فلبثوا بذلك حيناً، ثم كتب إلى عمّاله:

    ـ إنَّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر، وفي كل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في

    ____________

    (1) الطبري، أبو جرير، تأريخ الطبري، ج: 6، ص: 108، وابن الأثير، تأريخ ابن الأثير، ج: 3، ص: 202، حوادث سنة: إحدى وخمسين.

    (2) المعتزلي، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، شرح الخطبة: (57)، ج: 3، ص: 15-16.


    الصفحة 190

    فضائل الصحابة، والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وائتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحبّ إليّ، وأقرّ إلى عيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشد عليهم من مناقب عثمان، وفضله.

    فقرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجرى الناس في رواية الكتاتيب، فعلَّموا صبيانهم، وغلمانهم، من ذلك الكثير الواسع، حتى رووه، وتعلَّموه كما يتعلمون القرآن، وحتى علَّموه بناتهم، ونساءهم، وخدمهم، وحشمهم، فلبثوا بذلك إلى ما شاء الله.. فظهرت أحاديث كثيرة موضوعة، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء، والقضاة، والولاة)(1) .

    وروى (ابن أبي الحديد) عن (أبي جعفر الإسكافي) أنَّه قال:

    (إنَّ معاوية وضع قوماً من الصحابة، وقوماً من التابعين، على رواية أخبار قبيحة في علي (عَليهِ السَّلامُ)، تقتضي الطعن فيه، والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله)(2) .

    وروى (الطبري) عن (المغيرة بن شعبة):

    (إنَّه أقام سبع سنين وأشهراً في الكوفة، لا يدع شتم علي والوقوع فيه، والعيب لقتلة عثمان واللعن لهم، والدعاء لعثمان بالرحمة، والإستغفار له، والتزكية لأصحابه، غير أنَّ المغيرة كان يداري، فيشتد مرة ويلين أخرى).

    وروى (الطبري) أيضاً:

    ____________

    (1) المعتزلي، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج: 3، ص: 15-16.

    (2) المعتزلي، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج: 1، ص: 358.