العنوان الثاني
في صفاته وأخلاقه وعباداته العامة المطلقة
وليس المراد بيان صفات الإمامة فإنها مما لا تصل العقول إلى كنهها، ولا يحيط ببيانها الأرقام ولا الأقلام، ويلزم على كل مكلف معرفتها إجمالا للمعرفة بحق الأئمة (ع)، ولا بيان محض صفاته الممتاز فيها أيضا
إنما المقصود بيان خصوصية في صفات خاصة وعبادات خاصة وهي على قسمين:
الأول: صفات مطلقة، وعبادات مطلقة له على مدة الحياة.
الثاني: خصوصية لتلك الصفات، وخصوصية للعبادة في يوم الطف فكل من هذين عنوان مستقل، وهذا العنوان لبيان خصائصه الدائمة، وخصوصيات له في صفات خاصة ثابتة له مدة عمره.
فنقول:
منها: إباء الضيم: فله نحو خاص به، قال (ع) لما أرادوا منه النزول على حكم يزيد، وابن زياد: " لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا اقر إقرار العبيد. " بل يقال: انه سن اباء الضيم وأن أباة الضيم يتأسون به.
ومنها: الشجاعة: ولها كيفية خاصة به، ولذا قيل: الشجاعة الحسينية، فقد ظهرت منه في يوم الطف في حالته، شجاعة ما ظهرت من احد أبدا، ولم يتفق مثلها حتى لوالده الكرار (ع) ولا لغيره من المعروفين بهذه الصفة.
ومنها: العبادة: فله منها خصوصية هي أنه اشتغل بها في بطن أمه، فكانت تسمع منه الذكر والتسبيح إلى إن رُفع رأسه على الرمح، وسُمع منه الذكر وقراءة القران، وهذه الخصوصية زائدة على ما قاله السجاد (ع) حين قيل ما اقلّ ولد أبيك؟ قال: العجب كيف وُلدت له، كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة.
ومنها: مراعاة الحقوق: فقد علّم عبدالرحمن السلمي ولد الحسين عليه السلام سورة الحمد، فلما قراءها على أبيه أعطاه ألف دينار وألف حلة وحشا فاه درا وقال: أين يقع هذا من حقه.
ومنها: العطاء للسائلين: فله (ع) خصوصية وهي الحياء عند العطاء، فالناس تعرض لهم حالة رد السائل وهو (ع) له حالات عجيبة تعرض له عندما يريد أن يعطيه سؤله، وتراه يرق على السائل بسبب الذل العارض له، حين إعطائه له لا لفقره واحتياجه وصعوبة ذلك، بل لأجل السائل وحيائه منه.
فمن ذلك قضية الأعرابي الذي سأله فدخل البيت وشد له أربعة آلاف درهم في ردائه فأخرجها له من شق الباب حياء من حين أراد إن يعطيه ثم انشد عليه السلام قائلا:
خـذهـا فاني إلـيـك معتذر | واعلم باني عليك ذو شفقة |
لو كان في سيرنا الغذاة عصا | أمست سحابا عليك مندفقة |
لـكـن ريب الزمان ذو غيّر | والـكـف مني قليلة النفقة |
ومن هذه الخصوصية: أنه أعطى لسائل أتى إليه ألفا فأخذها ينقدها فقال الخازن: بعتنا شيئا؟ قال: ماء وجهي فقال الحسين عليه السلام صدق، أعطه ألفا وألفا وألفا، الأول لسؤالك، والألف الثاني لماء وجهك، والألف الثالث، لأنك أتيتنا وأعطاه رجل رقعة فقال له: حاجتك مقضيه قبل قراءتها. فقيل له: هلا رأيت ما فيها! قال عليه السلام: " يسألني الله تعالى عن وقوفه بين يدي حتى أقراها " وهذه الصفة الخاصة قد بلغت فيه بحيث انه يستحي من ذل الجاهل حين يريد أن يعلمه، لا محض ذل السائل حين يريد أن يعطيه.
كما ورد في الرواية: انه رأى رجلا لا يحسن الوضوء، فأراد أن يعلمه فاستحى من ذله حين يتعلم، فقال لأخيه، نحن نتوضأ قدامه ثم نسأله أي الوضوءين أحسن؟ ففعلا ذلك، فقال الإعرابي: كلاكما تحسنان الوضوء، وأنا الجاهل الذي لا أعرف.
ومنها: رقة خاصة له على أهل الهموم والغموم: حتى انه دخل على أسامة بن زيد وهو محتضر ليعوده، فتأوه أمامه، فقال: واغماه، فقال (ع) ما غمك يا أخي؟ فقال: ديّن علي ستون ألفا، فقال (ع): علي قضاؤها، قال: أحب أن لا أموت مديونا، فأمر عليه السلام بإحضار المال ودفعه إلى غرمائه قبل خروج روحه.
ومنها: الصدقات: فقد تحققت منه خصوصية فيها، ما سمعتها من غيره، وذلك إنهم رأوا في ظهره يوم الطف ثفنات، فسئل السجاد (ع) عنها، فقال (ع) " إن ذلك مما كان ينقله في الليل على ظهره للأرامل والأيتام المساكين، قال الراثي:
وان ظهرا غدا للبر ينقله | سرا إلى أهله ليلا لمكسور |
ومنها: شدة عزم وحزم خاص في التخليص من عذاب الله: ولذا اختار اشد التكاليف ليفوز بدرجة خاصة تؤثر شفاعته في المستوجبين للعقاب، وليس مقصودي بيان ذلك خاصة، إنما غرضي كيفية اهتمامه بذلك حتى في حفظ أعدائه عن ذلك بالسعي في رفع العذاب عنهم، حتى أنه لما أتى إليه من أتى لقطع الرأس تبسم (ع) في وجهه ثم وعظه، وإذا رأى أنه لا يفيد فيهم التخليص الكلي كان يسعى لهم في التخفيف، كما في قضية هرثمة بن أبي مسلم لما لم تنجع فيه الموعظة، قال: فامض حيث لا ترى لنا مقتلا، ولا تسمع لنا صوتا، وكذلك للجعفي، كما سيجيء.
ومنها: شدة خوفه من ربه تبارك وتعالى: ولقد كان بحيث إذا توضأ، تغير لونه وارتعدت مفاصله، فقيل له في ذلك، فقال (ع): حق لمؤمن يقف بين يدي المالك القهار أن يصفر لونه وترتعد مفاصله، وقد تعجب الناس الذين شاهدوا حالته من شدة خوفه حتى أنهم قالوا: ما أعظم خوفك من ربك، فقال (ع): " لا يأمن يوم القيامة إلا من خاف الله في الدنيا "
أقول: فانظر إلى سيد الشهداء يريد الوضوء لعبادة الله كيف ترتعد فرائصه ويصفر لونه، ونحن نشتغل بالكبائر الموبقة، ولا يحصل لنا اضطراب بوجه من الوجوه، فكيف ندّعي إن لنا في الحسين (ع) أسوة، وهو يرتعد عند أفضل العبادادت، ونحن لا تأخذنا أدنى واهمة عند اشد المعاصي، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن صفاته الخاصة: مدحه بالنسبة إلى المادحين، فنقول، قد مدحه الله تعالى في كتابه العزيز بمدائح: منها - انه النفس المطمئنة، فكما هو متعارف عند الروايات انها نزلت في امامنا الحسين عليه السلام وانه من أبرز مصاديقها كما انها سورة امامنا الحسين عليه السلام (يا أيتها النفس المطمئنة).
ومنها: انه كفل من رحمته (اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته).
ومنها: انه من أعلى أفراد الوالد الذي قضى ربك بالإحسان إليه (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا)، فهل أحسنت إلى هذا الوالد يوما؟..
ومنها: انه قتل مظلوما غريبا) ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا).
ومنها: انه ذبح عظيم) وفديناه بذبح عظيم) ومنها: (كهيعص).
وقد سماه بأسماء:
الأول: الفجر، (والفجر)
الثاني: الزيتون، (والتين والزيتون)
الثالث: المرجان، (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان)
وقد كتُب مدحه عن يمين العرش: " إن الحسين مصباح الهدى وسفينـة النجـاة ".. وقد مدحه في الأحاديث القدسية بمدائح:
منها:
ما في حديث وضع اليدين قال تعالى: " بورك من مولود عليه صلواتي ورحمتي وبركاتي " وقد وصفه بأنه: " نور أوليائي وحجتي على خلقي والذخيرة للعصاة ".. كما سيجيء تفصيله في عنوان الألطاف الخاصة.
وقد مدحه رسول الله المصطفى (ص) بمدائح عجيبة:
منها:
انه صلوات الله تعالى عليه وآله قال له يوما: مرحبا بك يا زين السموات والأرض، وقال أبي بن كعيب: وهل غيرك زين السموات والارض؟
قال (ص): يا اُبي والذي بعثني بالحق نبيا إن الحسين بن علي (ع) في السموات أعظم مما في الأرض، وقد كتب الله في يمين العرش:" إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة " ثم اخذ بيده وقال: أيها الناس هذا الحسين بن علي فاعرفوه وفضّلوه كما فضّله الله تعالى "،، إلى غير ذلك من الأحاديث والروايات الكثيرة المستفيضة.
وقد مدحه جميع الأنبياء والملائكة، وعباد الله الصالحين، لكن خصوصيته في الممدوحية انه ممدوح الأولياء، والأعداء. فقد اختص بمدح أعدائه له، فقد مدحه معاوية في وصيته ليزيد، ومدحه بن سعد في بعض أبياته، ومدحه قتلته حين وقفوا لمبارزته وأشهدهم، ومدحه شمر قاتله حين قال له: كفء كريم ليس القتل بيده عارا، ومدحه سنان حين اشتغل بقتله فقال:
أقتلك اليوم ونفسي تعلم | علما يقينا ليس فيه مكتم |
ولا مجال لا ولا تكتم | إن أباك خير من تكلم |
ومدحه رافع رأسه حين جاء به إلى ابن زياد
فقال:
املأ ركابي فضة أو ذهبا | إني قتلت السيد المحجبا |
قتلت خير الناس أما وأبا | وخيرهم إذ ينسبون نسبا |
وقد مدحه يزيد في مجلسه حين دخلت عليه هند زوجته في مجلس عام حاسرة، فغطاها فقال لعنه الله تعالى: اذهبي وابكي واعولي على الحسين صريخة قريش، فقد عجل عليه ابن زياد، * المصدر: مقتل الخوارزمي 2:74
فإذا كان قول عدوه الفاسق الفاجر يزيد: اعولي عليه فما بالكم ساكتون عن البكاء، أما تنادون بالعويل على سيد شباب الجنان!
خاتمة * هذه نبذة من أوصافه ومدائحه، وقد حاولت أمرا صعبا وأنى لي بمعرفة من قال (ص) في حقه بعد جميع ما تبين:
" اعرفوه وفضلوه كما فضله الله تعالى "
فلنقتصر على ذكر صفة خاصة من خصائصه، وهي من فروع جميع الأضداد في صفاته، وتلك الصفة الخاصة انه (ع): موجب للحزن والسرور، وانه سبب الأسف وسبب الفرح، بيان ذلك: انه حيث كان سبب الحزن لكل مؤمن بالله تعالى، ومن أول خلقه إلى يوم البعث لأسباب كثيرة قد اشرنا إلى بعضها، وسنذكرها بل وقد صار سببا للحزن لأهل تلك النشأة التي هي ليست بدار حزن، فجعله الله تعالى سبب الفرح والسرور لكل مؤمن جبرا له وفطرة، وذلك بأن الله تعالى خلق الجنة والحور من نوره حين الاشتقاق من الأنوار كما في رواية عن انس بن مالك عن النبي المصطفى (ص) قال: " إن الله تعالى خلقني وخلق عليا وفاطمة والحسن والحسين قبل أن يخلق ادم حين لا سماء مبنية ولا ارض مدحية ولا ظلمة ولا نور ولا شمس ولا قمر ولا جنة ولا نار."
فقال العباس: كيف كان بدءُ خلقكم؟ فقال (ص): يا عم لما أراد الله تعالى أن يخلقنا تكلم بكلمة، خلق منها نورا، ثم تكلم بكلمة أخرى خلق منها روحا، ثم مزج النور بالروح فخلقني، وخلق عليا وفاطمة والحسن والحسين، فكنا نسبحه حين لا تسبيح ونتقدسه حين لا تقديس "، فلما أراد الله تعالى أن ينشيء خلقه فتق نوري فخلق من العرش، فالعرش من نوري، ونوري من الله، ونوري أفضل من العرش، ثم فتق نور أخي، فخلق منه الملائكة فالملائكة من نور علي، وعلي أفضل من الملائكة، ثم فتق نور ابنتي الزهراء، فخلق منه السموات والأرض، فالسموات والأرض من نور ابنتي فاطمة، ونور ابنتي فاطمة من نور الله تعالى، وابنتي فاطمة أفضل من السموات والأرض، ثم فتق نور ولدي الحسن، فخلق الشمس والقمر من نور ولدي الحسن، ونور الحسن من نور الله تعالى، والحسن أفضل من الشمس والقمر، ففتق نور ولدي الحسين، فخلق منه الجنة والحور العين، فالجنة والحور العين من نور ولدي الحسين، ونور ولدي الحسين من نور الله تعالى، وولدي الحسين أفضل من الجنة والحور العين. "
والحسين عبرة كل مؤمـن، وفرحة كل مؤمـن، ومن العجائب: في هذه الخصوصية انه سبب الفرح به وهو الجنة والحور العين - قد صار سببا لعروض الحزن لها - فهو سبب الحزن حين تسبب السرور، فان الجنة قد بكت عليه لما وقع طريحا، والحور العين قد لطمت عليه في اعلي عليين. وأعجب من ذلك: انه حيث صار سببا لحزن الجنة، صار سببا لفرجها أيضا، فإنها قد طلبت من ربها إن يزينها فزّين الله تعالى أركانها بالحسن والحسين عليهما السلام، فماست كما تميس العروس فرحا، والحمد لله رب العالمين
انتهى العنوان الثاني
العنوان الثالث
في خصائص صفاته واخلاقه وعباداته يوم عاشوراء
لهذه الخصائص خصوصية ظهرت في صفاته وعباداته يوم عاشوراء بالخصوص، وهي منشأ جميع الخصائص، ألا وهي امتثاله لخطاب خاص به من الله تعالى قد امتثل بعبادة خاصة به في يوم واحد، وتحققت بالنسبة اليه ألطاف خاصة في مقابل اجزاء تلك العبادة او لنقل العبودية للرب.
وهي عبادة ما تحققت من احد قبله، ولا تحصل لاحد بعده، وهي عبادة جامعة لما يتصور من العبادات البدنية الواجبة والمندوبة، ظواهرها وبواطنها، روحها وصورتها، واتى بأكمل افراد كل واحد منها.
فعَبَد الله تعالى بجميع مفردات تلك الكلمة وتراكيبها، وبهيئة اجتماعها في ظرف يوم واحد، واظهر مع ذلك فيه جميع مكارم الاخلاق والصفات الحسنة، متلائمها ومتضادها، بأكمل افرادها، واضاف الى ذلك تحمل اعظم الشدائد والابتلاء الحاصل لكل مبتلى، والصبر عليها بأكمل انواعه، بل الشكر عليها بأكمل وجوهه، وحازت هذه العبادات من كل مزية وخصوصية موجبة للفضيلة ازكاها واسناها، وزادت على ذلك كل خصوصية للعبادة في الشدة التي هي من خصوصيات بعض الانبياء (ع (والذين باهى الله تعالى بهم ملائكته.
لذلك حصلت له من جميع ذلك خصوصية عبادة لم يكن له شريك فيها، وبسببها اختص بنداء خاص بقوله عز وجل: " يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية"، واختص برضاه عن ربه تعالى ورضاه عنه "راضية مرضية "، واختص بعبودية خاصة وجنة خاصة منسوبة الى الله تعالى (فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) فلنشرع في تفصيل هذه العبادة بعون الله تعالى.
فنقول: اعلم ان الله جل جلاله كلّف عباده بحسب مراتبهم، ودرجاتهم، ومصالحهم، فجعل لكل نبي شرعة ومنهاجا له، ولأمته، ولكل منهم خصائص بالنسبة الى اوصيائهم، كما جعل الله تعالى الملة الحنيفية السمحة السهلة لنبينا محمدا المصطفى صلوات الله عليه وآله، ولكن جعل له خصائص كثيرة تبلغ احدى وعشرين او ازّيد، وجعل لاوصيائه (ع) بالنسبة الى ما يتعلق بامامته ودعوته الى الدين احكاما خاصة مثبتة، (في صحف مكرمة. مرفوعة مطهرة. بايدي سفرة. كرام بررة) فجعل لكل واحد في ذلك تكليفا خاصا بيّنه لهم في صحيفة مختومة باثنتي عشرة خاتما من ذهب لم تمسه النار جاء بالصحف جبرئيل (ع) الى النبي (ص) قبل وفاته.
وقال: يا محمـد! هذه وصيتك الى النخبة من اهل بيتك، قال (ص): ومن النخبة؟ قال (ع): علي بن ابي طالب ووُلده، فدفعها النبي (ص) الى سيد الوصيين عليا (ع) وامره ان يفك خاتما منها، ويعمل بما فيه، ثم دفعها الى ابنه الحسن (ع) ففك خاتما فعمل بما فيه، ثم دفعها الى اخيه الحسين (ع) ففك خاتما، فوجد فيه: ان اخرج بقوم للشهادة، لا شهادة لهم الا معك، واشرِ نفسك لله تعالى. اي بمعنى: بع نفسك لله، ثم دفعها الى علي بن الحسين صلوات الله عليهما ففك خاتما فوجد فيه: اطرق واصمت والزم منزلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين.
ولما كان من التكليف المختص بالحسين (ع) " بع نفسك" والمراد به في خصوص يوم القتال، فلا بد ان يجمع في ذلك اليوم بين كل عبادة بدنية وقلبية وفعلية وتركية، واجبة، ومستحبة بانواعها واقسامها واصنافها، واشخاصها، المشتركة بين وبين غيره، والمختصة به (ع)، فاستحق المعاملة الكلية مع الله تعالى، وان يعطيه كل ما يمكن ان يعطيه المخلوق، وقد فعل ذلك.
وحصلت له بإزاء ذلك الطاف خاصة جليلة، وخفية، وتفصيل هذه المعاملة، وبيان هذه العبادة، إنما يتحقق بأن نعنون للعبادات والأخلاق على نحو ما في كتب الفقه، ثم نذكر كيفية تاديته لها، ثم بعض خصوصيات جمعها وتركيبها.
كتاب العبادات البدنية الواجبة
وفيه أبواب:
الأول: باب الطهارة الظاهرية العامة:
فقد اغتسل ليلة شهادته بماء اتى به ولده علي مع علمه بانهم يضطرون اليه، وهذا من خصائصه فاختص بالجمع بين اقسام الطهارات، ثم تطّهر بطهور خاص: هو دم قلبه فتوضأ منه بغسل الوجه، ثم اغتسل غسل ترتيب بدمائه، فغسل بها رأسه ثم بدنه ثم ثم غسل بها غسل ارتماس تارة اخرى.
واما الباطنية الخاصة: فقد توضأ في يوم العاشر بوضوء خاص، فملأ كفه من بعض دمائه وغسل بها وجهه وخضبه، ثم تيمم صعيدا طيبا مباركا فمسح به وجهه واضعا عليه جبهته حينما تهيأ لتسليم ما باعه لله تعالى.
الثاني باب الصلاة:
في الزيارة الجامعة ورد: واقمتم الصلاة، وفي زيارة الحسين (ع) بالخصوص: واقمت الصلاة، فله اقامة الصلاة المختصة به، فقد صلى في ذلك اليوم بأربعة أقسام من الصلوات.
القسم الاول: الوداع لصلاة الليل، وهي التي لها استمهل القوم ليلة عاشوراء.
القسم الثاني: صلاة الظهر في ذلك اليوم على طريقة صلاة الخوف، بنحو خاص به غير صلاة عسفان وذات الرقاع وبطن النخل * عسفان اي: موضع بين مكة والمدينة، وذات الرقاع: مخازن بنجد كانت تمسك الماء لبني كلاب، وبطن النخل: قرية قريبة من المدينة على طريق البصرة.
القسم الثالث: روح الصلاة من اسرار افعالها واقوالها وكيفيتها على ما هو مذكور في كتاب الصلاة.
القسم الرابع: صلى صلاة خاصة به بتكبير خاص وقراءة خاصة وقيام خاص وركوع خاص وسجود وتشهد وتسليم، احرم لها حين نزل من الفرس وقام حين وقف راجل، وركع حين كان ينوء اي: ينهض ويقوم، ويكبو اي: يسقط، وقنت بقوله:
اللهم متعال المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غنيا عن الخلائـق، عريض الكبرياء، قادرا على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريبا اذا دعيت، بمحيطا بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب اليك، قادرا على ما اردت، ومدركا ما طلبت، شكورا اذا شكرت، وذكورا اذا ذكرت، ادعوك محتاجا وارغب اليك فقيرا، وافزع اليك خائفا، وابكي اليك مكروبا، واستعين بك ضعيفا واتوكل عليك كافيا، احكم بيننا وبين قومنا فانهم غرّونا، وخدعونا وخذلونا وغدروا بنا، وقتلونا ونحن عترة نبيك، وولد حبيبك (ص) الذي اصطفيته بالرسالة، وائتمنته على وحيك، فاجعل لنا من امرنا فرجا ومخرجا، برحمتك يا ارحم الراحمين "
ثالثا: باب الصوم:
قد وقع التكليف به مختلفا، وهو اثنا عشر قسما ذكرتها في فصل مستقل، واعلاها صوم الحسين (ع)، فقد اتى بصوم امسك فيه عن الطعام وشرب الماء.
واضاف اليهما الامساك عن جميع علائق القلوب والابدان، ولذا جعل الله تعالى لصومه افطارا خاصا اهداه اليه على يد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو منتظر لوقت الافطار، كما اخبره به ولده علي الاكبر عليه السلام، وقال: هذا جدي بيده كأس مذحورة لك.
رابعا: باب الجنائز:
يجب تجهيز الاموات وتغسيلهم وتكفينهم وتحنيطهم الوصلاة عليهم، الا الشهيد في المعركة، فيجب الصلاة عليه ودفنه بثيابه، ويستحب التشييع لجنائزهم وحملها، والتربيع في حملها، وغير ذلك، الا الحسين (ع) لم يتمكن من الواجبات، ولعله اتى بأقل الواجب من الصلاة حسب الامكان، واما الدفن فروي انه (ع) حفر لرضيعه بسيفه فدفنه، لنكات:
الاول: التمكن منه وحده
الثاني: ان لا يقطع رأسه
الثالث: ان لا يبقى مطروحا ثلاثة
الرابع: ان لا يرض بحوافر الخيول
الخامس: عدم القدرة على النظر اليه
ولا ننسى انه روي ان اكثر من رضيع للحسين قتل يوم الطف، نعم قد فعل ما تمكن منه، من حمل الاجساد وجمعها ووضع بعضها على بعض، فاذا وجد من يحمل الجنازة معه فعل، ومع عدم الوجدان كان (ع) يحمل بنفسه ويشيع ويربع.
خامسا: باب الزكاة والصدقات:
فقد ادى زكاة البدن، وزكاة المال، لا العشر وربع العشر، بل جميعه حتى الثوب العتيق الذي لا قيمة له، ودفع ليلة عاشوراء اثوابا قيمتها الف دينار لفك الرقاب،وهو كما ورد في اللهوف لابن طاووس 41.
سادسا: باب الحج:
قد امتاز حجه من عباداته بخصوصيات، سنذكرها في عنوان ما يتعلق منه ببيت الله ان شاء الله تعالى.
سابعا: باب الجهاد:
في زيارة الجامعة، وجاهدتم في الله حق جهاده، وفي زيارة الحسين (ع) بالخصوص: اشهد انك قد جاهدت في الله حق جهاده، نعم له خصوصية (ع) في الجهاد فاُمر بجهاد خاص في احكامه لم يؤمر به احد قبله.
وذلك من وجوه:
الاول: ان من شرائط الجهاد في اول الاول ان يكون الواحد بعشرة لا اكثر، فيلزم ثبات كل واحد في مقابل عشرة من الكفار، ثم خفف الله تعالى عنهم، وعلم ان فيهم ضعفا فجعل شرط الوجوب ان يكون الواحد باثنين، فلم يوجب الجهاد اذا كان عدد العدو عشرة اضعاف المجاهدين، ولكن قد كتب عليه القتال وحده في مقابل ثلاثين ألفا او اكثر.
الثاني: انه لا جهاد على الصبيان ولا على الهرم، وهو الشيخ الكبير، وقد شرع الجهاد في واقعته على البيان مثل القاسم (ع) وابن العجوز سلام الله عليهما، بل على مثل عبدالله بن الحسن (ع) وعلى الشيخ الكبير كحبيب بن مظاهر سلام الله عليه.
الثالث: ان لا يظن الهلاك، ولكنه (ع) قد علم بأنه يقتل، فقال لاصحابه: اشهد انكم تقتلون جميعا ولا ينجو احد منكم الا ولدي علي.
ثم ان اعداءه خالفوا في سلوكهم معه حتى الاحكام التي جعلها الله تعالى للقتال مع الكفار وهي كثيرة. منها: عدم القتال في الشهر الحرام، ولكنهم قاتلوه فيه. ومنها: ان لا يقتل صبي ولا امراة من الكفار، ولكنهم قتلوا منه صبيانا بل رضعا، فرضيعا حين اراد تقبيله ورضيعا حين اراد منهم ان يسقوه. ومنها: ان لا يحرق زرعهم، وقد احرقوا بعض خيامه اثناء حياته، وأرادوا حرقها مع من فيها فخاب كيدهم ولكنهم احرقوا بعضها الاخر بعد قتله. ومنها ان لا يهجموا دفعة اذ الشرط الوحدة في المبارزة، ولو مع الكفار. ومنها: ان لا يبدؤا في الهجوم قبل الظهر بل العصر حتى لا تطول المقاتلة، ويحول الليل بينهم لئلا يستأصلوا. ومنها: ان لا ينقل رأس من المعركة كما جاء في كتاب المبسوط للشيخ السيوطي 2:33، وقيل انه يكره نقل رؤوس الكفار الا مع نكاية بهم، فأصل قطع راس الكافر جائز ونقله في ارض المعركة جائز، ولكن لا يجوز ان ينقل من الميدان ومحل الحرب الى مكان اخر. ومنها: ان لا يسلب كبير الكفار إلا اذا قتل.
حتى ان عليا (ع) لما قتل عمرا وهو الكفر كله، لم يسلب منه حتى درعه الذي لم يكن له نظير في ذلك الزمان على ما قيل ولم يكن من لباسه وقد سئل (ع) عن ذلك فقال: انه كبير قوم ولا احب هتك حرمته.
وذلك حينما قال المصطفى (ص) فيه: برز الايمان كله الى الشرك كله، وبذلك فرحت اخته لما رأت اخاها غير مسلوب، وعلمت ان قاتله علي عليه السلام، فكان فرحها لشيئين:
احدهما: ان قاتله كفء كريم، وشخص جليل لذا قالت:
لو ان قاتل عمر غير قاتله | لكنت ابكي عليه أخر الابد |
ثانيهما: انه (ع) قد احترمه بعدم سلب درعه، لذا قالت: " لا رقأت دمعتي ان اهرقتها "، تعني ان سروري باحترام قاتلك لك قد انساني مصيبة فتلك فلا ابكيك، بل يقال انها هلهلت فرحا، وقالت: يا اخي عشت طويلا جليلا مكرما، وقتلت بيد جليل محترما، ثم انشدت:
لكن قاتله من لا يعاب به | وكان يدعى قديما بيضة البلد |
فما ادري لو كان قاتل اخيها ابن راعية معزى، ابقع ابرص من ارذل الناس، فما كانت تصنع؟!
ومنها: ان لا يمّثل بقتيل من الكفار حتى ان امير المؤمنين (ع) نهى عن المثلة بأشقى الاشقياء من الاولين والاخرين، وهو ابن ملجم، فقال عليه السلام:
اذا متُ فلا تمثلوا به بعدي. وهذا الحكم ثابت عند الكفار، وعبدة الاصنام ايضا في الجاهلية. حتى بالنسبة الى المسلمين الذين قـُتلوا فإن ابا سفيان لما وقف يوم اُحد على الشهداء، بعد فرار المسلمين في الاطراف، ورأى جسد الحمزة، جاء اليه ووضع الرمح على فمه وضعاً وشمت بقتله.
وقال: ذق يا شاق يا عاق.
لكن لما رأى المثلة في اصابعه، وبطنه واخراج كبده، صاح بأعلى صوته: يا اتباع محمد ان قتلانا في قتلاكم مثلة، والله ما امرت بهذا ولا رضيت به.
ولكن قد امر بأعظم المثلة دعيُ ابي سفيان، فكتب الى بن سعد: " اذا قتلت حسينا (اركب) الخيل ظهره وصدره.!
ولست ارى ان هذا يضر بعد الموت شيئا، لكن على قول قد قلته: لو قتلته لفعلت هذا به. " ومنها: الا يُمر بنساء الكفار اذا اسرن على رجالهن القتلى، ولذا عاتب المصطفى (ص) بلالا حين مر بصفية، اسيرة على قتلى اليهود، حتى ارتجف وارتعدت فرائصه، ولكن عظمة المصيبة بالنسبة الى سبايا آل محمد (ص) ليست في مجرد المرور بهن على قتلاهن مضرجين بالدماء، بل في اصطحابهن لقتلاهن اياما كثيرة، تزيز على الشهر، وكون رؤوس القتلى بمنظرهن. ومنها: ان النساء من الكفار اذا اُسرن واسترققن وكنّ من بنات السلاطين فلا يعرضن للبيع في الاسواق، ولا يوقفن في المجالس، ولا تكشف وجوههن كسائر نساء الكفار، ولكن روي عن الباقر (ع): انه جيء بسبايانا الى الشام مكشفات الوجوه.
فقال اهل الشام ما رأينا سبايا احسن وجوها من هذه السبايا ومع ذلك فقول الشامي ليزيد: هب لي هذه الجارية، يقرع الكبد اكثر من العرض للبيع ثامنا: باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر: له (ع) من ذلك قسم لم يكلف به غيره حتى انه تبسم في وجه قاتله ووعظه لما اراد قتله، ووعظ رأسه الشريف الراهب ودعاه الى الحق فأسلم على يديه.