كتاب العبادات المستحبة
اولا: باب سقي الماء:
والظاهر انه مستحب حتى للكفار في حال العطش، والبهائم وواجب في بعض الاوقات، واجره اول اجر يُعطى يوم القيامة كما ورد في كتاب من لا يحضره الفقيه 36:2 وقد تحققت منه (ع) انواع السقي كلها حتى السقي للمخالفين له والسقي لدوابهم بنفسه النفيسة، وسقي ذي الجناح فقال: اشرب وانا اشرب وحصلت منه انواع الاستسقاء كلها حتى بحفر البئر بيده الشريفة، وبالسؤال منهم بلسانه وبرسوله مقللا لكميته حتى بلغ السؤال لقطرة ايضا.
ثانيا: باب الاطعام:
" في يوم ذي مسغبة، يتيما ذا مقربة، او مسكينا ذا متربة "، وكفى في فضله ان الخلاص من العقبة قد حمل عليه في الاية الشريفة، والحسين (ع) لم يتمكن من هذه العبادة بالخصوص مع ان يوم عاشوراء علاوة انه كان يوما ذا عطش فقد كان يوما ذا مسغبة ايضا.
ان الطعام كان مفقودا عندهم في ذلك اليوم، ولذا قال السجاد عليه السلام: قتل ابن رسول الله جائعا، قتل ابن رسول الله عطشان "، لكن من جهة شدة العطش لم يتحقق ذكر الاستطعام، لانه مذلة عظيمة لا تتحملها النفوس الأبية، بل وتستنكف الإطعام وان حصل بدون استطعام في هذه الحالة.
ولذا لما اطعم اهل الكوفة الاطفال التمر والجوز صاحت بهم ام كلثوم (ع) " يا اهل الكوفة ان الصدقة علينا حرام، واخذت هي وزينب ما في افواه الاطفال، ورمته اليهم. فإن الطعام في هذه الحالة صدقة فيها اهانة وذلة، فيحرم عليهم وان لم يكن زكاة.
ثالثا: باب ملاطفة الاباء اولادهم:
فانه مستحب، ولتفريح البنات خصوصية في الفضيلة، وقد تحقق ذلك منه بأحسن وجوهه، وذلك بتسلية ابنته الصغيرة سكينة (ع)، بتقبيل وجهها ومسح رأسها وتسليتها فما ازدادت الا غصة وحزنا.
رابعا: باب رد العادية واغاثة الملهوف:
له من هذين المستحبين ما لم يتحقق لغيره منذ صارا من المستحبات، فقد رد العادية احسن رد لما صرخت النساء حين الاحاطة بهن فقال لهم:
اقصدوني بنفسي واتركوا حرمي
وقد اغاث اثنين وسبعين لهيفا من اصحابه (ع) حين كانوا ينادونه اذا صرعوا ليحضر عندهم، فأغاثهم كلهم، وأغاث سبعة وعشرون لهيفا من اهل بيته (ع)، نعم عزّ عليه ويعز ذلك علينا ان بعض اغاثاته صارت سببا لشدة المصيبة على من اغاثه، كما اتفق في اغاثته لابن اخيه على ما سيجيء ان شاء الله، ولذا قال (ع) " (عزّ والله على عمك ان يجيبك فلا ينفعك....".
خامسا: باب ادخال السرور على المؤمن، وزيارته:
وهما من افضل الاعمال، كما في الروايات، وقد سعى (ع) في ادخال السرور على المؤمنين والمؤمنات في ذلك اليوم تسليـات وملاطفات وامر بالصبر ووعظ، لكن حيث ان الميدان ارض كرب وبلاء بذاته وان يوم عاشوراء يوم اسف وحزن بذاته، لم يمكن ان يحصل سرور في قلوبهم، واما الزيارة فقد حصلت منه بعناوين مختلفة.
سادسا: باب عيادة المريض:
التي ورد فيها: ان عيادة المؤمن بمنزلة عيادة الله جل جلاله، وقد ظهر منه (ع) عيادة للمرضى والمجروحين حين دعوه اليهم ليعودهم فلم يكتف بمحض المجيء والجلوس عندهم، بل كان يخص بعضهم بملاطفات خاصة، وخصوصا الغرباء منهم، كالعبد الاسود، والغلام التركي الذي جاء اليه ووجده قتيلا ولكنه (ع) اراد عيادة واحد منهم فلم يتحقق ذلك وهو ابنه، فانه لادبه لم يدعه، لكنه لما سمع سلامه جاء اليه عالما بانه لا يدركه حيا، فصاح: يا بني قتلوك. نعم تحققت منه عيادة لولده السجاد (ع) وسؤال عن حاله حين اراد المبارزة، لكنها كانت اخر عيادة لموت العائد الصحيح قبل المريض المعاد، وتفصيلها في عنوان الشهادة.
سابعا: باب تلاوة الذكر والدعاء:
اما التلاوة فقد كان يتلو كتاب الله تعالى آناء الليل، واطراف النهار.
ومع ذلك فقد استمهل الاعداء ليلة عاشوراء لأمور فاتح احدها التلاوة: فقد اهتدى بسماع تلاوته ومناجاته ثلاثون رجلا في تلك الليلة، وعبروا اليه من عسكر ابن سعد، واستشهدوا بين يديه، وتلا القران الكريم في يوم عاشوراء في مقامات خاصة: احداها حين وقف لولده قبالة القوم، وقد دامت تلاوته الى حين رفع رأسه على الرمح، فسمعت منه سورة الكهف.
واما الذكر: فإن جميع حالاته وافعاله واقواله وحركاته وسكناته من عصر تاسوعاء الى عصر عاشوراء كانت ذكرا لله تعالى، وتذكراً للميثاق، وتعاهداً له، حتى أدى أمانته، ولم ينشغل بشيء من اللوازم البشرية والجسدية حتى أكل الطعام، هذا مع انه كان رطب اللسان دائما بالذكر حتى حين يبس لسانه، وأما الدعاء: فقد اشتغل به من اول الليل، وهو احد الامور التي استمهل الاعداء لاجلها ليلة عاشوراء، فاشتغل به في تلك الليلة الى الصباح.
ودعا اول الصبح بقوله: " اللهم انت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وانت لي في كل امر نزل بي ثقة وعدة، كم من هم يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، انزلته بك وشكوته اليك، رغبة مني اليك عمن سوال، ففرجته " ثم كان اخر دعاء دعا به وهو طريح:" اللهم متعالي المكان عظيم الجبروت - والذي مرّ ذكره آنفا.
كتاب العبادات القلبية والصفات الحميدة
اعلم انه (ع) قد ابرز الاعلى من جميع مكارم الاخلاق في ذلك اليوم، ولنذكر اولا الاخلاق والصفات، فقد ورد في الرواية: ان الله تعالى قد خص بها رسله وهي اثنتى عشرة صفة كما في بعض الروايات:
منها: اليقين: وقد حصل له اعلاه فان حقيقة اليقين، ان تصرف النفس عن الدنيا، وتتجافى عنها، وقد حصل له يوم خرج من المدينة، ولما نزل كربلاء كتب الى اخيه وسائر بني هاشم من الحسين بن علي: الى اخيه محمد بن علي ومن قبله من بني هاشم: اما بعد: " فكأن الدنيا لم تكن، والاخرة لم تزل " فانه جعل الدنيا كأن لم تكن، وهذا عبارة عن تجافي القلب عنها بالكلية.
ومنها: الرضا: وقد كان عليه الشلام في اعلى درجات الرضا، فلما اراد الخروج من مكة: " كأني باوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن مني اكراشا جوفا، واجربة سبغا، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا اهل البيت (صلوات الله تعالى عليكم) نصبر على بلائه ويوفينا اجور الصابرين " فانه رضي باعظم مصائبه وهو تقطع الاوصال اما بالجراح او بالرض...... الخ
ومنها: السخاء: وقد سخى (ع) لا بجميع ماله فحسب بل وبما يتعلق به.
ومنها: الشجاعة: وقد ورث عن النبي (ص) شجاعته كما في الرواية، فظهرت منه (ع) في ذلك اليوم شجاعة يضرب بها المثل، لا اقول انه (ع) اشجع منه ابيه وجده المصطفى صلوات الله تعالى عليهم، بل اقول انه لم يتفق لابيه ولا لجده المصطفى ولا لغيره من الشجعان المشهورين مثل ذلك، أي: لم يُقدر للنبي المصطفى ولا لاخيه وابن عمه المرتضى علي صلوات الله تعالى عليهما لم يُقدّر ان يكون لهما يوم كيوم الامام الحسين عليه السلام.
وكما قال عبدالله بن عمار: ما رأيت مكثورا اي: الذي كثرت عليه البلايا وعظمت، ما رأيت مكثورا قط قتل ولده واهل بيته واصحابه أربط جأشا منه، ولقد كان يحمل عليهم، وقد تكملوا نيفا وثلاثين ألفا فينهزمون بين يديه كانهم الجراد المنتشر، فأصل الحملة على ثلاثين ألفا، ناشيء عن قوة قلب ودال على كمال الشجاعة.
ومنها: الوقار والطمانينة: وقد ظهر منه فرد كامل توحد فيه، فانه كان كلما اشتد عليه الامر يوم عاشوراء يكثر وقاره، ويزيد اطمئنانه ويشرق لونه.
ومنها: رقة القلب: فكان يرق قلبه على كل من كان معه، لشدة ابتلائهم، ويسعى في رفع المصاعب عنهم، ولشدة رقة قلبه وروحه الطاهرة، عظمت مصائبه، فمن رقة قلبه: انه بمجرد رؤية ابن اخيه مريدا للمبارزة وهو يتيم حائر عطشان مكروب بكى حتى غشي عليه، فكيف تكون حاله اذا رأى حاله مرضضا قد وطاته الخيول بسنابكها حتى مات من ذلك.
ومنها: الحلم: ويكفي فيه انه مع جميع هذه الحالات تحمّل الضرب والجراحات، وما دعى عليهم الا اذا جرح باللسان، جرحا لم يتحمله، حتى ان بعض من ضربه بالسيف، وسبه كـ " مالك بن بسر " لم يدعُ عليه حين ضربه بل دعى عليه حين سبّه، وهذا لا ينافي الحلم، فإن تحمُـل الاستخفاف اذلال للنفس لا حلم ولذا قال (ع) " الموت خير من ركوب العار ".
ومنها: حسن الخلق: وقد ظهر منه (ع) مع ما كان عليه مدة عمره في يوم عاشوراء وليلتها، كيفيات عجيبة تظهر بملاحظة سلوكه مع كل واحد من الاصحاب والاهل والعيال والخدم والعبيد بحيث يعلم تفرده من لاحظ جزئيات حالاته في ذلك الوقت الموجب لتشتت الفكر.
ومنها: المروءة: وقد ظهر منه (ع) من هذه الصفة معهم من سقي الماء، وعدم الرضا بنصرة الجن، ما يقضي منه العجب، واعجب من ذلك، انه اراد احد اصحابه ان يرمي شمرا بسهم قبل التحام القتال حين جاء يكلمهم فقال (ع) " لا ترمه فإني لا أبدأ بالقتال.
ومنها: الغيرة: بالنسبة الى النفس، وبالنسبةالى الاهل، والعيال، اما بالنسبة الى النفس فاقواله في ذلك، شعره ونثره ونظمه حين حملاته معروفة، وافعاله الدالة على ذلك كثيرة.
لكن قد اقرح القلب واحد منها وهو: انه (ع) لما ضعف عن الركوب لضربة صالح بن وهب نزل او سقط عن فرسه على خذه الايمن، وقد قيل بطعنه على خاصرته طعنة منكرة، فلم تدعه الغيرة على العيال وتجنب الشماتة، ان يبقى ساقطا، لذا قام صلوات الله عليه، وبعد ذلك اصابته صدمات اضعفته عن الوقوف، فجلس صلوات الله تعالى عليه وتحاماه الناس حين جلوسه وعليه جبة خز، ثم اصابته صدمات اضعفته عن الجلوس، فجعل يقوم مرة ويسقط اخرى، كل ذلك لئلا يروه مطروحا فيشمتوا به.
واما بالنسبة الى العيال فقد بذل جهده في ذلك من حفر الخندق واضرام النار فيه وقوله:
(اقصدوني بنفسي واتركوا حرمي). حتى وصل الامر الى انه صبّ الماء الذي في كفه، وقد ادناه الى فمه وهو مقطع الكبد والفؤاد من الظمأ والاعياء، لما سمع قول القائل: انه قد هتكت خيمة حرمك.
ومنها: القناعة: فقد قنع (ع) من الدنيا لاتمام الحجة عليهم، بأن يذهب الى ثغر من الثغور، ثم ازدادت قناعته فقنع من جميع الدنيا واموالها بثوب عتيق مخرّق لا يُرغب فيه ولا قيمة له ابدا.
ومنها: الصبر: وهو مناط امام الائمة (ع)، وسبب جزائهم لقوله تعالى: " وجعلنا منهم أئمة يهدون بامرنا لما صبروا "، " وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا "
وقد روي في مهيج الاحزان بسند معتبر عن الصادق (ع) ما مضونه " انه مما اوحى الله تعالى الى نبيه (ص) ليلة المعراج، ان الله تعالى يختبرك بثلاث لينظر كيف صبرك فقال (ص): اُسلم امرك ولا قوة لي على الصبر الا بك، فأوحى انه لا بد ان تؤثر فقراء امتك على نفسك، فقال (ص): اُسلم ذلك واصبر، ولا بد ان تتحمل الاذى والتكذيب لما يصيب اهل بيتك، فاما اخوك فيغصب حقه ويظلم ويقهر، واما ابنتك فتظلم وتحرم ويؤخذ حقها غصبا الذي تجعله لها وتضرب وهي حامل ويدخل عليها وعلى حريمها ومنزلها بغير اذن، واما ولداك فيقتل احدهما غدرا ويسلب ويطعن، والاخر تدعوه اُمتك ثم يقتلوه صبرا، ويقتلون ولده ومن معه من اهل بيته، ثم يسبون حرمه. فقال (ص): انا لله وانا اليه راجعون اُسلم امري الى الله تعالى واسأله الصبر.
اقول: ولقد صبر صلوات الله عليه وآله في جميع ذلك عن كل شيء الا عن الحسين.
فلم يصبر عن البكاء عليه، فإن البكاء لا ينافي الصبر، بل هو لازم الشفقة، ورقة القلب، ولم يسمع انه ذكر يوما مصيبة نفسه، او احد اهل بيته وبكى، لكنه كان كلما ذكر الحسين (ع) او رآه، غلبه البكاء، وكان يقول لعلي (ع) امسكه، فيمسكه فيقبّل نحره فيقول (ع) له: لمَ تبكي؟ فيقول) ص) " اقبّل موضع السيوف منك وابكي.
وكان اذا رآه فرحا يبكي، واذا رآه حزينا يبكي، وكذلك عليا وفاطمة والحسن عليهم السلام، كانوا يبكون عليه لاجل ذلك، وقد اوصى (ع) اهل بيته بالصبر حين الوداع ووعظهم، ونهاهن عن خمش الوجوه اي خدشها ولطمها وضربها، وشق الجيوب والدعاء بالويل، ولكن قال (ع) لا امنعكم من البكاء نعم قد منع ابنته عن البكاء حال حياته لئلا يحرق قلبه، وقال:
لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة | مادام مني الروح في جثماني |
فاذا قـلـت فانت اولى بالذي | تاتـيـنـه يا خـيرة النسوان |
نعم انه منعهن من الجزع عليه في حينها كي لا يشمت بهم الاعداء ولكن بعدها ورد ان زينب سلام الله عليها قد ضربت بوجهها المحمل فسال الدم المبارك منها جزعا على الحسين صلوات الله عليه.
نعم ان الجزع حرام ولكن على مصاب اهل البيت وعلى الحسين فليس بحرام، مادام لا يتلف النفس او به ايذاء شديد، ثم اي ايذاء ياتي من اللطم او الجزع عليهم بل هو الشفاء بعينه كما شوهد على مر العصور، واما صبره عليه السلام، فقد ورد، انه عجِبت من صبره ملائكة السموات، فتدبر في احواله وتصورها حين كان ملقى على الثرى في الرمضاء جريحا بسهام لا تعد ولا تحصى، مفطور الهامة، مكسور الجبهة، مرضوض الصدر بسنابك الخيول، مثقوب الفؤاد بذي ثلاث شعب، فسهم في نحره وسهم في حنكه وسهم في حلقه واللسان مجروح من اللوك، والكبد محترق، والشفاه يابسة من الظمأ، والقلب الطاهر محروق من ملاحظة الشهداء في اطرافه، ومكسور من ملاحظة العيال والنساء في الطرف الاخر، والكف مقطوعة من ضربة زرعة بن شريك، والرمح في الخاصرة، وهو مخضب اللحية والرأس، يسمع صوت الاستغاثات من عياله، والشماتات، بل الشتم والاستخفاف من اعدائه ويرى بعينه اذا فتحها القتلى الموضوع بعضهم على بعض، ومع ذلك كله لم يتأوه في ذلك الوقت، ولم تقطر من عينه قطرة دمع، وانما قال سلام الله عليه " صبرا على قضائك يا رب لا معبود سواك، يا غياث المستغيثين ….. الخ " وفي الزيارة: " ولقد عجبت من صبرك ملائكة السموات ".
وروي عن امامنا المظلوم السجاد عليه السلام انه قال: كلما كان يشتد الامر كان يشرق لونه، وتطمئن جوارحه، فقال بعضهم: انظروا كيف لا يبالي بالموت، نعم قد بكى في كربلاء في مواضع ستة، ستأتي قريبا.
والوجه في بكائه احد امور:
الاول: ان اصل البكاء على مصائب اهل البيت من الطاعات.
والثاني: ان بكائه (ع) على ما كان يراه من اضمحلال الدين وخموده.
والثالث: وهو الاقوى ان الطبائع البشرية موجودة فيهم فيعرضهم الجوع والعطش عند اسبابه، وتحترق قلوبهم لما يرد عليهم كما قال النبي (ص) عند موت ولده: " يحترق القلب وتدمع العين ولا نقول ما يغضب الرب " فكذلك كان هو عليه السلام فليت شعري أفكان يمكنه حبس الدموع وهو فريد وحيد بعد كثرة الاصحاب والاخوان والاولاد ومضطهد مصاب، وقد ضاقت عليه الارض برحبها، ومحصور بين اهل الدنيا وعبيدها في خيام هو وعياله في الرمضاء وعناء السفر، عطاشى جميعهم وليس فيهم الا اطفال ونساء وعليل يغمى عليه بين الفينة والاخرى مظلوم امام معصوم، ورأى اهله صرعى وعياله بهذه الحالة من المصائب، وقد صرعهم العطش بين ميت ومحتضر.
ويريد ان يتركهم ويرحل عنهم، ويقول لهم: تهيأوا للاسر، ويامرهم بالصبر، ويجدّ في اسكاتهم عن البكاء والصراخ في حين الواقعة لئلا يشمت بهم الاعداء.
والمواضع الستة التي بكى بها الامام الحسين الشهيد عليه السلام:
الاول: حين اراد ان يخرج فجاءت ابنته الصغيرة صائحة حاسرة مع شدة حبه لها وتعلقت بثوبه قائلة: مهلا مهلا توقف حتى اتزود من النظر اليك، فهذا وداع لا تلاق بعده، آه يا حسين ثم قبلت يديه ورجليه، فجلس واجلسها في حجره، وبكى بكاءً شديدا ومسح دموعه بكُمّه وجعل يقول (ع):
سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي | منك البكاء اذا الحمام دهاني |
فهل يتصور قلب لا يغلب عليه في مثل هذه الحالة، فهذا احد مواضع بكائه
الثاني: حين وقف على جسد اخيه العباس (ع) فرآه صريعا مع قربة مخرقة، وكل من يديه المباركتين مطروحة في طرف، فحينئذ بكى بكاء شديدا، وقال عليه السلام: الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي.
الثالث: لما أراد القاسم (ع) ان يبرز الى الحرب اعتنقه، وبكى حتى غشي عليه سلام الله عليه.
الرابع: لما وقف على جسده ورآه رضيضا بحوافر الخيل.
الخامس: حين برز ولـده علياً الاكبر (ع)، ارخى عينيه، واخذ شيبته بيده، ورفع رأسه المبارك ودعى ربه تعالى.
السادس: حين كان يسلّي اخته زينب الكبرى (ع) عن البكاء والجزع غلب عليه البكاء وقطرت من عينه قطرات ثم حبس نفسه عن البكاء فاذا تأملت هذه الحالات وجدت انه يستحيل لصاحب القلب السليم الرؤوف الرحيم ان لا يبكي عندها، ووجدت ان من الخصوصيات الصادرة منه في هذه الحال حكمة خاصة، فحالته عند وداع ابنته الصغيرة.
وحالة الاخ المواسي التي قطعت يداه لقربة ماء، تقتضي البكاء حتى يغشى عليه، وهكذا باقي الكيفيات الخاصة.
طبعا هنا ما احصره المؤلف من بكاء الامام في ستة مواضع ليس بالضرورة انها هي تلك فقط المواضع الستة بل قد يعني بها ابرز مواطن بكائه، والا فان البلاء والمصاب الذي ألمّ بالامام في كربلاء كان شديدا على قلب امامنا بل على جميع اهل بيته ومن معه بل على اولياء الله تعالى من الاولين والاخرين حيث دون تلك المواضع الستة التي ذكرها المؤلف، هناك مصاب الرضيع القتيل على صدر ابيه الحسين (ع) ومصاب الرضيع الاخر.
ومصاب اصحابه اللذين لم يُعلم على مر التاريخ اصحابا كاصحابه يستانسون بالموت استيناس الطفل لثدي امه، وايضا مصاب الطفلة المظلومة حميدة حين مسح على رأسها، وايضا مصاب بناته وحال نسائه وما هنّ مستقبلات له من السبي والضرب على متونهن والاذلال بحيث سيروهن بخيالة قليلة و هزال، وحرق الخيام، وحاله مع اهل بيته واطفال حين توديعهم.
وايضا مصاب ابنه العليل المهموم لأبيه (ع)، وايضا مصاب الامة والتي منها اعدائه الذين فاق عددهم على الثلاثون ألفا والسبعون ألفا بل لم يُعلم عددهم لكثرته في كتب الحديث، مصابه بهم كيف عميت بصائر كل تلك الجموع من البشر وما هو إلا رحمة منه على أمة جده صلى الله عليه وآله وسلم، وما هو إلا لطيب نفسه وطهارته وانه من اهل بيت طهّروا تطهيرا.
خاتمة: اعلم ان العنوان السابق خصائص صفاته في طول حياته، وهذا العنوان خصائص صفاته يوم عاشوراء، وهذه الخاتمة لخصائص خصائص من صفاته البارزة يوم عاشوراء وحاصلها صفتان عجيبتان:
الصفة الاولى: انه جُمعت في صفاته الاضداد، ولهذا عزّت له الانداد، ولنعد الصفات بذكر كل صفة خاصة وضدها مجتمعتين.
فنقول:
كان (ع) اذا زاد اضطراب اطمأن قلبه، وهدأت جوارحه، فهو المضطرب الوقور وكان (ع) قد بكى في مواضع كثيرة قد ذكرناها، ولكن ازداد بذلك صبره الذي عجبت منه الملائكة فهو الباكي الصبور وقد كان (ع) مكثورا احاط به الاعداء من جميع الجهات ولكن لم يضعف قلبه من ذلك فهو رابط الجاش مكثور وقد كان (ع) موتورا قُتل اصحابه واهله وولده واخوانه وهو ومع ذلك ثائر بدمه فكأنه اخذ الثأر من قتلته فهو الثائر الموتور وقد كان فردا وحيدا بلا انصار
لكن:
كأنه وهو فرد في جلالته | في عسكر حين تلقاه وفي حشم |
وانه لما كان يشد عليهم، ينكشفون انكشاف المعزى اذا شد عليها الذئب، فهو الفريد ذو العسكر والوحيد ذو الحشم وقد كان (ع) محتضرا غريبا، وحوله اهله وعياله، فهو الغريب عند الاهل، وقد كان (ع) يستغيث لاتمام الحجة عليهم ويغيث كل من ناداه بـ" أدركني يا أبا عبدالله، فهو المغيـث المستغيث وكان (ع) قد فدته نفوس الشهداء ولا زالت تفديه قتلا بين يديه والاحياء جميعا الى يوم الجزاء، مع انه قد فدى نفسه الشريفة لم ولهدايتهم ونجاتهم، ولذا انشد بعض الحكماء عن لسان حاله عند مخاطبته لاصحابه:
فديتموني انما انا جئتكم افديكم من لظى، فهو الفادي المفدى
وكان (ع) حين وقوعه صريعا مطروحا يسعى تخليص اهله، ومن يجيء اليه فهو المطروح الساعي وكان (ع) قد بلغت شدة عطشه الى اللوك للسانه، يعي كثرة ادارة لسانه في فمه، حتى تجرح لسانه من شدة عطشه واعيائه ويبس لسانه، وكان يسعى في سقي العطاشى حتى انه اراد سقي ذي الجناح قبل ان يشرب، وما نراه شرب سلام الله تعالى عليه، حيث سمع بهتك الخيام فألقى بالماء، فهو العطشان الساقي وكان (ع) عاريا بالعراء، لكن:
تحمي اشعته العيون فكلما | حاولن نهجا خلنه مسدودا |
فهو (ع) العاري المستور بنور الشمس، ونور ذاتي يخرج من بدنه المبارك يشهده العدو والقريب وكان (ع) مضمخا بالدماء والتراب، ولكن لم ير الناظر اليه قتيلا مضمخا بدمه انور منه (ع)، حتى قال عدوه لقد شغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله فهو المضمخ بالتراب ذو النور الازهر وكان (ع) لم يبق له مأوى ولا مأمن، وقد وصف به نفسه ايضا، وكان يأوي اليه كل خائف كما آوى اليه عبدالله بن الحسن عليه السلام وغيره من اهل بيته، فهو المأوى بلا مأوى وهو الملجأ بلا ملجأ وكان (ع) مسليا عن البكاء، وهو سبب البكاء، كما في رواية الغفاريين عبد الله وعبدالرحمن حين استأذنا، وبرزا اذ كانا يبكيان فقال ما يبكيكما؟ وانا ارجو ان تكونا بعد ساعة قريري العين؟ فقالا: ما على انفسنا نبكي، ولكن نبكي عليك يا سيدنا نراك قد احيط بك ولا نقدر ان نمنع عنك.
وكان (ع) مسكتا عن البكاء وهو يبكي وذلك حين اخذت زينب الكبرى بالبكاء، لما سمعت ما سمعت ليلة عاشوراء من نعي الامام عليه السلام لنفسه، فجاءت صارخة حاسرة وقالت: يا اخي هذا كلام من ايقن بالقتل، قال: نعم يا اختاه، لا يذهب حلمك، واصبري، ثم غلب عليه البكاء.
العجيبة الثانية: من خصائص خصائصه جمعه بين التكليفين المتنافيين ظاهرا.
بيان ذلك: انه قد ثبت ان للنبي المصطفى (ص) خصائص في احكام تكليفية، ووضعية تخالف الاحكام العامة الثابتة لأمته، ولك منهم، بالنسبة الى ما يتعلق يتكليفه وبامامته وسلوكه مسلك الدعوة الى الدين، والحفظ للشريعة، احكام خاصة مثبتة. (في صحف مكرمة. مرفوعة مطهرة. بأيدي سفرة. كرام بررة) وقد عمل كل من الائمة بمقتضى ما في صحيفته المختومة بخاتم من ذهب لم تمسه النار، اتى بها جبرئيل (ع) وقد اشرنا اليها، وحيث ان فيها احكاما تخالف ما ثبت في ظاهر الشريعة لباقي الائمة (ع). فما ينبغي الاعتراض بعد ذلك بأنه كيف جاز الإقدام على ما يقطع معه بالضرر، وذهاب الانفس بالنسبة الى بعض الانبياء (ع) والائمة (ع)، فانهم انما بلغوا هذه المرتبة للتسليم والرضا بل وحب القضاء والقدر بهذا التكليف وقد اختص سيدنا المظلوم الحسين (ع) في قضيته بالجمع بين التكليفين الظاهري الموافق لتكليف سائر الناس، والواقعي الموافق لتكليفه الخاص.
وهذا ايضا من خصائصه (ع) اما التكليف الواقعي الذي دعاه الى الاقدام على الموت والقتل، وتعريض عياله ونسائه وابنه العليل ومن معهم من النساء المواسيات للاسر، واطفاله للذبح، مع علمه بذلك، فالوجه فيه، ان عتاة بني امية، وخاصة معاوية، قد اُشرب الناس حبهم، بحيث اعتقدوا انهم على الحق، وان عليا واولاده (ع) وشيعتهم على الباطل، حتى جعلوا سبّ علي (ع) من اجزاء صلاة الجمعة، وسُنّة واردة، وبلغ الامر في ذلك ان بعض اتباعهم نساه في صلاة الجمعة حين خطبته، وسافر وذكره وهو في البرية، فقضاه في محل تذكره، فبنوا هناك مسجدا سموه مسجد الذكر تاكيدا لهذا الامر، فلو كان الحسين (ع) يبايعهم تقية ويسلم لهم لما بقي من الحق من اثر، فان كثيرا من الناس اعتقدوا انه لا مخالف لهم في جميع الامة وانهم خلفاء النبي (ص) حقا، فبعد ان حاربهم الحسين (ع)، وصدر ما صدر الى نفسه وعياله، واطفاله وحرم الرسول (ص) تنبه الناس لضلالتهم وبأنهم سلاطين الجور حقا وصدقا، لا حجج الله تعالى ولا خلفاء لحبيبه (ص)، فظهر دين الحق من جديد بعد ان اخمده الامويون بجورهم وكفرهم.
واما التطبيق على التكليف الظاهري فبيانه ان نقول: انه (ع) قد سعى في حفظ نفسه وعياله بكل وجه، فلم يتيسر له وقد ضيقوا عليه الاقطار، ولم يدعوا له في الارض مقرا فكتب يزيد الى عامله في المدينة ان يقتله فيها، (فخرج منها خائفا يترقب)، ولاذ الى حرم الله تعالى الذي جعله مأمنا للوحوش ان تصاد وللطيور ان تنفر، وللشجر والنبات ان يقطعا، فارادوا قبضه هناك، او قتله غيلة وهو مُحرِم فأحلّ وخرج ولم يتمكن من اتمام حجه ايضا ولم يكن له في الارض مقر، وقد تحقق له التكليف الظاهري بالتوجه الى الكوفة، لان جميع اهلها كتبوا له بالسمع والطاعة وألقوا اليه الحجة، ولم يتبين منهم خلاف ذلك خصوصا بعد ان كتب له مسلم بن عقيل ببيعة الناس له، فلم يكن له عليهم حجة لو لم يأتهم، ثم لما اتاهم وعلم بنقضهم البيعة لم يمكّنوه من الرجوع، ومع ذلك كله نقول: لو رجع اين يرجع؟ لو لم يأتهم فأين كان يذهب.
ملاحظة: ان الحسين لم يكن السبب الحقيقي في خروجه او توجهه للكوفة لسبب بيعة الناس له كلا بل كان خروجه اولا من مكة المكرمة حفاظا منه على ان لا يراق فيها دم، واما نقض الكوفة لبيعتهم فهو كان يعلم بذلك قبل ان يقدمهم وهذا له بحث طويل مستقل حول علم الائمة المعصومين (ع)، ولكنه خرج الى الكوفة لأسباب غير بيعة اهلها يُذكر منها: ان بها ارضية واسعة لموالاة اهلها لمحمد المصطفى واله (ص) وغيرها من الاسباب......، وايضا السبب الاساس لخروجه والذي كان واجبا عليه ان يخرج هو حفاظا على ما تبقى من دين جده (ص) ولئلا يمحق ما تبقى من الدين.
ومن احق منه بالخروج على الحكومة الظالمة الحاجدة!! فكان هذا الحديث النبوي الشريف مصداقا لهذا الكلام وهو قول النبي (ص): ان الاسلام محمدي الوجود حسيني البقـاء.
لقد ضاقت عليك الارض يا ابا عبدالله الحسين، وكنت مضطربا حيران على ما ترى من تضييع الحقوق وذهاب الدين المحمدي، ولم يكن لك بد ولا مفر يا حبيبي يا حسين.
والدليل على ذلك قوله (ع) لاخيه ابن الحنفية، وقد اشار اليه بأن يذهب الى اليمن او الى البوادي وكهوف الجبال: لو دخلت في جحر هامة من هوام الارض لاستخرجوني حتى يقتلوني.
ويدل على ذلك ايضا، قوله للفرزدق: وقد قاله له وهو خارج عن مكة داخل الحرم، بأبي انت وامي يابن رسول الله (ص) ما اعجَلك عن الحج، فقال (ع): لو لم اعجل لاُخذت. وقوله لابي هرة الازدي في الثعلبية: وقد قال له: ما الذي اخرجك عن حرم الله وحرم جدك المصطفى (ص)؟
فقال (ع) " ويحك يا ابا هرة، ان بني امية اخذوا مالي فصبرت وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت " طبعا هنا هرب ليفتدي بنفسه وما يملك فقط لإبقاء دين الله تعالى ويدل على ذلك قوله ايضا لعمرو بن لوذان وهو شيخ من بني عكرمة رآه ببطن العقبة، قال له: يا بن رسول الله اين تريد؟
قال (ع): الكوفة " فقال انشدك الله تعالى لما انصرفت، فو الله لا تقدم الا على حد السيوف والأسنة، وان هؤلاء الذين بعثوا اليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطأوا لك الاشياء، فقدمت عليهم كان ذلك رأيا. فقال (ع) " يا عبد الله ليس يخفى علي الرأي، ولكن الله تعالى لا يُغلب على امره." ثم قال (ع) " والله لا يدعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي. "
فانظروا الى قوله (ع): ولكن الله، فإنه بيان للتكليف الواقعي الذي تقدم ذكره، وقوله والله لا يدعونني، بيان للاضطرار وانه لا يفيد الرجوع ولا الفرار، وفي تعبيره عن قلبه بالعلقة، اشارة الى شدة مصيبته، وانقلاب قلبه دما في تلك الحالة مع كونه اولى بالامر، ثم اقول انه لو بايعهم لقتلوه ايضا، كما يدل عليه كلام ابن زياد حيث قال: ينزل على حكمي وحكم يزيد، يعني يجعل نفسه محكومة لنا فلربما قتلناه او خليناه.
وقول الشمر: فليبايع ثم نرى رأينا فيه، بأبي المستضعف الغريب الوحيد الذي ارادوا ان يقر لهم اقرار العبيد.
ومن جملة كلام له عليه السلام يوم عاشوراء:
والله لا اقر لكم اقرار العبيد ولا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل.
بأبي انت وامي يا أبا عبدالله، نعم والله قتلُك في ميدان الحرب والضرب، انبل من الاقرار لهم، وقد قلت انت: " ان مصارعة الكرام احسن من مضارعة اللئام " ولو كنت ترضى بذلك تقية، وتكليفا ظاهريا فكنت تقر لهم ما خلوك وما تركوك، حتى يجمعوا لك بين الذلة والقتلة.
ولذا قلت صلوات الله تعالى عليك بنفسي أنت: " القتلة ولا الذلة، والمنية ولا الدنيّة ".. آه بأبي انت وامي اعززت نفسك واحييت نفسك واحييت العباد بتحملك هذا التكليف.
انتهى العنوان الثالث